أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى محمد غريب - العللة في الصمت وفي العزلة















المزيد.....

العللة في الصمت وفي العزلة


مصطفى محمد غريب
شاعر وكاتب

(Moustafa M. Gharib)


الحوار المتمدن-العدد: 1811 - 2007 / 1 / 30 - 11:17
المحور: الادب والفن
    


القسم الثاني

لكن لا فائدة من الرد على كل كلمة أو جملة أو موضوع يقوله، ولهذا نسيت " لا تعرف فوراً " هو لن يستطيع استفزازي.
بقى الجوّ مشبعاً بالشك والترقب والتفسير الممل، تطلعت نحو الشباك، حانت التفاتة من شخص على الرصيف نحونا وكأنه رأى أمراً غريباً يتحرك خلف الشباك، بقيت اتابعه ، عيناه معلقتان، توقف عند انعطافة الشارع القريب، ظل يحملق في بنايتنا تارة وبالشباك الذي يطل على بناية السجن القديمة تارة أخرى ، أصابني فضول مقرف حتى رحت أحصي حركاته، لا يوجد رجل أو امرأة سرية تراقب عندنا، ولّى ذلك الزمن الذي كان الإنسان الأمني يتابع الآخرين مشياً على الإقدام خطوة خطوة ، المراقبة أصبحت بواسطة آلات الكترونية عصرية، سمعية ولفظية، تعيش معك في الفراش كعاشقة مبتذلة تضاجعك بحرارة في اللحظة المرتقبة، لا تعرف متى تخونك، أو تبيعك للأعداء المتربصين خلف مكاتبهم الراقية.
عبر الرصيف المقطوع بإشارة ممنوع الوقوف، أعاد الكرة وهو يحك ما بين خصيتيه وفخذيه، تراجع نحو جذع لشجرة صنوبر كبيرة أصيبت بالمرض الأبيض المعدي فقطعتها الجهات المسؤولة بأوامر من لجان الدفاع عن البيئة حتى لا تنقل العدوى للناس وللأشجار التي كانت بجانبها ولهذا حولوها إلى مكان منعزل تقريباً يصلح لأشياء كثيرة ومتنوعة.. اتخذ مقعداً لعجزه وتعلق بالشباك " هل هو يعرفنا؟ يعرف أننا أجانب، ربما يكرهنا! هل هو؟"
على الكرسي كان مذياع صاحبي يردد الكلمات نفسها ويرشف الشاي، يتكلم ويتكلم، اسمع صوته كطنين النحل، الشخص الجالس على جذع شجرة الصنوبر المقطوعة اخرج علبة السجائر التي تشبه سجائر صاحبي وراح يدخن بشراهة، شعر لحيته صفراء طويلة تلامس صدره، احمر البشرة، سرواله الجينز متهرئ تظهر ركبتيه منه، معطفه الكاكي الطويل وسخ أغلق به صدره وبطنه، ظهر كالمومياء برأس مكشوف طويل الشعر معقوف من أذياله ،حذائه عسكري اسود مترب ضخم ، قدّراته بحجم جمجمته..
لم يشدّني في الدنيا تلك اللحظات إلا متابعته ومعرفة أهدافه ونواياه .
انتصب واقفاً بعد أن رمى عقب السيجارة باتجاه الشباك ، تراجع قليلاً حتى وقف خلف جذع الشجرة المقطوعة وحدق في شجرة قريبة لها غصنين أجردين، فتح أزرار سرواله الجينزي واخرج قضيبه واخذ يبول على جذع الشجرة.. بال.. وبال، كأنه يخرج شلالاً متدفقاً من مثانته عبر قضيبه ثم اخرج ريحاً من دبره له صوت مسموع، لم تصيبني الدهشة، مددت رأسي فقط متفحصاً .
ـــ غريب، بالتأكيد انه نسى.. والا كيف يتصرف هذا التصرف غير الطبيعي في عرف القوانين المدنية المرعية والمدافعين عن البيئة.. هل يعرف أن هناك غرامة مالية على الذين يتبولون في الشوارع العامة ما عدا مرضى السكري، لو اخرج ريحاً فقط لما كان هناك أي قانون مدني وضعي يحاسبه.
