أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مهند طلال الاخرس - رغيف الثورة















المزيد.....

رغيف الثورة


مهند طلال الاخرس

الحوار المتمدن-العدد: 6604 - 2020 / 6 / 28 - 23:40
المحور: سيرة ذاتية
    


منذ النكبة نشأ لدى الشعب الفلسطيني مصطلحات وكلمات والفاظ وتعابير جديدة لم يكن يعهدها في حياتنا، كانت النكبة اولها واقساها، كانت النكبة الفعل والمصدر الاساس لكل الكلمات والمصطلحات الناشئة، كانت تلك الكلمات وفية في وجعها لمصدر الوجع الاول(النكبة).

كانت كل الكلمات والمصطلحات اللاحقة تُولد من رحم النكبة، كانت النكبة صاحبة رحم خصب، لم يكن رحم النكبة ودودا معنا لكنه كان ولودا يملأ الخيام صراخا وعويل، ويملأ الازقة شقاء منقطع النظير.

كانت النكبة أُما ولودا لكل اسمائنا واشيائنا...
كانت النكبة آخر عهدنا بالفرح واول ايام بؤسنا التي لا تنتهي...

من رحم النكبة جاء التشريد واللجوء وبه عرفنا المنافي والشتات، مع النكبة ولدت مصطلحات لم نكن نعي منها شيئا إلا وقع اقدام خفافيش الليل واذنابهم، مع النكبة عرفنا الخيانة والجاسوس والعروش والجيوش، وتعرفنا على كل انواع الحُكام وشتى اصناف الملوك، مع النكبة عرفنا البقجة والكارة والصندقة والوكالة وكرت المؤن، مع النكبة عرفنا بحق معنى الحنين ومعنى ان تبقى الذاكرة حية ...

"الحنين استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية:
الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة
هكذا يولد الحنين من كل حادئة جميلة
ولا يولد من جرح
فليس الحنين ذكرى
بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة
الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب
وللحنين أعراض جانبية منها
إدمان الخيال النظر الى الوراء
والحرج من رفع الكلفة مع الممكن
والإفراط في تحويل الحاضر الى ماض

الحنين ندبة في القلب
وبصمة بلد على الجسد
لكن لا أحد يحن الى جرحه
لا أحد يحن الى وجع أو كابوس
بل يحن الى ما قبله
الى زمن لا ألم فيه سوى ألم الملذات الاولى
التي تذوب كقطعة سكر في فنجان شاي
الى زمن فردوسي الصورة
والحنين نداء الناي للناي
لترميم الجهة التي كسرتها حوافر الخيل
في حملة عسكرية"

ومن رحم النكبة جائت الخيمة ولان الخيمة لا تعيش منفردة فقد تجمعت وتكاثرت واصبحت خيمات، كانت الخيمات كثيرة تليق بحجم خيباتنا ومآسينا المتلاحقة، لم يكتفي القدر بتلك الخيبات والخيمات، فأراد لها مكانا يليق بها، ويكون شاهدا على كل الذي حصل، وليكتمل المشهد منحتنا النكبة كل اسباب البؤس والشقاء والجوع والحرمان، ولأن اصل الحكاية لا يستقيم إلا بدور البطل الذي يرسم ويحدد معالم الطريق، ويكون وفيا لسيرة الاجداد والبلاد، ويصلح لان يكون السادن الامين والمؤتمن على اسرار الحكاية منذ البداية وحتى ساعة النصر، فكان ان وُلد المخيم...

في المخيم وجوه هائمة واقدام هشة تذروها الرياح وتتلاعب بها كيفما تشاء، في المخيم قلوب موجوعة وخطوات مكسورة تحنو على التراب وتسير على مهل، فهي منذ هذه اللحظة تعرف معنى ان تدوس اقدامها تراب ليس لها...

في المخيم تتمحور الحياة حول كرت المؤن، فالايام تقاس بكمية وحجم المؤن المُستلمة، والاوقات والمواعيد والمناسبات ترتبط بالمؤن وحضوره، وكذلك حجم النشاط التجاري في المخيم وكذلك سوق العرابيات والكارات.

