أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض الصيداوي - هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 6















المزيد.....


هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 6


رياض الصيداوي

الحوار المتمدن-العدد: 1830 - 2007 / 2 / 18 - 09:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الفصل الرابع
هيكل المعلوماتي

إن دور المعلومات في حياة هيكل الصحفي لم تكن مسألة فنية يتعامل معاها كأنها تكرار يومي في عمله. إن المعلومات هي التي جعلت هيكل ينتقل من صحفي عادي إلى رجل مؤثر في الأحداث، وفي القرارات التي صدرت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم بداية عهد الرئيس أنور السادات.
لقد احتلت في حياته موقع القلب وكان يدرك أنها سلاحه الحقيقي في حياته الصحفية والسياسية.
إن المعلومات التي تدفقت يوماً إلى جمال عبد الناصر من هيكل، عادت إليه من الرئيس نفسه، وفتحت أمامه الدولة أدق المعلومات وأخطرها... وأصبحت فيما بعد سلاحه الصحفي الذي يدافع به عن نفسه وعن تجربة كاملة... لقد أدرك مبكراً أهمية خطورتها في صنع الحياة السياسية.



1ـ في أهمية المعلومات
إن العصر الذي نعيشه هو عصر المعلومات بحيث أن بعضهم وصف المعلومات بأنها الحاجة الخامسة للإنسان، فالإنسان يحتاج إلى الماء والهواء والطعام والمأوى، ويحتاج إلى عنصر خامس هو المعلومات.(1)
ولأهميتها تناولها أكثر من باحث بالتعريف، فـ"آلن كنت" يرى "أن المعلومات هي أية معارف مسجلة يمكن أن يفيد منها أي مسؤول عن اتخاذ القرارت".(2)
أما "ولفرد لانكستر" فيعتقد أن المعلومات في الواقع شيئ غير محدد المعالم فلا يمكن رؤيتها أو سماعها أو الإحساس بها.
"ونحن نحاط علماً في موضوع ما إذا ما تغيرت حالتنا المعرفية بشكل ما... وعلى ذلك فإن المعلومات هي ذلك الشيئ الذي يغير الحالة المعرفية للشخص في موضوع ما".(3)
في حين يقول بروكس: "إنني أنظر إلى المعلومات على أنها ذلك الذي يعدل أو يغير من البناء المعرفي بأي طريقة من الطرق، وكل المعلومات التي تعدل أو تغير من البناء المعرفي هي نتيجة عملية المعلومات".(4)
ويشير الدكتور أحمد بدر إلى أن ارتباط المعلومات والمكتبات بقضايا المجتمع المعاصر هو ارتباط شديد التعقيد، وذلك لأن المعلومات قد أصبحت أحد المقومات الأساسية للإنتاج الوطني، بل أصبح الاقتصاد الوطني مرتبطاً ارتباطاً طردياً بكمية المعلومات الحديثة التي تستطيع الدولة أن تمتصها في جسدها التعليمي أو الصناعي أو الزراعي أو الإداري".(5)
إذن، للمعلومات دورها الذي لا يمكن إنكاره في كل نواحي النشاط. فهي أساسية للبحث العلمي. وهي التي تشكل الخلفية الملائمة لاتخاذ القرارات الجيدة. وهي عنصر لا غنى عنه في الحياة اليومية لأي فرد... من يملك المعلومات يستطيع أن يكون الأقوى.(6)
أما على المستوى العالمي فقد قدرت قيمة إنتاج صناعة المعلومات لسنة 1982 بأكثر من 75 بليون دولار أي أنها تتزايد بمعدل 12% وبهذا المعدل ستكون صناعة المعلومات مصدر نمو الاقتصاد العالمي خلال الخمس والعشرين سنة القادمة.(7)
ويلخص محمد حسنين هيكل أهمية المعلومات وخطورتها في قوله "وربما قلت أن العصر كله هو عصر الذاكرة الواعية، عصر المعلومات وحفظها وترتيبها واستدعائها لتكون حية في المستقبل، وفاعلة فيه بالإدراك الإداري".(8)
وانطلاقاً من هذا الفهم، سعى هيكل منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 إلى لعب دور مغذي الثورة ـ تحديداً قائدها جمال عبد الناصر ـ بما تستحقه من معلومات، خاصة وأن رجالها من الضباط الصغار الذين ليست لهم دراية كبيرة بكيفية تسيير أجهزة الدولة من جهة، ولا يثقون في الأجهزة القديمة التي ثاروا ضدها من جهة أخرى.
