أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - ملاكمة بقفازات الفن















المزيد.....

ملاكمة بقفازات الفن


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 2731 - 2009 / 8 / 7 - 06:59
المحور: الادب والفن
    


“لكنت سأصبح ملاكما لو لم آخذ طريق الفن”، قالها الفنان الألماني المشاغب الراحل يوزيف بويز. والحق أنه كان ـ والكلام ينطبق على كل فنان ـ فيه من الملاكم الشيء الكثير. فكرة أن الفنان هو ذلك الشخص الحالم الرقيق المرهف داست عليها كل قطارات القرن التاسع عشر وأرسلتها المراكب الفضائية في القرن العشرين إلى واحدة من سماوات العدم بغير رحمة وبلا رجعة، فكما يحمل الفنان - أيّ فنان حقيقي - مسيحاً في جنبه الأيمن، يحمل كذلك ملاكما شرسا في جنبه الأيسر، وما كانت الوردة لتعيش أو تُحَب لولا شوكتها الجارحة.

التاريخ سجل لنا كثيرا من الحالات الفنية التي جمعت، إبداعيا، بين العظَمة الفنية والرقة، وبين شراسة أصحابها وعنفهم، حياتيا. نذكر، على سبيل المثال، فنانيْن تشابهت تفاصيل حياتهما ومصيرهما المفزع حد التطابق: مصور الباروك (في القرن السادس عشر) الإيطالي الشهير كارافاجيو، وابن بلده المخرج السينمائي المعاصر، الشاعر والرسام بيير باولو بازوليني. لاحقتهما الفضائح الجنسية والأخلاقية (كلاهما كان مثليا مأخوذا بالعنف الجسدي والتسلّط السادي) في كثير من المحاكم والمدن التي هربا منها أو إليها. عُثر على الأول مغتالا على أحد الشواطئ في الصباح، وفي الصباح وُجد الأخير مقتولا ومسوّىً بجثته الأرض في إحدى الحدائق العامة، كان قد اختلف مع عشيقه ليلا وهما في السيارة فاقتتلا واستطاع صديقه أن يسحب رافعة حديدية من السيارة هشّم بها رأسه ثم داس عليه بالسيارة جيئة وذهابا!

على المستوى النفسي، لا فرق كبيرا بين جروح ما تُسمى الروح وجروح الجسد وكدماته. كلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. ولن نذهب بعيدا لو افترضنا أن كل فنان كائنٌ مجروح. وجوديا هو شخص مجروح. ويبدو بديهيا أن جرح الوجود هذا هو دينامو الطاقة الفنية في كيان الفنان ومحرّكها. هذا إلى جانب ما يستولده هذا النبع الأصيل المتألم، من جروح وكدمات ناتجة عن غربة الفنان وضلاله وتخبطه واصطدامه بعالم جاف أجوف كاذب، خلال رحلته في البحث عن ذاته ومحاولته تحقيقها والتي غالبا ما يفقد الفنان فيها براءته، وتاليا يتأقلم مع الواقع ليجد ممرا بين أشواك العالم ليغرس فيه وردته. السؤال هو: ما الجرح، أو ما الكدمة؟ ولأننا نُطل على الموضوع من زاويته البصرية في بعدها التعبيري، فلن نقترب كثيرا من الناحية النفسية لمعنى الجرح أو الكدمة، فدائرتنا في الأخير تنحصر في تلك البقعة الليلكية المحتقنة المتورمة، أو ذلك الشق النازل منه خيط دم كدمعة معجونة بمسحوق الأحمر.

في الإمكان، قياسا على نظرية نيوتن الشهيرة عن الفعل ورد الفعل، أن نقول إن كل ارتطام مفاجئ عنيف بالجسد هو صدمة للجسد، ورد الفعلِ اللا إرادي، حتى في حالة الإغماء والغيبوبة، يكون من صميم اللحم، في البقعة المصدومة: ارتجافها، تورمها، ازرقاقها، احمرارها، تهتكها، انفقاؤها، سيلانها… إننا أمام مادة (لحم) يعاد تشكيلها وتلوينها في لحظة همجية لا حسابات فيها، هدفها أو نتيجتها هي التشويه، المؤقت أو المستديم. لكن هل كل تشوه هو قبح بالضرورة؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الجميل والقبيح؟ ألم تنطلق رحلة الفن الحديث من التشويه، تحريف الواقع حد تشويهه لكي يصير واقعا فنيا، جماليا بالدرجة الأولى، وليس مجرد محاكاة عمياء لواقع باهت؟ وألم يعتمد الكثير من النتاج الفني المعاصر القبيحَ ويقدمه كما هو، دون أدنى محاولة لتجميله، كشيء جمالي في ذاته؟ وكيف، في طرفة عين، تتحول صورة فوتوغرافية لفتاة مضروبة بعنف تغطي الكدمات وجهها وجسدها، من منظر نفزع لو رأيناه في الشارع أو في مستشفى، إلى موضوع جمالي نقف نتأمله بدم بارد في متحف أو صالة عرض؟ يبدو واضحا أن السياق أو الظرف الذي نرى فيه المنظر هو الذي يحدد كيفية النظر ويطوّع جهازنا الاستقبالي وحواسنا الجمالية!

