أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - مخلوقات البيرتو جياكوميتي بين رؤيا الفناء والانتحار البطيء















المزيد.....

مخلوقات البيرتو جياكوميتي بين رؤيا الفناء والانتحار البطيء


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 2680 - 2009 / 6 / 17 - 12:20
المحور: الادب والفن
    


في أحد اجتماعات السرياليين بزعيمهم اندريه بريتون قال بريتون وهو في غمرة كلامه الكاشف: "كلنا طبعا يعرف كيف يبدو الوجه البشري..."، "إلا أنا"، قاطعه جياكوميتي مكهربا هواء تلك الليلة المشبع بدخان تبغ السريالية، وناثرا رماد شك جديد في أكثر العيون شكا وتشكيكا "أنا لاأعرف كيف يبدو أي وجه، هذا شيء لا استطيع الإمساك به".
هذه الـ "إلا أنا" التي هتكت عرض لحظة فالتة من اجتماعات أهل الحركة الشهيرة ومزّقت تفصيلة من حلمهم تطوي بين الـ (إلا) والـ (أنا) مفتاح شخصية جياكوميتي، وبعضا من سر جماليات تلك المخلوقات الدقيقة التي خرجت من بين أصابع ذلك النحات الصعب المراس .

هل الشاعر هو ذلك المخلوق الذي ما كان ليختار أبدا أن يكون شاعرا؟
يذكر سارتر في فقرة عابرة من كتابه “الكلمات” كيف شعر جياكوميتي بنوع من البهجة وهو يفيق من إغماءة بعد أن صدمته سيارة وهو يعبر الشارع، أصابته بجرح وسببت له عرجا خفيفا مستديما: "أخيرا شيء ما حدث لي"، وكيف أن هذا الفنان كان يتوقع الأسوأ، في حياة وصفها الكاتب بأنها كانت "مقلوبة وربما محطمة بحماقة عنف الصدفة". هذا التطرف في حب الحياة، وإرادة القبول بكل مفاجآتها وعبثيتها، شيء له علاقة "بسيطرة المعادن" علي الطبيعة النفسية لنحات يقول لنفسه: "أنا لم أُخلق لأنحت ولا حتى لأعيش، أنا لم أُخلق لشيء".

غالبا ما يتولد من عدم القدرة علي قبول النفس والتصالح معها عند بعض الشخصيات المبدعة، نوع من المصالحة والحب لذلك الغبار العبثي الذي يغلّف الأشياء ويحركها. ربما كان في ذلك شيء من النكاية في الذات المرفوضة أصلا من صاحبها، وهنا تصبح محاولة الإمساك بأكثر الأشياء أو اللحظات زئبقيةً وهروباً، وتجميدها بواسطة الكلمة أو من خلال الشكل، ترسيخاً مجانياً وفخماً لتلك التفاهة العبثية وإدانة لها بمعني من المعاني. يحيلنا ذلك إلى تلمّس النزعة التدميرية عند الفنان وتفهّم كونها، في جوهرها، نزعة خلاقة تنبع من ديناميكية التقويم المستمرة في تحولاتها التي لا تبدو لها نهاية، هدفها الوصول إلى رهافة أكثر في إعادة تشكيل الخلق. كما أنه في تمرد بعض الفنانين على إمكاناتهم وقدراتهم التي يحسدهم عليها الآخرون، يكمن رفض للمنطق النفعي في استخدام تلك الإمكانات والقدرات، لكي ينبشوا في مناطق مجهولة بروح مغامرٍ لا يفرق بين الفشل وبين النجاح، وهذا واحد من أسرار الفن والجمال في الحياة التي تبدو متجددة في كل لحظة، في نظر ذلك النوع الذي تجري في دمهم كريات ذلك الديناميت البنّاء: "كل شيء حولي يبهجني بالرغم من كل الفظائع التي حدثت لي والتي لا أريد أبدا أن أنساها".