كانت المؤن في المخيم تنظم حياة الناس حسب مواعيدها الخاصة، في المخيم كانت المؤن تقوم مقام الشمس بالنسبة للمجموعة الشمسية.

كان على كل عائلة في المخيم ان تنتدب احد ابنائها المخلصين لتلك المهمة المقدسة، تلك المهمة التي تنتظرها العائلة لتسد جوعها وينتظرها المخيم بفارغ الصبر.

تلك المهمة المقدسة كانت مهمتي الشاقة، وحين كنت اشكي وابكي من صعوبتها كان ابي يقول لي: تلك مهمة لا يقوم بها اي كان، تلك مهمة الزلام، وحين كانت جدتي ترادده بأنني صغير على هذا الشقاء، كان يستشيط غضبا، ويهزني من كتفي، ويقول، لا تستمع لها، انت زلمة الدار، فاهم يابا، انت زلمة الدار، وهذه المهمة مش لاي واحد بتنصرف، هذه المهمة بدهاش واحد كبير وطبرة، هذا المهمة بدها واحد زقرت، بيعرف يروح ويجي، وبيعرف يدبر حاله، هذه المهمة بدهاش رطرطة، بدها زلام، عارف شو يعني زلام...

تلك المهمة المقدسة كانت مهمتي الشاقة بالاضافة الى المهمة الدائمة"رغيف الثورة"، وهذه المهمة الدائمة كانت مهمتي الاثيرة والتي بقيت تلاحقني على طول العمر كالصغير الذي لا يريد لنفسه ان يكبر، كان هذا الصغير كلما رآني اكبُر ابتعد عني، كان هذا الصغير بداخي على علم يقين ان عمر هذا المخيم سيزيد ويشيخ ويكبر، كان هذا الصغير على علم يقين بأنه كلما تقدم به العمر سيبتعد عن الوطن اكثر، كان هذا الصغير يعلم ان كل يوم يمضي يبتعد الحلم اكثر، كان هذا الصغير يعلم ان لا هوية لنا إلا الخيام، اذا احترقت ضاع منا الوطن...

طلب ابي ان التزم بهاتين المهمتين في ظل غيابه، وان اقوم بايصال "فرش الثورة" بشكل يومي الى المعسكر، حينها فقط عرفت ان تلك البطانية التي كنت اتغطى بها ليلا وتغادر خيمتنا نهارا، هي نفسها تلك البطانية المتواجدة في مخبز مطيع في منطقة القدس وابو زهرة العنابي في منطقة نابلس وابو الوليد اشتيوي قرب روضة نابلس وقحاوش وابو علي العجوري خلف السوق ومخبز ابو توفيق وابو زيتون في منطقة الكرامة واللحام وابو زيد في السوق وابو رضوان خلف جامع القدس.... وفي كل مخبز من مخابز المخيم، كان المخيم يومها ملكا لكل ابنائه ولمحبيه...والكل للثورة...

كان الاهالي حين قدومهم لتلك المخابز من اجل تجهيز خبيزهم بالفرن لا ينسون حصة الثورة، كانت حصة الثورة كحصة ابنائهم، كان الجميع يتبرع برغيفٍ للثورة، كانوا يضعونه دائما على فرش خشبي موجود امام بيت النار مخصصا لهذه الغاية.

تلك البطانية التي احملها لم تكن لوحدها، كانت هناك بطانيات كثر مثلها تأتي من كل المخابز في المخيم، ويحملها فتية بعمري يحبون بكرة وينتظرونه بفارغ الصبر.

تلك البطانيات ذات المصدر الواحد(المؤن) كانت متشابهة وتؤدي مهام متعددة؛ ففي الليل يتغطى بها اللاجئون في المخيم، ويلف بها لجن العجين ويجلل حتى يختمر،
وهي نفسها الموجود في المخابز لكي يوضع عليها رغيف الثورة، وهي نفسها التي نحملها لتشكل حجتنا الدائمة للتواجد في المعسكر، وهي نفسها التي ما ان تُحضر للمعسكر رغيف الثورة يجلس الشباب حولها ليتدربوا على السلاح، هؤلاء كانوا هم الفدائيون....حينها فقط ادركت تماما معنى ان فلسطين ليست بالبعيدة او القريبة؛ انها فقط مسافة الثورة...

