أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك















المزيد.....

كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 2620 - 2009 / 4 / 18 - 10:15
المحور: الادب والفن
    


قدمان من البرونز ويدان ورأس آدمية، توصّل بينهم سلسلة صدئة من الحديد تتكوم على الأرض كأحشاء يطفح منها المعنى في جبروت وبداهة وميتافيزيقية. هذا العمل الآسر، رغم بساطته، يختصر المنطق الجسدي الشامل للجبهة الفنية التي تتمترس وراءها فنانة، أبسط ما يقال عنها إنها إحدى أيقونات الفن المعاصر! الأمريكية كيكي سميث 1954. من هذه السلسلة ـ الأحشاء، بما تشير وتحيل على المعنى الإكلينيكي البيولوجي الاجتماعي السياسي الذكوري الأنثوي، وفي الآن نفسه أيضا، الميلاد الموت البقاء التحول البعث التجدد... تنبثق كل مفردات وتقنيات ومفاهيم المنجز الفني الذي لا يفتأ يجدد منطق رؤاه وتنويعاته على تلك الرؤى في دهشة جمالية لا تني بدورها تتجدد.

في عائلة فنية، الأم مغنية أوبرا "جين لورانس"، والأب نحات معماري مصور ومنظّر للفن "توني سميث" ولدت "كيارا" والتي ستصبح فيما بعد "كيكي سميث". مساعدتها أبيها في صغرها في أعماله النحتية الهندسية الطابع، عمّق إحساسَها بالشكل والتشكيل، وفي الوقت ذاته ولّد في نفسها كراهة ضد المنطق الهندسي النظيف البارد. سوف يتطور هذا الشعور لاحقا إلى رفضٍ لجمالية النحت التقليدي المسطحة، إلى البحث عن منهج أكثر تغلغلا في كنه ذلك الجسد - السراب الهش المحكوم بخرس الموت والتحلل والاختفاء. صدمة موت أبيها كانت مفتاح الدخول إلى الشاشة المضببة لكتلة الهباء تلك!

لتدعم بحثها الفني المتغلغل في حقائق الجسد البيولوجية وأبعاده، لجأت سميث إلى دراسة الطب. حصلت على شهادة كطبيبة طوارئ. انعكست معارفها العلمية بشكل حاسم على أنامل رؤيتها المتلمّسةِ لحمَ وجلد وعظام خاماتها من ورق إلى زجاج إلى شمع إلى أحبار إلى أحبال إلى برادة صدأ إلى سيليكون إلى بلاستيكات إلى جبس إلى حجر وبرونز وحديد. ومن الرسم إلى الوشم إلى الطباعة إلى التركيب الفراغي إلى التمثال، المتملص بكل ما أوتي من إرادة فنية، من أي نزعة تقرّبه، ولو من بعيد، إلى المنطق الشكلي المألوف في فن النحت.

ليس للألوان هنا دور أو حاجة. الجسم الفني يأخذ لون مادته، ملمسَ مادتِه، يطفح بتعبيرية، من دون أن يتعثر أو يغرق فيها؛ يرسل هسيسا يقول صرخة صامتة. يؤطّر بحزام غير مرئي ساحة الصراع المستتر بين الوحشي والإنساني، بين الأنثوي والذكوري، بين الترابي والأثيري، بين الزاحف والطائر، بين القيد والمطرقة، بين القناع والحشا، بين الأحشاء والسلسلة.

قلنا إن كيمياء الخلق الفني ليست سوى كيمياء جسد الفنان نفسه. مقاييس مداره الجسدي هي مقاييس رياضته وحساباته في المادة التي تتشكل في يديه. تحريفاته ومبالغاته في الشكل ليست سوى صورة لجسده الأكثر جوّانية. لكل فنان منطق مختلف في المبالغة والتحريف يكاد يكون بصمته، أو هو بالأحرى بصمته. أرى التحريفات والتحويرات في عمل سميث فأكاد أرى صورتها هي، جسدها هي، وروحها هي، كما تومض في حدسي. حتى الغامض في العمل ليس سوى انعكاسا للغامض في الفنان، ذلك الذي لا يطاله الحدس، فالغامض فيك هو الغامض فيّ. إنه منطقة البحث المدوّخة. يطوف حولها الفن كفراشة حول مصباح. كذبابة على جثة.

الجسم المنحوت، في عملها، ممطوط، مسحوب، كخروج جنين من مشيمة. الجنين الشمعي المنكمش في مصيره المؤجل يلتصق على نعومة ظهره لسانٌ من عظمِ عمودٍ فقرى يمزج الموت بالولادة. تلمس خشونةُ الجسم العاري للمرأة ـ القرد، الذاهلة، تأملَ داروين في التطور وأصل الأنواع. كذلك المسوخ والتحولات، حين تنتصب الرؤوس الآدمية على جسوم غربان وطيور ذوات أثداء. وتُستحضر الخرافة وقصص الخيال فتخرج حواء من بطن الذئب. وتسبح الحيوانات المنوية كثعابين سمك في دائرة ينتصب جنبها الذكر والأنثى خرقتين باليتين مرفوعتين في فراغ الوقت كخياليْ مآته. وتدخل أجسام الكائنات من طيور وزواحف وحشرات حيز المكان. أرضية عرضٍ كاملة تبرقشها غربان ميتة. دائرة زرقاء مفروشة بكتيبة من مخلوقات دقيقة، وحيوانات البحر، مصنوعةٍ من كريستال. هذا الحس المائي يقابل طين الموت والولادة، الثقيلَ مادةً، الخفيفَ روحا.

