أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - سلام عبود - شهداء للبيع! البحث عن رفات الشهيد كاظم طوفان















المزيد.....



شهداء للبيع! البحث عن رفات الشهيد كاظم طوفان


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1949 - 2007 / 6 / 17 - 12:56
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


  كاظم طوفان!
 لا أعرف أية صورة يرسمها هذا الاسم في خيال القرّاء!

 المزج الغريب بين الكظم والغضب هو ما استوقفني في هذا الاسم الفريد. الكظم كمقدرة على كبح جماح النفس في حالة الغضب، والتي هي صفة لأحد أئمة الشيعة، والطوفان أي هياج الماء وجموحه وثورته، كما ورد في الكتب السماوية وفي الأساطير العراقية القديمة. لكننا لا نعثر على معنى الطوفان في العامية العراقية، التي لم تعد تستخدم الكلمة إلا كاسم.  وهو المصير ذاته الذي آل اليه الفعل كظم. فقد نسيته العامية العراقية واكتفت باسم الفاعل والمفعول منه: كاظم” و”مكظوم”. بيد أن اضمحلال معنى الطوفان في الاستخدام العامي لم يلغ صلة الكلمة بالماء, فلم تزل هذه الكلمة تستخدم بمعنى العوم على سطح الأشياء، ومنها الفعل "طوٌف"، و"الطوف" أداة ركوب النهر. وترد كلمة طاف بمعنى تنقل في زياراته, وحصرت العامية الطواف بزيارة العتبات الدينية.

 إذاً، نحن أمام "كاظم" و"طوفان". دين وأساطير ومذاهب وفصيح وعامي وهيجان وتحكم بالانفعال، كل ذلك يجتمع في اسم واحد؟

كم  حاولت أن أرسم صورة أدبية في هيئة قصة أو مقالة  لكاظم طوفان, لكّني فشلت في كل محاولة! ولو أني حاولت في وقت مبكر من حياتي ربما نجحت في مسعاي. وربما كان نجاحي أكبر لو أنني طبقت عليه مفاهيمي الثورية عن الفن والأدب، خاصة ما يتعلق بالنمذجة، وتعميم الخصائص الجوهرية للواقع، ومطابقة الشروط الاجتماعية، وعكس جوهر الواقع المعاش وغيرها من الوصفات السحرية، التي يتعلمها طلاب الأدب في معاهد الدول الاشتراكية سابقا، ومتذوقو علم الجمال الحزبي الاشتراكي. لو كنت فعلت ذلك آنذاك لنجحت نجاحا باهرا في رسم صورة شخصية للمناضل البروليتاري، الذي يولد بين الناس ويخدم قضاياهم بإخلاص ونزاهة وشرف. ولكن، لم يكن، ممكنا، حينذاك،  ايجاد خاتمة منطقية لبطولته الثورية. فنضاله الثوري لم يبلغ مبتغاه حينذاك: النصر أو الشهادة. أما رفاق دربه فتشردوا وتشرذموا. وما كان من الممكن أن يكتب المرء عن شخصية حيّة، لا تتمتع بمركز قيادي مرموق،  لم تصل بعد الى حدود البذل القصوى. فما معنى أن يكتب المرء عن كادر حزبي مغمور، حتى إذا كان من حزب الكادحين والمغمورين!

أما الآن، بعد أن أنجز كاظم الخاتمة  الضرورية التي تشترطها القصة­ القصة البطولية والحزبية الناجحة­ عابرا لحظة الذروة: الاستشهاد، أصبح رسم الصورة أكثر استحالة. والسبب يعود الى أنني تغيرت خلال الفترة التي أرغمت فيها على انتظار موته. فلم أعد  أؤمن إيمانا حرفيا، تقديسيا، بما كنت أسميه البناء الفوقي والتحتي، والانعكاس، والتعميم،  والنمذجة وغيرها. المأزق الذي وقعت فيه هو أني لم أجد في كاظم صورة واقعية يمكن أن أرسم من خلالها لوحة فنية تعمم خصوصيات الواقع. قد تبدو هذه الفكرة شاذة ومعقدة عند البعض. وفي حقيقة الأمر هي كذلك. فكلما نظرت الى كاظم أجد أنه ليس شيئا واقعيا ينشد أن يتم عكسه” الى عمل أدبي، يعمم” خصائص الواقع فنيا كـ نموذج”. فهو في  نظري لا أكثر من صورة فنية منجزة، رسمها الواقع، بالضبط كما يرسم الرسام أوكاتب السيناريو السينمائي صورة فنية عن شخص ما. هكذا بدا لي: مجرد صورة رسمها أحدهم، ريما تكون الطبيعة، أو الله، أو إحساسي الشخصي، أو تصورات الناس, وقال لها: انزلي وسيري على رصيف الحياة!”. كان صورة فنية منجزة الخلق. فلو قدر لي أن أرسم صورة أدبية عنه، فكيف أرسم صورة عن صورة! ذلك هو المأزق الذي وضعني فيه موت كاظم. لذلك  عجزت عن رسمه وهو حي، وازداد عجزي حينما مات شهيدا، مغدورا به، فوق قمة جبل كردي، ذهب ­ هو العربي ­ ليدافع عنه.