والأهم، هو إدراك أن لا شيء جميلا أو قبيحا في ذاته، وأن الجمال أو القبح هو ما ينعكس من كيان الرائي على الشيء المرئي! ولا ننس طبعا أن فزَعَنا من منظر أو حدثٍ ما أو تعاطفنا معه، ينبع أصلا من عملية تمثّل هذا المنظر أو ذلك الحدث من جانب الناظر، كما لو أن جسد المشاهد هو من وقع عليه العنف. والواقع أن عملية التمثل هذه، بقدر ما تحمل من معاني التعاطف والتواصل والإحساس بالآخر، فإنها تحجب عنا الكثير من فرص التأمل الجمالي في الواقع المعيش لما نعتبره بالبداهة قبحا أو مصيبة، بسبب تمثلنا وقوعه علينا. ربما هذه المنطقة البرية، أو الأحرى البربرية، هي تحديدا الحلبة التي يمارس فيها الفن مباراته الثقيلة الوزن، من دون حَكَم، ولا قوانين، وفي حضرة جمهور قليل.

في الملاكمة تتجسد رمزية الصراع الوحشي في الحياة، وفي الملاكم تتجسد تناقضات الكائن الذي يمر بتجربة هذا الصراع. الجندي الذي يُزجّ به إلى خط النار، يؤمن بشكل أعمى أنه سيعود سالما إلى أمه ليحكي عن بطولاته، ولا يتصور أبدا أن الطلقة الأولى في المعركة ستكون في رأسه هو بالذات. كذلك الملاكم، يؤمن أنه هو من سينتصر. دماغه السميك الجلد لا يسمح له بالتفكير بأن ضربة خصمه القاضية يمكن أن ترميه أرضا في الجولة الثالثة. آلية تفكيره تنطوي، بشكل غير واع، على شيء من السحر البدائي في تضخيم الذات على حساب تقزيم الخصم، مع استبعاده مَثل “تيجي تصيده يصيدك”، وطبعا لا مجال هنا لتأمل روحية فكرة “الآخر هو أنا”! الفنان، من المفترض أن يقوم بهذا الدور: الآخر هو أنا، العالم هو أنا!

بحكم الطاقة، الناعمة والعنيفة في آن، المبثوثة في كيان الفنان، فإن صراعه يدور في حلبة عمله الفني، في مستطيل أو مربع اللوحة إن كان رساما مصورا. فلم يعد وجهٌ جميل بابتسامة رائقة كوجه الموناليزا، بالنسبة للفنان اليوم، سوى كذبة لطيفة لا تُشبع توقه لتجسيد جمال وحشي متورم بكل أنواع الكدمات والتشوهات والبقع والدوائر والتكسّرات الجمالية التي يمكن قراءتها كيفما يريد الناظر، إنْ شكليا صرفا خُلوا من أي معنى، أو إحالتها إلى معامل الروح وتفاعلاتها الكيميائية الدراماتيكية حال قراءتها بشكل تعبيري أو رمزي أو تفسيرها اجتماعيا أو سياسيا… الخ. وعنف الفنان في تحطيم الشكل استنفد كل أنواع التجريب منذ بداية القرن العشرين بدءا من التكعيبيين وصولا إلى إحداث مزق بالمشرط، في القماشة المشدودة كالطبل على إطار، تحيل اللوحةَ إلى شفتي جرح مفتوح على رحم غامض، كما في أعمال المصور الإيطالي لوتشيو فونتانا. ناهيك عن دق المسامير في اللوحة (الألماني جينتر إيكار)، أو الدوس بالحذاء الملوث باللون على سطح اللوحة (الألماني بازيليست)، أو تمزيق اللوحات ونثرها على أرض المعرض كتجهيز فراغي يسخر من فكرة الرسم نفسها… الخ.