تفطن هيكل إلى هذه النقطة وإلى هذا الفراغ بسرعة، وعمل على سده بربط علاقة خاصة بجمال عبد الناصر، وبعرض تجاربه وخبراته كصحفي لامع جال مناطق ساخنة كثيرة في الشرق الأوسط، وربط علاقات وطيدة مع قادتها وسادتها وألمع نجوم صحافتها... وأيضاً كصحفي يعرف خفايا الأمور في المجتمع المصري الذي اتصل بطبقاته السياسية المختلفة.
"فراهن هيكل منذ البداية على عبد الناصر كقائد ثورة، لقد دفعه ذكاؤه إلى التركيز على عبد الناصر دون غيره من الضباط الأحرار، فكان عبد الناصر يحبه ويأخذ منه المعلومات ويعطيها له أيضاً".(9)
فبقدر ما أعطى هيكل من معلومات لعبد الناصر، بقدر ما استفاد بحكم قربه من مركز القرار، وبقدر ما استخدمها كسلاح قوي لحماية نفسه والدفاع عن عبد الناصر وتجربته.

2 – من هيكل إلى عبد الناصر
إن سلاح المعلومات كان يستخدم عند هيكل في العطاء بدون حساب للرئيس جمال عبد الناصر، فمن أهم أسباب المكانة الخاصة التي اكتسبها هيكل لدى عبد الناصر منذ أول سنوات الثورة أنه كان يزود زعيم الثورة بقدر هائل من المعلومات التي تتجمع لديه من قراءاته الواسعة والتي كان عبد الناصر ـ وهو لا يزال ضابطاً حديث العهد بالحكم ـ في أشد الحاجة إليها.(10)
لقد وجد عبد الناصر نفسه في سن الرابعة والثلاثين، وبغير إعداد وتجهيزات لمسؤوليات مرحلة ما بعد القيام بالثورة، حاكماً لأكبر وأغنى وأهم دولة في كل المنطقة العربية، والصراعات حوله متشابكة متصلة بقوى كبرى لها لغاتها ومصالحها وعلاقاتها ومفاهيمها المختلفة.
وفي مثل هذه الظروف كانت الثورة في حاجة في البداية إلى عقلية مخطط مؤامرات ومناورات، ولكن فيما بعد الاستمرار أصبح الاستمرار يحتاج إلى ثقافة ومعلومات ودراسة وأبحاث ومعرفة. وهذا ما سبق محمد حسنين هيكل الجميع إلى اكتشافه.(11)
لقد ذهب إلى عبد الناصر كثيرون، سياسيون، وكتاب، وصحفيون، ولكنهم في علاقاتهم معه كانوا جمعيا طامعين في الأخذ، وبالتالي تحددت علاقاته معهم بحسب رضائه عن العطاء أو المنع.( 12)
بل يذهب سامى شرف، مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات، ووزير شؤون الرئاسة بعيدا(13) حينما يقول: "إن الرئيس عبد الناصر كان متضايقاً في أعماقه من أن هيكل هو الوحيد القادر على التعبير عن النظام، وكثيراً ما حاول طوال ثمانية عشر عاماً أن يعطي الفرصة للآخرين، لكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا وجودهم.
لقد حاول الرئيس أن يعطي فرصه لأكثر من عشرة صحفيين مثل احمد بهاء الدين، كمال الحناوي، جلال الحمامصي، حلمي سلام، لكنهم عجزوا جميعا فكان هيكل بمفرده محترفاً ممتازاً، ذكياً، لماحاً، له قدرة فائقة على التعبير".
فهيكل وحده الذي ذهب إلى عبد الناصر... لا ليأخذ منه ولكن ليعطيه ويضيف إلى فكره ومعلوماته.
