أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - مقالات في الرواية والقصة















المزيد.....



مقالات في الرواية والقصة


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 6502 - 2020 / 2 / 29 - 17:56
المحور: الادب والفن
    


مقدمة :
للنكبات محاسنها أيضاً !
آخر ما يتوقعه المرء أن يكون للنكبات محاسن ! ولا شك أن كثيرين لا يعرفون ما هي نكبتي ، كما لا يعرفون ما هي محاسنها .
نكبتي هي نكبة سورية، نكبة الشعب السوري، ونكبة الفلسطينيين والأردنيين والعرب المقيمين في سورية وغير المقيمين . جرح سورية الذي خضبت دماؤه وجه العالم هو جرحي . دماء سورية التي هتكت الأستارعن عارالعالم ليبدوعاريا دون أقنعة وأستارهي دمائي ، وكأن جراح فلسطين لم تكن كافية لنا لنجد أنفسنا نغرق بجراح سورية . سورية التي قلت عنها ذات يوم عبر مخاطبة رمزها العريق الشامخ في التاريخ ، دمشق " إذا كانت القدس أمّي بالولادة فدمشق أمّي بالرضاعة " غرقت بدماء أبنائها وأغرقتنا معها ، في زمن غابت فيه الحكمة ، وتجلّى فيه المدفع والطلقة والصاروخ !
حين جثا الكابوس على قلب دمشق ، حملت ما تيسرمن لوحاتي وآهاتي ، وقصدت عمّان باحثاً عن حضن يلملم جراحي ويداري أحزاني . عمّان هويتي التي لم أحمل غيرها منذ أن ولدت ! تركت في دمشق بيتي وخلايا روحي لأكثر من أربعين عاماً، من المؤلفات واللوحات والمنحوتات والتحف والمخطوطات والمكتبة العامرة بكل ما يطمح إليه كاتب .
كان لا بد من عمل أستعيد به التوازن إلى نفسي وأقف على قدمي . رحّبت رابطة التشكيليين الأردنيين بي وأقامت لي معرضأّ . كما رحّب الراحل الكبيرالشاعر والناقد والإنسان الفاضل عبد الله رضوان بي ، وأقام حفل غداء على شرفي حضره العديد من الأدباء والفنانين ، كما أقام لي معرضا كبيرا في منتدى الروّاد الكبار الذي كان يديره ، وطلب إلي أن أقدم بعض قصصي المتوفرة إلى وزارة الثقافة لنشرها ،وأبدى استعداده للوقوف إلى جانبي إلى أن تفرج ! وقد أضاف رحيل عبدالله بعد قرابة ثلاثة أعوام من وجودي في عمان جرحاً كبيراً إلى جراحي ، لن يندمل بسهولة . ولن يفوتني أن أنوّه بالأصدقاء الذين رحبوا بي ودعوني إلى بيوتهم أو إلى ولائم ،وفي مقدمتهم الصديق ابراهيم نصر الله ، والصديق رشاد أبو شاور ، والصديق فتحي البس ، والصديق الفنان التشكيلي محمد نصر الله . وبعد أكثر من عامين على وجودي في عمان سعى الشاعرالصديق مراد سوداني مشكوراً إلى تقديم مساعدة لي ولبعض الكتاب المنكوبين، فحصل على مبلغ 300 دولارشهرياً ، لا تكفي لأجرة البيت وملحقاته ! وقد توّج هذا الترحيب بي بعد قرابة أربعة أعوام بتكريم وزارة الثقافة الفلسطينية بشخص وزيرها الإنسان العظيم والشاعر الكبير إيهاب بسيسو، وذلك في جناح فلسطين في معرض الكتاب في عمان في الثلاثين من أيلول 2016. وقد تم ذلك على أثر ضائقة مالية ألمت بي بعد أن أوشكت نقودي على النفاد، ما دفعني إلى التفكير في الإنتحار. اضطررت بسببها إلى عرض لوحاتي على أرصفة اللويبدة . مما دفع بعض الأدباء المقدسيين إلى رفع أصواتهم احتجاجاً على وضعي ، وقد أمضيت عقودا من عمري مقاتلا ومناضلا في حركة فتح ، ومنهم الأصدقاء جميل السلحوت وإبراهيم جوهر ومحمود شقير . والحق إنّ ضائقتي المالية لم تحل حتى اليوم ، وما جرى هو مجرّد ترقيع ! ولولا أكثر من خمسين ألف دولار وفرتها من الفن عبر معارض أقمتها في برلين وباريس ودمشق ، لقضت النكبة السوريّة عليّ !
عدم وجود سوق مقبول للفن التشكيلي ، دفعني إلى التوقف عن الرسم في عمّان ، بعد أن مارسته ليلاً نهاراً لما يقرب من ستة أشهر، بحيث أصبح لدي كم مقبول من اللوحات تكفي لأكثر من معرض، فشرعت بالعودة إلى الكتابة التي هجرتها إلى حد كبير منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وبعد كتابة ملحمة " الملك لقمان " وملحمة " غوايات شيطانية " و" رسائل حب إلى ميلينا " لأتفرّغ للرسم الذي عشت منه بكرامة ، عكس الصحافة التي عشت منها في عوز طوال ما سبق من عمري .
عدت إلى الكتابة بعد قرابة عشرة أعوام ، لأكتب على النت في أوقات فروغي من الرسم، في الفلسفة والأبحاث العقائدية ، ضمن مشروعي الفلسفي الذي بدأته في " الملك لقمان" و" غوايات شيطانية " عدت لأبحث وأكتب فكراً فلسفياً في مقالات ومقولات وأبحاث بلغت 1313 مقالة ومقولة حتى أواخر آذار 2017. وقد جمعتها في خمسة أجزاء نشرتها في موقع كتابات جديدة للنشر الإلكتروني، وفي موقعي في مؤسسة الحوار المتمدن . إضافة إلى عشرة أجزاء من بحث مطوّل عن التوراة ، وأبحاث أخرى عن سليمان وهيكله المزعوم ومدينة القدس تاريخياً، وعن الألوهة وتحوّلاتها في العقل البشري.. وقد توجت هذه الأبحاث والمقالات بملحمة " أديب في الجنة " التي كتبتها عام 2016 لأكمل بها وإلى حد كبيرمشروعي الفلسفي .
