أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إدريس ولد القابلة - كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الثانية















المزيد.....


كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الثانية


إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)


الحوار المتمدن-العدد: 1894 - 2007 / 4 / 23 - 12:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



نهج التدبير

اعتمد نهج التدبير في عهد الملك الراحل الحسن الثاني على القمع الممنهج وإعلان حالة الاستثناء وتنظيم بعض الاستفتاءات ذات نتائج 99.99 في المائة وبعض الإصلاحات الدستورية الشكلية والانتخابات المتحكم في نتائجها قَبْلاً وإنشاء أحزاب سياسية تحت وصاية الملك والبلاط، ومن حين لآخر، عندما تشتد الأزمة وترتفع درجة الغليان الشعبي، يتم تقديم وعود براقة خاصة بالدمقرطة وتحسين الأوضاع المعيشية. وتخللت العهد الحسني محاولات لقلب النظام كسبيل لتحقيق التغيير الذي طال انتظاره منذ حصول البلاد على الاستقلال، وهذا ما حاوله اليساريون أكثر من مرة في 1963 و1971 و1972 والبلانكيون سنة 1973، لكن قدوم قضية الصحراء والوحدة الترابية شكلت عاملا مهما لضمان إجماع، بعد تحويل انتباه الجماهير من الواقع المزري المراد تغييره إلى الاهتمام بقضية وطنية لا تتحمل الانتظار، وفي ذات الوقت، شغلت هذه القضية الجيش ومكنت من إبعاده عن العاصمة.
وفي سياق إضعاف مد المطالبة بالتغيير الجذري، جاء اغتيال المهدي بن بركة في منتصف الستينيات وعمر بن جلون في بداية السبعينيات، وللتقليل من انتشار أفكار المطالبة بالتغيير الجذري ومساندتها ودعمها، حرص الملك الراحل الحسن الثاني على جعل البادية المغربية خارج الدائرة السياسية ووقف سدا مانعا في وجه أية محاولة لتسييسها وقطع أي تواصل بينها وبين الأحزاب السياسية المعارضة، واعتمد مراقبة لصيقة ومستدامة للعالم القروي بواسطة رجال السلطة والدرك الملكي، إذ كان "البق ما يزهق" في القرية والدوار والقبيلة. وكل محاولة لتسييس العالم القروي ووجهت بقوة، أما احتجاجات وتمردات الفلاحين فكان نصيبها وفيرا من القمع الهمجي بواسطة تدخل الجيش أو "الكوم" أو القوات المساعدة، وغالبا ما كان يسقط ضحايا ويطلق النار بمناسبة أي تحرك نضالي بدوي مهما كان حجمه، ويكاد المؤرخون يجمعون أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يعتمد أساسا على دعم الفلاح المغربي باعتباره مدافعا عن العرش، لكن قوة البادية بدأت تضمحل بفعل الهجرة القروية نحو المدن بسبب نقص الإنتاج الزراعي وعدم الاستقرار المناخي واستشراء الفقر بالعالم القروي واشتداد حدة الاستغلال والدوس على الكرامة، الشيء الذي ساهم في ارتفاع الساكنة الحضرية إلى أن تجاوز سكان البوادي.