أي عمل، أي فعل، يشبه دائما صاحبه ويعكس صورته الداخلية، رغم كل محاولات التمويه والتخفي. هذه حقيقة تحتاج فقط العين التي ترى. وفي عالم الفن يختبئ الفنان وراء عمله من أجل تطهير العمل من كل ما هو شخصي وعابر، إلى ما هو جوهري وعام. في محاولة الإمّحاء هذه، تنعكس ذات الفنان رغما عنه على سطح ما يعمل، بحيث يمكننا قراءتها والاحتفاء بها كشيء غير مقحَم، بل كفاعل شفاف من شأنه أن يصافح المتلقي عند المستوى الروحي الذي بلغه الفنان والذي منه يخرج العمل الفني. كان جياكوميتي، حتى على المستوى الشكلي، يشبه أعماله تماما: الأخاديد الغائرة في وجهه وتلك الغائرة في الوجوه التي شكّلتها أصابعه. الرهافة في اقتناص اللحظة المشبّعة بحقيقة وجوهر ما، تشع من عمله بنفس الوهج الذي كانت تشع منه كشخص، مثلما كانت الريبة واللا أدرية هي الأرض التي مشى عليها مشواره في الدنيا وفي الفن واقتطع منها طين تماثيله: "لا أعرف ماذا أريد ولا ما أعمل ولست أدري إذا كنت أعمل كي أنجز أعمالا أم لأكتشف لماذا لا أستطيع أن أصل إلي ما أريد. إنها دائرة جهنمية لا تتركني حرا لحظة واحدة".

شيء ما في منحوتات ذلك الفنان يقول بأنها لم تُصنع كي تملأ فراغا، بل يمكن القول إنها تشع فراغا. لكنها بالتأكيد نوع من الحفر يحاول الاقتراب من نواة العالم قدر ما يحاول الابتعاد عن الشكلية الخالصة. حفرٌ في الجسد غير المرئي لرؤيا مراوغة تعاود صاحبها وكأنها مطاردة تتحول إلي هاجس. تلك الرؤيا التي داهمته ذات يوم وهو خارج من السينما وجمّدت أعماقه، عندما ذاب الميدان وكل الأصوات في صفير صامت، وكأن جميع الأحياء اختفت من الوجود. سوف تلوح له هذه الرؤيا، كما يقول، في كل مكان: "في الشارع، في المترو، في المطعم"، لحظتها تتحول وجوه من يراهم إلى جماجم مفرّغة تتحرك داخلها مقلة لا عمر لها ولا صاحب. سوف تصل هذه الرؤيا في النهاية إلى طرفها القصيّ، ليكتب قبل أيام من رحيله كلماته المتهدجة: "يا أصدقائي، إن النور يتفجر من كل شيء...".

ثمانون سيجارة في اليوم الواحد عشرون فنجان قهوة. سرطان المعدة. رئتان مشبعتان بعصير التبغ الأسود. العمل طوال الليل والنوم في ضوء النهار. الظلام كريه دائما. تناول وجبة الطعام الوحيدة في المساء في المطعم، الأكل والسيجارة بيد، بينما اليد الأخرى ترسم شيئا مما حوله على صفحة الجريدة التي تتجول علي عناوينها عينه. إدمان الرسم شرط جوهري للقدرة على النحت، ودائما تشخيصي. التجريد لا يغريه: "لو أن لوحة لموندريان تمزقت، أو تمثالا لبرانكوزي انكسر إلي نصفين، ما الذي يتبقي من عملهما؟ لكن لو أن تمثالا فرعونيا تحطم ثلاثا، فسيكون لدينا ثلاث قطع رائعة". عند الفجر وبعد انتهاء ليلة العمل سوف نجده في مكان ما من مونبارناس، صداقات حقيقية مع المومسات. إنه يطلب من إحداهن (كانت تجلس له كموديل) شراء جزء صغير من جسمها ليكون له وحده: المنطقة التي تعلو الكعب مباشرة. كل شيء بصري بالنسبة له، الوجود نفسه لا يعدو كونه بصريا. استلهامه النحت الفرعوني والسومري. مرسمه المفتوح دائما للكتاب والفنانين. حواراته مع صامويل بيكيت. الاستمرار في تغيير العمل الواحد إلي مالا نهاية طالما لم يؤخذ من تحت يده "العمل المكتمل هزيمة". التفكير اليومي بسكب البنزين على رأسه وإشعالها. الأسنان التي اسودّت وتآكلت من التدخين الذي لا ينقطع. ظل الخوفِ الساكن في الأعماق تجاه الكيان الأنثوي. الشهرة التي طرقت بابه متأخرة فأربكت توحده. عدم رغبته ترك الإقامة في مرسمه البارد إلى البيت المريح الذي جهزته له زوجته بعد أن أتاه المال. السعال المتواصل بينما السيجارة في اليد. ثقل الحزن المتدلي من الوجه. أحجام تماثيله، حيث المبالِغة في التصغير أو المبالغة في التضخيم، وعلاقة هذه التحريفات في الشكل بمعانيها: "عندما ينجح العمل ولو قليلا، يصبح وسيلة اتصال وتفاعل مع الآخرين في رؤية ما أراه". علاقته الحميمة بأخيه وبعض الأصدقاء، والمرأة التي كرّست حياتها من أجله، لولاهم لما بقي من أعماله شيء، حيث التدمير هو قانون الخلق بل أحيانا هو عين الخلق!

