أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن في العراق وبعض مهمات المرحلة















المزيد.....



حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن في العراق وبعض مهمات المرحلة


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 1722 - 2006 / 11 / 2 - 10:23
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


(1)
يعيش الشعب العراقي مرحلة صعبة ومعقدة للغاية في تاريخه الحديث, مرحلة تتميز بغيبوبة العقل المديدة وتراجع الوعي الاجتماعي الفردي والمجتمعي وتخلف الوعي الديني وسلب الإرادة الحرة والواعية لدى نسبة عالية من أفراد المجتمع العراقي, وبخاصة بين أتباع الأحزاب السياسية الإسلامية ذات الوجهة المذهبية المتزمتة التي تتعامل مع الواقع العراقي على أساس طائفي سياسي وتمارس التمييز في المواطنة, وبالتالي تساهم هذه القوى في دعم فعلي لقوى الإرهاب الناشطة في العراق, شاءت ذلك أم أبت. فالعراق الراهن يعيش الواقع التالي:
• سقوط المزيد من القتلى والجرحى والمعوقين يومياً حتى ازداد المعدل عن مئة إنسان يومياً في الآونة الأخيرة.
• هجرة متفاقمة من مختلف فئات المجتمع إلى خارج العراق, وخاصة القوى العلمية والثقافية, وتوقف المغتربون منذ عهد الدكتاتورية عن العودة إلى الوطن .
• سيادة الفوضى وعدم الاستقرار والعجز عن استكمال مهمات إعادة إعمار القسم العربي من العراق وتأمين فرص عمل للعاطلين من أفراد الفئات الاجتماعية التي تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, حتى يقدر حجم البطالة بحدود 55 % من إجمالي القوى القادرة على العمل.
• تفشي الفساد المالي ونهب موارد الدولة والمجتمع على نطاق واسع حتى أصبح نظاماً تتعامل به الغالبية العظمى من أفراد المجتمع. ولهذا السبب أيضاً أخذت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع تتسع باستمرار, كما يتم استخدام الكثير من موارد الدولة في غير صالح المجتمع.
• استمرار الصراع والنزاع الدموي بين المليشيات الطائفية السنية والشيعية المسلحة, دون أن تتخذ المرجعيات الدينية المسؤولة عن تشكيلها قراراً بحلها. الضحية الفعلية هو المواطن العراقي من مختلف الأديان والمذاهب ومن مختلف فئات المجتمع, وخاصة الفئات الكادحة وجمهرة المثقفين والمبدعين.
• استمرار النقص في الخدمات الأساسية التي تستوجبها حياة الناس اليومية, وبشكل خاص الأمن والاستقرار والكهرباء والماء الصافي والنقل الآمن على الطرق العامة وبين الكثير من المدن وفي شوارع بغداد...الخ.
• عجز الحكومة العراقية عن ممارسة الإجراءات الضرورية لإنهاء الوجود العسكري المسلح للمليشيات الطائفة المتنازعة أو ملاحقة الفساد في الطوابق العليا من المسؤولين في الدولة أو توفير الخدمات الأساسية للسكان.
• استمرار ارتكاب الإدارة الأمريكية وقواتها في العراق المزيد من الأخطاء على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي التي تكلف الشعب العراقي والقوات الأمريكية المزيد من الضحايا البشرية والخسائر المالية والمزيد من المصاعب في ممارسة الحياة الاعتيادية والعجز عن تأمين عملية إعادة البناء.
وفي خضم هذا الواقع المأساوي تضيع جملة من الإجراءات الإيجابية التي يفترض أن تفتح الطريق صوب انتعاش الواقع العراقي, ومنها إقرار الدستور وإقرار قانون الدولة الاتحادية, وإجراءات أخرى اتخذتها الحكومة الجديدة, سواء في مكافحة الإرهاب واعتقال عدد كبير منهم, أم في إعادة جمهرة واسعة من المفصولين السياسيين منذ العهد البعثي لإلى وظائفهم, أو إحالتهم على التقاعد ومنحهم رواتب مجزية في ظروف العراق الراهنة وتحسين ظروف حياة ومعيشة أوساط الموظفين والمستخدمين أو الطبقة المتوسطة, التي كادت تغيب عن الساحة الاجتماعية العراقية.