طبيعة النظام في العهد الحسني

في عهد الحسن الثاني كانت الحكومة والوزراء والبرلمان والمجالس العليا مجرد أعوان وتوابع يأتمرون بأمر الملك، ينفذون تعليماته ويتبعون توجيهاته ويهتدون بسياساته، تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا. فالملك، بنص الدستور، مقدس لا تناقش خطاباته وقراراته، فهو فوق المناقشة والمراجعة. وفي هذا الصدد سبق للملك الحسن الثاني أن قال في خطاب سنة 1963 أمام أعضاء مجلس النواب: ".. إن الوزراء هم أعواني، وأنتم (أي النواب) كذلك أعواني..؟"، كما قال: "إن الدستور لم يمنح الممثلين سلطات، بل منحهم التزامات.."، وأضاف قائلا: "إذا كان هناك فصل للسلطات، فإنه لا ينطبق على مستوانا، بل على المستوى الأدنى".
ظل الملك الراحل الحسن يهوى أن يوصف نظامه بنظام ملكية دستورية، لكن فقهاء القانون الدستوري قالوا إنه سوف يكون من الأصح، بدل الحديث عن ملك دستوري، القول بدستور ملكي، وذلك باعتبار أنه نظام تمركزت فيه جميع السلطات المتاحة للملك الحسن الثاني ومستشاريه وموظفي البلاط إلى جانب ثلة من الأشخاص الذين هم على علاقات عائلية مع الأسرة الملكية. أما دور الحكومة، فقد ظل هامشيا على امتداد العهد الحسني.
إن كل القرارات الهامة، كان يتخذها الملك الراحل الحسن الثاني الذي ظل يحتفظ بسيطرة مباشرة على ما يسمى بوزارات السيادة (الدفاع، العدل، الداخلية، الأوقاف والشؤون الإسلامية)، وحسب أغلب المحللين السياسيين، ظل الشكل الخارجي للدولة في العهد الحسني، وكذلك عاداتها، موصوما بالإقطاعية، باعتبارها بقيت مؤسسة على الخضوع والتبعية اللامشروطة للملك، وتأكد هذا الوضع في المجال الاقتصادي كذلك، إذ مثلت المصالح الرأسمالية للبلاط ما يناهز 60 في المائة من أسهم بورصة الدار البيضاء، وكذلك الشأن بخصوص تمركز الملكية العقارية، لاسيما الأراضي الفلاحية، بعد استرجاع أراضي المعمرين وبعد تطبيق "المغربة". وقد ساهم وجود برلمان صوري في تقوية الحكم الملكي الحسني الممركز، وبذلك ظل المخزن، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، فوق المجتمع، وبقي أسلوبه هو اعتماد سياسة العصا والجزرة، مع تغليب الأولى على الثانية، وشكل جملة من الأشخاص المقربين ورجال ثقة المرحلة، الأيادي الباطشة للملك والبلاد، من أمثال بلعالم وأوفقير والدليمي وكديرة، وآخر الرجال من هذه الطينة في العهد الحسن، كان الوزير المخلوع إدريس البصري الذي أذاق المغاربة مختلف أنواع سوء العذاب وتتلمذ على يده رجال لازالوا يشكلون حد الآن أعمدة الفساد في الأقاليم والعمالات والجهات، أغلبهم نهبوا وفسدوا واستولوا على ضيعات وأراضي ومصالح وامتيازات.


الملك الحسن الثاني والشرعية الجديدة

في فجر التسعينيات، وبالضبط في نهاية سنة 1990 تأكد أنه أضحى من الضروري البحث عن شرعية جديدة، بعد أن تحولت دعوة للإضراب العام إلى انتفاضات وتمردات شعبية في جملة من المدن المغربية الكبرى. آنذاك بدأ البلاط يشجع ويساهم بقوة في تمويل المجتمع المدني سعيا للبحث عن شرعية جديدة.
آنذاك لاحظ جميع المغاربة تصاعدا سريعا في خلق الجمعيات، إذ تم إحداث ما يناهز 30 ألف جمعية جديدة لتلعب دور الواقي من الصدمات بين المخزن والجماهير الساخطة على الوضع. آنذاك كثر الحديث بخصوص تمجيد الجمعيات غير الحكومية ودورها في تفعيل التغيير المنشود، علما أن أكثر من 75 في المائة من تلك الجمعيات المحدثة كالفطر، كانت جمعيات لغايات إحسانية و25 في المائة حقوقية ونسائية وثقافية.
آنذاك جاءت حكومة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتي تم تقديمها كتدشين لمرحلة التناوب، الشيء الذي ساهم في إضعاف هذا الحزب بشكل لم يسبق أن عاينه على امتداد تاريخ وجوده.
إن هذه النتيجة كانت حتمية ومخطط لها في إستراتيجية الملك الحسن الثاني، ومنذ البداية واجه حزب اليوسفي عدة انشقاقات، بدءا بالكنفدرالية الديمقراطية للشغل ووصولا إلى الشبيبة الاتحادية ومرورا بالجناح اليساري للحزب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يؤد التحالف بين البلاط وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى ما ظل ينتظره المغاربة منذ الاستقلال، إذ أن شروط عيش المواطن العادي ظلت تتدهور والبطالة تستشري مغتالة أحلام جيل بكامله والأمية لازالت ضاربة أطنابها في المجتمع والبادية غارقة في ظلام الجهل المبين، وبالتالي لازال من السهل إخضاع الجاهل من طرف السلطة، لاسيما وأن تسييس البادية ظل في خبر كان، لأن الملك الراحل الحسن الثاني حرص على ذلك.