لقد كان عمل عبد الناصر هو الحكم، أما عمل هيكل فقد كان القراءة والاطلاع والاتصالات والثقافة والمعرفة... وببساطة استطاع هيكل ان يجعل نفسه كتاباً مفتوحاً لعبد الناصر... دائرة معارف واسعة يسهل على حاكم مشغول بالحكم وصراعاته، سرعة الاستفادة من معلوماتها.
وكان من حسن حظ هيكل أن جمال عبد الناصر كان هو الحاكم الذي يريد أن يقرأ بنهم، ويعرف بشغف، ويسمع بحب..."(14)
لكن، بالتأكيد لم يكن عبد الناصر يعتمد على هيكل فقط فيما يتعلق بالمعلومات، فلم يكن هيكل سوى جزءاً من آلية معقدة كانت تغذي عبد الناصر بالمعلومات، وبخاصة بعدما اشتد عود الثورة وترسخ حكمها. فسامي شرف يقول: "إن هيكل كان أحد مصادر المعلومات باعتبار عمله الصحفي، ووجوده في وضع قيادي في مجال تخصصه، لكن بالنسبة لتدفق المعلومات للرئيس جمال عبد الناصر، فكان يتميز بالتنوع وعدم الأحادية حتى لا يصبح أسير جهة واحدة أو جهتين، وبالتالي طبيعة تكوين الرئيس كقائد خطط ونفذ ثورة 23 يوليو 1952 تجعله لا يكتفي بمصدر واحد.
إن مصادر المعلومات عند عبد الناصر، تنقسم إلى قسمين. القسم الأول، تشكله المصادر العلنية وتشمل الصحافة، الإذاعات العالمية بمختلف اتجاهاتها، الدوريات، النشرات، الدراسات والكتب. فكل ما هو منشور ومسموع ومرئي كان يسعى للاطلاع عليه.
وتشمل المصادر العلنية أيضا رسائل المواطنيين. وكانت كثيرة جدا حتى أنها تتجاوز في بعض الأحيان وفي اليوم الواحد عشرة آلاف رسالة... فمجموعة هذه الرسائل كانت تعطي لجمال عبد الناصر صورة حية نابضة عن مشاعر الجماهير وما تريده.
أما القسم الثاني من المعلومات فهو المعلومات المغطاة. وهذه المعطيات السرية تصله من أجهزة مختلفة ومن لقاءات واتصالات شخصية. على سبيل المثال، بعض رؤساء الدول يبعثون له بموفودين يتحدثون في مواضيع ذات طابع سري كنوع من أنواع جس النبض، أو محاولة معرفة وجهة نظر جمال عبد الناصر. وكان الرئيس يتحصل من هذه اللقاءات على كم من المعلومات تساعده في اتخاذ القرار المناسب.
إضافة إلى كل ذلك، هناك تقارير الوزارات والمؤسسات الرسمية وهي جهات خبيرة.
استنتاجاً، لا يمكن القول بأن جمال عبد الناصر يعتمد على مصدر واحد فقط، ومحمد حسنين هيكل كان أحد هذه المصادر".(15)
أما ضياء الدين داود وزير الشؤون الاجتماعية، وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في عهد عبد الناصر(16)، فهو يقول: "طبعاً كانت له علاقة جيدة بعبد الناصر بحكم أن هيكل قارئ جيد ومتابع ممتاز للسياسة الدولية، وله اتصالات بقيادات إعلامية في العالم، وهذه قنوات كان يستمد منها جمال عبد الناصر معلومات، ويزكي بها أيضاً معلومات وأفكار".