(2)
إن وقائع الإرهاب الراهنة والفوضى السائدة يراد منها إعطاء الانطباع وكأن حكومة بغداد عاجزة عن تحقيق خطتها الأمنية ومشروع المصالحة الوطنية وإعادة إعمار البلاد, وبالتالي نشر وتكريس الإحباط في كل مكان لتأمين الأجواء المناسبة لجر المزيد من البشر إلى صف المعارضة المسلحة وقوى الإرهاب الدموي. وفي الحقيقة لم يتم إحراز خطوات كبيرة على هذا الطريق. كما تبدو الحكومة ضعيفة ومشلولة اليد في مقارعة المليشيات المسلحة الطائفية العاملة خارج القانون. ومما يزيد في الطين بلة الأخطاء الكبيرة التي ترتكبها القوات الأمريكية في العراق التي تتشابك مع سياساتها غير العقلانية في منطقة الشرق والتي تقود بدورها إلى مزيد من التفاقم في الوضع العام المحيط بالعراق.
هذا التوصيف المكثف للواقع العراقي الراهن يعني أن المجتمع والإنسان العراقي بشكل عام يعاني من خراب فكري وسياسي ونفسي وعصبي في آن واحد, كما أن القيم الإيجابية التي تكونت وتبلورت في العقود التي سبقت مجيء البعث إلى السلطة وباتجاه إقامة المجتمع المدني قد ضاعت في خضم القيم غير الإنسانية والسيئة والسلبية التي نشرتها وكرستها الدكتاتورية الشمولية لحزب البعث ورأس النظام المخلوع صدام حسين. وهذا يعني بصراحة أن الجهد المركزي يفترض أن يتوجه صوب إعادة بناء وتأهيل الإنسان العراقي, إذ أصبحت الاتجاهات الغيبية والكثير من المؤسسات الدينية غير المتنورة ورجال دين غير متنورين تهيمن على أذهان الفرد العراقي وتتقاذفه يمنة ويسرة ولا يدري كيف يتعامل بعقلانية وواقعية مع الأوضاع الناشئة منذ سقوط الدكتاتورية.

(3)
والمشكلة في هذا الصدد, إلى جانب الإرهاب والتمييز الطائفي ووجود المليشيات المسلحة ونقص الخدمات, تبرز في كون المفاصل الأساسية للتربية والتعليم والثقافة والإعلام ما تزال بأيدي قوى سياسية تدفع باتجاه مواصلة سياسة تشديد الانغلاق العقلي للناس وممارسة نهج يتميز بالعنف والقسوة والانتقام أو الثأر وعدم الحرص على الإنسان وحياته ورفض الاعتراف بالآخر وعدم التسامح, فهو نهج يتضمن مزيجاً من ماضي العقود الأربعة المنصرمة وما قبلها, ومن رؤية دينية وسياسية رجعية غير متنورة إزاء فعل العقل والإنسان والمجتمع والمرأة بشكل خاص. ومثل هذه الوجهة الارتدادية لا تمارسها غالبية المؤسسات الدينية الشيعية وجمهرة كبيرة من رجال الدين الشيعة فحسب, بل تشمل كذلك المؤسسات الدينية السنية وجمهرة كبيرة من رجال الدين السنة, إضافة إلى تلك المواقع التي ما يزال البعث يمارس تأثيره الفكري والسياسي فيها وعليها.