كان أوّل ما بدأت الكتابة عنه في عمان هو الرّواية، والفلسطينية منها بشكل خاص ، التي فارقت الكتابة عنها منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي ،حيث كنت أكتب في صحيفة الحياة اللندنية . وقد واجهت حينها نقمة بعض الكتاب عليّ ، وخاصة الكتاب الشباب حينذاك الذين تناولت أدبهم. وحتى الكتاب الكبار، لم يسلموا من قلمي ، حين قلت في حوار معي في القدس العربي " لا يوجد في الساحة الفلسطينية روائي كبير واحد " وحين عدت إلى الرواية الفلسطينية في عمان بعد قرابة عقدين ونصف ، وجدت أنه أصبح لدينا بعض الروايات الجيدة ، وبعض الروائيين الكبار، حتى على الصعيد العربي والعالمي ، رغم ما يشير إلى أن ما يكمن خلف بعض الروايات هو فلسفة مثالية تقليدية، وهذه معضلة يعاني منها الأدب العربي بشكل عام . لذلك لن يفاجأ القارئ إذا ما وجد أنني لم أزعج أحداً من الروائيين الذين تناولت رواياتهم . ربما تحرّشت بصديق عربي هو واسيني الأعرج ، لفهمه التقليدي لسفر أيّوب التوراتي ، رغم أنّه روائي كبير ومثقف كبير أيضا !
هذه المقالات في الرواية كتبت معظمها خلال عامي 2013 و2014 وتوقفت بعد ذلك عن الكتابة النقدية ، إلا نادراً! وقد لا أعود إليها ، لرغبتي في التفرّغ للرواية والتفكّر في مشروعي الفلسفي الذي يحتاج إلى التعمّق فيه أكثر .
الروايات موضوع المقالات معظمها لكتاب فلسطينيين : محمود شقير . ابراهيم نصر الله . ليلى الأطرش.
رشاد أبو شاور . صبحي فحماوي . جمال ناجي .جميل السلحوت. عادل بشتاوي ( هذا قاص وروائي عثرت صدفة على مقال لي عن قصصه على النت ، كتبته قبل ما يقرب من ثلاثة عقود ) وثمة خواطر عن روايات لكتاب فلسطينيين وعرب منهم الصديق يحيى يخلف . وهناك مقالات عن روايات لكتاب عرب : واسيني الأعرج . يوسف زيدان . علاء الأسواني . جنى الحسن . سعود السنعوسي . إضافة إلى مقال عن رواية لباتريك موديانو الحائز على نوبل 2014. وثمة حوارات وذكريات ودردشات أخرى لا تخلو من طرافة!
وآمل أن يجد القارئ في هذه المقالات ما هو مفيد ويغني ثقافته . علماً أنني لا أّعتبر نفسي ناقداً ، فأنا لم أمارس النقد إلا من باب عملي في الصحافة ، ولست ناقداً متخصصا ً. وبهذا أكون قد تطرقت إلى محاسن نكبتي التي انتشلتني من براثن اللون الجميل لتعيدني إلى رحاب الأدب والفكر!
ويسرني أن أختتم كلمتي هذه بكلمة لخصت الصراع في دخيلتي بين اللون والكلمة في معرضي الأول في المركز الثقافي الروسي في دمشق عام 1995:
همس إلى لون تفيأ ظلال المطر!!
يا لون ، حين زارني طيفك في شفق الفجر ، مؤتلقا بروح الخالق في سنا البرق وتحت ظلال المطر، لتنقذني من ربق الكلام وأسر الزمن ، وتقودني إلى آفاق الحلم ،أغواني سحر جمالك ، وأنا أتيم في سدم فيئك . وذاهنني الله أن أتبعك ، فتبعتك ، لتحملني وأحملك ، عبر فضاءات الروح ونبض الأحاسيس، إلى غياهب المطلق وأغوار المجهول .
يا لون ، يا رفيقي ، يا صديقي ، يا حبيبي ، كم من أيام كنت وحدك فيها ، تنير ظلمة الهزيع من حولي بشموع ترقص، وكم من ليال كنت وحدك فيها ، ترسم تفاصيل الحلم ، بعد أن خان الزمان زمانه وضاق صدره بصريح الكلام ؟!
يا لون ، كان الكلام عشق روحي ، فغدوت أنت روحي ، لأغدو كلمة في لون ، ولونا في كلمة ! فماذا في مقدوري أن أقول لك ، حين يمنع الكلام من أن يقول كلامه ، من أن يبوح بمكنونات بدئه ؟!!
أنا مدين لك أيها اللون ، مدين لك بودي ، مدين لك بعشقي، مدين لك بكل خلايا عمري ، فشكرا يا لون ، شكرا يا أحمر، شكرا يا أصفر، شكرا يا أزرق . وعذرا يا لون ، إذا ما خنت نفسي وخنتك ، بتقييد حريتك أحيانا ، وكبح جماح طموحك ، في خلق جديد ،خلق لم تبصره عيون بعد ، ولم تسمع به آذان ، ولم تدركه حواس وعقول ، ولم يضمره إحساس ، إذ يبدو يا لون ، أننا حقا مسيرون ، ولن نوغل في غور المطلق ، وتصور العدم ، ما لم نكبح جماح القدر ، ونمسك زمام الخلق !!!
م.ش.



(1)
* البطولة الجماعية في " فرس العائلة "
(شؤون فلسطينية خريف 2013 . ع253 . 254)
تحار وأنت تقلب صفحات رواية " فرس العائلة " لمحمود شقير من أين تبدأ الحديث عنها لكثرة ما حوت من شخصيات ووقائع . أكثر من مائة شخصية أحصيتها وأنا أقوم بفهرسة لأسماء الشخصيات وأهم ما يجري معها . ولو أننا قسمنا عدد صفحات الرواية ( في حدود 300صفحة ) على مائة من الشخصيات ، لكان نصيب كل شخصية قرابة ثلاث صفحات .
و قد يكون هذا التقسيم وحده كافيا لإثبات أن البطولة في الرواية جماعية ، بغض النظر عن الشخصيات التي قد تستأثر بالحديث عنها أكثر من غيرها ، وبغض النظر عن بعض الوقائع التاريخية وحكايات الناس وتقاليدهم وصراعاتهم وأهازيجهم ، التي لا تنسب إلى شخصية بعينها ، بقدر ما تنسب إلى العشيرة التي تتحدث عنها الرواية ، بحيث تغدو العشيرة هي بطل الرواية وليس الشخصيات بحد ذاتها . فالشخصيات تقدم بوقائع وأفعال ، فلا تعود الشخصية بحد ذاتها مهمة بقدر أهمية الأفعال والوقائع الناجمة عنها . والأمر نفسه ينطبق على حكايات الناس وتقاليدهم وأهازيجهم ، التي شكلت النسيج الروحي لتكوينهم ، بحيث يمكن القول أن الرواية بدت وكأنها منجم لتراث العشيرة التي تتحدث عنها الرواية ، وهو ما لم نشهده في أية رواية أخرى بهذا القدر من الثراء .
هذه المقدمة تشير إلى التكثيف الشديد الذي كتبت به الرواية . ومن الواضح أن محمود أفاد من تقنياته الفنية في كتابة القصة القصيرة ، كونه كاتبا لها بامتياز ، فطبق تقنياتها على عالم الرواية ولو قدر الإمكان .
سنتوقف قدر الإمكان مع أهم شخصيات هذه الرواية وأفعالها ، وسنتوقف مع مكنونها التراثي إذا اتسع المجال، لكن بعد أن نوجز ما تتحدث عنه الرواية ، متطرقين قدر الإمكان إلى بنائها الفني ، مع ادراكنا التام أن هذه الرواية قد تحتاج إلى دراسة بحجمها لتحيط بكل جوانبها .
**********
يحدثنا محمود شقير عن رحلة عشيرة ( العبد اللات ) من البرية إلى مشارف مدينة القدس ، يحدثنا عن التحول من البداوة والدخول في المدنية ، عن هجر مضارب بيوت الشعر إلى البيت الحجري الحديث، عن ترك الرعي والزراعة ولو جزئيا للعمل في مرافق المدينة المختلفة . عن هجرالدراسة عند الشيوخ ببيضة ورغيف إلى المدرسة الحديثة ، عن ترك الثوب البدوي إلى الفستان ، عن اشعال النار بالحطب إلى موقد الكاز ( البابور ) عن التحول من الحكم التركي إلى الحكم الإنكليزي . عن رجال ارغموا على خوض الحرب إلى جانب الأتراك ليعودوا جثثا أو يختفون ، وعن رجال حاربوا مع الإنكليز ليعودوا محملين قتلى على ظهور البغال .
يحدثنا محمود عن رجال مزواجين يعشقون النساء والأبناء ، ويحبون الحكايات الشعبية والخرافات والبطولات والفروسية . يحدثنا عن نساء يعشقن وينجبن ويحببن دون حدود ، ويحلمن بالجن والشياطين ، أو يهرب بعضهن مع عشاقهن . عن الشحادين والباعة المتجولين عن الجبليين وقرودهم التي ترقص للنساء ،عن رجل أطعم ظله بيضة ورغيفا ، عن الغجر وهجراتهم وفنونهم ،عن ثورات مجهضة وبطولات فردية .عن عادات وتقاليد وطقوس ومشاعر وأحاسيس وصلوات وأغان ترسم نسيج أرواح هؤلاء الناس ، وتسبر خفايا نفوسهم .
يحدثنا محمود بمحبة لا تخلومن طرافة عن طقوس الخصب عند هؤلاء الناس ، ليوحد بين خصب الأرض وخصب الأنثى . المواقعة الجنسية مع المرأة قد تتم في حقل الحراثة ،على ظهر البغل أو استلقاء على الأرض، ليبدو فعل الحرث مشتركا بين الأرض والمرأة . فكلاهما حرث ينتج عنه خصب ، لنجد أنفسنا وكأننا أمام طقس تموزي من طقوس ما قبل التاريخ .
وفي مواقعات أخرى يتم الطقس على البيدر بين حصيد الكرسنة ، أوبين القطيع الهاجع على نور القمر، ورائحة الخصب تتضوع منه . أو إلى جانب نار مشتعلة في البرية .
يوظف محمود شقير خبرة طويلة مع الكلمة في قرابة أربعين مؤلفا وقرابة ستين عاما مع الكتاب وفنون السرد الأدبي ، ليبدو كساحر يجمع رزمة من الأوراق تتحدث عن أكثر من مائة شخصية ، ثم يشرع في سحبها ورقة ورقة ، دون أن نعرف كيف سحبها ، بما لا يتأتي إلا لمن خبروا فن السرد وأتقنوا سحر الروي . يسير بشخوصه بخطوط شبه متوازية وكأنه يسير بهم معا في آن واحد، فلا يطيل الحديث عن شخصية إلا لينتقل إلى أخرى ، والقاريء الذي لا يركز في القراءة قد يضيع ،غير أنه وإن ضاع سيجد نفسه مشدودا إلى متابعة الواقعة الحدث دون أن يعير كثير اهتمام لإسم الشخصية التي تجري معها الواقعة . فنحن لسنا أمام رواية شخصية ،أو قصة بوليصية تكتم انفاسنا ونحن نتابع مجريات البحث عن القاتل ، نحن هنا أمام بطولة جماعية نتابع فيها حياة هؤلاء الناس في مجتمع البداوة .وهذا لا يعني أن محمود أهمل رسم شخصياته ، أبدا ، فقد كان حريصا على تميز كل شخصية وتفردها عن غيرها . لكن كثرة الشخصيات والتنقل من واقعة إلى أخرى حال دون تركيز القارئ على الشخصيات . ورغم ذلك تعلق في الأذهان شخصيات كثيرة لا يمكن أن تنسى .
يسيرمحمود مع شخوصه خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف . إلى الأمام في ما هو مستجد وما سيستجد من أحداث ، وإلى الخلف لنعرف ماضي الأسرة أو ماضي الشخصية في الرواية . يتم السرد عن الماضي باستقراء ذاكرة الشخصية ، أو عبر حكايات الأم ، أو من قبل الراوي نفسه باسترجاع الماضي ، أو عبر أحلام الشخصيات . يتنقل بنا من حدث إلى آخر بتكثيف شديد ودون أية مطمطة أواستطراد .