الأيام الأخيرة للملك الراحل

في الأيام الأخيرة للملك الراحل الحسن الثاني برز حدثان هامان، التقرير الطبي بخصوص الحالة الصحية للملك وجملة من التقارير المخابراتية التي خلصت إلى أن المغرب سيشهد في غضون موت الملك انتفاضة شعبية عارمة تنطلق من شمال المملكة، كما اعتقدت بعض هذه التقارير أنه سيعقب الانتفاضة انقلاب عسكري من طرف ما أسمتهم بـ "الضباط الأحرار"، ويلي ذلك مرحلة محاكمة رموز الفساد وناهبي أموال الشعب. لكن لم يحدث أي شيء من كل هذا.
لقد أجمع الذين اكتووا بنار القمع الشرس في عهد الملك الراحل الحسن الثاني وذاقوا مرارة التفقير والبؤس، على أن الحكومة التي قادها عبد الرحمان اليوسفي آنذاك ساهمت إلى حد كبير في ضمان الانتقال السلس للسلطة في المغرب.
وفي هذا الصدد أشارت جملة من التقارير المخابراتية إلى أجواء مراسيم تنصيب الملك، لاسيما فيما تعلق بحضور الأمير هشام ببذلة سوداء عوض اللباس التقليدي (الجلباب البيضاء). آنذاك أشارت بعض المصادر الإعلامية إلى استنطاق سائق الأمير واستجوابه من طرف المصالح الأمنية قبل مغادرة الأمير هشام المغرب واستقراره بالولايات المتحدة الأمريكية.
لقد لعب عبد الرحمان اليوسفي دورا هاما وحيويا في الانتقال السلس للعرش. وفي هذا الصدد قيل إنه هو الذي اقترح على الملك محمد السادس أن تكون البيعة مكتوبة، وهذا ما كان، وكانت أول مرة في تاريخ العلويين أن يتم اعتماد البيعة المكتوبة، لكن بفعل اللوبيات المصلحية المعرقلة للإصلاح سيتم التخلي عن عبد الرحمان اليوسفي رغم نيل حزبه مقدمة الترتيب في الانتخابات التشريعية لسنة 2002، وبذلك كانت أكبر خيبة، في آخر مشواره السياسي.