هذا التنقل اللحني بين الأنواع والمخلوقات، وهذا العزف على خامات التعبير المعاصرة، التي أصبحت كل شيء وأي شيء، يشير إلى شمولية الرؤية وكونية الرؤيا، رغم المشيمة التي تخضّب أعمالَ هذه الفنانة بأنثويتها. التحيز لهذه الأنثوية يضفي على عملها، في أحد أبعاده المتوارية، نظرةً نقدية للوضعية الاجتماعية المتسلطة بذكوريتها، إلى جانب وضعية الكائن، بشكل عام، في منظومة اجتماعية سياسية تحكمها السلطة والقانون الأدنى من المستوى الإنساني المفترض!

لكنه الجسد ما تؤكد عليه أعمال سميث. هي هنا مستفيدة من نتاجات الفكر المادي في عصرها، من دون أن تتنكر لقيم روحية من السهل سقوطها من ثقوب جيوب الجسد المادي. تلك القيم التي صبغت نشأتها الدينية تركت حسا يدعم نظرتها للوجود وعلاقة الجسد، تلك المركبة السائرة، بأشياء هذا الوجود. فحين جسّدت في عملها المسمى "حكاية" امرأةً من الشمع المصبوغ، تحبو بذيل طويل وراءها كأنه الغائط، اشمأز النقاد ووصفوا العمل بالمشين المقزز وغير اللائق! لن تفرق هي بين فضلات الجسد وفضلات الدماغ من أفكار دخيلة على شمع الجسد. كذلك سوف تخرج من قراءتها لـ "كتاب الساعات" من تراث العصور الوسطى، بعمل يستحضر الانتباه إلى سوائل الجسم وإفرازاته، حين رصت اثنتي عشرة زجاجة ذوات سطح فضي لامع، بعضها إلى جانب البعض، محفور على كل زجاجة اسم أحد سوائل الجسم: بول، دم، لبن، دموع، مني.... هي هنا لم تذهب أبعد مما ذهب إليه فنان سابق عليها في الوقت وفي الريادة، بييرو ماتزوني، حين عبّأ برازه (؟) في علب فاخرة التصنيع مطبوع عليها بأربع لغات "خراء الفنان" وحدد ثمنها بتسعيرة الذهب وقتذاك! أعمال كيكي سميث القليلة المستفزة لا تتبع هذا المفهوم الساخر من آلية مجتمع استهلاكي. استفزازها لم يُقصد به الاستفزاز في ذاته، بل هي مناسبة أو دعوة للتأمل في كل محتويات الجسد، العضوية والفكرية والروحية. نوع من مصفاة يُرمي فيها ما هو أصيل في الجسد البشري وما هو دخيل عليه، ما هو حقيقي وما هو زائف.

يوسف ليمود
مجلة جسد
رابط لمادة سابقة ذات صلة:
http://www.doroob.com/?p=35479




#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق
- بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن
- إيف كلاين .. أجساده الفراغية وثورته الزرقاء
- مقدمة عن الجسد في الفن
- الجانب المعتم - رغبة الفوتوغرافيا وفوتوغرافيا الرغبة
- شيماء عزيز .. بالأسود ترسم أجسادها وبه تخفيها
- حجر قايين
- فينيسيا.. من كاناليتّو إلى مونيه
- صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن
& ...
- مائة عام على الفنون الجميلة في مصر!
- أتجرد من ماذا لحساب ماذا
- الرحيل عن بيروت
- في رحيل ريك رايت أسطورة بينك فلويد وبينك فلويد الأسطورة
- في رحيل المصور حسن سليمان .. وقفة بين المرئي واللامرئي
- فرنان ليجيه في معرض استعادي .. أيقونة الحديث والمعاصر
- من يوسف ليوسف .. تلويحة غياب متأخرة
- سوق الفن السنوي في بازل وسؤال الوعي
- فن معاصر لثمانية مصريين في العاصمة السويسرية بيرن
- لوحة الأكشن في معرض بمتحف بايلار .. بازل - سويسرا
- نهر .. أتعبره أم يعبرك


المزيد.....




- السجن 18 شهراً لمسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-
- رقص ميريام فارس بفستان جريء في حفل فني يثير جدلا كبيرا (فيدي ...
- -عالماشي- فيلم للاستهلاك مرة واحدة
- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك