|
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1718 - 2006 / 10 / 29 - 11:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
جبلُ الخليقة ، مدينة ُ الجنة
تتواصلُ حومَة الزرياب في سمائه الأولى ، الأكثر قرباً لجبل الخليقة وسفحه ؛ أين تترامى على إمتداد البصر ، مشهدُ أقدم حواضر الدنيا : دمشق ، الشام ، جلّق ، جيرون ، الفيحاء ، بمسمياتها السامية والعربية ؛ وهي أيضاً ، العذراءُ ، بسِمَة الرومان الذين وهبوها آلهتهم الحامية " مينرفا " .. سَمّها ، إذاً ، ما شئت ! عذراءٌ ، خصرها الرشيق تزنره الجبالُ ، كأسوار خرافية ؛ الغوطة ُ شعرها الكثيف ، الأخضر المحمرّ بثمار الشجر ؛ والنهرُ فضة الجسد العذريّ ، الأبهى ؛ فضة ، أيضاً ، في العمائر المتداخلة مع الخضرة ؛ في المنائر المرتفعة ، المشرعة للأفق كرماح محلّقة . ثمة ، في إنعكاس أشعة الشمس على المشهد الصباحيّ ؛ المشهد المفتوح لعينيكَ ، أنت المستند إلى صخرة من صخور الجبل القيامة. وها أنتَ ، في نقطة إنطلاقك الأكثر علواً ، متأهبٌ للشروع في جولة اخرى ؛ تهيمنُ من موقفك على المشهد الآسر ، وإطلالة " قاسيون " مهيمنة عليك . ربما جازَ لك ، آنئذ ، التساؤل عن مغزى إختيار أسلافك لهذا الجبل : أهيَ محض مصادفة أم إحدى ألعاب القدَر ، أن نرحل من جبل إلى جبل ومن شمال إلى آخر ؟ ربما هي حسابات أسلافنا ، اولئك ، المبنية على ما وعدهم به الرسولُ من حسن الختام ؛ ما دامت قيامة الله ستكون في الشام : " وإليها يُجتبى الصفوة من عباده " ، بحسب الحديث النبويّ عن إبن حوالة .. ؟
أياً كان الأمرُ ، فجبل قاسيون ، على زعم الأساطير والعقائد ، هو مهد الخليقة وقيامتها . وهذا رحالتنا الأشهر ، إبن بطوطة ، يدخل الشام فيسأل عابر سبيل يصادفه ، عن الوصول إلى الجبل ومغره المقدسة : " وهو في شمال المدينة والصالحية في جنوبه ، وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء . ومن مشاهده الكريمة الغار الذي ولد فيه إبراهيم الخليل ، وبالقرب منه مغارة الدم وفوقها بالجبل دم هابيل على الحجارة . ومنها كهف بأعلى الجبل ينسب لآدم عليه السلام وأسفل منه مغارة الجوع " (1 ) . وشاءت إعتقادات الأولين أن تفسر ، وفقاً لتلك الأساطير ، منشأ تسمية المدينة ؛ فمنهم من طلع لنا بإسم " دمشق بن نمرود " ؛ أي أنّ والده هو الملك المشهور في التوراة كخصم لإبراهيم الخليل . والبعض الآخر قال ، بل إن " دمشق " هو غلام أبي الأنبياء ، إبراهيم .. والعلمُ ، إذاً ، عند هذا الأخير ، بعدَ الله !
أنحي الأساطير جانباً ، وألتفتُ إلى واقع جولتي ، المتخذة مساراً جديداً . أجدني أنتقل من الطريق السلطاني ، المرصوف بأثر خطى الأسلاف ، إلى طريق آخر أكثر جدّة ومعبّد بالإسمنت : إنه شارع " إبن النفيس " ، المستحدث في الخمسينات من القرن المنصرم والموصل حي ركن الدين بمركز المدينة ؛ والذي يوصلنا ، أيضاً ، بالعصر الأيوبيّ وطبيبه الأشهر ، إبن النفيس ؛ صاحب الدراسات المهمة في مجالات التنفس والدورة الدموية ، بعلامة فائدتها لأطباء الشرق والغرب خلال العصور الوسطى . ومن الشارع التليد ، إنحداراً هيناً نحو " شارع الميسات " ؛ المنسوب لأشجار المَيْس ، ذات الثمر العجيب بقشرته الصلدة السوداء اللون وطعمها الحلو المزّ . تتوسّط الشارع مستديرة فارهة ، هي " ساحة حطين " ؛ بإسمها المتقمّص ، أيضاً ، لماض ٍ أيوبيّ مجيدٍ ، ما فتيء كصناجة يردد صداها عصرنا الحاضر . ومثلما كانت موقعة حطين ، فاصلة ً في التاريخ ، كذلك " موقع " سميتها ، الساحة ؛ بكونها بوابة الحيّ وواسطته إلى بقية الأحياء داخل وخارج الأسوار . الساحة ُ تحاوط ُ قبة ً مهيبة بحجمها وأناقة هندستها الأيوبية / المملوكية : ها هنا مرقد " ستي حفيظة " ، حاميَة حي الأكراد ، والأكثر شهرة بين نسائه على مرّ الزمن ؛ ستي حفيظة ، أو الحافظة ، نسبة ً لتفقهها بالقرآن والحديث ؛ هذه المرأة ، الغامضة ، بسيرتها المجهولة بالنسبة للأهلين ، حتى أنها أضحت أسطورة من تخلّقات خيالهم : إنها عائشة الباعونية الصالحانية ، الصوفية الدمشقية ، والشاعرة المجيدة قبل كل شيء ؛ ها هنا مقامها الموصود بابه بفظاظة قطع الطوب والإسمنت ، تحدقُ به هولاتُ أبنيةٍ حديثة شاهقةٍ ، من زمن اللا شِعر ، هذا ! في وحشتها هذه ، كأنما قدّر لها أن يكون مقام " الشيخ العفيف " حارساً مؤانساً ؛ المقامُ المتبقي منه أطلال أعمدة وأقواس حجرية ، تحاوط الضريح المتأنق ، المكشوف لعين السماء والمظلل بأشجار الصفصاف الوارفة ، المادّة جذورها حتى أعماق النهير المجاور . بَيْد أنّ اللوحة المثبتة بواجهة الضريح ، والمسجل فيها إسم " المدرسة الشبلية " ، أحارني لوهلة في ما يخصّ هوية الصاحب الحقيقي لهذا المقام . وفيما بعد ، تسنى لي أن أطالع في التواريخ ما غمض من أمر هذه المعضلة ؛ وفيها أن شبل الدولة الحسامي ، الطواشي المملوكي وأحد حكام مدينة " سنجار " ، العريقة ، كان قد أوصى بدفنه في هذه المدرسة ، والتي حملت منذئذ إسمه (2) .
قلنا أنّ مقاميْ ستي حفيظة وشيخنا العفيف ، المتجاوريْن ، يحاذيهما نهيْرٌ تستقى من مياهه جذورُ الأشجار المظللة المكان . إنه " يزيد " ، أحد الأبناء السبعة لنهر " بردى " ؛ الأب الدمشقيّ الخالد ، الأكثر ذكراً في قصائد الشعراء والمغنين . فمن هذه البقعة ، المكتنفة ببوح بعيد من شذرات " الباعونية " ، يتنوّق النهير صعوداً حتى يصبح موازياً لشارع إبن النفيس ، مخترقاً حيّ ركن الدين إلى أن يتلاشى في البساتين الكثيفة ، وفيها الكروم النادرة للصبار ؛ المتلاشية بدورها ، أبداً ، تحت الخرسانة الهائلة المشكلة قاعدة حيّ " مساكن برزة " ، الأحدث عهداً . يقالُ ، دونما سند تاريخي مثبت ، أن الخليفة الأموي يزيد الأول ، الطاغية ، أو ربما خليفته ، الماجن ، يزيد الثاني ، من أعطى إسمه لهذا النهير النحيل ، الشحيح صيفاً ، في زمننا ، حدّ الجفاف . أمويون ؛ حكموا الدنيا " من بستان هشام " ؛ كما في إنشاد فيروز لكلمات الشاعر سعيد عقل ؛ أمويون ، إندثرت أوابدهم جميعاً ، اللهمّ إلاّ " قصر الخضراء " ، المكتشفة أساساته خلف الجامع الكبير ، الذي يحمل إسم سلالتهم ؛ السلالة المنكرة لقريش وبواديها ، مستبدلة بها حاضرة البيزنطيين ، دمشق ؛ جاعلة منها في أوج مدّ موجة فتحهم ، منارة بحر المتوسط ، ومضاهية للقسطنطينية . وما فتئت عالمية العاصمة الأموية متبدية في فسيفساء ساكنيها وعمائرها .
هي ذي أطياف الأسوار القديمة ، المحدِدة في أزمان غابرة ، شكلَ دمشق القديمة . سهمُ جولتي مريّشٌ نحو حجارتها اللا مرئية ، فيسيل من جرحها شلالٌ من خمور رومانية وبيزنطية ، معتقة . أسوارٌ جريحة ، غير مرئية ، تقتنصها نبال مخيلتي ، واخرى لا تقلّ وهماً رغم ماديتها ؛ متداعية متآكلة في بعض الأماكن ، أو ما تزال محافظة على رونقها ، كما في الحيّ المسيحيّ الممتد بين " باب توما " و " باب شرقي " ؛ الحيّ الذي نجا بأسواره وأهله من التدمير والجزر ، لدى إجتياح العباسيين لحاضرة بني أمية . ما من ريب أن الرمز الموحي به إسمُ دمشق ، كأول إمبراطورية عربية إنتهضت على أنقاض الحضارة الإيرانية وعلى أشلاء أئمة وشيعة آل البيت ، ليفسر لدينا الحقد المدمر الذي أنزله بها العسكر الخراساني الموالي لبني العباس . ولن تعود المدينة إلى دورها الرياديّ ، كعاصمة عالمية ، إلا بعد أربعة قرون اخرى ؛ مع ظهور صلاح الدين .
حجارتها مفرداتي ، بيوتها أبياتي
مشهد المدينة القديمة ، المبهم والمتجهم ، كما يتجلى للناظر من فوق جبلها ، بفعل سحابة السخام ، الملوثة ، المحلقة فوق الأجواء ؛ هذا المشهد يغدو أكثر بهاءً لمتأمله من على أسوار الجامع الأموي ، الشاهقة . على أنّ سحابة اخرى ، تتراءى فوق المشهد ذاته ، مشكلة من جلبة الشوارع والأسواق والأزقة ، الصخابة بعرباتها وناسها ؛ كما لو أنها جوقة مريدين تتحلّق حول مولاها ، " المسجد الأمويّ " ؛ جوقة ٌ متبدد صخبها ، دفعة واحدة ، في حضور آذان منشده . بيْد أنّ لليل المدينة منشدٌ آخر ، ينفضّ معه المريدون من حضرة التقى إلى حضرة الشبق ؛ مولاهم " الميدانيّ " ببزقه الشجيّ ، يلم ثمالتهم المتهافتة مع هتافه : " الشام شامة على الدنيا ، لولا المظالم فوق المدن جنة " ؛ هتافُ الحاضرة المتمدنة ، بوجه أسيادها الريفيين ، الجلفين . هي ذي القلعة ، متفتحة كوردة ليلية ، معبّقة بأريج الماضي المعتق ، المتداخل مع شذا الغوطة والنهر والجبل ؛ مسبلة بتلات أبراجها الإثني عشر على أسواق " الحميدية " و " البزورية " و " الكلاسة " ؛ قلعة صلاح الدين ، ليست حصن المدينة الحصين ، حسبُ : " إنها تساوي متحف اللوفر في باريس " ، يقولُ مهندس المدن ، الفرنسيّ ، " ايكوشار " (3). هي المختزنة بعبقها مجدَ الأيوبيين ؛ سورها المربع ، أبراجها ، قصرها ، إيوانها ، سوقها ، حماماتها ، مساجدها ، حدائقها .. وسجنها ، الذي أضحى في الزمن الغاشم ، المعاصر ، السمة الوحيدة لهذا المنجز المعماريّ الرائع ، وبقي كذلك إلى أن تم نقل سجنائه وسجانيه ، مؤخراً ، إلى بقعة اخرى ؛ لتعود القلعة إلى رونقها السابق إثر عملية ترميم شاملة .
أتدرجُ بإزاء سور الجامع الكبير ، على درب " الكلاسة " الموصل بين قلعة صلاح الدين ومقامه . ها هنا زقاقٌ معتمٌ ، بالكاد تمسّ أشعة الشمس أرضه الحجرية ؛ زقاقٌ صديقٌ ، رافقته عمراً . أتوقف في منتصفه ، قدّام دارين متقابليْن ، لكل منهما بابٌ خشبيّ ، آية في الزخرفة ؛ " الظاهرية " و " العادلية " ، المكتبتان العموميتان الذائعتا الصيت في العالم الناطق بالضاد ، وكذلك في عالم الإستشراق الغربي .. والسياحي . يشبه تصميم كل منهما ، المدارس الأيوبية / المملوكية ، المتناثرة في هذه الأرجاء . لنرَ ، أولاً ، مكامنَ " الظاهرية ". لندع الدور الأرضيّ وحجراته الرطبة ، المستعملة كقاعات للمطالعة وحفظ الكتب والإدارة ، ونصعد هوناً المرقى الحجريّ ، المودي إلى مقام السلطان المملوكي ، المرعب ، بيبرس . مدفنه ، والحق يقال ، جديرٌ بألقابه المكنى بها حياً : الملك الظاهر ، الناصر ، الغازي ، البندقداري .. ! و أيضاً ، مثل مدافن الأباطرة جميعاً ؛ فالزخارف المذهبة والجدران المغشاة بالفسيفساء والقبة المنحوتة ، باذخة كلها وبديعة . وما يهمنا معرفته عن هذه الدار الجميلة ، أنها كانت في البدء مِلكَ يمين نجم الدين أيوب ، والد صلاح الدين ؛ وكانت تعرف آنئذ بإسم مالكها الدمشقيّ ، الأول ، " دار العقيقي " . هنا ، إذاً ، ولد أولادُ أيوب ، وفيها كان مرتع الطفولة وملاعب الفتوة ؛ أبناء وبنات ، كبروا في جنة الأمويين ، وصاروا أمراءً وخواتين . يُقال ، على ذمة المؤرخين ، أنّ إختيار الملك الظاهر لهذه الدار الأيوبية ، كمدفن له ، ما كان إعتباطاً ؛ بل إن غرضاً سياسياً ، خلفه : فالمماليك ، من الآن وصاعداً ، سيخاطبون بألقاب الملوك .
بيت الطفولة ، ما أشدّ سطوتكَ . لأنتَ ملكٌ ، أيضاً . وأولاد أيوب ، ملوكاً وخواتين ، أوفياءٌ لذكريات " دار العقيقي " ، مهما أسحَقتْ بهم المقاديرُ : هذا أشهرهم ومؤسس دولتهم ، صلاح الدين ، يؤوب من مصر ، سلطاناً ، ليقيم في كنف الطفولة المستعادة ، ريثما ينتهي تجهيز إقامته الدائمة في القلعة ؛ وهي ذي شقيقته ، ربيعة خاتون ، تعود من كردستان بعيد وفاة زوجها الحاكم ، لتقضي بقية أيامها هنا ، في منزل العائلة القديم ؛ وكذلك الأمر مع شقيقهم ، الملك العادل ، الذي يختارُ مدرسته ، وبضمنها مقامه ، في لصق دار أبيه ، ذاتها ؛ المدرسة الكبرى ، المسماة اليوم ب " المكتبة العادلية ". يتشابه معمار هذه المدرسة مع " الظاهرية " ؛ ولا عجب في ذلك ، مادامتْ هي إبنة لها . على أنها في دور واحد ، تتميّز بقبة عظيمة ، تحتضن ضريحَ الملك العادل ، باني هذا الصرح . في الباحة ، لا بدّ أن يتجوّل المرء في الحديقة اللطيفة ، العبقة بأريج النارنج والأترج وغير ذلك من شجر الحمضيات ، الأثيرة لدى ساكني الدور الدمشقية . وربما سيتسنى للمتجول في ربوع المكان ، أيضاً ، إستحضار أحد رموزه ، الأشهر ؛ محمد كرد علي ، علامة عصره وصاحب المجلدات القيمة عن دمشق ؛ خططها وغوطتها وأدبها وتراثها ، فضلاً عن تأسيسه وترأسه لمجمعها العلميّ ، الذي كان مقره هنا ، في هذه المدرسة .
مقامُ صلاح الدين ، محجّ آخر للغرباء والسوّاح . تبدو منائر الجامع الأمويّ ، العملاقة ، المهيمنة على المكان ، حرساً سلطانياً مهيباً . قبة دقيقة ، نبيذية اللون ، تبرز رأسها خلل خضرة الخميلة المشجرة ، المزدلفة لكل داخل ٍ. داخلها ، من الضيق أنه يسبب حرجاً للزوار ، بتناكبهم وتزاحمهم في المسافة المحصورة بين ضريحيْ سلطاننا وإبن أخيه ، الملك الأشرف . بيْدَ أنّ ذلك يهون ، ما دمتَ على موعد مع مراقب الوقف ، العجوز الطريف ، الذي يستقبلكَ بترحاب الموظف البشوش ، المتأمل " بخشيشاً " لقاء معلومته التاريخية ، النادرة ، المتفوّه بها كما اللازمة الببغائية : " هذا قبرُ صلاح الدين ، وذاك قبرُ وزيره عماد الدين ! ". صلاح الدين ، وآمنا أيها العم الطيّب .. فمن هذا العماد الدين ، إذاً : الجوابُ ، نجدهُ عند المؤرخ النهضويّ ، جرجي زيدان ؛ فقد كانت روايته المعنونة " صلاح الدين الأيوبي " ، من الرواج على مرّ الأجيال ، أنّ بطلها المختلق ، عماد الدين ، أضحى شخصية حقيقية بنظر كثيرين من القراء ؛ حالُ صاحبنا مراقب المقام . أتأمل رسماً قديماً للسلطان ، مثبتاً على جدار المقام ، يقال أنه من وضع راهب قبطيّ . وهذا ال " بورتريه " ، فيما أعلم ، هو الأول من نوعه في الفنّ الإسلامي ؛ المقتصر بحسب تعاليم الشريعة الصارمة ، على نقوش الحيوان والأشياء : أهو تأثير الحروب الصليبية ، وما رافقها من تبادل حضاري بين الشرق والغرب ؟ أما الضريح الرخاميّ ، الفاخر ، الذي يضمّ تجاليد بطل الإسلام ، فقلائل منا ربما يعلمون أنه هدية من القيصر الألماني ، غليوم الثاني (4) . كان هذا العاهلُ في ذلك العام ( 1898 ) ، في زيارة ودية لصديقه الخليفة العثماني ، المخيف ، عبد الحميد ، فعرّج على الشام وبصحبته الناووس المرمريّ ، المبرهن على محبته للمسلمين ؛ العاهل نفسه ، الذي لم يجد ، آنذاك ، حرجاً في المعاونة على إخماد إنتفاضة أحفاد صلاح الدين ، في كردستان ، من خلال إرساله مستشاريه الكبار ( مولتكه وغيره ) ، لمساعدة العسكر التركي .
