فرج بصلو
الحوار المتمدن-العدد: 2166 - 2008 / 1 / 20 - 10:45
المحور:
الادب والفن
المذهل, إنني لم أكن نائماً, ولا غافياً. إذ كنت أشعر بدفء الشمس المتسربة من الفيراندة الأسترالية. وأنا أتأمل سرب الحمام الفار من هجمات الغربان الشرسة. ففاجأني هذا الطائر الثعلب وفي منقاره دستة كاملة من قوارير البيرة الهانوفرية المثلجة قائلاً: كأسك ايها الخال.
تأملت نفسي التي في الغربة فلم أرى لها جناحات وحتى زغب صدري لم يشبه الريش فلماذا ترفع نخبي أيها الطير الحسيني المنفي في جرمانيا؟
-لأنك تتبع لمملكة أوركيش الخالدة, ولأنني من أحفاده.
- ألم تقل مرة بأنك مجوسي من تلال شرمولا؟
- نعم! ولكن ما الفرق أيها الخال؟
- الفرق في خيال من يلاحقنا أيها الطير
- أتعني الغربان الجارحة لمملكة البعث المتوارثة؟
- انت تدرك ما أعني. ولا داعي بأسئلة تتلاعب في الموضوع وتيقظ الجن والعفاريت وكل من من سلالتهم.
- لن أسأل.
***
ويطير من على السروة المائلة والمغبرة آخذاً نظري معه إلى عامودا. حيث شجر التوت, والتين والحجحجيك والوديان الضئيلة التي تسري بالمياه القليلة شرقاً إلى حارات قامشلوكي, عابرة من خلف الجامع الكبير, البشيرية أولا, ثم بساتين وسط هذه المدينة المغبرة الحالمة, إلى قدور بك وضياع العربان من طي وشمّر وخنافس البدو وقنافذهم وخيولهم الصحرواية وغيرها حتى داخل بابل. أو كردستاننا إذا كنت تريد.
***
أفرك عيناي لأتيقن من يقظتي. ثم أغوص في حلمي مجدداً. ولم تكن الفيرندة إلاّ طائرة بوينغ تقلني إلى آخر الدنيا في قارة الكنغورو. لكنه يلاحقني لأحس كأنني فراشة على شبكة عنكبوت. أو خاروفاً يداعبه ثعلب. فيسألني الثعلب عن أمينة وعن الكارز المشوي في مدخل البلودان. ويدقق: "أنحاء السراي. هل تبقى بعض من يشوي تلك الذرة ليبعها بخمسة قروش لعشاق العشق والحرية في أنحاء الحديقة الخلابة؟ والشوقلة لمن الأن؟".
- لا أدري أيها الطير الهانوفري. أنا الأن في البوينغ بعيداً مسافة عشرين عاماً عن ديارنا.
- لكنك متجذر هناك أيها الجزراوي. لك دار جدك, بقراته التي تفرز البوظة المشمشية والسنونو العالقة بالسقوف, البئر, الكرمة, السلالم والسطوح, الخردة والغلاء . لك صلاتك. لك حوانيتك. لك مدرستك الخاصة عند البروطستان. لك نواديك عند الأرمن والسريان. لك أصحابك من محلميين وريفيين وآشوريين وكورد الله الفقراء.
-ألم نتفق أيها الطير "إن لا فقيراً إلاّ بثقافته" ونحن أغنياء بكتابنا وبخيالنا وحتى بأفاعينا التي تجول البيوت والأحواش الطينية. كالدرك والهجانة وتوابع فروع الجن القاسية؟.
- لا أظننا بحاجة لكل هذا الشرح والكشف أيها الشاعر الجزراوي.
- أدري إن الكلام بيننا واضحاً.
- ولكن ماذا يعني كل هذا لمن يسترق السمع أو يخترق الشبكة العجيبة متلصصاً على بواطن الكلمات المحطوطة في ملفات الوورد وما غيرها من كتابات غير ورقية. تتعرض لفيروسات الحقد وخرابات الكترونية شتى.