ولو رصدنا عملية بدء ضخ المعلومات من هيكل إلى عبد الناصر لوجدناها بدأت قبل الثورة تحديداً يوم 18 يوليو 1952، عندما كان هيكل في زيارة للواء محمد نجيب في بيته، وفجأة دخل جمال عبد الناصر ومعه عبد الحكيم عامر فاجتمعا به وحدهما ثم خرجا وبقى بعدهما بضع دقائق. وعند خروجه وجد الاثنين مرة أخرى، ودار بينهم نقاش ساخن حول ما يجري في البلاد ودور الجيش فيه، وتحمس أثناء المناقشة وقال لجمال عبد الناصر ما معناه "إن الجيش عاجز عن رد كرامته إزاء عدوان الملك عليه"، ورد جمال عبد الناصر بالتساؤل عما يمكن أن يفعله الجيش أو ليست أي حركة من جانبه يمكن أن تؤدي إلى تدخل بريطاني يعيد الملك فاروق تمثيل دور الخديوي توفيق ويعود فيه الجيش إلى مأساة عرابي؟". وتطوع هيكل وقال أن الإنجليز لن يتدخلوا، وراح يشرح وجهة نظره.(17)
وبدأ جمال عبد الناصر يسأله بإلحاح في تفاصيل ما قال وشعر أن اهتمامه به أكبر مما يحتمله حديث عابر بين صحفي وبين ضابط في الجيش.
وسأله هل يستطيعان أن يواصلا الحديث لأن الموضوع يهمه، واقترح عليه هيكل أن يذهبا إلى مكتبه في "أخبار اليوم" وكان تعليق عبد الناصر "لا... ليس في "أخبار اليوم" لماذا لا نذهب إلى بيتك؟"، وذهبا إلى بيت هيكل... وتحدثا طويلاً... واتفقا على اللقاء مرة أخرى.(18)
واستمرت العلاقة بين الرجلين قوية، تدعمهما دقة معلومات هيكل وتنوعها وغزارتها والأهم من ذلك ثقة عبد الناصر في الصحفي الشاب، حيث حاول صحافيون آخرون ولم ينجحوا، وكان مصطفى أمين واحداً منهم، عندما كتب تقارير إلى عبد الناصر الذي احتقرها ورفضها...
وهذه مجموعة من نماذج المعلومات التي قدمها هيكل إلى الرئيس عبد الناصر في أزمة السويس.
قبل عدوان السويس سنة 1956، كان عبد الناصر ينتظر وصول سلوين لويد (وزير خارجية بريطانيا)، وقبل وصوله بخمس دقائق أعلم هيكل عبد الناصر هاتفياً بنبإ سقوط "جلوب باشا" قائد الجيش الأردني (من أصل بريطاني). تم ذلك، وسيارة سلوين لويد تدخل فناء بيت عبد الناصر في الساعة التاسعة صباحاً، وكان "توم ليتل" مدير وكالة الأنباء العربية في ذلك الوقت هو مصدر هيكل.(19)
وعندما اشتدت الأزمة كان جمال عبد الناصر في الإسكندرية وكان هيكل في القاهرة وطلب إليه أن يكون على اتصال مباشر به طول الوقت ليخطره أولاً بأول بأخبار لندن، وكان يعتقد أن وكالات الأنباء العالمية سوف تسبق بها كل المصادر الأخرى بما فيها سفارات مصر بالطبع.(20)
وحينما جاءت الحرب يوم الإثنين 29 أكتوبر 1956، كان جمال عبد الناصر ساعتها يشترك في احتفال بعيد ميلاد ابنه عبد الحميد، وسلم إليه هيكل برقية وكالة "يونايتد برس" تنقل البيان الرسمي الإسرائيلي وقرأ عبد الناصر البرقية ثم ناولها إلى عبد الحكيم عامر.(21)
وقبل دخول مصر اليمن، قال هيكل لعبد الناصر "لدي دراسة قام بها باحث مصري عن الأحوال في اليمن وعن تاريخه المعاصر، وأريدك أن تقرأها وسوف أرسلها لك".(22)
وحتى تتعمق المعلومات من هيكل إلى عبد الناصر أكثر وتأخذ صبغة الدراسات العلمية، بادر هيكل بتأسيس (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية) وكان المركز يتبادل الدراسات مع غيره من مراكز الدراسات الإستراتيجية في العالم ويقصر اجتهاداته على ما هو متاح من المصادر العلنية المنشورة للمعلومات، وهو فيض لا ينقطع ويعتقد هيكل أن ما كان لديهم من المعلومات أكثر بكثير مما لدى أجهزة الدولة، وذلك بالطبع في المجالات التي يهتم بها، وكانت مهمة المركز أيضاً أن يشترك في الحوار العالمي الدائر حول القضايا الإستراتيجية.(23)