ليست التشويهات العقلانية الباردة في وجوه بيكاسو، ولا لوحة آندي وارهول التي طبع عليها صورة بطل الملاكمة الشهير محمد علي تستحضر في الذهن فكرة العنف أو توحي بوجه ملاكم مضروب، لكن مجموعة من البورتريهات الشخصية للمصور الإنجليزي فرانسيس بيكون تفعل ذلك، رغم أن الفنان لم يقصد، من قريب أو من بعيد، أن يتناول وجه ملاكم أو مضروب، اللهم إلا إذا كان يفكر في نفسه كملاكم مضروب، الأمر الذي كانه بمعنى ما.

لم يكن هذا الفنان متصالحا مع وجهه وشكله عموما: رأس صغير، وجنتان ناتئتان، عينان ضيقتان عائمتان في محجرين كبيرين، أنف ضخم، فم صغير منطو على عبوس! حوّل الفنان وجهَه البيضوي إلى ورم، كدمة رئيسية توالدت منها كدمات وانبعاجات وقروح لونية تطفح بأسىً رمادي، ولا فرصة للنظر إلى تلك التحريفات والتشويهات ككاريكاتور مضحك بل كمأسوي دامٍ. إنه نوع من نزع الجلد عما تحته، فإذا بالأنسجة يتداخل بعضها في البعض، كجدائل شعر بعثرتها الفوضى: المحتقن في الرائق، الشحم في اللحم، الأزرق في الوردي والمضيء في المعتم.

المادة، أو اللحم، تحت يد هذا الفنان أصبح سائلا، هلاما يندلق في المكان كما يندلق لون على مسطح. كل دائرة أو كشطة لون أو سحجة أو مسحة عنيفة على سطح الصورة، يقابلها عنف غامض سبق أن مورس على الكيان الداخلي الذي صوّر وجهَه بهذا الحس. إنها لكمات القدر التي مورست على المضغة في الرحم قبل أن تنزلق إلى العالم، ولكمات العالم التي مورست على الهيكل النفسي للفنان بعد أن انفصل عن الرحم إلى أرض غربته النهائية، فكان رد فعل الفنان لكماتٍ موجهة إلى تلك المرآة القماش، يوجهها إلى وجهه هو بالذات ولكن بقفازات الفن، الناعمة والشرسة في آن، والتي تُدين في صمت أكثر مما تصرخ!

يوسف ليمود
مجلة جسد



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القيامة في فوتوغرافيا اندرياس جورسكي ومعرضه من جناح طائرة
- مقاطع في حيّز العابر (2)
- Art | Basel | 40
- مخلوقات البيرتو جياكوميتي بين رؤيا الفناء والانتحار البطيء
- الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب
- مقاطع في حيّز العابر
- صلاح بطرس .. منحوتات تستنقذ ما يتلاشى من روح مصر
- ليذهب فان جوخ إلى الجحيم
- سحرية الصورة في أفريقيا، أوقيانوسيا، والفن الحديث
- -بالصدفة، نثر الفصول- لاحساين بنزبير .. ذلك الثقب في اللسان
- كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك
- فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق
- بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن
- إيف كلاين .. أجساده الفراغية وثورته الزرقاء
- مقدمة عن الجسد في الفن
- الجانب المعتم - رغبة الفوتوغرافيا وفوتوغرافيا الرغبة
- شيماء عزيز .. بالأسود ترسم أجسادها وبه تخفيها
- حجر قايين
- فينيسيا.. من كاناليتّو إلى مونيه
- صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن
& ...


المزيد.....




- الفنانة شيرين عبد الوهاب تنهار باكية خلال حفل بالكويت (فيديو ...
- تفاعل كبير مع آخر تغريدة نشرها الشاعر السعودي الراحل الأمير ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 158 مترجمة على قناة الفجر الجزائري ...
- وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبدالمحسن عن عمر يناهز 75 عاماً ب ...
- “أفلام تحبس الأنفاس” الرعب والاكشن مع تردد قناة أم بي سي 2 m ...
- فنان يحول خيمة النزوح إلى مرسم
- الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 159 على قصة عش ...
- أكشاك بيع الصحف زيّنت الشوارع لعقود وقد تختفي أمام الصحافة ا ...
- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - ملاكمة بقفازات الفن