أحسست فجأة بالشفقة عليه، ليس لفعلته وإنما لشعوري الخفي أن هناك أمراً ما سيقع.. أخرجني من هذا الشعور طنين صاحبي .
ـــ عمرو بن هند لم يكن ذكياً حينما مسّ أم عمرو بن كلثوم فقتله.. هكذا تقول الرواية، ومقام الأم كبير جداً ولهذا قالوا " الأم مدرسة إذا أعددتها ــــ أعددت شعباً طيب الأعراق " .
تركت الشخص وجذع الشجرة وبناية السجن القديمة والشباك، عدت إلى صاحبي ثانية لكن مهجتي كانت تطارد الرجل، وجداني يبحث عن أسباب تبوله على جذع شجرة الصنوبر وتحديقه بالأخرى بالتأكيد الجذع ميت وقد لا يحب الأموات وهذا ما يحسده في الشجرة الثانية ، وجه صاحبي رمادي قلق، عيناه سوداوان غارقتان في موقد فلاحي، يعلوهما حاجبان قصيران، انفه طويل يكاد أن يسقط في فمه، وجنتان عاليتان مميزتان في علوهما .
ـــ لو تمسكوا بمعنى قيمة الأم لما ظهر العهر في الرجال قبل النساء أنت تعرف أول مهنة في الجنس البشري هي الدعارة فلم تسبقها مهنة أخرى.. التاريخ زوّر في الكثير من الجوانب، أن قتله لعمرو بن هند أو لم يقتله، وهناك روايات أخرى، فهذا موضوع آخر، الحديث يدور الآن عن رجل بال على جذع شجرة الصنوبر الذي يطل عليه شباكنا وعشرات الشبابيك التي تخفي عشرات الأعين.. تصور فعلته أبشع وأوسخ واغرب من قدح عمرو بن هند لأم عمرو بن كلثوم، أن الرجل بال وضرط على القانون المدني وقانون الذوق ولم يقتله احد.. بال وبال، ليس مهماً ولكن جذع شجرة الصنوبر مقطوعة وأمام بناية السجن القديمة هو الأهم في الموضوع.
دواء الكلام هو الصمت، ينقلك لعالم متنوع، يسهل لك الانتقال وإيجاد الحلول والقبول بالنتائج، يتعاظم في بعض الأحيان فيشك بواسطة وصفات دواء تنقلك إلى النوم الغائم وهو جزء من صمت أبدي أو إلى الهلوسة.
لم يكن الوقت ثقيلاً كما يجده غيري معه، على الرغم من قرفي الذي ليس له حدود، نحن نمتلك حاسة سابعة، قرف مقبول محبب يعيش معنا منذ الولادة.. ألا نقرف من الذي يخرج ريحاً من الدبر ليسدّ الرئة قبل الأنف؟ أمثال شعبية كثيرة للموضوع الشائك، الحاسة السابعة غريبة على مسامع الكثير من الناس ، أساسا لا وجود لها في التعريف الطبي النفسي إلا بالأقوال لكنها في نهاية المطاف موجودة يمارسها الكثير من خلق الله، قرف المقبول في نهاية المطاف، هذه الحاسة نشترك بالتمازج فيها ونعترف بها.
" اقرف منك ومن حديثك واستمع له بنشوة القرف نفسه" ومع هذا فنحن نختلف في بعض الأحيان والحالات حول النشوة نفسها. عبّرَ تجاعيد المساحة التي تقع فيها عينيه تتطلعُ على ما يجول في نفسه إنها الحاسة السادسة، الآن يتهيأ.. أعرفهُ ولا ابخل بالتفسير أو الكشف عن حالته القادمة.. ظل صامتاً برهة من الزمن، عاد بعدها إلى كأس الشاي فأفرغ ما تبقى في جوفه دفعة واحدة، فتح زر قميصه من الأعلى ثم صبّ الشاي مرة أخرى.
ـــ أمثال شعبية كثيرة فيما يخص الريح لكن أحسن مثل شعبي سمعته " ضرط وزانهَ وضاع الحساب" وهذا المثل يرتبط بصلة قليلة عن ما أردت أن أقوله لك عن الأمر المهم سابقاً.