عرفته قبل أن التقيه. فجميعنا، سكان وسط المدينة، الشباب، المهتمون بالسياسة نكاد نعرفه، أو أننا لاحظنا وجوده المحسوس على مقربة منا في مدينتنا الصغيرة. وجه جميل التقاطيع، يشبه وجوه الممثلين في أفلام البطولات الكبيرة. مشية هادئة. ثياب بسيطة قلما تتغير، لكنها عصرية ومعتنى بها. ود واضح، وهدوء وحذر يظهران بجلاء في مشيته وفي سلوكه وفي طريقة نطقه للكلام. وتلك خصال تؤهل أيّا كان في مدينتنا الجنوبية الفقيرة، المهملة، لأن يلعب دور البطل في أية قصة عاطفية، وقد لعب كاظم بحق دور البطل في واحدة منها. ولو أضفنا الى ذلك كله بعض البهارج كأن تكون قصة حبه الحقيقية من القصص المستحيلة، فسيغدو من دون ابطاء شخصا له صلة بأبطال القصص الخياليين. وفي حقيقة الأمر كانت قصة حبه العاطفية شديدة التعقيد. فلم يكن واعدا ومأمونا الجمع بين الشيوعية والفقر والحب والبطولة الرومانسية الى حد الاستشهاد. كان ذلك يشبه الجمع بين الكظم والطوفان. تلك إضمامة من الأفعال القاتلة! فموضوع اشتغاله بالسياسة ربما لم يكن عظيم الخطورة في نظرنا، فكثيرون عندنا مشغولون بها. لكن الاشتغال بها الى حد الاستشهاد أمر لا بد أن يكون عظيما شئنا أم أبينا. كان هذا الأمر سببا كافيا لجعل كاظم مغامرا من الطراز الأول، مغامرا في حبه وشيوعيته ورومانسيته الثورية. وربما لهذا السبب أيضا كان يجب أن يموت، كي يرث مكانه­ ولا نقول موقعه­ من هم أقل منه شيوعية ورومانسية وعاطفة!  أما موقعه فقد مات بموته. لأن المواقع دائما هي البشر أنفسهم, تولد بولادتهم, وتموت بموتهم.

توطدت علاقتي وثقتي به وئيدا، لبنة لبنة، وسط مشاعر شديدة التعقيد تبادلناها وعشناها معا. فكلما اقتربت منه ازدادت ثقتي به وحبي له من جانب، ومن جانب آخر فسدت أجزاء من الصورة الجميلة التي رسمتها له في مخيلتي. فهو لم يكن مثقفا كما يتقول البعض متسلحا بالماديتين التاريخية والجدلية”. كان في حقيقة الأمر متسلحا بحب قضيته، وبشجاعة نادرة، مصحوبة بإخلاص لا حدود له.  كان شريفا في حواراته معي، لأنه كان يعترف دائما، وبخجل، بأنه ليس محترف ثقافة مثلنا. إضافة الى ذلك فهو غير متعلم مثلنا نحن طلاب كليات الآداب والفنون والحقوق... وزيادة في جرعة المكاشفة اعترف لي بأنه  مثلي،  كلما اقترب مني أحس بشيء غريب ومتناقض أيضا. اكتشف, شيئا فشيئا,  أن الشباب "المثقفين" المهوسين بالكتب والنظريات الثقافية ليسوا فاسدي قلب وضمير ودماغ، كما يشاع عنهم في الأوساط الحزبية القيادية. صعوبة التعامل معهم أمر لا يخفى على أحد، إلا أنهم أنهم بشر مثل غيرهم من الناس، فيهم الصالح والطالح. وتلك خلاصة خلاقة من حزبي بدأ يضع قدميه توا على سلم القيادة. وربما لذلك السبب اصطفاني كاظم في زمرة الصالحين, فنشأت بيننا ثقة كبيرة وألفة، جعلته يوما يباغتني من دون تمهيد قائلا:

­ أما آن للفارس أن يترجل؟ أما آن الأوان أن تحسم أمورك وتقرر؟

­ أقرر ماذا!

­ أن تعمل معنا.

 وقع طلبه موقعا عجيبا في نفسي. لا بسبب أنه يدعوني الى العمل في صفوف حزب سري، هو الحزب الشيوعي العراقي، وإنما بسبب معرفته أني  كنت أنتمي الى فصيل شيوعي آخر، عدو عداء لا صلح ولا هدنة فيه مع حزبه، الذي كان وما زال يعتبر من انتمي اليهم  مجرد مغامرين طوباويين، يستحقون العقاب الحزبي المعهود: الطرد والمطاردة والتشهير، وإذا توفرت ظروف مؤاتية، فلا مانع من العقاب الأنجع: الموت، بطرق مباشرة، كما حدث لرفاق كثيرين، أو بالدس عليهم والتبليغ المباشر وغير المباشر للإيقاع بهم.

 كيف يجرؤ "موسكوي", تحريفي, يميني على هذا! لكني سرعان ما ربطت الأمر بسلسلة من الحوارات المماثلة جرت مرات عديدة مع صديق شيوعي آخر, ظننتها حينذاك مجرد جدل عفوي, اعتدنا على خوضه في ملتقياتنا الخاصة.

­ أهذا رأيك أم رأي حزبك؟

­ رأيي ورأي حزبي واحد.

­ إذاً، لا لقاء بيننا، لأنني أعرف رأي حزبك جيدا.

­ اعتبره رأيي.

­ وهل سأعمل في صفوف رأيك أم في صفوف حزبك،؟ وكيف سيتقبل الآخرون الأمر؟ كيف سيقبلون رفيقا، لم يتخل عن أفكاره المغايرة لأفكارهم؟  أنا لا أعرف على الإطلاق بوجود هذا اللون من التسامح الحزبي عندكم.

­ ولكني أعرف من أنت.