كما استفاد الرئيس أنور السادات من الكم الهائل من المعلومات الذي يمتلكه هيكل، وتواصلت هذه الاستفادة من 28 سبتمبر 1970 حتى أواخر 1974، حينما حدثت القطيعة بينهما، كما قام (مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية) في "الأهرام" بدور هام في حرب أكتوبر 1973، "فحين بدأت الأمور تشير في اتجاهاتها إلى قرب جولة جديدة من جولات الصراع مع (إسرائيل) دعا هيكل الدكتور مصطفى خليل لكي يرأس مجموعة خاصة في المركز، وليقوم ببحث قضية استخدام البترول كسلاح للمعركة، واستطاع بوسائل الأهرام، أن يوفر لمجموعة العمل التي رأسها الدكتور مصطفى خليل كماً ضخما من المعلومات والبيانات والأرقام الصحيحة لم يكن لها أي مثيل لدى أي جهاز من أجهزة الدولة، بل لم يكن لها مثيل لدى كل الدول العربية".(24)
3 – من عبد الناصر إلى هيكل
لقد توافرت لهيكل خلال فترة اقترابه من عبد الناصر فرصة فريدة للاطلاع على كل المعلومات حتى السرية منها بأمر من عبد الناصر الذي كان يريد له أن يكون ملماً بكل الأخبار والمعلومات حتى يكون الحوار بينهما مثمرا.(25)
ويكتب صلاح منتصر، أحد تلامذة هيكل بـ"الأهرام" "إن هيكل بدأ بالعطاء، وفيما بعد سددت له هذه الديون أضعافا مضاعفة عن طريق فتح خزائن الأسرار كلها له. وهكذا كان (سلاح الأرشيف) ذا حدين يعطي أولا، ثم يأخذ بعد ذلك بلا حدود".(26)
ولكن السؤال يطرح نفسه بحدة: بعد أن يطلع القارئ على كتب هيكل وبخاصة الأخيرة منها والموثقة بوثائق الدولة والخاصة جدا، هل يعقل أن تعطي الدولة لأحد صحفييها مهما بلغ حجمه ومهما بلغت مكانته كل هذه الوثائق؟
مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات سامي شرف(27)، يجيب قائلا: "عندما كنت في مركز السلطة، مسؤولا عن مدير مكتب الرئيس ووزير سكرتارية شؤون الرئاسة لم يتجاوز حجم الوثائق التي تعطى للأستاذ هيكل المسائل العلنية المباحة. أما الوثائق السرية فلم تخرج من المكتب أبداً. لذلك أنا – وقد أكون مخطئاً – سمعت من بعض الأشخاص أن أنور السادات سمح بعد انقلاب مايو1971 لهيكل أن يدخل مكتبي ويأخذ منه كما يشاء من أوراق.
والذي يؤكد لي هذه المعلومة أن هناك وثائق نشرت في كتب الأستاذ هيكل لم تعط له قطعاً ويقيناً، وخصوصاً تلك الأوراق التي كتبتها بخط يدي، وكانت موجودة في مكتبي الشخصي، بالتحديد في درج مكتبي الخاص، وحصل عليها وأنا لم أعطه شيئاً. لذلك اعتبر الرواية التي قيلت أقرب إلى الصحة".
وإذا كانت هذه الرواية صحيحة ـ وقد تكون كذلك ـ فهي تعني حرص الصحفي الذكي على الوثائق والمعلومات الهامة بأي طريقة لاستخدامها في وقت الحاجة. والظاهر أن هيكل هنا لعب دور الصحفي فيه بقوة جعلته يستغل فرصة نادرة للحصول على وثائق نادرة.
ولكن المتأكد منه أن عبد الناصر لم يكن يبخل على هيكل بالأخبار المتميزة، بل وكثيراً ما يعلمه بأخطر القرارات في حياته قبل أن تذاع على الناس، أو حتى قبل أن يعرفها وزراؤه أنفسهم. وهذه بعض النماذج التي تؤكد عملية ضخ المعلومات من عبد الناصر إلى هيكل.