(4)
ومما يزيد في الأمر سوءاً حالة الضعف الشديدة التي تعاني منها قوى التيار الديمقراطي العربي وعجزها عن التأثير الفعال في الأحداث والساحة السياسية العراقية من جهة, وعجزها الملموس حتى الآن عن تجديد وتحديث أحزابها وتنظيماتها السياسية وفكرها وخطابها السياسي وعلاقاتها المتبادلة والإحساس الفارغ بالقوة والقدرة والتخلف عن مراجعة جادة لسياساتها ومواقفها السابقة لاستخلاص الدروس منها وإصرارها على أسسها التنظيمية السابقة التي برهنت عن فشلها وعدم ديمقراطيتها من جهة أخرى, إضافة إلى ضعف فعلي في مجالات التعاون والتنسيق بين قوى هذا التيار وقوى التيار الديمقراطي في كردستان العراق المتمثلة في قائمة التحالف الكردستانية من جهة ثالثة. ولا يجوز تحميل قوى التيار الديمقراطي العربية, رغم جدية نواقصها ومسؤوليتها, وحدها مسؤولية ذلك, بل تتحمله أيضاً وجهة عمل ونشاط وعلاقات قوى التيار الديمقراطي الكردستانية خلال السنوات المنصرمة. وتسببت هذه الظاهرة السلبية في ارتفاع شكوى قوى التيار الديمقراطي العربي من قائمة التحالف الكردستانية وتزعزعت الثقة المتبادلة بينهما بدلاً من تعزيزها, كما جاءت لحساب قوى التيار الإسلامي السياسي السنية منها والشيعية. ولا شك في أن استمرار هذا الوضع سيخلق تداعيات جديدة لا بد من تجاوزها عبر الحوارات بين قوى التيارين الديمقراطيين العربية والكردية.

(5)
في مثل هذه الأوضاع المتوترة والدموية يصعب التفكير في وضع وتنفيذ استراتيجية تنموية تستهدف تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي على صعيد كل العراق, إذ تتطلب استراتيجية التنمية الشاملة للعراق, سواء أكان ذلك من ناحية الفكر التنموي أم ناحية سياسات التطبيق وتوفير مستلزمات وضعها وإقرارها وتنفيذها ومتابعة التنفيذ, وضعاً أمنياً عالياً مقروناً بتوفر الحرية والحياة والمؤسسات الديمقراطية والقدرة على ممارستهما فعلاً, بما في ذلك الحرية الفكرية وحرية التعبير والمشاركة في الحوار من جانب جمهرة كبيرة جداً من الخبراء والمختصين في مختلف الاختصاصات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية والثقافية والفنية والبيئية دون خشية الوقوع ضحية القوى الإرهابية أو الاضطرار للهجرة, في وقت يواجه العراق قتل وتعويق وهجرة مستمرة لكوادره العلمية والتقنية والفنية وكثرة متنامية من مثقفيه وحملة الشهادات العالية.

(6)
وإزاء هذا الوضع يتطلب الأمر من الحكومة الاتحادية العراقية ومن حكومة كردستان, وكذا المحافظات, أن يتوجهوا في تفكيرهم وأن يمارسوا نشاطهم في مجال التنمية باتجاهين:
1. أن تكون هناك عملية تنمية تستند إلى استراتيجية عقلانية لإقليم كردستان تقوم بها حكومة الإقليم, حيث يسود الهدوء الأمني والاستقرار وتتوفر إمكانية وضع وتنفيذ مشاريع اقتصادية واجتماعية على المستويين المتوسط والبعيد المدى, إضافة إلى المدى القريب أو الجاري. ويمكن لإقليم كردستان وبعض المحافظات العربية التي يسود فيها الهدوء النسبي, أن تنهض بأعباء إقامة مشاريع اقتصادية تدخل في إطار التصور التنموي الاستراتيجي مع التركيز على مشاريع إعادة الإعمار والخدمات العامة ومكافحة البطالة في المرحلة الأولى.
2. وضع برنامج اقتصادي وسياسي وأمني مؤقت يمتد إلى نهاية ولاية السيد الدكتور المالكي على صعيد القسم العربي من العراق, يتضمن ثلاثة أهداف تتماشى مع حاجات العراق الراهنة والمباشرة, وأعني بذلك:
أولاً: في مجال السياسة والأمن: تحقيق المصالحة الوطنية ومكافحة الإرهاب وإنهاء وجود المليشيات المسلحة ومكافحة الاختراقات في أجهزة الدولة, وخاصة الأمنية والعسكرية.
ثانياً: في مجال الاقتصاد: مكافحة البطالة وتوفير الخدمات وتحسين مستوى الرواتب والأجور.
ثالثاً: مكافحة الفساد المالي والإداري في المستويات العليا من أجهزة الدولة بشكل خاص, إذ أنها الغطاء الذي يحمي هذا الفساد وينشطه وينميه عملياً.