من الخمسينيات إلى التسعينيات وقائع وأحداث

منذ سنة 1956 وإلى حدود منتصف التسعينيات عرف المغرب وقائع وأحداث لازالت أثارها حاضرة إلى حد الآن.
فمن المعلوم أن المغرب شهد بعد الاستقلال، لما تجدد الحكم الفردي، جملة من الأفكار مؤيدة للنظام الجمهوري وللجمهورية، وعبر عنها آنذاك جماعة من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وظلت هذه الأفكار تاوية إلى أن برزت من جديد في السبعينيات (حركة شيخ العرب ورفاقه، وأحداث مولاي بوعزة، والحركة الماركسية اللينينية، وتيار الاختيار الثوري).
وعرفت فترة ما بين 1958 و1959 مواجهة أهل الريف مع الدولة التي تصدت بشراسة للحركات الاحتجاجية هناك، إلى حد رأى البعض أنها اقترفت جرائم ضد الإنسانية.
وزاد الطين بلة بتكريس تهميش المنطقة وعدم الإكثرات بتنميتها على امتداد العهد الحسني، إذ أن الملك لم يسمح هناك إلا بالهجرة إلى الخارج والتهريب، وتظل الدولة هي المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة التي طالت سكان الريف وتسببت لهم في الكثير من المآسي.
بعد حصول الجزائر على الاستقلال ساد الشعور بأن المسلسل الثوري لا يجب أن يتوقف إلا بعد القضاء على الملكية بالمغرب. وفي هذا الصدد سبق للرئيس الجزائري، هواري بومدين، أن قال: "في الواقع، يعتقد إخواننا المغاربة،إنهم قد ساعدونا على تحقيق استقلالنا عن فرنسا، والآن وجب أن نساعدهم في التحرر من الملكية.."، وهكذا أحس الملك الراحل الحسن الثاني أن نظامه مهدد بشكل مباشر من طرف الأفكار الآتية من الجزائر التي شرعت آنذاك في اعتماد خطاب معاد للامبريالية والإقرار بالاشتراكية على الطريقة الجزائرية.
في خضم هذه الأجواء انفجرت حرب الرمال سنة 1963، وهي الحرب التي ساندها حزب الاستقلال مع إعادة ترديد مواقفه بخصوص المغرب الكبير، في حين عارضها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إذ أدانها المهدي بن بركة من منفاه في الجزائر ووصفها قائلا: "الاعتداء على الثورة الجزائرية من طرف الملكية الفيودالية". وتلى هذه الحرب اعتقال القادة الاتحاديين، ثم اختطاف واغتيال بن بركة، آنذاك كان الملك الراحل يخشى نشوء حركة وطنية يسارية في صفوف الجيش تسير على درب الثورة الجزائرية بتحالف مع الاتحاديين من أجل إرساء نظام جمهوري بالمغرب.
ومع مرور السنوات فقدت المواجهة بين المغرب والجزائر طابع التضاد بين نموذجين إيديولوجيين متعارضين، إذ أن الغليان الثوري للنظام الجزائري سرعان ما بدأ يخبو انطلاقا من سنة 1965 مع الانقلاب ضد أحمد بن بلة الذي تزامن مع أكبر ركوض عرفه الاقتصاد الجزائري، وبذلك لم تعد الثورة الجزائرية تشكل تهديدا جديا للملكية بالمغرب.
وبعد عقد من الزمن على استقلال المغرب، أصبحت البلاد ترزح تحت وطأة حكم فردي لم يلب ولو أبسط المطالب الاجتماعية الملحة للجماهير، وزادت الأوضاع ترديا واتسعت فضاءات السخط مع استفحال الأزمة من جراء طبيعة السياسات الاقتصادية المعتمدة التي هدفت على الدوام تحويل الثروات إلى أيدي حفنة من الأشخاص، آنذاك لم يتمكن النظام من إخماد تمرد مارس 1965 إلا بعد اسقاط مئات الأشخاص باستعمال الرصاص واعتقال ما يناهز 3500 شخص، وتزامن ذلك مع أحداث كان لها الأثر الكبير على المجتمع المغربي ومكوناته (هزيمة 1976 والنكسة الفلسطينية، أحداث ماي 1968 بفرنسا)، وفي سنة 1968 قام 7000 عامل بمناجم الفوسفاط بخريبكة بتنظيم إضراب تاريخي ووجه بالقمع الشرس حيث أدى إلى تدخل قوات كبيرة من الجيش والأمن لم يسبق أن عاينها سكان المدينة من قبل.
وفي سنة 1970 تعرض كل من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية لانشقاقات يسارية لم يسبق لها مثيل في تاريخهما، وظهرت التيارات الراديكالية في صفوف الأول وبرزت مكونات الحركة الماركسية اللينينية من الثاني، واعتمدت تنظيمات هذه الحركة إستراتيجية تغيير راديكالي باعتماد العنف المضاد لمواجهة عنف الدولة. وأجمعت تلك التنظيمات على كون أن التغيير بالمغرب لن يحدث إلا بإسقاط النظام الملكي.
في صيف سنتي 1970 و1971 انتفض الفلاحون في أكثر من منطقة (الغرب، سوس، الحوز..)، وتدخل الجيش والدرك والقوات المساعدة لإخماد التمردات بالقوة والقمع والاعتقالات العشوائية لإرهاب الساكنة القروية وتنيها عن مساندة حركة مواجهة الظلم والجور السائدين آنذاك.
وكل تمردات الفلاحين انطلقت بمناسبة رغبة القائمين على الأمور في السطو على الأراضي الجماعية أو الاستحواذ على مياه الري. وفي غضون سنة 1971 اعترفت القيادة النقابية بفقدانها السيطرة على الوضعية وعجزها عن التحكم في موجات الاحتجاجات والإضرابات التي انخرط فيها العمال والشغيلة في مختلف القطاعات.