النموذج الأول، حوار دار بين عبد الناصر وهيكل عبر الهاتف حول نشوء فكرة تأميم قناة السويس: "يقول هيكل لعبد الناصر:
ـ إنني فكرت طويلا فيما نستطيع أن نفعله إزاء القرار الأمريكي (سحب مشروع تمويل السد العالي).
وقال عبد الناصر:
ـ وهل توصلت إلى شئ؟
فقال هيكل:
ـ هل تذكر ما كنت تقوله عن انتظار فرصة ملائمة نتقدم فيها بطلبنا للمشاركة والحصول على نصف دخل...
ولم يكمل هيكل كلامه، فقد قاطعه عبد الناصر بما يعتبر طلبه إلى عدم الاستمرار في شرح ما يريد بالتلفون...
وسكت وجاءه صوته على التلفون يقول:
إنك اقتربت كثيراً مما أفكر فيه، ولكن السؤال الذي أطرحه عليك لتفكر فيه حتى أراك في المساء هو: لماذا النصف... لماذا لا نأخذ الكل؟
ثم سمعه يقول له:
ـ لا تتحدث مع مخلوق حتى أراك هذا المساء.(28)
أما النموذج الثاني، فهو أيضا حوار هاتفي يقول فيه عبد الناصر لهيكل:
ـ "هل عرفت بما حدث لسلوين لويد في البحرين؟ الرجل سيء الحظ بغير شك، قابلته في البحرين مظاهرات صاخبة ضد السياسة البريطانية وقذفته المظاهرات بالحجارة واضطر إلى الهرب ليحتمي في بيت من البيوت حتى أنقذته قوات الأمن".(29)
النموذج الثالث والأخير حول مرض عبد الناصر، حيث يذكر هيكل أنه في احدى جلساته مع الرئيس، أفضى له الرئيس بحقيقة حالته الصحية. وأبلغه أنه يريد الاعتزال لأن أوضاع البلاد تحتاج إلى جهود خارقة وهو نفسه يعاني من حالة صحية بالغة الحرج. ولذلك فإنه يرى أن التخلص من قيود العمل الرسمي قد يكون مسألة ملحة وإن كان يشعر أن التخلي في هذا الوقت عن المسؤولية ستكون له مضاعفاته البالغة...(30)
هذه النماذج الثلاثة لعمليات تدفق المعلومات من عبد الناصر إلى هيكل تبين أنها من النوع الخاص جدا الذي لا يمكن إعطاءه لصحفي مهما بلغ حجمه، وإنما لا تقدم إلا لسياسي كبير مقرب جداً للرئيس ومحل ثقته وله دور كبير في اتخاذ القرار السياسي... ويبدو أن عبد الناصر هنا لم يتوجه إلى هيكل الصحفي وإنما إلى هيكل السياسي الصديق المقرب تحديدا.
ورغم أن البعض اتهم هيكل بأن "الأهرام" قد ارتكب (خطيئة) مروعة بعد عودة عبد الناصر من الاستشفاء في (تشخالطوبو) وعندما قدمت معلومات مجانية وبالبنط العريض حول الحالة الصحية للرئيس، والتي تقتضي أن يعود كل عام على وجه التحديد في شهر أغسطس إلى الاتحاد السوفياتي للتداوي وإلا فإنه سوف يصاب بمضاعفات صحية خطيرة. وكان ذلك (هدية) لا تقدر بثمن للجهات التي يهمها متابعة الحالة الصحية للرئيس واستغلال نقاط الضعف فيها، ولأن تمكنها من القضاء عليه سوف يكون تحقيقا مثاليا لهدفها (الإستراتيجي) المزمن بضرورة التخلص منه...(31)
رغم هذه التهم فإنه لايمكن تأكيد أن هيكل أساء استخدام المعلومات الخاصة التي قدمها له عبد الناصر ضد رئيسه. بل على العكس يبدو أنه استغلها أحسن استغلال خاصة في مقاله الأسبوعي الشهير (بصراحة) وقد ذهب كثيرون إلى أن أغلب أفكار هيكل كانت مستوحاة من نقاشاته ولقاءاته بعبد الناصر. لكن سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات(32) يقول: "إن الرئيس كان يقرأ المقال مثل أي قارئ، فقط يتميز بأنه على اتصال يومي معه. وهيكل يعرف جيداً توجه الأحداث، وكيف تسير الأمور، وربما لا يتجاوز المقالات التي استشار فيها عبد الناصر أصابع اليد ومن ضمنها (زوارالفجر)..."(33)
استنتاجاً، يمكن القول: إن جمال عبد الناصر كان واعياً بطبيعة المعلومات التي يقدمها لهيكل وما إذا كانت تمس من أمن البلد أم لا. وكان هيكل محلاً لثقته. وكان يدرك إلى أين ستذهب هذه المعلومات في النهاية. فهي ستعود عليه بالإفادة سواء في نشرها في "الأهرام" في ركن (بصراحة) أو تعود لعبد الناصر في شكل آراء دقيقة ومنظمة حيث يحتاج هيكل إلى معلومات الرئيس ليتمكن من صياغتها بدقة.