يحدثنا محمود عن مشاجرات عشائرية قبلية ، عن أناس يغرقون في الينابيع أو في برك المياه .عن امرأة تلد طفلا بأذني حصان ، يجيد الصهيل .. عن تاجر دجال يزني بالنساء بذريعة تقديم دواء للنساء العقيمات ، وعند موته يتحول ضريحه إلى مقام يضاف إلى مقام آخر تقدم له النذور
وتجري فيه طقوس العبادة . يحدثنا عن جني يظهر للنساء في كلب أسود . يحدثنا عن فرس العائلة الغائبة الحاضرة التي تظهربصهيلها في الملمات من الأيام ، لتدخل الزمن الماضي بالزمن الحاضر ، مذكرة بالأصالة والحنين والوفاء إلى فارسها الراحل الذي قتل غيلة وغدرا ، يحدثنا عن رجال يقتلون الضباع والغيلان . يحدثنا محمود عن أم الغيث وموسم النبي موسى ، وعن أعراس هؤلاء الناس وأغانيهم . يحدثنا عن قطعان تجرفها السيول أو تسطو عليها الذئاب . يحدثنا عن الجدب ، عن أطفال يدهمهم فيضان فيغرقون في لجة مياهه . يكاد محمود أن لا يترك شيئا إلا ويتحدث عنه ، لنجد أنفسنا أمام كنز من التراث لا يستطيع أن يحيط به إلا من عايش هؤلاء الناس وخبر منجم حياتهم وتاريخهم الإجتماعي وأساطيرهم وحكاياتهم .
يستوحي محمود من اسم عائلة من السواحرة تدعى عائلة ( العبد اللات ) (باللام المضخمة ، كونها جمعا لمفرد عبد الله باللهجة العامية ) اسما للعشيرة المنحدرة من أصول بدوية التي تتحدث عنها الرواية ، وليبقي على اللام مبهمة لتلفظ مخففة ، ليوغل بنا بعيدا في التاريخ ، إلى أناس كانوا يعبدون في الجاهلية وثنا يدعى اللات ، يرمزون به إلى الله ، فيتقربون منه ويتعبدون إليه ، وقد اقترن اسمه غالبا في مدونات التاريخ بالعزى ومناة .
غير أن هذه الأصول الضاربة في التاريخ تأخذ مكانها في التندر حين نجد أبناء العشيرة يمزحون ويجذفون على العشيرة بنسبها إلى أبي جهل .
أقام محمود شقير بناءه الدرامي أو المحور الذي تدور حوله الأحداث ، على هجر البرية والرحيل إلى مشارف مدينة القدس . والمرور على شخصيات العشيرة هو لتحديد موقفها إما مع الرحيل أو ضده . وحين نكاد ننسى في غمرة الأحداث المتلاحقة ،الغاية من هذه الرواية يفاجئنا محمود بموقف شخصية من الرحيل .
غير أن هذا الحامل الدرامي للأحداث لا يغدو مهما إلى هذا الحد أمام سحر الحياة االميثولوجية لهؤلاء الناس ، فلا يترقب القاريء حدوث الرحيل بل وقد لا يهمه إن لم يحدث .
وأخيرا يتم الرحيل . لكن متى ؟ في الصفحة 144 و145 من الرواية :
( صبيحة يوم الرحيل كانت قاسية على الأنفس وعلى الأبدان ،نهضت النساء منذ الفجر ورحن يحزمن الأمتعة )
( توجه منان وأبناء عشيرته غربا ، يحملون على الجمال والخيول والبغال والحمير أمتعتهم ، وكانوا أسبق في الرحيل من عشائر عرب السواحرة )
سأكتفي بهذين المقطعين من الرحيل لأشير هنا إلى التداخل بين الواقع الفني المتخيل والواقع التاريخي الواقعي أو الحقيقي . فمحمود هنا يشير إلى عشائر عرب السواحرة وهي عشائر حقيقية ما تزال تعيش في أراضي جبل المكبر والسواحرة الشرقية ، بينما عشيرة العبداللات التي يقودها المختار منان هي عشيرة متخيلة . ثم إن بلدة رأس النبع التي يقيمها الراحلون على مشارف القدس هي بلدة متخيلة ولا وجود لها على الخريطة المقدسية . غير أن محمود يجعلها بلدة لها وجودها حين يجعل بعض الثوار وقادتهم يزورونها ، كالشهيد القائد عبد القادر الحسيني وبعض رفاقه . كما أنه يتطرق إلى بعض أبناء السواحرة الذين كانوا مع الثورة أو في جيش الإنقاذ.
لقد حاول محمود قدر الإمكان الإبتعاد عما هو واقعي تاريخي ليتيح لنفسه كمؤلف التحليق ولو جزئيا في عالم الخيال الذي هو أهم متطلبات الأدب ، وبالقدر نفسه حاول الإبقاء على الإلتصاق بالواقع ليتيح لنفسه التحدث عن هموم الناس وحياتهم وتحولاتهم ، دون أن يفارق الواقع مخيلته ، لتنتمي روايته إلى الأدب الواقعي . والحق إن تعبير مدرسة الواقعية السحرية التي انطلقت وسادت بعد ظهور أدب أميركا اللاتينية في العالم العربي ، يمكن أن ينطبق على رواية فرس العائلة بجدارة .
بالتأكيد ليس في الإمكان التوقف عند كل شخصية من شخصيات الرواية وإلا لاحتجنا كتابا بحجم الرواية نفسها كما أسلفنا . سنحاول قدر الإمكان الوقوف عند أهم الشخصيات .
*منان
منان هو مختار العشيرة وشيخها لكن ليس بالمعنى الديني للمشيخة. ولا شك انه استأثر بحصة الأسد من الوقائع .من أول سطرين في الرواية يقدمه محمود كأحد أبناء البرية العاشقين لها حتى وإن أجدبت . لكن هذا العشق لن يمنعه من التفكير في الرحيل إلى مشارف القدس لإيجاد فرص للرزق لأبناء العشيرة ، ولتحقيق بعض ما يصبو إليه من رغبات ، فالبرية لم تعد كما كانت" فالريح التي تقبض على الغيوم من أذيالها لتأخذها إلى شتى البقاع جالبة معها المطر ، لا تحضر إلا لتعيث خرابا في مضارب العشيرة ، والمطر منقطع أو هو شحيح في أحسن الأحوال ، والأغنام جفت ضروعها ، وسبل العيش أصبحت أكثر صعوبة " ( ص 9)
لمنان وقفات صلبة مع الإنكليز كما لأبيه مع الأتراك من قبل . يقسو أحيانا على أبنائه مثلما فعل مع محمد الصغير حين ألقاه في بئر لسبعة أيام ليردعه عما يود فعله بعد أن غدا متدينا . ومنان عاشق للنساء ، تزوج ستا منهن . يمارس الجنس بطقوس خاصة أقرب إلى طقوس الخصب في العبادات القديمة .. في الطبيعة : في المرعى ، بين شياه القطيع الهاجع في الليل ، على ضوء القمر ، في الحقل ، في بيت الشعر.