كانت الشمس الخريفية ، الواهنة ، تميل خلف جبل قاسيون ، لحظة إجتيازي لممشى مقبرة " الدحداح " ، المظللة بأشجارها ، كمثيلاتها من المدافن ، وبنكهة جنائزية ، رطبة . خرجت من الباب المطل على " شارع بغداد " ، متوجهاً صوب موقف الحافلات ، في طريقي إلى الحيّ . ثمة ، على ناصية الشارع ، قبة حائلة اللون ، مغسولة لتوها برذاذ المطر المتقطع إنهماره . إنها مدفن آل " منكورس " ، الذين منحوا المدينة أحد أبطالها في الحرب المقدسة مع الفرنجة ؛ ركن الدين منكورس ، صاحب المقام المعروف ، آنف الذكر ؛ والذي ، بدوره ، مَنحَ حيّنا الدمشقيّ ، الكرديّ ، إسمَهُ الأول :
هؤلاء الذين يتناثرُ في دروبنا خزفُ أبازيمهم فيمسي للطمي قرائنَ ؛ المتناسخونَ في كلّ قرنفل ، مُزدهٍ ، يُبوّبهُ زبرجَدُ النوافير الطائشة ؛ في ذؤاباتِ فطرياتٍ على صروح متداعية أفقدها الغزاة ُ نعمة َ ذاكرةِ الأسوار ؛ وفي المسالك المظلمة تصدى عجمَة ُ أصواتهم ، مشحونة ً بفصاحة شجنة لمنائر جوامع ٍ ؛ الذين ترفضّ أسرابُ نحلهم عن ضوعة مساكِبِ الهياكل المنحلّةِ : مجداً لهُمُ اولئكَ الملوك المتناسخونَ ، أيضاً ، في أسماء إناثنا وذكورنا ، ساحاتنا وجاداتنا ، مساجدنا ومدارسنا ، مقاماتنا وبساتيننا ( كلّ بستان ٍ إقطاعٌ ، كلّ وقفٍ وليّ ) وحيّنا الأيوبيّ هوَ أقلّ جدةٍ وموْجدَة ، على إسمكَ ركن الدين ؛ الذي يرنّ كصناجة ٍ تليقُ بأمير ٍ قائدٍ فلكيّ .
إشارات :
1 _ رحلة إبن بطوطة ، طبعة القاهرة 1967 ، ص 62 2 _ د . حسن شميساني ، مدينة سنجار _ بيروت 1983 ، ص 279 3 _ د. صفوح خيّر ، مدينة دمشق ( دراسة في جغرافية المدن ) _ دمشق 1982 ، ص 585 4 _ يوسف الحكيم ، سورية والعهد العثماني _ بيروت 1980 ، ص 38 * القسم الثاني من الفصل الأول لدراسة بعنوان ( ديباجَة جُلّق : معالمُ اللوحة الكردية الدمشقية )
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
-
زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
-
إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
-
أورهان باموك والإشكالية التركية
-
معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
-
العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
-
غزوة نوبل ، العربية
-
معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
-
مقامُ المواطَنة ، سورياً
-
الوحدة الوطنية ، المفقودة
-
حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
-
نصرُ الله والعَصابُ المُزمن للفاشية الأصولية
-
سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
-
خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
-
إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً
-
وليم إيغلتن ؛ مؤرخ الجمهورية الكردية الأولى
-
الثالوث غيرَ المقدّس
-
الحادي عشر من سبتمبر : خمسة أعوام من المعاناة
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
المزيد.....
-
بالتعاون مع العراق.. السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية
...
-
مسؤول إسرائيلي حول مقترح مصر للهدنة في غزة: نتنياهو لا يريد
...
-
بلينكن: الصين هي المورد رقم واحد لقطاع الصناعات العسكرية الر
...
-
ألمانيا - تعديلات مهمة في برنامج المساعدات الطلابية -بافوغ-
...
-
رصد حشود الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية على الحدود مع
...
-
-حزب الله-: استهدفنا موقع حبوشيت الإسرائيلي ومقر قيادة بثكن
...
-
-لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي
...
-
سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا
...
-
طعن فتاة إسرائيلية في تل أبيب وبن غفير يتعرض لحادثة بعد زيار
...
-
أطباق فلسطينية غيرتها الحرب وأمهات يبدعن في توفير الطعام
المزيد.....
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
-
آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس
...
/ سجاد حسن عواد
-
معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة
/ حسني البشبيشي
-
علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|