(7)
وفي المجال الاقتصادي يتعين علي الحكومة العراقية والمجتمع الاهتمام بما يلي خلال وضع وتنفيذ برنامج اقتصادي اجتماعي مؤقت:
1. التفكير بزيادة استخراج وتصدير النفط الخام وتوفير الأموال الضرورية لهذه الخطة التي لا تستهدف حالياً وبشكل مباشر تغيير بنية الاقتصاد الوطني والمجتمع, إذ أن هذه المهمة يمكن تأجيلها لعدة سنوات قادمة إلى حين استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار والسلام في العراق. وبالتالي توجيه موارد مالية لتأمين الخدمات وتحقيق المصالحة ومكافحة الإرهاب وحل المليشيات المسلحة.
2. العمل على تأمين تنفيذ مشاريع اقتصادية كثيرة وقصيرة الأمد وصغيرة قادرة على امتصاص نسبة عالية من البطالة الراهنة المنهكة للفرد والعائلة والمجتمع والمنشطة للإرهاب والفساد, وتأمين فرص عمل لتلك الجماعات الهامشية التي تعيش اليوم على هامش الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية وتعيش في حالة من الفقر والعوز والخراب الروحي والتأزم النفسي. ويمكن أن تتحقق هذه المهمة من خلال ممارسة سياسة مصرفية جديدة تسمح بمنح قروض صغيرة وكثيرة على صعيد العراق كله دون فائدة لتلك الجماعات الراغبة في العمل وقطاعي الإنتاج والخدمات, سواء أكان ذلك في الريف أم في المدينة. ويمكن استرجاعها بعد عشر سنوات مثلاً.
3. التركيز على توفير الخدمات الأساسية للسكان لا في بغداد فحسب, بل في سائر أنحاء العراق, التي ستساهم في إزالة حالة التذمر المتفاقمة في المجتمع وتعزز الثقة بالحكومة.
4. إقامة المزيد من مشاريع الطرق والجسور والبناء ومشاريع التخزين وتحسين القدرة التموينية للسوق التي في مقدورها استيعاب أكبر عدد ممكن من العاطلين عن العمل.

(8)
ويتطلب هذا الأمر:
• الموافقة على وضع رأسمال كبير من جانب الدولة تحت تصرف البنوك العراقية لتقديم القروض ذات المدى القصير والمتوسط وبدون فائدة لمن يسعى إلى إقامة مشاريع صغيرة تساهم في تشغيل المزيد من العاطلين عن العمل وتشارك في الإنتاج وتكوين الدخل القومي.
• الاستمرار في دعم البطاقة التموينية ودعم استهلاك الوقود (المشتقات النفطية), إذ أن أي تراجع عنهما في المرحلة الراهنة سيقود إلى عواقب سلبية حادة وتخدم قوى الإرهاب مباشرة. عندها لا يمكن للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن يقدما المساعدة للعراق في مقاومة الإرهاب.
• دعم جهود القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني للمشاركة في عملية إزالة أثار الدمار وإعادة بناء المشاريع الخدمية ومكافحة البطالة وتقديم المحفزات المناسبة في هذه المرحلة الحرجة.
• السعي إلى كسب رؤوس الأموال الإقليمية والدولية للتوظيف في الاقتصاد العراقي, إضافة إلى تنشيط الحصول على المساعدات المالية التي تقررت للعراق من قبل المانحين الدوليين. إن قانون الاستثمار الأجنبي الذي يوضع اليوم وفق شروط المرحلة الراهنة يمكن أن يتغير بعد خمس أو عشر سنوات, وفق التحولات الجارية في العراق, أي أن لا يكون هناك أي تشديد في هذا الإطار وكأن القوانين لا يمكن تعديلها حين تستوجبها الضرورات الاقتصادية. وإذ ندعو إلى تشجيع ولوج رؤوس الأموال الأجنبية على الاقتصاد العراقي, فإننا ندرك المصاعب الجدية التي تعترض سبيل ذل, وخاصة إشكاليات الأمن وتدهور البنية التحتية الضرورية لأي عملية توظيف رأسمالية ناجحة.
• وضع حد للنهب والفساد المالي الذي تمارسه الشركات الأمريكية والشركات الأخرى المرتبطة بها في العراق, حيث أدت إلى تحميل العراق خسائر مالية كبيرة جداً وأعاقت إمكانية الاستفادة من تلك الأموال التي خصصت للعراق, إذ أنها صرفت على مجالات واستخدمت أساليب وطرق لم تساعد الاقتصاد والمجتمع في العراق على النهوض من كبوته الشديدة. إذ أن الأوضاع الاقتصادية المتردية يمكن أن تهدد مجمل العملية السياسية الجارية بالانهيار. كما يتطلب الأمر إجراء تغيير حقيقي في السياسة الأمريكية لا إزاء العراق فحسب, بل وإزاء منطقة الشرق الأوسط.