نري بين أعماله ساقا عملاقة منتصبة في الهواء ببلاغة حرفِ الألِف، ندرك أنها خرجت من نخاع ساقه التي دهستها السيارة. نرى تجويف كعب المرأة الذي اشتراه منها بمبلغ ضخم، غائرا كعلامة أنثي بين أقدام تماثيله وفي ملامس سطوحها. نخشع أمام رغيف الجبس المقضوم الذي يصور وجه رجل كان قد رآه يموت. سوف تُلهمه عجلات الأسرّة في المستشفى، القطعة الرائعة للرجل الواقف فوق عربة تنزلق به إلى اللامكان. نسمع صمت الميدان المتجمد، في التماثيل الصغيرة للمارة والماشين في مستطيل ميدانه. نتفهم خوفه من المرأة ونحن نتأمل البطن البرونزية المرتفعة فوق مستوي النظر، التي تذكّر برحم الأرض الغامض. نرى الوجوه تفقد تحت يديه تدريجيا ملامحها الشخصية وتصبح كيانات فارغة تحدق في فراغ، مجرد نظرة خارجة من تجويف لا هي حية ولا هي ميتة، تتأرجح في منطقة غائمة بين الوجود وبين العدم حيث توقفت ساعة الزمن في ميناء أفق مضبب: "المكان لا يوجد، يجب علي المرء أن يخلق المكان دائما. الصور والتماثيل التي أعملها تساعدني فقط في فهم الواقع، تجعلني قادرا على الدفاع عن نفسي، على الهجوم بشكل أفضل، لأتقدم إلى أبعد ما أستطيع في كل الاتجاهات، لأحمي نفسي من الجوع والبرد والموت، لأكون حرا وقويا، لأغامر، لأكتشف عوالم جديدة، لأخوض غمار حربي الخاصة... من أجل لا شيء".

يوسف ليمود
النهار اللبنانية
_________________________
بعنوان "جياكوميتي"، افتتح قبل أيام معرض للفنان في متحف بايلار في مدينة بازل، يستمر حتى 11 أكتوبر / تشرين الأول. يشمل المعرض مجموعة كبيرة من أعمال جياكوميتي، نحتا وتصويرا، تم استعارتها وتجميعها من متاحف ومؤسسات وأفراد من مختلف أنحاء العالم، ضُمّت إلى جانب المجموعة الخاصة التي يمتلكها متحف بايلار، من أعمال هذا الفنان السويسري الأصل، والتي تعتبر من أهم المجموعات التي يمتلكها شخص - متحف.



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب
- مقاطع في حيّز العابر
- صلاح بطرس .. منحوتات تستنقذ ما يتلاشى من روح مصر
- ليذهب فان جوخ إلى الجحيم
- سحرية الصورة في أفريقيا، أوقيانوسيا، والفن الحديث
- -بالصدفة، نثر الفصول- لاحساين بنزبير .. ذلك الثقب في اللسان
- كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك
- فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق
- بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن
- إيف كلاين .. أجساده الفراغية وثورته الزرقاء
- مقدمة عن الجسد في الفن
- الجانب المعتم - رغبة الفوتوغرافيا وفوتوغرافيا الرغبة
- شيماء عزيز .. بالأسود ترسم أجسادها وبه تخفيها
- حجر قايين
- فينيسيا.. من كاناليتّو إلى مونيه
- صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن
& ...
- مائة عام على الفنون الجميلة في مصر!
- أتجرد من ماذا لحساب ماذا
- الرحيل عن بيروت
- في رحيل ريك رايت أسطورة بينك فلويد وبينك فلويد الأسطورة


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - مخلوقات البيرتو جياكوميتي بين رؤيا الفناء والانتحار البطيء