تراجعتُ إلى ظهر الكرسي، دفعت جذعي كله بمشطي قدميّ حتى فقدت الصلة بالشخص الذي كان قد تبول على جذع شجرة الصنوبر.
هبط عليّ فجأة جمود فكري، تركته على وضعه، كل شيء انقطع عني ، أصبحت دمية تتحرك بلولب ميكانيكي، لعبة تحركها الأصابع كيفما اتفق .
ـــ عندما يفقد الوزان توازنه تفقد المقاييس توازنها فينقلب القرد قائداً والعالِم قرداً يرقصه القراد كيف ما يحب ويبتغي، ينقلبُ المُعلم جاهلاً والجاهل فيلسوفاً. عندئذ تتطابق وما عنى به البير كامو صاحب الطاعون للوجه أقنعة متعددة تستعمل حسب الطلب.
زز..... زز..... زززززز............... ززززز....... زز .. ززز، عشرون مرة رف جنح عزرائيل داخل جوف إذني اليمنى، أغلق بأزيزه طبلتي إذنيّ، هرب الجمود خوفاً من أزيز الجنح.. حدثت نفسي بعد تحرري من جسد الدمية الذي تلبسني " عزرائيل قريب ماذا يريد ؟ "
بهت كأنه سمع حديثي، هذا أمر مقرف للغاية ـ تفكر فيعرف بماذا تفكر.. يقول لك اعرف بماذا تفكر وسوف تشنق عليه.
ـــ حكى لي احد معارفي مرة عن شخص اسمه فتاح عبد الفتاح كان يعرفه سابقاً، نفوه بشكل قسري لئيم إلى مدينة بعيدة عن العاصمة تحت طائلة المصلحة العامة ومصلحة امن البلاد..
فقدْتُ الصلة بالحديث وعدت أراقب الشخص الذي بال على جذع شجرة الصنوبر، مازال واقفاً في مكان تبوله ، كأنما أحس بفضولي فأعجبته اللعبة، دار حول الجذع ثم جلس عليه، كان يبتسم أو خيل لي انه كان يبتسم، مرت شاحنة طويلة قطعت الصلة بيننا.
ـــ المدينة قديمة وتاريخية كانت لها حضارة عريقة، لكنها أهملت بسبب الإفلاس الفكري، أصبحت مدينة قاحلة أراضيها قاسية سبخة لها رائحة نتنة، مياهها مجّة أن شربت منها لا ترتوي وتصاب بالإسهال وإذا اغتسلت أصبح جلدك كجلد النمر مرقطاً، جدران بيوتها طينية مشققة أو القسم الأكبر منها آيل للسقوط ومع هذا يسكنها الناس، الكلاب والقطط السائبة هزيلة مريضة لا تكاد أن تتحرك، يقولون مات منها ما يقارب الثلثين، لا وجود للخيل أو الحمير أو البقر أو الأغنام إلا ما ندر حتى الطيور فقدت ريشها..
انقطع الحديث اثر سعال حاد.
سرت فيّ رعشة برد قصيرة " الطاعون يسري في رئتيك أيها الزنديق الذي لا يخاف الموت الطاعوني، لكنه يخاف أن يسمع كلمة دكتاتور استعماري قديم فيختبيء فاراً من المكان كفأر تلاحقه أفعى "
كف عن السعال، اصفر جلد وجهه، اخذ يحدق بي، اخرج من علبة الدخان نصف سيجارة رديئة واخذ يشفط دخانها بعمق وشغف.
ـــ أما جوّها فحار قاري في الصيف يبول الحمار دماً من حرّه.
تذكرتُ الذي بال على جذع شجرة الصنوبر، التفتُ نحو الشباك وبي رغبة شقية لمعرفة وضعه فلم أجده جالساً على الجذع، تخيلته مختبئاً..
ـــ ربما ترك المكان إلى مكان آخر ليجد من يهتم به، أو دخل بناية السجن القديمة المتروكة.. من يدري هل هي متروكة أو مملوءة بالناس؟ فكثيراً ما كنا نشاهد أبنية وبيوتاً كأنها مهجورة لكنها كانت موبوءة ومسكونة بشكل سري..