(9)
من هنا يتبين لنا بأن مكافحة الإرهاب ومكافحة البطالة وتحسين ظروف حياة ومعيشة الغالبية العظمى من السكان ومكافحة الفساد المالي والإداري العراقي والأجنبي وتوفير الخدمات ومكافحة الطائفية السياسية المستفحلة وحل المليشيات المسلحة ونزع أسلحتها فوراً وكسب ثقة الشعب بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والسياسية, هي المهمات المركزية الأكثر إلحاحاً التي تواجه القسم العربي من العراق في المرحلة الراهنة وخلال السنوات الأربع القادمة, إذ أنها السبيل صوب تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز القدرات الأمنية والعسكرية وزيادة موارد النفط المالية هي الأدوات التي يمكن بها تحقيق النصر على القوى المناهضة للحياة الحرة والديمقراطية في العراق الفيدرالي الجديد. في حين يأخذ إقليم كردستان وبعض المحافظات التي يسودها الهدوء والاستقرار مهمة إقامة مشاريع اقتصادية واجتماعية ترتبط عضوياً بالبعد الاستراتيجي للتنمية الشاملة والمستديمة وتغيير بينة الاقتصاد والمجتمع.

(10)
ولا بد لنا من الإشارة المكثفة هنا إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في إقليم كردستان العراق. فرغم نجاح سلطة الإقليم في تأمين الأمن والاستقرار في ربوع الإقليم حتى الآن, إلا أنها لم تستطع تأمين عدة مسائل جوهرية تمس الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الإقليم, ومنها:
1. وضع برنامج اقتصادي اجتماعي يتضمن عملية إعادة أعمار كردستان وتحقيق التنمية المادية والبشرية المترابطة وفق أسس عقلانية تساهم في رفع وتسريع معدلات النمو السنوية وتأخذ بالاعتبار حماية البيئة. إذ أن كل المعلومات المتوفرة تشير إلى وجود جهود غير قليلة ولكنها مبعثرة وغير منظمة وإلى غياب التنسيق وسيادة العفوية في إقامة المشاريع والبذخية في الصرف وانعدام الرقابة المحاسبية والرقابة النوعية وتفاقم البيروقراطية وغياب دور الإنسان المبادر والناقد, وكلها عوامل أساسية وضرورية لمعرفة ما ينجز وما يقدم للشعب في كردستان والارتفاع المنفلت للأسعار مع ثبات في الأجور والرواتب ومدخولات الفئات الفقيرة والكادحة. فحكومة كردستان لا تفتقد إلى نظام واضح لوضع وتنفيذ المشاريع الاقتصادية والاجتماعية فحسب, بل وتفتقد إلى نظام المتابعة والمحاسبة الاقتصادية واحترام قانون اقتصاد الوقت والإنتاجية وتنشيط الوزارات لإنجاز مهماتها بهمة ومسؤولية وثقة بالنفس وبالشعب وإلى غياب المشاركة الديمقراطية للناس فيها.