وفي سنة 1972 تأسست اللجنة الوطنية لمناهضة التعذيب، وكانت تضم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاتحاد الوطني للمهندسين (ممثلا بأمين عبد الحميد وأيت قدور) وجمعية "المحامون الشباب" (يمثلها عمر بن جلون) والنقابة الوطنية للتعليم العالي (يمثلها عبد الواحد الراضي) واتحاد كتاب المغرب (يمثله عبد الكريم غلاب)، إلا أن هذه اللجنة لم تشتغل إلا ثلاثة أشهر بفعل القمع المسلط على أعضائها في إطار حملة الاعتقالات الواسعة لسنة 1972.
وفي مارس 1973 شهدت خنيفرة وكلميمة بداية تمردات مسلحة ووجهت بالقمع الشامل دون تمييز، إذ اعتبر النظام ساكنة المنطقة بمثابة أعداء، ومورست عليهم مختلف أنواع التعذيب في الهواء الطلق في الدواوير والدشور.
آنذاك احتاج القائمون على الأمور إلى مخرج يحول انتباه الجماهير الساخطة على الأوضاع، وكانت قضية الصحراء في الموعد بمثابة المخلص، إذ تأجلت كل القضايا الأخرى. وتبنت كل الأحزاب السياسية الموقف الرسمي، ما عدا جزء من الحركة الماركسية اللينينية المساندة لمبدأ تقرير المصير، وقد اضطر حزب التحرر والاشتراكية إلى تغيير اسمه تحت ضغط البلاط، للتخلي عن عبارة "التحرر"، وبذلك أصبح اسمه الجديد حزب التقدم والاشتراكية، في ذلك الوقت عمل القصر الملكي على خلق فرقة صحراوية تدعى جبهة التحرير والوحدة والتي بدأت تشن هجمات على الإسبان ابتداء من نهاية سنة 1974، ومنذ البداية بدا أن الحرب ضد البوليساريو ستكون مكلفة بفعل دعم الجزائر لها، الشيء الذي دفع الملك الراحل الحسن الثاني إلى الاحتفاظ بما يفوق 140 ألف جندي في الصحراء من أجل ردع 10 ألف عنصر مسلح من الانفصاليين، فتحول تمويل حرب الصحراء إلى ثقل لا يحتمل على الاقتصاد المغربي، إذ وصلت كلفتها في بعض الفترات إلى 10 ملايين درهم في اليوم.
في العقد الثامن من القرن العشرين عبر المغاربة عن سخطهم للواقع المعيش وطالبوا بتحسين أوضاعهم المزرية من خلال تنامي النضالات والاحتجاجات والتمردات الشعبية، كما وقع في يونيو 1981 ويناير 1984 ودجنبر 1990. ففي بداية هذا العقد شهد الركح السياسي المغربي تراجعا كبيرا عرف ذروته سنة 1984 مع الحركة الجماهيرية التي ووجهت بقمع شرس في الناظور والحسيمة والقصر الكبير وتطوان ومراكش، والتي سقط على إثرها الكثير من الضحايا، آنذاك تغير الخطاب الرسمي، إذ بدأ الحديث عن الإصلاح والديمقراطية بمبادرة من الدوائر العليا، لم يكن هذا التحول من قبيل الصدفة، لأنه بعد الانتفاضات الجماهيرية فكر المخزن في إدخال بعض التغييرات الطفيفة جدا، باعتبار أن شرعية النظام بدأ يطالها التساؤل، وذلك مع الإضراب العام لسنة 1981 والذي تحول إلى حركة احتجاجية واسعة المدى ضد الاستغلال والقهر، وكذلك الحركة التمردية لسنة 1984 في أهم المدن المغربية. آنذاك شرع المخزن في تكريس القاعدة القائلة: تغيير متحكم فيه يأتي من فوق خير من تمرد أو انتفاضة جذرية من القاع، علما أنه في شهر دجنبر 1990 دعت النقابات إلى إضراب عام سرعان ما تحول إلى انتفاضات وتمردات شعبية في فاس وطنجة والقنيطرة ومدن أخرى،وجهت كلها بالقمع الهمجي.
وقد حدث خلال شهور قليلة فقط بعد خروج مئات الآلاف من المغاربة إلى الشوارع لمناهضة حرب الخليج الأولى وتخادل القادة والرؤساء العرب وللاحتجاج ضد دعم الأنظمة العربية لإستراتيجية أمريكا العدوانية. وقتئذ بدأ الملك الراحل الحسن الثاني يُحضر لتغيير، كان في الواقع بمثابة بحث عن شرعية جديدة بعد أن تآكلت الشرعية التقليدية بفعل الانتهاكات الجسيمة والقمع الهمجي وسحق كرامة المواطن، وبفعل تعاقب التحديات التي أضحى يواجهها المغرب.
في عقد الثمانينيات تدخل الجيش وجحافل "الكوم" وأطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ولقي مغاربة حتفهم وحصدت حملات الاعتقال العشوائية والمسعورة الكثير من المواطنين وعقدت محاكمات بسرعة غابت فيها شروط المحاكمة العادلة ومورست أساليب التعذيب والتنكيل وأنجزت محاضر الشرطة بالقوة وتحت التهديد.
شهدت التسعينيات مسارا للسعي إلى تعديل الدستور، قامت المعارضة بتقديم مذكرة إلى البلاط إلى أن جواب الملك كان حازما، ولما عاودت المعارضة الكرة، كان الرد الملكي أكثر حزما في دستور 1996، إذ تمسك الملك بكامل السلطات ورفع ثلث البرلمان، موضوع انتقادات كثيرة، إلى مرتبة هيئة تعادل "مجلس النواب" قصد المزيد من التحكم في المؤسسات المنتخبة، وبذلك فشلت محاولة المعارضة، وبامتياز، في تحويل الملكية من مخزنية إلى ملكية وملك يسود ولا يحكم.
وقتئذ أدى اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر سنة 1992، بعد حصول جبهة الإنقاذ الإسلامية على الأغلبية في الانتخابات البلدية إلى المزيد من إضعاف رغبة الجزائريين في دعم البوليساريو، وبعد عشرين سنة من الحرب في الصحراء فهم الإنفصاليون أنهم استطاعوا تحمل الضغط القوي للجيش المغربي، لكنهم لم يتمكنوا من ربح الحرب بأي شكل من الأشكال، كما فهموا أنه إذا سحبت الجزائر دعمها لهم، فسيكون مصيرهم قد حسم، لذا منذ انهيار جدار برلين بدأت البوليساريو تتخلى تدريجيا عن الإشارة إلى الاشتراكية أو الثورة، وهو ما أُوّل في أكثر من وجهة.
على سبيل الخلاصة