هكذا قاطعته، كان صوتي متخثراً.. عدت مستفسراً
ـــ هل توجد في هذه المدينة التاريخية بنايات قديمة لسجن يبدو متروك ولا يسكنه في الظاهر أحدا ؟
أسرف في سحب الدخان، اعتلت قسمات وجهه موجة من موجات العنف والاهتمام بما قلت، تمتم بصوت خافت، لم افهم تمتمته، أصبحنا قريبين من منطق الاتفاق حول المدن والتاريخ فقال.
ـــ لا توجد مدينة حقيقية في التاريخ بدون سجن، حتى القرى أحياناً فيها سجون، والا كيف تسمى مدينة حضارية! أليست الحضارة في حبس الناس؟ هناك طرق للحبس كثيرة ، فمن تراهم في بيوتهم أحرار هي كذبة فهم محبوسين بقرار البقاء.
قاطعته متبرما من محاولة الشرح الطويل نغزته كي لا يسترسل في فلسفة معنى السجن والحضارة.
ـــ شرح ممل ومقرف ، انه لأمر عجيب أن تجيب بسؤال ، قرأت أن سجوناً كانت وما زالت تحت الأرض، سجون حضارية تشبه المقابر الجماعية هذا المفهوم ليس بالبدعة ولا هو من خيال يبحث عن واقعية حتى يؤخذ به على علاته .
حاول التكيف مع مقاطعتي لكنه كان يغلى كإبريق الشاي، احتوى تبرمي وقرفي بابتسامة مموهة.. الآن أحبه أكثر من الثواني السابقة ، هكذا نلتقي، لا تفلت الأمور فتصبح قطيعة فاجعة.
اشتدت الريح في الخارج مما جعل براويز الشباك تئن وجعاً، تبتغي الانطلاق لصخب جنوني، تتحرك كيفما اتفق ، لكنه كان دائماً يرغمها على الثبات النسبي، يحدد تحركها بقضيب حديدي رفيع له رأسن معقوفين يجعله كجسر بينهما.
كنا نراقب حالة البراويز التي كانت تئن متوجعة، الحبس أتعبها، فراغ خارجي، تتنفس فيه المخلوقات.. لا أثر للشخص فوق جذع الشجرة المريضة، جميع الأشجار تتراقص على أنغام الرياح إلا هذا الجذع المقطوع فقد أصبح مبْولة عامة.
تنهد فاسحاً المجال لأفكارنا تتغنج في مساحة من الراحة.
ـــ لولا الحديد لتهشم الزجاج.. " بلةْ الحديد وما بلينةْ "
لم أرد عليه، كنتُ أراقب دلّة القهوة قلت لنفسي " بردت وبرد الشاي"
انتصب واقفاً حاملاً إبريق الشاي ودلّة القهوة.
ـــ سأجدد القهوة.. كان المفروض أن لا اطبخها سوية.
غلى في داخلي شيء لا اعرف ما هو، ليس بسبب برودة القهوة والشاي، وإنما بالشك الذي أخذ يهاجمني عن مصير الشخص الموجود في الشارع، الشخص غير المرئي.
مرت دقائق على حركته المفاجأة، عاد بعدها حاملاً دلّة القهوة، صبها في الفنجانين وقال.
ـــ مرّة، تحبها مرّة!
لقد أصبح الوقت مرّاً، علقماً، نزده حلاوة بمرارتنا وبخاصة أثناء لقاءاتنا المحزومة بالعشرة.. نهاراً أو ليلاً.
ـــ لم يكن في هذه المدينة سوى مكان حقير يمتلكه أبو فرّة المسؤول الحزبي واللامسؤول، لا أبواب له، كراسي خيزرانية مقطعة وأخرى من سعف النخيل أصبحت رمادية لكثرة الاستعمال، طاولات حديدية تصدأت جوانبها لكثر ما سكب عليها من الماء والشاي، طاولات الزهر والدومينو عتيقة لزجة.. لكن والحق يقال كان الشاي جيداً، غامقاً، منعشاً بكاسات فارسية الصنع.