حين مارس الجنس لأول مرة مع فاطمة كان شابا يرعى قطيع أهله ، وكانت فاطمة ترعى أغنام أهلها .. تركا الأغنام ترعى وقاما بفعل الحب . قلقت فاطمة من وضعها بعد أن فقدت عذريتها . فعقد قرانه عليها ببساطة ودون أية تعقيدات . " جلست فاطمة على حجر وهي مطرقة برأسها إلى الأسفل ورموشها تنسدل فوق عينيها الواسعتين ، رف جفناها ورمقت منان وهو جالس أمامها على حجر ، سدد نظرة نحوها وقال : أنت على حجر وأنا على حجر .بلعت ريقها وقالت : أنا الأنثى وأنت الذكر " ( ص 17 و 18 )
عقد قران يرتبط بالطبيعة وبساطة الحياة بالجلوس على الحجر ، وجعله جزءا من نص عقد القران !
هذه المواقعات الطقسية تتجلى أكثر حين يمارس منان الحب على نور القمر ، وأكثر حين يمارسه في حقل الحراثة ، فيغدو ممارسة مقدسة للخصب ، فكما يتم حرث الأرض لتخصب ، يتم حرث المرأة لتخصب أيضا . فحين كان الصراع ملتهبا بين الإنكليز والأتراك ، جاءت وطفاء إلى منان في الحقل ، وراقها مشهد سكة المحراث وهي تغوص في التربة وتقلبها ..
أجلسها منان على ظهر البغل ووركاها منفرجان على ظهره ، وما لبث أن طرحها أرضا وشرع في حرثها . (ص78)
جاء في النص القرآني : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "
( البقرة 223)
فهاهو القرآن يعتبر المرأة حرثا ، والحرث مفردة لا يمكن ربطها إلا بالأرض للدلالة على الخصب .
حسب هذه الرؤية تعامل محمود مع الجنس في روايته وبشكل خاص مع ممارسات منان : همدت حركتها وهي تتأمل بكسل لذيذ ما جرى قبل لحظات .
نهض من جوارها وملأ راحة يده بالماء ورشقه على التربة الحمراء ، وقال إن هذا يجعلها أكثر خصوبة . اختلج جسدها وهي تراه يرشق الماء " ( ص 78 )
الربط هنا واضح بين انتشاء جسد المرأة ورشق الماء على التربة .
تزوج منان ست نساء : فاطمة ومثيلة ووطفاء وسميحة وصفية ووضحاء . كان لكل منهن مكانة خاصة في نفسه .انجب منهن أربعة عشر ولدا وست بنات . تميز منهم وطاف ومحمد الكبير وأدهم ويوسف .
يوسف : التحق بثورة القسام . القي القبض عليه . وسجن .
محمد الكبير : دارت حوله تقولات كثيرة بذهابه إلى يافا ومعاشرة اليهوديات ، إلى أن أحب المسيحية مريم واستقر في القدس، وصلى مع مريم في الكنيسة ،وراح يردد ابتهالات مسيحية
وإسلامية ، وحين سمعته مريم راحت تردد مثله ، لتغدو الديانتان دينا واحدا . هذا الجانب الديني
المتسامح جدا نلمسه في رواية فرس العائلة بوضوح . فالبدوي تحديدا يعيش الدين كطقس لا أكثر ولا يعرف التعصب والتكفير إطلاقا .
أدهم : الذي له أذنا حصان : اتصف بالحكمة والذكاء .وكثيرا ما كان يصهل مقلدا صهيل الفرس ، والفرس ترد بدورها على صهيله بالصهيل ، يمتطيها وينطلق بها ليجوب المضارب
والبراري ويعود .. خافته النساء وأعجبت به عمته مهيوبة .
وطاف : ابن وطفاء القوي . إنه شمشون الفلسطيني ، إنما بسبع شعرات فقط في رأسه ، لهن سحر خاص كما تعتقد النساء ، منهن يستمد قوته الطاغية ، وليس هناك دليلة أو قوة قادرة على نزع الشعرات .. أحب الغجرية مروادة وتزوجها .استشهد في مواجهة مع الإنكليز والصهاينة . كانت أمه وطفاء مولعة باللعب بالحجارة والإلتصاق بالأرض . ورث هذا عن أمه بعد رحيلها . واكتسب بنية قوية واجهت تدفق السيل بصلابة ولم تجرفها . يوم استشهاده في المواجهة كان بطلا . واجه رجال الإحصاء بيديه وراح يطرحهم أرضا واحدا بعد الآخر . إلى أن أطلقوا عليه النار .شيع كبطل . بكاه أبوه منان بلوعة ، وبكاه الرجال والنساء وتحسروا عليه.ورثاه عمه عبد الجبار بقصيدة ، وشقت مروادة ثوبها ولطمت خديها ، وأبت الزواج من بعده طيلة سبعة أعوام .
في مشهد استشهاد وطاف يرسم محمود صورة شامخة لسقوط البطل الفلسطيني تجلت في تشييعه والحزن والندب عليه . وهذه المسألة لا يلتفت إليها الكتاب الفلسطينيون كثيرا أو لا يعطونها حقها . يشعرنا محمود بوصفه لسقوط وطاف أن نجما هائلا قد هوى وآل إلى الإندثار .
*الأب محمد :
تزوج ست نساء . قتل له ابنان في حروب السلطنة العثمانية . اشتهر بملاحقة النساء . واضطر إلى تحمل مسؤوليات العشيرة بعد مقتل أبيه .ذهب إلى الحج ليعود منه متعبا ومريضا .. ومن ثم يموت . ليخلفه ابنه منان في المخترة .
* الجد الشيخ عبد الله :
خاض مشاجرات عشائرية كثيرة على الأرض والمراعي والمياه . " على مسافة من مضارب العشيرة برز له عدد من فرسان عشيرة الفرارجة واشتبكوا معه وأردوه قتيلا ثم لاذوا بالفرار .