4 ـ المعلومات "سلاح" هيكل
بعد خروج هيكل من هرم السلطة في أواخر 1974، تعرض إلى حملة إعلامية عنيفة قادها مصطفى أمين وجلال الدين الحمامصي وكل الصحافيين والكتاب الموالين للرئيس أنور السادات.
وتركز الهجوم عليه بشدة. ووجهت إليه تهم عديدة منها أنه أزاح كل منافسيه بسلطة الموقع، ومنها العمالة والجوسسة لصالح دول أجنبية، ومنها تزوير التاريخ...
وهذه نماذج من الحملة التي شنت ضد محمد حسنين هيكل:
كتب عباس الأسواني في جريدة (تعاون الطلبة) بتاريخ 25 مايو 1975 مقالاً بعنوان (يزور التاريخ بوقاحة، ويدعي كتابته بصراحة).(34)
أما أعنف حملة ضد هيكل فقد تمت بعد طبعه ونشره لكتاب (خريف الغضب) حيث وجهت له اتهامات كثيرة ومتنوعة. فالدكتور فؤاد زكريا(35)، كتب: "إن المرء لا يملك إلا أن يشعر بوجود سر خفي في تلك المقدرة الهائلة على جمع المعلومات واختزانها وإعادة استخدامها واستثمارها في الوقت المناسب.
ولقد سخر هيكل من الضباط الذين قلبوا بيته الريفي، وقت اعتقاله الأخير (في ديسمبر 1981)، بحثاً عن أوراقه السياسية، مؤكداً لهم أن الرئيس ذاته يعلم أنه (أي هيكل) لا يحتفظ بشيء من أوراقه في بيته وأنه يبعث بها أولاً بأول إلى خارج البلاد... ولكن يظل السؤال قائماً: هل يستطيع فرد واحد مهما كان ذكاؤه وتشعب قدراته، أن يجمع كل هذه المعلومات، ويرتبها بهذه الدقة ويبعث بها أولاً بأول إلى الخارج؟ لست أدري ولكنني كلما أمعنت الفكر في هذه الظاهرة بدا لي أنها أعقد وأوسع نطاقاً من إمكانات أي فرد، بل من إمكانات أي جهاز في دولة متخلفة وخيل إلي أننا نجد أنفسنا هنا على مستوى يكاد يصل إلى مستوى أجهزة المخابرات في الدول الكبرى".