رفعت رأسي مفتشاً، عاد الشخص من خلف بناية السجن القديمة، كان يحك ما بين مرفقيه هذه المرة، دققت وتساءلتُ هل مازال يراقب الشباك، بطل ظنّي ، لأنه كان مشغولاً بالحكِ. " هل غاط أمام بناية السجن القديمة أم في داخلها؟ ، لماذا لم يفعلها خلف جذع شجرة الصنوبر؟" حك مرفقيه مرات عديدة، وبقى يحكُ ويحكُ حتى جلس على الجذع وراح يحك عجزه كفيل بري هرم، في هذه اللحظة رفع رأسه، راقب " آه لقد أخطأت أنه مازال يفكر بنا" وجدني مشدوداً، مسح لحيته وفمه، حرك فكيه، بدا كأنه يطحن شيئاً قاسياً بأسنانه..
ـــ نزل فتاح عبد الفتاح المدينة التاريخية، حاول التكيف مع متطلبات أموره وخضوعه للقوانين المرعية، وطمأن نفسه بأن ما يجري وقتي، وان العدالة ستأتي إليه طائعة، فالعدالة هي العدالة، وإيمانه بالله العادل لا يتزعزع، وسوف يحسمه لصالحه لأنه بريء تماماً من العباد وأمن البلاد.
أحسست أنني مهتم بالموضوع وقلت في نفسي " يجب أن أتابع حديث صاحبي عن المفتاح عبد الفتاح وفي الوقت نفسه أتابع الشخص الذي يجلس على جذع شجرة الصنوبر "
ميزت متطلبات الأمور والخضوع للقوانين المرعية، قال احدهم مرة أن مهرجاً قال ساخراً وهو على حق " قوانين نصنعها بجرة قضيب ونلغيها بضرطة دبر "
ـــ انه من الغباء التفاخر بعمرو بن كلثوم لأنه قتل عمرو بن هند الشاعر وليس الملك، قتله دفاعاً عن كرامة أمه، والا أية قوانين مرعية يحترمها الإنسان تكتب بجرة قضيب وتلغى بنفخة دبر سرية.. أليست هذه قوانين استعمارية!!
جمدت تقاطيع وجهه، التفت يميناً ويساراً.. ارتَشَفتُ قليلاً من فنجان القهوة متشفياً.
ـــ مرة أخرى تضع الذنب على هذا الذي سميته براحةٍ كأنه قميص عثمان، شماعة يلصق بها إي باطل نعمله، دائماً نفعل العمل الشنيع ونضعه على عاتق هذا الذي قلته!
انتصب واقفاً الشخص الجالس على جذع الشجرة، فتح حزام سرواله الخارجي وانزله إلى حد ركبتيه، سحب سرواله الداخلي فظهر عجزه ابيضاً كالثلج .. مثل البيضة المسلوقة المعدة على مائدة الطعام، مدّ أصابع يده اليمنى وراح يتلمس ما بين عجزه ، يتلمس ويهرش، يهرش ويتلمس ،
ـــ هو يلغي القوانين المرعية بهرش عجزه.. وصاحبك.
توقفتُ قليلاً حيث بيت القصيد في اتهامه بكلمة " صاحبك " عدت مكملاً
ـــ وصاحبك هذا الذي حدثك عن مفتاح عبد الفتاح.
انزعج أكثر، سحب سيجارة جديدة من علبة الدخان وبعدما أشعلها راح يمصها بصخب، ارتشف القهوة من فنجانه بقوة مع الدخان المتطاير من السيجارة.. عاد بعد ثانية إلى هدوء مصطنعٍ.
ـــ لم اقل صاحبي، لم اقل أن محدثي صاحبي، قلت احد معارفي وهذا يختلف جذرياً عن اتهامك لي بأنه صاحبي مثلما تتهم ذلك الذي سميته ووضعت على عاتقه أي فعل مشين كما يفعل مهرجينا .
مسح شفتيه براحة يده مما زاد قرفي، اعتدل في جلسته وتابع.
ـــ تتابع الشخص الذي بال على جذع شجرة الصنوبر كأنه صاحبك، لكنك تقول انه صاحبي في المعنى كحديثك عنه للساخرين فكن موضوعياً ولو بنسبة 1% وقل محدثي ولا تقل: صاحبك.