­ من أنا؟

­ أنت عضو طلابي بسيط ,سابق, في تنظيم القيادة المركزية، الذي يرى أن تيار حزبنا هو تيار يميني واصلاحي، وربما رجعي. وأنتم تعتقدون أن الحوار مع فصائل العمل الوطني، خاصة البعث، ضرب من الخيانة الوطنية والطبقية، ونوع شنيع من أنواع الذيلية السياسية والتبعية للاتحاد السوفيتي. أما ما  يخص للكفاح المسلح الذي تؤمنون به، فأنا واثق تماما أنك وصلت الى قناعة مماثلة لقناعتي وقناعة عدد كبير من الرفاق ممن كانوا يميلون الى الكفاح المسلح, مفادها أن الكفاح المسلح لم يعد الشعار الملائم، في الأقل الآن، بعد انهيار تنظيم الكفاح المسلح تحت ضربات السلطة.

­ وضرباتكم.

­ سوء حظنا.

- حظكم؟

- حظنا جميعا.

­ حسن! ما وجه اللقاء بيننا؟ ما زلنا عدوين بنظركم.

­ لسنا عدوين، في الأقل لي شخصيا.

­ هذا أجمل ما سمعته من شيوعي، أرجو أن لا تلام عليه.

­ أنا لا أخاف من أحد، وأعرف بالضبط ما أقول.

­ حقيقة، كان بودي أن أستجيب الى دعوتك الصادقة، التي أجدها بحق فرصة أخوية ورفاقية للتعاون، لكن المشكلة لا تتعلق بك، وإنما بحزبك، بتركيبته، بقيادته، بعقليته، بروحه، بتقاليده التنظيمية والسياسية. كل ذلك يحول دون أي لقاء واقعي بيننا. سنصطدم ببعضنا لا محالة، اليوم أو غدا أو بعد غد. وستبدأ سلسلة الاتهامات، ويبدأ التذكير بالماضي اليساري وبالانتهازية اليسارية المغامرة وبمرض اليسارية الطفولية.

­ لن يحدث هذا.

­ لماذا لن يحدث؟ سيحدث، ربما لن يحدث معك ولكن مع الآخرين، خاصة أنهم يعرفون أنني لم أتخل عن أفكاري  فيما يتعلق بتهالك قيادتكم على التعاون مع السلطة.

­ لن يحدث. أنا على ثقة تامة من هذا، لن يحدث ما تخشاه.

­ حتى لو افترضنا ذلك، وهو أمر غير واقعي، فما نفعي لكم، وأنا لا أدعو الى سياستكم؟

- صدقني أنا لا أختلف معك إلا في أمر واحد فقط. أنا أؤمن بالتغيير من الداخل. يجب قلب المعادلة من داخلها لا من خارجها. بالمناسبة, لست وحدي من يؤمنون بهذا, هناك كثيرون مثلي, لكنهم الفئة الأقل نفوذا. يجب أن نكون الأقوى بتساندنا.

- وموجة التحالف؟

- لا أحد يستطيع إيقافها الآن, لا أنا ولا أنت, لا من الداخل ولا من الخارج, إنها عاتية وستجرف الجميع, ولكن لا حلول أمامنا. فهل نترك كل شيء, كل شيء للآخرين, ونستسلم لليأس؟

- وما نفعي لكم؟ أنتم حزب عريق، يملك تنظيما حديديا كما تدعون، وشبكة عظيمة السعة من الأعضاء، جيش البروليتاريا الحديدي، كما تسمونه.

لم يعلق كاظم، كان ينظر اليّ بهدوء وهو يبتسم ابتسامة صبر وتعقل، منتظرا أن أنهي فورة كلامي، التي توقع حدوثها وخمن فحواها مسبقا. طأطأ رأسه كعادته، ثم رفع خصلة الشعر الناعمة التي نزلت على جبينه بكفه، غارسا أصابعه في شعر رأسه مثل مشط، بحركة، ربما هي أيضا جزء من صورة رأيتها من قبل على شاشة ما، أو قرأتها في كتاب ما.

­ هل تريد أن أفشي لك سرا حزبيا لا يقال. هذا السر ربما لو عرف أحد به ستكون عقوبتي الطرد من الحزب؟

كان سؤاله مفاجئا حقا. فأنا لم أرد منه أن يصل في ثقته معي الى هذا الحد الجنوني،  ولم أكن أبحث في حقيقة الأمر عن نقاط للثقة معه. فأنا أحس به صديقا مقربا موثوقا، رغم اختلافنا السياسي.

­ رغم اختلافي معك، فأنا لا أتمنى لك الطرد من حزبك، ولا أريد أن أخلق مشاكل لك أو لغيرك.

­ على أية حال سأسألك سؤلا تافها: كم عدد أعضاء الحزب الشيوعي في مدينتنا؟

­ وكيف لي أن أعرف!

­ قدّر الأمر تقديرا؟

­ في يوم ما، في زمن حكومة الزعيم عبد الكريم  قاسم ، كانت العمارة هي المنطقة الوحيدة في العراق التي توجد فيها لجنتان محليتان للحزب الشيوعي، واحدة في المدينة وأخرى في الريف. أما الآن فلا أعرف. ربما آلاف.

­ لا.

­ مئات.

­ ولا هذا.

­ عشرات.

­ ولا حتى هذا.