وتبلغ الحملة ذروتها حينما يكتب الدكتور فؤاد زكريا: "إن تاريخ الأستاذ محمد حسنين هيكل صفحة سوداء في تاريخ مصر، لقد اتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية، وكتب ذلك في كتابه (كلمتي للتاريخ) كما اتهمه "مايلز كوبلاند" في كتابه (بغير عباءة أو خنجر) بأنه كان عميلاً مخلصاً، كما اتهمه "خروشوف" بنفس التهمة وذكر له قيمة المبالغ والشيكات التي تسلمها من وكالات المخابرات المركزية الأمريكية، وكان ذلك عندما سافر سيده (يقصد عبد الناصر) إلى روسيا واصطحبه معه في هذه السفرة، فلما واجهه "نيكيتا خرشوف" بهذه الفضيحة المرة اضطر أن يسافر اليوم التالي عائداً إلى مصر".(36)
ويضيف الدكتور فؤاد زكريا: "ولم تكن البراعة الصحفية وحدها ولا الذكاء الشخصي وحده، هما اللذان أتاحا له هذه الفرصة، بل إن انعدام الديمقراطية وسيادة جو التكتم والقرار الفردي المفاجئ، جعل من الضروري أن يضيق نطاق المطلعين على الأسرار إلى أبعد حد، وهكذا اطلع هيكل على مالم يكن متاحاً للآخرين، أو مطروحاً على الناس وهداه ذكاؤه إلى أن يسجل أولاً بأول كل ما هو (خفي) و(ممنوع)، ومنذ أن تبين له أن الناس يتلهفون على قراءة الأسرار التي لا يعرفها أحد صباح يوم الجمعة، أدرك هيكل أهمية (سلاح الأرشيف) من حيث هو مصدر قوة وحماية له في نفس الوقت".(37)
لم يفاجأ هيكل بهذه الحملة القوية ضده، إذ يظهر أنه استعد لها مبكراً، منذ أن كان حريصاً على جمع كل الوثائق التي يحصل عليها، والمحافظة عليها في مكان أمين، فهو يعترف بذلك قائلاً: "... أنا لم ألق ورقة... وأنا مستعد أن أقول: أنه لم تمر علي وثيقة دون أن أحصل على إذن بأخذ صورة منها... وكان معروفاً أنني مؤتمن".(38)
وبعد أن شن خصومه حملتهم الإعلامية قرر أن يرد عليهم مستخدماً في رده سلاحاً جباراً اسمه (أرشيف المعلومات). رد على الذين هاجموا عبد الناصر والناصرية بمجموعة مقالات، جمعت في كتاب سماه (لمصر لا لعبد الناصر)(39)، ورد على الرئيس السادات الذي سجنه بكتابه الشهير (خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر السادات)(40) وهو كتاب نموذجي في مواجهة الخصم، ونجح الكتاب وبيع منه أكثر من مليون ونصف المليون نسخة بأكثر من لغة.(41)
ورد على مصطفى أمين بكتاب سماه (هيكل بين الصحافة والسياسة)(42)، اعتبر أيضاً كتاباً نموذجاً في مواجهة الخصم ...
في هذه الكتب الثلاثة استغل هيكل أرشيفه للمعلومات استغلالاً محكماً جعله يتفوق على خصومه خاصة بما تحمله كتبه من وثائق صريحة.
إن تجربة هيكل مع المعلومات، تميزت بخصوصية دقيقة، فالمعلومات هي التي جعلت هيكل يتصدر مكانة كبيرة عند الرئيس جمال عبد الناصر وهي التي جعلته يصل إلى قمة نجاحه المهني والسياسي، ومكنته من الوصول إلى أسرار الدولة وتخزينها إلى وقت الحاجة، ثم مكنته من الدفاع عن نفسه، والدفاع عن العهد الناصري. وكان دفاعاً متميزاً بالتفوق والقدرة الفائقة على إسكات الخصم، واستخدام سلاح المعلومات – الوثائق – الأرشيف استخداماً ماهراً.




#رياض_الصيداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 4
- هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 3
- هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 2
- هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 1
- نحو تفسير ظاهرة الأصول العلمية التقنية لنشطاء الحركات الإسلا ...
- أسد الجبارين: ياسر عرفات والابن الروحي مروان البرغوثي 4
- قصة أسد الجبارين: ياسر عرفات 3
- قصة أسد الجبارين: ياسر عرفات 2
- قصة أسد الجبارين: ياسر عرفات 1
- جان زجلر يتحدث إلى العرب 5
- (جان زجلر يتحدث إلى العرب (4
- نحو فهم سوسيولوجي للحركات الإسلامية في الوطن العربي وقدرتها ...
- انتشار الجماعة السلفية الجهادية في المغرب العربي
- جان زجلر يتحدث إلى العرب 3
- (2) جان زجلر يتحدث إلى العرب
- (1)جان زجلر يتحدث إلى العرب
- الأسس الفلسفية القيمية الليبيرالية في بناء المجتمع والدولة
- ما الذي يمنع الديموقراطية في الوطن العربي؟


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض الصيداوي - هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 6