بعد 38 سنة من القمع والترهيب وسيادة الفقرقراطية والخوفقراطية والذلقراطية لم يبق للمغاربة في منتصف تسعينيات القرن الماضي سوى شظايا من الأمل المفقود.
لقد تم الاعتراف بحدوث انتهاكات جسيمة واختلاسات كبيرة لأموال الشعب وتزوير الانتخابات، كما تم الاعتراف بأن المشاكل التي ظل المغرب يتخبط فيها، من بطالة وفقر وفساد ورشوة وظلم وحيف اجتماعي لم تجد أي حل مناسب لها، وبذلك ظل أغلب المغاربة يفقدون الأمل في الغد رويدا رويدا رغم الشعارات والاحتفالات الرسمية والمراسيم والزيارات.
أموال وثروات وأراضي وشركات عمومية وشبه عمومية اختلست أو منحت لأشخاص بجرة قلم، وظل الرد الوحيد والمستدام على الاحتجاجات والتمردات الجماهيرية للتنديد باستمرار تردي الأوضاع وإغراق البلاد بالديون واستفحال البطالة واستشراء الفقر والرشوة والفساد، هو القمع.
وبخصوص الديمقراطية وجب التذكير بأنه في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، لم تكن الديمقراطية مطروحة بإلحاح في عقدي الستينيات والسبعينيات كما هو الأمر حاليا، إذ كان أغلب المطالبين بالتغيير بالمغرب يشككون في نوايا من كانوا يطرحون الديمقراطية كقضية آنذاك، معتبرين ذلك تضليلا وتزييفا للوعي وانشغالا بحريات "برجوازية" على حساب الأولويات السياسية والاجتماعية الأكثر أهمية وحيوية للحاضر والمستقبل حينئذ.
آنذاك كانت المسألة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والتحرر من مخالب الإمبريالية أولويات أكثر إلحاحا من الديمقراطية، باعتبارها السبيل للتمكن من تلبية مطالب الأغلبية الشعبية، صاحبة المصلحة في التغيير الجذري، بينما كانت الديمقراطية آنذاك تعتبر بذخا برجوازيا لخدمة مصالح من يحتكرون الثروة ويريدون، من خلالها، احتكار السلطة تحت غطاء القانون الذي أقيم أصلا على مقاسهم ولخدمة مصالحهم.
إدريس ولد القابلة