ظلت فرسه تحمحم بالقرب من جثته ، وحين اشتمت رائحة دمه المتخثر ، راحت تشب رافعة قائمتيها الأماميتين إلى أعلى كأنها تطلب النجدة ، وحين لم يصل أحد انطلقت تعدو مثيرة النقع خلفها ، ولم تتوقف إلا أمام مضارب العشيرة " ( ص 35 )
*الأم صبحاء :
راوية العشيرة ، وحافظة تاريخها الميثولوجي وحكاياتها وأساطيرها ومشاجراتها وفضائح نسائها. كان منان يلجأ إليها دائما ليستمع إليها ويأخذ بنصحها . برحيلها تنتهي الرواية . آخر ما نطقت به أنها طلبت فرس العائلة :
" وظل المختار يحدق في وجه أمه إلى أن انطفأت قبيل الفجر بقليل ، تاركة خلفها حكايات ظل يتناقلها أبناء عشيرة العبداللات وبناتها جيلا بعد جيل " ( ص 310 )
للأسف ليس في الإمكان الإستطراد أكثر لأن المجال لا يتسع . فهناك شخصيات كثيرة يمكن
التطرق إليها من النساء والرجال . كعبد الجبار قاتل الضباع وصاحب الحكايات الطريفة ، والشيخ عبد الرحمن الذي يكفر العشيرة ووضحاء التي تهتم بظلها ، وحفيظة التي قتل بسبب عشقها عدد من الرجال والعراف الدجال ، والتاجرالنصاب ، والتركي علي اوغلو والإنكليز والأتراك والجن وعشرات غير هؤلاء ، عدا الفرس التي تحتل بطولة شبه مطلقة في الرواية . وعدا الحكايات الكثيرة ، والأهازيج والطقوس والعادات التي تشكل النسيج الروحي لهؤلاء الناس والتي شغلت قدرا كبيرا من صفحات الرواية .
الإنتقال إلى مشارف المدينة أدى إلى تحولات كثيرة طرأت على حياة الناس ، كارتياد الحمامات
وارتداء اللباس المديني والعمل في المهن المختلفة التي لم تكن معروفة في البادية .
قد لا أبالغ إذا ما قلت أنه لا توجد صفحة في الرواية لا تثير الدهشة ، وما أدهشني أكثر في الرواية هو الإنتقال من حدث إلى آخر ، أو الإنتقال من شخصية إلى أخرى ، وإذا لم يكن القاريء متنبها فإنه سيضيع . لأضرب مثلا :
" بنى منان لزوجته الجديدة بيتا على مقربة من بيت زوجته الأولى ، وانقطع عن الخروج إلى المضارب سبعة أيام بلياليها . فسرت بعض النسوة ذلك بأنه عائد لجمال مثيلة ولقدرتها على اجتذاب الذكرإلى فراشها أإطول مدة ممكنة . حينما علم الشيخ محمد بذلك أدرك أن جيلا جديدا آخذ في الإنتشار فوق البرية ، ما أشعره بشيء من البهجة ، وراح يفكر في الزواج مرة أخرى .
في زمن سابق امتلك الشيخ الجرأة على تحقيق رغبته في الحال.. ألخ "(23)
ويستمر الحديث عن الشيخ محمد الأب وليس عن منان الإبن . مع أن الحديث كان عن زواج منان . والقارىء الذي لا يتنبه لدخول الشيخ محمد في السرد ، سيضيع أو يظن أن الحديث عن منان .وبعد انتهاء الفقرة التي أنبأتنا بإدراك الشيخ للجيل الجديد ، يتابع محمود السرد عن الشيخ وليس عن منان الذي انتهى الحديث عنه هنا بالإنقطاع عن الخروج سبعة أيام بلياليها .
هذا الإنتقال شبه الخفي والسريع هو الذي ألقى بظلاله على الخطاب السردي في الرواية ، فما أن يفتح محمود دائرة حتى يدخل منها إلى غيرها لتظل الدوائر كلها مفتوحة ، ولهذا قلنا أن محمود يسير بشخوصه بخطوط شبه متوازية وكأنه يسير بها جميعا في آن واحد.
خلاصة القول : إن (فرس العائلة ) هي ملحمة أدبية بامتياز ندر مثيلها في الأدب العربي على الإطلاق ، ولا شك أن الروائيين العرب ، والفلسطينيين منهم بشكل خاص ، سيجهدون كثيرا
لبلوغ هذا المستوى من الخطاب السردي الرفيع ، الملم بكافة نواحي الحياة لمجتمع ما ، لما حواه من تكثيف في السرد ، وبلاغة في اللغة ، واستعارات طريفة ،وعادات وتقاليد راسخة وميثولوجيا مدهشة . ووقائع مصطفاة ونادرة .
إنه حديث الروح إلى الروح . روح محمود شقير إلى أرواح السواحرة والعيازرة والديسة والسلاونة والطورة والعبيدية والتعامرة والصورباهريين والعساسوة .. والمقدسيين جميعا ، والفلسطينيين إن شئتم .
ثمة ملاحظة لا بد منها :
لمست خلال متابعتي للروايات الفلسطينية التي حصلت عليها منذ قدومي إلى عمان قبل أكثر من عام إلى تفاعل وتواصل ملحوظ بين الروائيين في اتجاه تطوير وإغناء الرواية . فالفرس رمز الأصالة تظهر في خمس روايات لأربعة كتاب ، كل كاتب يحاول أن يضفي عليها ما يجود به خياله ، وكذلك الأم رمز الأرض ، إضافة إلى شخصيات يتم تعميق حضورها ، ما ذكرني بالتفاعل الذي كان قائما بين غسان كنفاني وسميرة عزام . فحين كتب غسان كنفاني قصة "القميص المسروق" عن فلسطيني يحرس مخازن وكالة الغوث يقوم بقتل فلسطيني آخر جاء ليسرقها ، ردت عليه سميرة عزام بقصة " لأنه يحبهم " وهي عن فلسطيني يعمل في مخازن الوكالة أيضا، لكنه يقوم بدوسها بقدميه ومن ثم يشعل النار فيها للتخلص من لقمة الذل .
التفاعل القائم الآن يسير في اتجاه آخر أشعرني بالتأكيد بتطور الرواية الفلسطينية ، القادرة على الخروج من عبء التاريخ ، والواقع الإجتماعي السياسي ، لتدخل أعماق النفس الإنسانية ، وتنتج المعادل للمأساة ، وما أثمرته ، وليس ما سارت عليه ، ولا شك أنني لمست البوادر الأولى في ما قرأت لولوج هذا الإتجاه ، وبشكل خاص عند محمود شقير ، وابراهيم نصر الله ،
وجمال ناجي ، ويحيى يخلف ، ورشاد أبو شاور ، وسحر خليفة ، وغيرهم .ولا أعرف ما إذا يتاح لي أن أذكر اسمي مع هؤلاء بصفتي عملت في هذا الإتجاه وبشكل خاص في آخر روايتين لي وهما " الملك لقمان " "وغوايات شيطانية "
*******











(2)
*عناق الشكل والمضمون في " مديح لنساء العائلة "!