­ ماذا يوجد إذاً؟

­ لا يوجد شيء. نحن نعيش على تلك الخرافة التي كانت، والتي ما زالت تعيش في أذهان الناس. لقد قادت الضربتان الأخيرتان، اللتان وجههما جهاز الأمن الى تنظيمنا الحزبي الى تدمير قواعد الحزب تدميرا تاما. وحينما اعتقل واعترف عضو ارتباط المنطقة الجنوبية انهار بناء المنظمة الحزبية من أعلاه الى أسفله. كنا في السابق نعاني من ضربات توجه الى القواعد أو الى حلقات وسطية تتسبب في ضياع جزء من بنية المنظمة، لكن الضربتين الأخيرتين زلزلتا البناء من قمته حتى قاعدته. جاءت الضربة الأخيرة من الرأس ووصلت حتى الأسفل. لا يوجد جيش البروليتاريا الحديدي الذي يعتقد الناس بوجوده. هل تصدق؟

لم أصدق. لا يمكن لخيالي أن يقبل بذلك، حتى لو صدق عقلي ذلك؛  ولا يمكن لقلبي وعواطفي أن تقبل ذلك حتى لو أن خيالي تصور ذلك وقبل به. نحن شيوعيون، شيوعيون, لا لأننا ننتمي الى الحزب الشيوعي، نحن شيوعيون لأننا متهمون بذلك، سواء انتمينا أم لم ننتم. ماذا نفعل بمشاعرنا الشيوعية, ماذا نفعل بشهادات اضطهادنا؟ وماذا نفعل بتهمنا الجاهزة، المتوارثة إذاً؟

- عيب! لا يمكن.

 "عيب!" هكذا نطق الكلمة، صديق طفولتي، الذي عمل معنا يوما ما في منظمة الشبيبة، رغم وجوده في موقع شبه عسكري. قلت لذلك الصديق يومئذ، مسرا له بمعلومات شديدة الدقة والخطورة: من الأفضل أن تقطع صلتك بالشيوعيين وبمنظمة الشبيبة الديموقراطية الشيوعية فورا”، فرد عليّ بغضب: أهذا أمر من الحزب تبلغه لي؟”, أجبته مهونا الأمر عليه: أنت لست عضوا حزبيا، أنت في منظمة ديموقراطية”. فنطق وهو يغص بالكلمات: وما الفرق! في حسابات أجهزة الأمن لا فرق”. قلت له على الفور: صدقت، لذلك أنصحك بأن تتخلى فورا ومن دون تردد عن أية علاقة بالشيوعيين، فقد صدر قرار من قبل السلطة يقضي باعدام كل من له صلة بالشيوعيين ويعمل في الجيش أو في أماكن عسكرية، وأنت تعمل في مكان تابع رسميا لمؤسسة عسكرية”.

­ تعني... أبطل من الحزب!

­ أنت لست في الحزب على أية حال.

­ تعني أتخلى عن مبادئي ومعتقداتي.

­ لا، ولكن ابتعد عن التنظيم وعن أي شكل من الصلات التنظيمية.

­ أي أتخلى عن مبادئي.

­ ....

­ لا يمكن.

­ قلت لك توجد عقوبة اسمها الإعدام. ألا تفهم! أما قيادة الحزب فلا يهمها أمرك، لأن استمرار التحالف يهمها أكثر من حياتك وحياة غيرك.

­ أنت تخرف.

­ أنا أغامر بهذا القول، لأنك عندي لست  زميلا” فحسب، أنت صديق طفولتي.

­ أبدا.

­ لماذا؟

­ عيب!

مسك طرف ذقنه بأصابعه المرتعشة من فرط الانفعال، ونظر اليّ باحتقار شديد وحزن وخذلان عظيمين وظل يكرر: عيب. عيب” ومضى، من غير أن يعرف أن أول وجبة من الذين سيجرى تنفيذ حكم الإعدام بهم قد صدرت الأوامر بحقها، وأن قيادة الحزب الشيوعي، على لسان أحد زعمائها، عامر عبد الله، رجت الرئيس العراقي آنذاك أحمد حسن البكر أن يعفو عنهم، وحينما أبى البكر، اقترح عليه الرفيق الشيوعي، القائد، مداعبا أن تسقط عنهم الجنسيات العراقية ويعتبروا بحكم اليهود ويعاملوا معاملة اليهود  الذين سفروا الى اسرائيل!

­ عيب!

 قلت لكاظم طوفان حينما كرر السؤال عليّ قائلا:

­ هذا هو وضعنا، سنبدأ من الصفر. أنت ومجموعة صغيرة من الأصدقاء، تعرفهم جميعا، ستبدؤون من الصفر. فهل أنت ضد هذا؟

­ عيب! أجاب فورا, نيابة عن ضميري، وعلى لساني، صديق طفولتي، فانخرطت في عمل لا يكل, بمعية أصدقاء آخرين, جرتّهم كلمات سحرية, غامضة, مشابهة. كانت كلمات السر الخفية التي نننطقها أوامر داخلية, فطرية, مبهمة لا صلة لها بالعمل السياسي أو الحزبي أو الآيديولوجي، لا صلة لها بالطبقبات والصراع الطبقي، لا صلة لها بالبناء الفوقي والتحتي. عهود ومواثيق والتزامات باطنية، ينطقها بألسنتنا بشر خفيون يقبعون تحت جلودنا. بشر أنقياء، صادقون الى حد الموت. بشر يهبون أنفسهم طوعا الى جلاديهم.

هكذا استمر عملنا ”نضالنا”، حتى اليوم الذي تم فيه انجاز بناء منظمة شبيبة المدينة، ثم منظمة الأطراف” أي ما يحيط بها من نواح وأقضية، ثم توحيدهما في قطاع واسع، ظهر من العدم ورسّخ الوهم القديم بشيوعية مدينة العمارة، وزاد في تأكيد تهمة الشيوعية لسكان المدينة الوادعين، الطيبين. في مساء يوم الانتهاء من اللقاء الموسع، الذي كرس لمناقشة أوضاع ما بعد استكمال بناء المنظمة الشبابية، تسلمت أمرا حزبيا”، يقضي بتسليم مهامي التنظيمية كافة الى رفاق آخرين، والتفرغ للعمل العلني في مقر الحزب الشيوعي في العمارة، كمراسل متفرغ لجريدة طريق الشعب”. فجأة، اكتشف أحد رفاق التنظيم أنني أصلح الأعضاء في المدينة للعمل الصحفي.  قبلت الأمر من دون تردد، بشعور مزدوج, متناقض بشكل حاد: ارتياح خفي لتخلصي من عبء لا يحتمل، ولكن بحزن من يطعن طعنة يعرف أنه يستحقها, طعنة الخيانة!