- كلمني بالمخطوطات الملونة. أعني الرسمات الحاسوبية. إنني داري بها كما وأدرك في خطوطها وألوانها خرائط مهدي وطفولتي الخابورية, شقاوة مراهقتي ودراستي وسفري الدائم آنذاك على الحمار الحديدي الذي تسمونه بسكليت, ونحن نسميه "دراجة حديدية". وبالمناسبة هل معك مشط عظم أو فليلفة أو مخلل من مكابيس القطرميسات التي على مدار الحوش؟
- أتعني مشط عظم حقيقي أيها الطير الثعلب؟
- نعم. إنني أريد تمشيط أشواقي وحناني وجنوني الخاص المرسوم على كل ذرة تراب من تلك الجزيرة التي عشنا عليها بأجسادنا ومازلنا نعيش عليها بأرواحنا.
- أنا لا أتمشط أيها الطير الثعلب. لأنني فقدت ضفيرتي في عشق بدور ومنى كما نمّى عشقك لأمينة ولشقراوات الجرمان والسويد ضفيرتك العامودية-الهانوفرية, حتى كدت تبدو دون جواناً أو روميو أو ترابولطا الأفلام الفرنجية.
- تعجبني تشبيهاتك يا خال. ثم درايتك بثقافة الغرب. ولا أنسى كونك طفل نما على ضفاف الجقجق, حيث بساتين الرمان والمشمش, النواعير, وسينمات الصيف المفتوحة, وعَرَصات الخضار, واسواق الجلود والماشية, حيث ورشات الحدادين والنجارين, وأندية التمارين الجسمية, خانات البعير والدواب, وكراخانات البغايا المهربات, وكراجات البوزينغ والباصات ومواقف الحناطير ومحطة القطار ودروب الوحل والغبار وكنائس طالما بدى وطفا على جدرانها خيال المصلوب, مخلص البشر وغافر ذنوبهم الخيالي.
- هل تقرأعليّ كتاب الماضي أيها الطير الثعلب؟
- بل هو كتاب كل زمان!.
***
لا يعلم البشر ما اخترق أذهانهم وتبقى في غلاصيمها إلاّ أوقات الذل والإحراج والوحدة, بل العزلة والبرد. أوقات الغربة النفسية والجسدية. أوقات التشتت والنفي إلى ما خلف السنين والأعوام والخرائط. إن المنفي حيثما كان, يحيا في الأثير وعلى متن طائرة. يفتق الأشواق من الذاكرة. يرى نفسه بمرآة طير يسرد وهو مخدراً بكحول التوق, يتهادى كالحجل على الأرض...
***
-أتهذي ياخال؟
- الواقع يهذي يا عبد الرحمن
- وهل الكتابة واقع؟
- قد تكون واقعاً وقع
- تعني حصل؟
- أعني لا خيال إلاّ ما يدركه العقل من الواقع.
- إنك تذكرني بمشايخنا. وبسوالف العمر الغابر. فأعود أنفض رياشي. لأبقى أبداً عبد الرحمن عفيف. فهل تسمح لي لأطير إلى خابوري مجدداً؟
- هل سألتني مجيئك عليّ يا سليل الحسينيين, أيها الثعلب الطائر عبر الشبكة؟
- لا
- إذاً لماذاً تستأذنني ولم تبقى بيرة في منقارك. ها لك قدحاً من الفودكا البرتقالية تطير بك حيثما تريد.
يتلقفها ويطير.
فيحط البوينغ على مدرج مطار آخر الدنيا. أفتح بصري وإذا بي أمام حاسوبي المحمول. أضغط نقطة فأقفله.
أنزل من الطائرة لأسير على براري الجزيرة. مهدي بين ساعدي كأنني طفل يهَدي نفسه وحوله سرب من حمام تطارده جوارح متوسطية شتى...
#فرج_بصلو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