2. إن حكومتي الإقليم, وقبل وحدتهما الأخيرة, لم تسعيا إلى توفير الخدمات الأساسية والضرورية التي تنسجم مع حاجات ومتطلبات الحياة لمواطنات ومواطني كردستان, وخاصة إشكاليات الكهرباء والماء والنقل وغيرها, في حين تتوفر الموارد المالية الضرورية والمستلزمات الأخرى لهذا الغرض, كما لم تبذل الحكومتان السابقتان الجهود المرجوة والضرورية لمكافحة البطالة في الإقليم, وخاصة تلك البطالة المقنعة المرتبطة بأغراض المنافسة السياسية بين الحزبين الرئيسيين الحاكمين.
3. ووفق ما ينشر في كردستان وفي الخارج من معلومات, فأن كردستان تواجه فساداً مالياً وإدارياً وحزبياً لا يتناغم مع وجود أحزاب وقوى سياسية وطنية في السلطة يهمها سيادة القانون واحترام المال العام ومصالح الشعب.
4. كما أن الإقليم قد توجه صوب زيادة عدد الجامعات, ولكنه لم يبد الاهتمام الضروري بثلاث مسائل مركزية في هذا الصدد (ينطبق هذا الأمر على بقية محافظات العراق في الوسط والجنوب أيضاً):
a. ضعف الاهتمام بإعادة تكوين الإنسان التي تتطلب إعادة النظر بنوعية التربية والتعليم ونشر الثقافة الحرة والمفتوحة والديمقراطية في جميع مراحل التعليم والدراسة والمجتمع وتوفير مستلزمات تطوير التربية والتعليم وخاصة التعليم المهني والفني, إضافة إلى زيادة سنوات التعليم الإلزامي من ست سنوات إلى تسع أو عشر سنوات.
b. عدم الربط الضروري بين التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية أي وجهة التنمية الاقتصادية ونوعية التعليم والثقافة, مع أهمية التوسع الأفقي.
c. ضعف الاهتمام بمراكز البحث العلمي والتقني الحديث بالارتباط مع الثورة المعلوماتية الجارية وأهمية التوسع في شبكة الانترنيت وما يساعد على إيصالها السريع والرخيص النوعية الجيدة للسكان.
ولا بد من تجاوز هذه النواقص من خلال رصد مبالغ كبيرة ونسبة مهمة من ميزانية الإقليم لصالح التربية والتعليم والثقافة بمعناها الواسع والمتعدد الجوانب, على أن يبدأ الاهتمام بالطفل منذ رياض الأطفال والمدرسة وبقية مراحل وتنوع الدراسة. إنها مهمة مركزية من مهمات حكومة الإقليم خلال هذه الفترة والعقود القادمة. إن رؤوس الأموال التي توجه لإعادة تكوين وبناء وتأهيل الإنسان تعطي ثمارها الكبيرة بعد سنوات غير قليلة, من هنا تنشأ الحاجة الملحة بالبدء منذ الآن لتأمين ذلك.
5. إن إقليم كردستان بحاجة إلى البدء بتطوير صناعة الخدمات المتقدمة ذات التوظيف الرأسمالي العالي إلى جانب تطوير الإنتاج الصناعي الصغير لزيادة التشغيل والإنتاج وتكوين الدخل القومي. وسيكون للصناعات الأولى دور فعال في مجمل اقتصاد العراقي ويمكنها أن تمارس الدور الطليعي في هذا الصدد. إن إقليم كردستان بحاجة إلى التحديث والمبادرة والإبداع في مجمل العملية الاقتصادية التي تشمل جميع جوانب الحياة, أي أنها بحاجة إلى كسر طوق التخلف بالحداثة في ما يخص الإنسان ووسائل إنتاجه.