 قال كاظم:

­ من حقك أن ترفض.

­ عيب! أجبته وشعورعظيم بالخذلان يملأ روحي.

 لم يمض وقت طويل بعد ذلك، حينما اكتشفت أن البعث اكتشف أنني مندس في صفوف الشيوعيين لصالح قوى معادية لمصالح التحالف! وشيئا فشيئا أخذت أعي أن الدائرة بدأت تضيق, والحصار يشتد. وكلما التقيت كاظما وتناقشت معه مذكرا إياه باللحظة العجيبة التي تصارحنا فيها واتفقنا على العمل معا، قال لي:

­ امسحها في ذقني. على الرغم من أنني واثق أنك, عمليا, الرابح حتى الآن. فلولا وجودك بيننا لكنت في خبر كان.

بيد أن تلك الحماية الوهمية التي ظن كاظم أنهم قدموها لي مجانا كانت خداعا للذات محضا, خداعا لا يشتريه الحزب بفلس ولا يشتريه البعث بأقل من فلس. لذلك أدرك كاظم, بفطرته النقيّة, أنه حقا متورط، وأن ذقنه لم تعد قادرة على تحمل مسحات جديدة، خاصة أنه بطرقه الشخصية، كقيادي، عرف أن ذقنه ستتلطخ بالدم قريبا. فإذا كانت الشكاوى سابقا ضدي مجرد اتهامات من قبل جهاز الأمن، فإن شعورا خادعا  أخذ يسود داخل التنظيم ويسيطر على عناصره، مفاده أن الجبهة أهم من كل شيء، وعلاقات التحالف هي الهدف، وفق شعار خندق واحد لا خندقان”. خندق واحد حتى لو كان مليئا بالدم والغدر والوقيعة.

جاءني كاظم وهمس في أذني:

­ ما رأيك في الدراسة... والسفر؟

لم أجب عن سؤاله، لكنني التقطت الإشارة. وحينما اعتقلت وأنا في الطريق الى أهوار ناحية السلام تأكدت إشارة كاظم، ففهمت ما كان يدور في عقله، وأصبح الخيار إلزاما. وفي لقائي بكاظم بعد عودتي من ناحية السلام، حيث ذهبت لعمل تحقيقات صحفية في ريف العمارة، لكنني منعت واعتقلت بصحبة مسؤول العلاقات الوطنية السابق في العمارة, الصديق العزيز "أبو حارث" هشام الطائي, عدت وبجعبتي عدد من التحقيقات الصحفية، مسحت فيها أحوال الناس من مدينة السلام حتى العمارة، بما في ذلك تحقيق شديد الطرافة عن عمليات اعتقال جماعية واستعباد بشري من قبل مسؤولين حزبيين للفلاحين، بعثتها كلها الى "طريق الشعب" ولم ينشر إلا النزر اليسير منها، لأن الجريدة لم تكن معنية بالخلاف، بقدر ما كان يعنيها الاتفاق. وبما أن اعتقال الناس قضية خلافية، وبما أن أعمال السخرة قضية خلافية، فلا مكان لها في صحافة حزب الكادحين.  

لم يتخلف كاظم طوفان عن مد يد المساعدة المالية لي ، وساهم في هذه المساعدة صديق شيوعي، استشهد الى جوار كاظم طوفان في بشت آشان، هو أبو على (عبد الحسين علي)، الذي أقرضني خمسين دينارا، رغم فقره. فحينما استفسرت منه عن وضعه المالي، لم يجب، سكت لحظات، ثم نطق بحزن كلمة واحدة:

­ عيب!

 نطق الكلمة وذهب مسرعا الى بيتهم، الذي هو صريفة من قصب في حي شديد البؤس يقع على الضفة المقابلة  للمدينة من نهر دجلة, لكنه ما لبث أن عاد وعلى محيّاه تعابير محيّرة. عاد يحمل, بمشقة بالغة, ابتسامه حزينة، هي مزيج من الفرح الخفي الغامض والخوف من شيء مجهول، لا أحد يعلمه، حتى هو. قبّلني مودعا ودس المبلغ في جيبي. ربما كان يدرك، مثل كاظم، أنني لا بد أن أذهب. فقد أضحى وجودي جزءا من الدم الذي سيلطخ ذقن  كاظم، ومن الممكن أن يلطخ ذقنه أيضا، فقد كان زميلي في منظمة الشبيبة، وهو الذي تولى مسؤوليتها بعد استكمال بناء تنظيمها.

كاظم طوفان أبو ليلى”، و”أبو علي” لم ينتظراني كثيرا. فقد استشهدا معا على يد ميليشيات الاتحاد الوطني الكردستاني الغادرة, وهما يدافعان مع عشرات من الرفاق عن مقر قيادة الحزب الشيوعي العراقي، في جبل ناء من جبال كردستان، تلطخ الى الأبد بدم أبرياء لا ذنب لهم، سوى أنهم وثقوا بمن سيفتكون بهم. أما أنا، فما زلت أحيا، تؤرقني صورتاهما، وتجهش نفسي حينما أتذكر وجهيهما وهما يقبلاني ويودعاني داعيين لي بالسلامة، من دون أن يعرفا أن الموت كان يتربص بهما. كان الموت أقرب اليهما مني. وكلما عادت الصور القديمة الى خيالي، تدوّي في أعماقي كلمة عيب”, مثل صفعة، فأحس كما لو أنني المسؤول عن موتهما، وأن دمهما الطاهر ذكرى حارقة تبقع وجهي، وتحملني ذنب رحيلهما المبكر، رحيلهما الغادر برصاص الحلفاء. فقد هربت, بمساعدتهما, من بطش الحلفاء, وجعلتني نجاتي  شاهدا على موتهما بفعل الحلفاء أيضا.  فما أكثر الحلفاء، وما أشد غدرهم!