في المعسكر كانت البطانية تقوم مقام اللوح او الصبورة في المدرسة حيث يشرح عليها كل شيء، كانت هذه اجمل مهام تلك البطانية واسعد اوقاتنا واوقاتها.

رغم كل ذلك التشابه بين البطانيات وعلى كثرتها، لم يكن احد يخطىء في معرفة بطانيته، كانت بطانية كل واحد منا جزء منه، يعرفها حتى لو اغمض عينيه، كان يشمشم رائحة امه وعجينها وطبيخها عليها وكذلك مُرّ الايام ووجع السنين، كانت البطانية كالهوية، تحمل كل اسرار بيوتنا واصبحت كذلك تحمل كل اسرار المعسكر...

بعد ترددي على ذلك المخبز لانجز تلك المهمة "فرش الثورة" والذهاب به لاصحابه من الفدائيين في المعسكر بدأت اكبر اكثر وبدأت اعي اكثر واكثر ان الثورة ليست بندقية لوحدها...

في احدى صباحات يوم مشرق نهضت باكرا باتجاه المدرسة، وكالعادة حملت كتبي ودفتر الوكالة الاخضر بيد وعلى اليد الاخرى تلك البطانية، وصلت المخبز واعطيته اياها، وعند عودتي من المدرسة اخذتها ممتلئة وذهبت بها الى المعسكر، وجدت ابي عائدا لتوه من دورية، عانقته وطمأنته عن أحوالنا واخبرته بان سيدي عمر "عايزه ضروري".

جثى على ركبتيه، عانقني من جديد وهزني، ففاحت مني رائحة الشوق والحنين وفاحت منه خطوات قادمة من مشوار بعيد، اخبرني والدموع تزاحم كلماته الراغبة في بقاءه معنا،
وقال وهو يُرَوّد ويُرَدِد:
يا ابني عن هذا الدرب ما في رجعة
وهذا الدرب يابني درب الشهدا...
وما مننكرش إنه بنبكي على الشهدا
يا ابني قول لسيدك عمر: ياسيد ما تردش على البعدا
هذول اللي بيدّعوا وبيزايدوا على الدم والإيام
لإنه يا ابني الموت مش غية
لكن دربنا الدرب الفدائية
تودي على النصر من طلعة الآلام
خوذ البطانية والكتب وارجع على الدار
بكرة بتكبر يا ابني وبتعرف انه هذا الدرب نور ونار
يا ابني؛ هذا دربنا وعن هالطلعة ما في رجعة
هذا دربنا جرح وفدا وفدا مرحا
يا ابني ونتا مروح شوف الشوارع في مخيمنا مليانة بصورة الشهدا...



#مهند_طلال_الاخرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كل يوم كتاب؛ ظلام تحت الضوء
- كل يوم كتاب؛ الغضب والأمل
- كل يوم كتاب؛ الوتر المشدود، بكر ابو بكر
- كل يوم كتاب؛ الحاجة كريستينا، عاطف ابو سيف
- كل يوم كتاب؛ الشاهد المشهود، وليد سيف(2-3)
- كل يوم كتاب؛ الشاهد المشهود، وليد سيف(1)
- كل يوم كتاب؛ هؤلاء أضاعوا فلسطين
- كل يوم كتاب؛ ثقافة الاستسلام
- كل يوم كتاب؛ دفاتر فلسطينية معاصرة
- كل يوم كتاب؛ صاقل الماس
- كل يوم كتاب؛ عبور النهر
- كل يوم كتاب؛ اسرار حرب لبنان
- كل يوم كتاب؛ حب وموت في بيروت
- كل يوم كتاب؛ البيت الثالث
- كل يوم كتاب؛ السيرة والمسيرة مذكرات سليم الزعنون ابو الاديب
- كل يوم كتاب؛ دفاتر الثورة الفلسطينية، دفاتر الفتح، فاروق الق ...
- كل يوم كتاب؛ طريق الخيّالة
- كل يوم كتاب؛ نهاوند
- كل يوم كتاب؛ ترويض النسر
- كل يوم كتاب؛ حكايات من اللجوء الفلسطيني


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مهند طلال الاخرس - رغيف الثورة