(11)
وحين نشير إلى بعض مشاكل الإقليم, لا تغيب عن بالنا مسألتين مهمتين, وهما:
أ‌. لا يمكن مقارنة الوضع الأمن والمستقر في إقليم كردستان وما تحقق من منجزات نسبية لمجتمع بشكل عام مع أوضاع المجتمع في القسم العربي من العراق وما يجري حتى الآن, مع إدراكنا أيضاً بأن الحكم الوطني في كردستان بدأ مع نهاية 1991, في حين كان القسم العربي من العراق تحت الهيمنة الصدامية الدموية حتى العام 2003.
ب‌. وندرك أيضاً دور الصراعات السياسية والمسلحة التي نشبت بين الحزبين الحاكمين في التسعينات من القرن الماضي ونشوء حكومتين في كل من أربيل والسليمانية وما نشأ عن كل ذلك من مشكلات أعاقت التنمية الموحدة للإقليم, وعواقبها ستبقى تعيق العمل التنموي والتطوير المشترك لفترة أخرى من الزمن. وهذا يعني أن على حكومة الوحدة الجديدة أن تبدأ بوضع وتنفيذ سياسة جديدة قادرة على معالجة المشكلات القائمة وإزالة حالة التذمر المتزايد في إقليم كردستان,
(12)
ت‌. وعلينا أن نؤكد بأن الواقع الموصوف سابقاً وغيره, أوجد حالة تذمر متفاقمة في صفوف الشعب الكردي وعموم سكان كردستان, وخاصة في الأوساط الشعبية الفقيرة والكادحة التي تعاني من التخلف والبطالة ومن ارتفاع الأسعار وقلة الدخل اليومي, والتي كانت باستمرار وما تزال متضررة. ويبدو التذمر واضحاً في عدد من الإضرابات والمظاهرات والصدامات مع الشرطة وأجهزة الأمن والتي يمكن أن تتزايد, كما يمكن أن تستثمر من جانب القوى المتطرفة, وخاصة الإسلامية السياسية. كما أنها تتجلى في التصريحات التي يطلقها بعض المسؤولين والإجراءات التي تحاول أن تتخذها قيادات الأحزاب السياسية التي تمارس العملية السياسية والحكم في كردستان للتغلب على المصاعب القائمة, والتي لم تعط ثمارها المرجوة حتى الآن. وعلينا أن نؤكد من التجارب والخبرات السابقة إلى أن استمرار الوضع الراهن يمكن أن ينشط الصراع والنزاع الاجتماعي وينقله من جديد إلى سياسة الحزبين الرئيسين في الإقليم, والعكس صحيح أيضاً.