فشلتُ في استدراجه للفخ.. إذا أردت للعلاقة أن تقوى، تتمتن عليك أن تتشاحن مع اقرب الناس إليك، تحك معدنه مثلما حك ذلك الشخص ما بين مرفقيه، وتنتظر رائحة حكك له.. حك، نعم انه صاحبي يحكني واحكه باستمرار وبقرف ، لم تكن لنا رائحة غريبة غير مألوفة.
ـــ إذا كان لي هذا القول " صاحبك " فلا اقصد الإساءة، فلا يضيق صدرك لقولي، اسحبه.. ليس صاحبك وإنما المتحدث من معارفك ولا مفتاح عبد الفتاح معني بالحديث.
ترجل من بغلته، مدّ يده على طولها، رفعها نحو قمة رأسه وضغط على يافوخه، حك طرف إذنه، ادخل إصبعه فيها وراح يحركه حركة لولبية..
زحفت أمامنا أنامل هلامية مسكت شغاف قلوبنا، ثم تحولت إلى مخالب صقرية حادة تشق كمشرط العمليات الطبية الجراحية حنجرتينا، يدغدغنا بين لحظة وأخرى أمل الخروج من عنق الزجاجة الموجودة في داخلنا.
ـــ كان أبو فرّة نتيجة من نتائج التاريخ الفكري المأزوم والوسخ المزري، تهديم للقيم الرائعة وتشييد قيم شاذة، أخلاق سوقية باطنية مغلقة ومفتوحة بفضائل مزيفة حسب الطلب.. خرج مع القوم في " الزفة" فازدوج الوجهين.. وازدوج الموضوع.
مددتُ يدي إلى دلّة القهوة، ملأت فنجانه وفنجاني، رفعت ناظريّ، أدرتهما نحو الشباك، رأيت الجالس على الجذع قد انزلق إلى جانبه، قرفص ساقيه لصقهما ببطنه، عيناه مازالتا شاخصتان نحو بنايتنا، أدرت رأسي مقاطعاً إياه.
ـــ أكثر ما قلت عن أبو فرّة مستورد وبجرة قلم من الاستعمار القديم، ثُبت أكثرها من خلال ضيافتها القسرية فينا..
دمدم فاخرج صوتاً كجئير البعير، غص من رشفه للقهوة، شهق وزفر بقوة، عادت جلدة وجهه إلى الاصفرار.. عض شفته السفلى.
يتبع من مجموعة تصدع في الطيران / عمان 2007



#مصطفى_محمد_غريب (هاشتاغ)       Moustafa_M._Gharib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلة في الصمت وفي العزلة
- عنجهية حكام تركيا وتدخلهم في شؤون العراق الداخلية
- الخطة الأمنية الجديدة والتسلح -بالفالة والمكوار-
- هيئة دفاع طفيلية لعبتْ على الحبلين من أجل المال والشهرة
- زيارة الطلباني وتوطيد العلاقة الأخوية مع سوريا
- ضمائر في مهب الريح
- إيران والتدخل في الشؤون الداخلية للعراق
- التدخلات في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى
- تحريض ثابت الالوسي ضد نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد
- رجل خُلق وكأن حبل المشنقة حول رقبته
- العام الجديد والجديد في حياة العراقيين
- مؤتمر المصالحة الوطنية والمصالحة الحقيقية
- الأستاذ سفيان الخزرجي والنقد الموضوعي
- مقترحات من أجل انتظام انعقاد جلسات البرلمان العراقي
- الكورد الفيلية فقدان الحقوق وعدم رد الاعتبار كمواطنين عراقيي ...
- محنة الفلسطينيون والعراقيون في العراق محنة مشتركة
- الحوار المتمدن في انطلاقته الخامسة
- الأيدي المكتوفة.. وماذا بعد ذلك؟
- وحدة الشعب العراقي هي الطريق الأسلم لوحدة العراق
- قدرة الدولة على إيقاف قتل البرياء في العراق


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى محمد غريب - العللة في الصمت وفي العزلة