في الأيام التالية لسقوط صدام حاول بعضهم, تزلفا حينا وطمعا في تذكرة سفر الى مهرجان ثقافي حينا آخر, تزوير الهويات, فجعلوا  شهداء بشت آشان يسقطون " في المواجهات ضد الديكتاتورية", بما يوحي ببراءة الذئب القاتل. ووصل الأمر بأحد المواقع الحزبية أن أورد العبارة التالية عن أحد شهداء بشت آشان " استشهد  في أقبية التعذيب"! ففي زمن الخراب يبيع الورثة كل شيء, يبيعون حتى شهداءهم!

سافرت الى بغداد مرورا بالبصرة. بصحبة أبي زيتون، أحد أكبر واشهر قياديي المنطقة الجنوبية العلنيين, سافرت أولا الى البصرة بسيارة الفولغا، التي كنا نسميها سيارة الحزب. كان شعوري لا يضاهى وأنا أقطع المسافة من العمارة الى البصرة جالسا في سيارة الحزب. فلم يكن شعوري هو شعور من يركب سيارة، قال عنها صديق برجوازي  من أيام الدراسة الجامعية، إنها متعفنة ومتخلفة كالشيوعية. كنت أحس بزهو لا مثيل له ودغدغة طبقية عجيبة، ربما لا توازيها سوى دغدغة الكرسي الوثير, الذي جلس عليه ستالين في مكتبه الفاخر أول مرة عقب اطلاق النار على لينين. فقد دهمني وتلبسني شعور عميق، صادق، بأنها السيارة الوحيدة التي امتلكها فرد من أفراد عائلتي، عائلتي  الكبيرة، التي هي جماهير حزب الكادحين . إنها سيارة الجماهير, سيارة الشعب بأسره!

(بعد فترة وجيزة سقط أبو زيتون وسيارته الروسية سقوطا مدويا, فتلقفه البعث بالأحضان!)

في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، بعد جدال متعب وعبثي مع السيدين ماجد عبد الرضا، بدرجة رئيسة، وثابت حبيب العاني، اختتما الكلام بأن طبعا لي رسالة فيها تأكيد على هويتي الشخصية الى الجهات اليمنية في عدن، استلمتها بعد تلكؤ وخصام ومناكدات، (اكتشفت بعد أشهر أن الرسالة كانت تتضمن عبارات ليست في صالحي)، وحينما ودعتهما وخرجت، استوقفني صوت ماجد وهو يقول ساخرا، مداعبا:

­ الى أين تعتقد أنك ذاهب يا رفيق، الى الجنة؟

التفتت اليه، وقلت بجفاء اليائسين:

­ ربما لن تكون عدن هي الجنة، لكنني أترك جنة التحالف لكم.

بعد سنوات ذكرّت ماجدا بذلك، في مؤتمر الحزب الاشتراكي اليمني الأول. حضر ماجد ممثلا عن الحزب وحضرت أنا مراسلا لـ "طريق الشعب"، وكان بصحبة قيادي من الجبهة الديمقراطية، حينما سألته:

­ سمعنا أخبارا تتحدث عن حل المنظمات الديموقراطية!

 قلت ذلك وأنا أعرف أن ماجدا نفسه يقف على رأس الاتجاه الرامي الى حل المنظمات، أو في الأقل يتولى مهمة ترجمة و"أدلجة" وتسويق القرار لصالح القيادتين البعثية والشيوعية.

­ لا، ليس حلا.  نحن خيّرنا أعضاء المنظمات الديموقراطية التابعة للحزب، بشكل ديموقراطي وطوعي، بين أمرين: أن يتحولوا الى أعضاء حزبيين، أو أن يتركوا الحزب.

­ والذي لا يريد أن يكون حزبيا؟

­ هذا من حقه أيضا، هو حر، يستطيع أن يفعل ذلك.

­ كيف؟

­ كيف! يحل عن, عن رقبتنا.

لا أعرف ماذا سيقول الرفيق الذي خاطر بحياته وانضم الى المنظمات الديموقراطية وهو في جهاز عسكري حينما يسمع اليوم, وهو في قبره, أن قيادة الحزب اعتبرت شيوعيته قيدا يغل رقبتها، وأنها ترجوه أن يحل عن رقبتها؟ وماذا سيقول الشهداء الآخرون، الأحياء منهم أو الأموات!

 

### # ###

 

في شباط 1969 سقطت أقوى شخصية شيوعية عراقية معارضة بيد الشرطة. جاء النبأ صاعقا مثل ضربة برق. لم يصدق كثيرون ذلك، رغم أنهم اعتادوا، من حين الى آخر، قراءة أخبار في نشرة الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يجري غزلا جبهويا مع السلطة، تشير علنا الى تحركات مشبوهة يقوم بها ر”  أو غيره من قياديي الفريق الشيوعي المناويء، الذي يرفض التحالف مع البعث. بعض هذه الأخبار كان يشير بدقة متناهية الى مواقع البيوت الحزبية الأوكار السرية”، التي يتحرك فيها الخصوم. في هذا المناخ المنقوع بالسموم وقع عزيز الحاج، الشخصية الشيوعية الأسطورية بيد السلطة، وتقرر عرضة على الملأ في التلفزيون.