(13)
وعلينا جميعاً أن نعي بأن الأمن وحده لا يمكن أن يوفر الحرية والديمقراطية للناس, كما أن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان تختفي بغياب الأمن والاستقرار. ومن هنا يفترض أن نتعامل بوعي ومسؤولية مع التشابك والتكامل والتفاعل القائم بين الأمن والاستقرار وبين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتوفير الخدمات الضرورية وفرص العمل للناس ومكافحة الفساد وتقليص الفجوة بين مستوى دخل وحياة ومعيشة الأغنياء والفقراء في المجتمع الكردستاني ...الخ, إذ أن سياسة حكيمة وواقعية هي التي سيكون في مقدورها تعزيز الحكم الديمقراطي من جهة, وتحسين وتطوير العلاقة بين الشعب بكل مكوناته ومشاركته في عملية تغيير الاقتصاد والمجتمع والثقافة من جهة أخرى, وبين دور كل من الأحزاب السياسية الحاكمة والحكومة من جهة ثالثة. إن مسؤولي الحكم في إقليم كردستان, وكما أرى, لم يستثمروا حتى الآن بصورة فعالة وكافية وواعية الموارد المالية والطاقات البشرية والفنية والإمكانيات الكامنة في الشعب الكردستاني بكل مكوناته والمتوفرة لديهم لوضع وتنفيذ عملية تنمية واسعة ومدروسة وسليمة. وهو الخلل الكبير الذي يفترض أن يشخص ويعالج ضمن مجموعة أخرى من الاختلالات التي يمكن أن تؤثر بصورة سلبية على مجمل العلاقة بين الحكم والمجتمع. وهو ما لا يجوز حصوله, إذ تدهور العلاقة لا يخدم إقليم كردستان أولاً وعموم العراق ثانياً.
(14)
إن الإشكالية التي تواجه الحكم في كردستان, ومعه قوى قائمة التحالف الكردستانية, تكمن في أنها ليست وحدها العاملة في الساحة السياسية بل أن هناك قوى سياسية تقدم برامج عمل للتغيير واستثمار النواقص والأخطاء في العملية الجارية حالياً, ولديها أساليب وأدوات ومناهج خاصة للعمل. فإلى جانب قوى التحالف الكردستاني توجد القوى الإسلامية السياسية ذات الاتجاهات المعتدلة والمتطرفة والإرهابية التي أصبحت تتحرك على نطاق أوسع من السابق وتحرز نجاحات على الأرض وتمارس أساليب جديدة في العمل الاجتماعي للوصول إلى الناس, وهي تعد نفسها لدور أكبر وأوسع في السلطة أو خارجها. وأن هناك دولاً مجاورة تساند هذا الجهد بكل السبل. فهل ستبقى حكومة الإقليم تعتقد بأن ليس هناك من يحل محلها, دون أن تمعن النظر في العوامل والقوانين الموضوعية التي تفعل فعلها بمعزل عن إرادتنا, إذ عندها لن تنفع أساليب الأمن والعنف في مواجهتها إن توفرت مستلزمات تنامي دور ونشاط تلك القوى المناهض للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والفيدرالية في إقليم كردستان؟
إن التعامل باستخفاف مع هذه الظاهرة أو نسيان عواقبها المحتملة هو العامل الذي يمكن أن يلحق أفدح الأضرار بالمسيرة الديمقراطية المرجوة لإقليم كردستان. إن تشخيص الواقع ووضع اليد على مواقع الجراح, يمكن أن تكون البداية لمعالجتها. وهو ما نأمل ونتوقع أن يتحقق في إقليم كردستان.
في 27/10/2006 كاظم حبيب

* ألقيت هذه المداخلة في مؤتمر دعم الديمقراطية بلندن بتاريخ 27/10/2006, مؤتمر حول "الدولة المدنية الاتحادية والسلم الأهلي في العراق".



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحداث العمارة وناقوس الخطر المتكرر!
- ميليشيات جيش المهدي والدولة العراقية الجديدة!
- هل الشعب العراقي عظيم دون الشعوب الأخرى؟
- هل من علاقة جدلية بين العولمة والسياسات العولمية للدول الرأس ...
- رسالة مفتوحة إلى سماحة السيد مقتدى الصدر!
- جيش المهدي والكارثة المحدقة!
- ليتواصل الحوار حول القضايا العراقية الساخنة مع الزميل الدكتو ...
- ممارسة حق تقرير المصير للشعب الكردي وتهديد البعض المستمر بال ...
- ولاية الفقيه إلى أين؟
- الدكتور جلبير الأشقر والوضع الراهن في العراق!
- القشطيني والمؤمنون الحلويون!
- هل القسوة والعنف والإرهاب نتاج طبيعي للأصولية السلفية المتطر ...
- هل من حلول عملية لأزمة السودان الشاملة؟
- هل من علاقة بين قوى مقتدى الصدر وجيش المهدي والحوزة الدينية؟
- البابا والغضب والعنف الذي تفجر من جديد!
- الدكتاتور صدام حسين ومجازر الأنفال والقاضي العامري!
- حوار مع الأستاذ الدكتور منذر الفضل حول فيدرالية لوسط والجنوب
- الفيدرالية والفتاوى الدينية!
- هل من جدوى لغلق مكاتب العربية في بغداد؟
- ما مدى الصدق والعقلانية في موقف الرئيس البارزاني في إنزال ال ...


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن في العراق وبعض مهمات المرحلة