مقدمة :
إذا كانت الرواية الواقعية تطمح إلى رسم معادل فني للواقع الذي تعبر عنه فإن رواية محمود شقير " مديح لنساء العائلة " الصادرة مؤخرا عن داري الأهلية ونوفل نجحت إلى حد كبير في رسم معادل فني مغرق في الواقعية في خطابها الملحمي الشمولي للمجتمع الفلسطيني خلال الفترة الزمنية التي تعبر عنها ، والتي تغطي كافة مناحي الحياة الفلسطينية اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا عبر تناولها لحياة عائلة منان العبداللات. وإذا ما أضفنا الجزء الأول ( فرس العائلة ) إلى هذا فإن الرواية غطت مرحلة تزيد على القرن بتناولها لجوانب من حياة والد الشيخ منان وجده .
لست بصدد تلخيص وقائع الرواية كما فعل كثيرون .. سأحاول قدر الأمكان أن أتحدث عن جدلية الشكل والمضمون في الرواية وكيف اجتهد محمود في خلق معادل فني لسيرورة مجتمع خلال ما يقرب من أربعة عقود ممثلا في أسرة العبداللات وعشيرتها ، لتشمل معظم جوانب الحياة الفلسطينية . ورغم أن مسألة فصل الشكل عن المضمون تبدو مسألة شائكة لعدم إمكانية فصل أحدهما عن الآخر ، إلا أنني سأحاول قدر الإمكان الحديث عن أحدهما بمعزل عن الآخر .
(1)
المضمون الوقائعي في الرواية :
يشمل المضمون الوقائعي للأحداث كافة ما طرأ على حياة الأسرة من تحولات وأحداث بعد استقرارها مع العشيرة في بلدة رأس النبع التي أصبحت واحدة من ضواحي القدس بعد أن قام الإحتلال بتوسيع حدود المدينة لتشمل المناطق المحيطة بها من الشرق والشمال والجنوب.
ويمكن تلخيص بعض هذه الوقائع بتنوع العمل : كاتب في محكمة ( محمد الأصغر ) تاجر ( فليحان ) عامل في فنادق ومناضل ( محمد الكبير ) شيخ متدين ( محمد الصغير ) مهاجر إلى البرازيل بحثا عن عمل ( عطوان ) ومهاجر إلى الكويت أيضا ( سلمان ) راعي شؤون العائلة وحامل همومها ( الأب منان ) مهاجر إلى هولندا ( أدهم )
وثمة نساء عاملات أيضا في بنوك وغير ذلك .. غير أن معظم النساء لا يقمن إلا بأعمال البيوت والإعتناء بالأسرة ويكثرن من جلسات الثرثرة والنميمة باستغياب بعضهن ، فهذه نزعت السروال واستبدلته بسروال قصير ، واستبدلت الثوب الفلاحي بثوب مدني أو فستان .وهذه غاصت في مياه البحر رافعة فستانها عن ساقيها وفيما بعد ارتدت ملابس سباحة فاضحة كاشفة جسدها للآخرين ومسلمة نفسها إلى (ذكورية) البحر !
تحولات سياسية ثقافية مختلفة : من مسلمين متدينيين إلى قوميين و أمميين شيوعيين .
حرب (48 ) ونكبتها . انتخابات في الخمسينيات والستينيات .. حرب 67 .. حرب أيلول 70 في الأردن . حرب 82.
زيجات بين رجال ونساء .. أفراح وأتراح .. أحلام .. اقتناء أدوات منزلية حديثة : من ثلاجة وغسالة ،ووصول الكهرباء . ميثولجيا وحكايات وأساطير وأهازيج .. الطب الشعبي والجن والشياطين يمثلون بقوة في الوقائع.. وحتى الإنتقام والثأر والنضال ضد المحتلين .. والإنتماء لأحزاب سياسية .. رحيل منان ومعزوزة .. وغير ذلك من أحداث .
* الواقع الإجتماعي الثقافي الفكري :
شهدت الأسرة تحولات نوعية قليلة على صعيد الواقع الإجتماعي كزواج محمد الكبير من مريم المسيحية وزواج عطوان أيضا من مسيحية في البرازيل ، كما شهدت بعض الإنفتاح على الآخرين بالإختلاط بالمحيط المديني ومحاولة ارتداء أزيائه من قبل بعض النساء والجيل الجديد من الفتيات والشباب .والإختلاط بين الطوائف وزيارة الأماكن المقدسة . غير أنه لم يطرأ الكثير من التغيير على تحولات النساء عن الثرثرة والنميمة ورؤية الشياطين تتسلق سيقان النسوة اللواتي ارتدين الفساتين والتنانير ، والغيرة بين الضرائر والتقول على العاقرات وحتى بعض زوجات الأبناء .
في الجانب السياسي الفكري تحول بعض الشباب إلى الأحزاب بتنوعاتها الدينية والقومية واليسارية ،كما شهد الواقع الثقافي حضورا نادرا للسينما والمسرح ومقبولا للتأليف والصحافة .
غير أننا لو تأملنا الواقع الثقافي الفكري الذي تناولته الرواية للمسنا أن الفكر اليساري لم يؤثر إلا تأثيرا محدودا جدا في المجتمع ، وإن كان الناس قد لا يبدون ضغينة أو تذمرا تجاه هؤلاء اليساريين . حتى محمد الكبير الذي غدا شيوعيا ،وأمضى عمره من سجن إلى سجن سواء في العهد الأردني أو العهد الإسرائيلي لم يلق أي استنكار لانتمائه من قبل أهله ، بل كانوا يزورونه في سجنه أينما حل . كما أن مرشح الشيوعيين ينجح في الإنتخابات كدليل على تعاطف سياسي معهم ، أنتجه التعامل الإنساني للشيوعيين مع الناس وخاصة الفقراء . وأنا شخصيا أذكر جيدا أن أبي كان يصحبني في طفولتي إلى عيادة الدكتور يعقوب زيادين حين كانت تلم بي حمى قوية تجعلني أشعر وكأن إبرا تنغرس في جسدي ..وكان أبي (الذي لا تخلو شخصية منان من بعض جوانب حياته وهو جد محمود شقيرلأمه ) أحد منتخبي الدكتور . وكنت بدوري أحد الذين سارعوا للكتابة عن كتابه (البدايات كما أذكر) الذي صدر عام 1980 ،كما أذكر أيضا ..