حينما سمعنا الخبر، سارعنا مثل أغلب العراقيين الى أقرب جهاز تلفزيون. كنا آنذاك مجموعة من طلاب الجامعة نتسكع عند الغروب، بعد جولة القراءة اليومية المعتادة، في شارع أبي نؤاس، في رأس الزقاق المؤدي الى مقهى المعقدين. حينما سمعنا النبأ رأينا الشارع يقفر والناس يسرعون بصمت وقلق وخوف ليحتشدوا أمام أقرب جهاز للتلفزيون، بانتظار مشاهدة الرجل الأسطورة. حبسنا أنفاسنا جميعا حينما ظهر المقدم ذو الصوت الخشن، الذي اعتاد الناس رؤيته في الأحداث الجسام: محمد سعيد الصحاف، مدير التلفزيون سابقا، ووزير الإعلام لاحقا، مما زاد من حدة الرهبة في نفوس الناس وعمق وقع اللحظة الأسطورية في خيالهم المضطرب.

لم تدم مشاهد الأسطورة طويلا لدى شاب دون العشرين مثلي، غارق في بحر متلاطم من الخيالات الغامضة. لم يدم شكل الأسطورة سوى ثوان، رأيت فيها عزيز الحاج لا كما ظننته. فلم يكن طويلا، ذا شوارب كثّة. ولم يكن يجلس متحديا، ولم يكن يملك نبرة الثوار الشجعان، الخارجين توا من غابات القصب. كان نحيلا، أميل الى الاصفرار، بطيء الكلام، متقطع وخافت الصوت. كان مشوشا، مترددا، تغلب عليه الحيرة، وتتقافز على ملامحه البسيطة أسئلة، ينحدر، جلها، من نبع واحد، اسمه الخجل. الخجل الخفي من أمر ما يصعب تشخيصه وإدراكه. أمر ما أبعد غورا من التفسير السطحي، الجاهز، الفظ، للعبة السقوط السياسي، التي يساهم  في صناعتها الجلاد والضحية والمتفرجون.

على الرغم من أنني منيت بخسارة روحية كبيرة, خسارة الشكل الفني للأسطورة, إلاّ أني سرعان ما وجدت تعليلا منطقيا، يرضي نفسي الحالمة ويعوضني, كذبا, عن خساراتي الفادحة: تلك هي آثار التعذيب! ومن يستطيع أن يصمد أمامهم! من يستطيع؟

لكن الطعنة الموجعة جاءتني من عزيز الحاج نفسه، حينما أجاب عن سؤال وجهه الصحاف اليه، مفاده: هل تتحدث الآن بملء حريتك أم أنك أكرهت على ذلك؟

جاء الجواب، بعامية بغدادية، لا أحبها كثيرا: "آني أحجي بكل حريتي".

­ لماذا؟ نطق المقدم ذو الصوت الخشن.

­ لأن الاستمرار في الكفاح المسلح، مثل أن ينطح الإنسان حائط، لما ينفجخ ( يشج رأسه) يحس الإنسان أنه تعور”!

بتلك النهاية البائسة أحرق عزيز الحاج أسطورة عجيبة، ظللت أحتفظ بها لنفسي في الخيال، على أنها الصورة الفريدة، لصاحب أطول إضراب عن الطعام في تاريخ البشر. القائد الذي كان مؤملا له أن يظهر من بين أعواد القصب، على ظهر مدرعة مغنومة من الجيش، ترفرف عليها راية حمراء, يزهو في قلبها شعار المطرقة والمنجل.

كل ذلك حدث قبل أن يطفىء صاحب المقهى جهاز التلفزيون، لكي يلتفت الى الأعداد الغفيرة من الزبائن الذين أمّوا مقهاه، واحتشدوا فيه ثم غادروه صامتين مصابين بالخيبة والذهول، من دون أن يشربوا شيئا أو يدفعوا شيئا. كان عرضا مجانيا لأسطورة رثّة!

حاولت، مطعونا، أن أفلسف الأمر لأصدقائي، الذين كانوا لا يقلون ذهولا عني، فقلت لهم: كلنا نعرف أن عزيز الحاج لا يمثل اتجاه القيادة المركزية بثوبه النقي، وأنه منذ زمن أعلن للقيادة بأنه لا يؤيد خط الكفاح المسلح، لذلك فما قاله ليس جديدا، أو مفاجئا.

حقيقة، كان ما قاله جديدا، مفاجئا، مبكيا، وصاعقا الى حد الموت.

السؤال الوحيد الذي لم أضعه في حسابي آنذاك وأنا أحاول ايجاد تبرير لما حدث، وايجاد تبرير يحفظ لي شرف الإيمان بأسطورة رأيتها تتمزق إربا أمام عيني، هو السؤال المتعلق بعزيز الحاج نفسه كإنسان، لا كأسطورة.