#إدريس_ولد_القابلة (هاشتاغ)       Driss_Ould_El_Kabla#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعب المغربي لا يملك القدرة على تغيير حكومته
- كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الأولى
- حسن أبوعقيل – صحفي
- أحمد رامي / معارض مقيم بالسويد
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الرابعة
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الأخيرة
- ماذا ينتظر المغاربيون من أوروبا؟
- بن لادن يهدد المغرب بالبوليساريو
- قمة عربية وقمة تردي الأوضاع
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الأولى
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الثانية
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الثالثة
- من معضلات البرلمان المغربي
- تدبير الأزمات المركبة فن لا يتقنه الجميع
- ماذا عساي أقول ..؟
- عودة الإرهاب إلى المغرب
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الأولى
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الثانية
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الثالثة
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الرابعة


المزيد.....




- صديق المهدي في بلا قيود: لا توجد حكومة ذات مرجعية في السودان ...
- ما هي تكاليف أول حج من سوريا منذ 12 عاما؟
- مسؤول أوروبي يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا ويصف لبنان - ...
- روسيا تعتقل صحفيًا يعمل في مجلة فوربس بتهمة نشر معلومات كاذب ...
- في عين العاصفة ـ فضيحة تجسس تزرع الشك بين الحلفاء الأوروبيين ...
- عملية طرد منسقة لعشرات الدبلوماسيين الروس من دول أوروبية بشب ...
- هل اخترق -بيغاسوس- هواتف مسؤولين بالمفوضية الأوروبية؟
- بعد سلسلة فضائح .. الاتحاد الأوروبي أمام مهمة محاربة التجسس ...
- نقل الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للمستشفى بعد تع ...
- لابيد مطالبا نتنياهو بالاستقالة: الجيش الإسرائيلي لم يعد لدي ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إدريس ولد القابلة - كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الثانية