لأن الأسطورة من صناعتنا, يحق لنا أن نحاكمها كما نشاء على هوانا, أما الإنسان فملك لنفسه, لحقيقته الشخصية.  ترى ما الذي أبقى عزيز الحاج في التنظيم بعد أن أشاع عنه رفاقه أنه سقط تنظيميا وآيديولوجيا قبل سقوطه العلني”! لماذا ظل إذاً متربعا على رأس التنظيم، ولو اسميا؟

ذلك سؤال لا يخص عزيز الحاج وحده، بل يخص خيرة مبدعي بلادنا، وربما يخصنا جميعنا. يخص صديق طفولتي الذي أجابني بغضب وحقد واحتقار: عيب!” حينما أخبرته بأمر التخلي عن الحزب تجنبا للإعدام. يخصني أنا شخصيا، حينما نطقت كلمة :”عيب!”  أمام كاظم طوفان، من دون قناعة حقيقية بنشاط سياسي لا تربطني به سوى عاطفة غامضة وأوهام أخلاقية. طعنة عزيز الحاج كررها كثيرون، بطرق متنوعة، منهم على سبيل التمتع بالعذاب الروحي، لا على سبيل المثال، شاعر أحببته يوما ما. شاعر  رُبط  بسلال حزبية من ذهب ووضع في  فم الأفعى وقيل  له : غرّد أيها الشحرور، غرّد على غصن التحالف!”. قالوا له ذلك وراحوا ينظرون اليه من بعيد, يراقبون ضعفه وينتظرون لحظة انكساره الأكيدة, وهم  يقفون على قمة أعلى أشجار الغابة البعيدة. ذلك هو يوسف الصائغ, وغيره كثيرون.

 

### # ###

 

خلال السنوات المنصرمة، عصفت بحزب اليسار السويدي ثلاث عواصف أخلاقية. الأولى سقط فيها رئيس الحزب السابق لارش فارنر بسبب تعاطيه الخمور وإدمانه، وحلت محله غودرون شيمان، التي تمكنت بمهارة اللبوْة من رفع رصيد الحزب ليصبح قوة سياسية مؤثرة، شغل المرتبة الثالثة في الكثير من استطلاعات الرأي. لكن غودرون سرعان ما تعرضت مرتين الى فضيحة عاصفة، بعد أن وشت بها الصحافة، وتلقف ذلك الاعلام المتربص بها شخصيا كامرأة وكزعيمة لليسار، حينما اكتشفوا أنها تعرضت الى نوبات من الإدمان على الكحول؛ وهو أمر يتنافى مع موقعها كرئيسة لحزب، ويتعارض بشكل صارخ مع واجباتها كممثلة للناخبين في البرلمان. لكن غودرون التي لا يحتوي قاموسها السياسي والشخصي كلمة عيب، لم تخف رأسها تحت مظلة التبريرات الأخلاقية، فوقفت بصدق تام أمام الصحافة، وأمام عدسات التلفزيون، التي تسابقت  لاصطياد طريدة من الوزن الثقيل.

لم تقل غودرون: عيب، ولم تتظاهر بالشجاعة والقوة، ولم تستتر خلف كوابح أخلاقية واهية، تتعارض مع ضميرها ومقدرتها وقناعاتها الحقيقية كفرد وكإنسان. قالت:  أنا أعترف بما حدث، أنا آسفة لما حدث. ساعدوني، ساعدوني كي أستطيع أن أثبت لكم، ولنفسي أولا أنني قادرة على التغلب على ضعفي،  وأعدكم بأنني سأتخلى عن كل مسؤولياتي الحزبية، لو أنني وجدت أنني غير قادرة على تبرير الثقة التي منحني الناس إياها.

ظلت غودرون شيمان على رأس أحد أقوى الأحزاب اليسارية في أوروبا، حتى دهمها خصومها مرة أخرى، مستغلين خطئا بسيطا في حساباتها الضريبية، فاقتلعوها واقتلعوا اسطورتها اليسارية في غضون ثلاثة أيام فقط، ماسحين وجودها كرئيسة لحزب اليسار وكسياسية، في واحدة من أفظع وأمهر التصفيات الديموقراطية للخصوم.

 

### # ###

 

في مجتمع لا يدخل فيه الناس السياسة من  باب العيب”، لا يحتاج المرء الى استخدام كلمة مُضلّل” وهو حي، أو”شهيد” وهو ميت.

### # ###

خاتمة حزينة وجارحة: حينما سقط الصنم هرعت الأمهات المكلومات الى المقابر الجماعية يبحثن عن عظام أبنائهن, في مشهد عويل أسطوري مرعب. أما حزب الكادين, فلم يفكر, حتى هذه اللحظة, في البحث عن قبور شهدائه.

أهو موسم بيع الشهداء!

 

 

# فصل من كتاب "ذئب وحيد في البراري" الذي يتحدث عن تجربة المنفى. في النص إضافات صغيرة توضيحية كتبت حديثا لازلة بعض الغموض التاريخي.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أوراق مثقف عراقي من سلالة اليانكي
- حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة ا ...
- مشكلة كركوك أم مشكلة الحرب على العراق؟
- الجنس بين الرقيب الداخلي والرقيب الرسمي
- من زعم أن العراقيين لا ينتحرون؟ - دعوة رسمية لحضور حفلة انتح ...
- اجتثاثا البعث بين الحقيقة والوهم
- هل التربة العراقية صالحة لإنبات ثقافة مقاومة العنف؟
- اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي
- هل العراقيون مؤهلون لخلق حركة ثقافية معادية للعنف؟
- تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق
- جواز سفر عيراقي, ولكن لغير العراقيين!
- هل كان الرصافي طائفيا؟
- نيران خفيّة: ما لم تقله جوليانا سيغرينا
- لقد سقط صدام, ولكن باتجاه السماء
- مقدمة لدراسة الشخصية العراقية
- جيش الوشاة.. شعراء السيد القائد.. شعراء السيد العريف
- نوبل على مائدة هادئة
- خرافة اجتثاث البعث في التطبيق
- اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وص ...
- البرابرة يستيقظون مساء ..رسالة شخصية الى مواطن اسرائيلي


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - سلام عبود - شهداء للبيع! البحث عن رفات الشهيد كاظم طوفان