رغم كل هذا التعاطف مع اليسار الشيوعي حينذاك إلا أنه لم يشكل حالة عامة مؤثرة بشكل فعال في المجتمع ، وقد أدى ظهور تنظيمات يسارية أخرى فيما بعد انضمت إلى المقاومة الفلسطينية إلى تشتت قوى اليسار وتحجيم دوره في المجتمع الفلسطيني سواء في الوطن أو في الشتات . وظلت السيادة للقوى الوطنية لتنازعها فيما بعد القوى الدينية . ولم تستطع الأحزاب القومية أن تحتل مركزا متقدما هي الأخرى .
على الصعيد الفكري . ظلت الميثولوجيا الدينية بشقيها الإسلامي والمسيحي مهيمنة على المجتمع الفلسطيني ، فإذا ما ذهبنا إلى أسرة منان العبداللات سنجد أن معظم أفرادها يؤدون الصلاة رجالا ونساء . ونجد وضحا ما تزال تشعربالجن والشياطين في كل مكان ، أمام عتبات البيوت . في الساحات ، في المهاجع ، في المنامات ، في الطرقات ، في الراديو والتلفزيون ، في الثلاجة ، في الغسالة ، في المرآة ،خلف الشبابيك .. كما أنها تكاد لا تؤمن إلا بالطب الشعبي وعلاج الشيوخ والمشعوذين ،وتؤمن بالحسد ،والإصابة بالعين ، فتتقيها بوسائل بدائية متوارثة كطاسة الرجفة وحرق قطع من ثياب النساء وأردانهن ،وغير ذلك ، يشاركها في الأمر نفسه عبد الجبار الذي يحضره الجن ليلا ..
وفيما لو انتقلنا إلى الجيل الجديد الذي امتشق البندقية للنضال وانضم إلى التنظيمات المختلفة
سنجد أن العمل الأبرز الذي قام به سرحان هو إطلاق النار على فليحان الذي خطف منه خطيبته وتزوجها ، ليبقيه مقعدا ومصابا بالعنة مدى حياته .
هذا ما أفرزه المجتمع بعد عقود عديدة من تحولاته . وهذا هو المضمون الرئيس الذي أراد محمود شقير أن يوصله إلى القارىء . فالمجتمع الفلسطيني في عموميته ما يزال مسكونا بالميثولوجيا الدينية والفكر البدائي ،والعادات والتقاليد القديمة ،وحتى رغبات الإنتقام والثأر وغيرها من النزعات العدوانية ، أي أن كل الطفرات والتحولات النوعية لم تنتج ثقافة جديدة
ومجتمعات حديثة بمعنى الكلمة ، كأي مجتمع عربي ، حتى الأدوات المستخدمة بما فيها السيارة والغسالة لم تؤثر إيجابا على تكوين العقل العربي ، وهذا ينطبق على النتاج الثقافي كله من أدب وفن وشعر . فالإنسان العربي ما يزال مسكونا بهذه الميثولوجيا وإلى أجل غير مسمى . لن نبحث في الأسباب وهي كثيرة ،ويمكن تلخيصها في أن المجتمع العربي بشكل عام لا يهتم بالثقافة إلا بحدود دنيا . وإذا كنا لا نلوم وضحا وعبد الجبارومنان كونهم ينتمون إلى أجيال أمية لم تعرف القراءة والكتابة ،فهل نغض الطرف عن الأجيال المعاصرة التي نال معظمها قدرا ما من التعليم ،ومع ذلك ظلت ترزح تحت نير ثقافة بدائية مرعليها آلاف الأعوام !
هذا ما يمكن قوله باختصار عن مضمون الرواية . فماذا في مقدورنا أن نقول عن الشكل الذي اختاره محمود للتعبير عن هذا الواقع .
(2)
* الشكل الفني في رواية " مديح لنساء العائلة "
إذا كان محمود شقير قد وضعنا أمام مضمون مغرق في واقعيته وأمانته للواقع ، حين اختار موضوعا لروايته ، فإنه وضعنا أمام شكل فني مغرق في واقعيته أيضا ليرسم معادلا فنيا لهذا
المضمون الواقع . فلغة الخطاب الروائي عنده ترسم جانبا مهما من مقومات الشخصية ، وقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في الخطاب الشعبي عند عطوان ووضحا . فخطاب عطوان صيغ بلغة الرسائل الشعبية إلى حد التناص معها وخاصة في المقدمات والنهايات ، حيث نجد جملا شبه مقتبسة مما يرد في تراث الرسائل الشعبية. نورد من المقدمات :" سلام سليم أرق من النسيم ، يغدو ويروح من قلب مجروح إلى حبيب الروح والدي منان " ومن النهايات " وإلى أبناء عشيرة العبداللات مني ألف حمل سلام ،وإلى زوجتي فهيمة وابني منان ألف حمل سلام ،وإلى كل من يسأل عني في طرفكم ألف حمل سلام "( 75+ 76) ثم يتخلل الرسائل أخباره في البرازيل واطمئنانه على أبناء العائلة في أماكن تشتتهم المختلفة .
وفي خطاب وضحا التي لا تجيد القراءة والكتابة نجد المفردات الشعبية والخطاب الشعبي العفوي الساحر ، مما يمكن أن نطلق عليه السهل الممتنع ، الذي لا يجيده إلا من عايش الناس وعرف أسرار لغتهم ومكونات أرواحهم " ويا حسرة راسي قديش عانيت من مثيلة ومن ابنها فليحان ! وقديش تعذبت لما رحلنا من البرية ! هذا العذاب كان يغطي على عذابي من فليحان وأمه " ( ص 60)
إذا استثنينا خطاب هاتين الشخصيتين فإننا لن نجد تمايزا لغويا ظاهرا بهذا الوضوح في الخطابات الأخرى إلا بما تحتويه من وقائع .
لقد اختار محمود تعدد الأصوات في هذا الجزء عكس الجزء الأول ، غير أن صوت محمد الأصغر يظل هو الصوت المهيمن الذي يحتوي كل هذه الاصوات ويمهد لحضورها بل ويشكل لغتها ، ليبدو محمود شقير وكأنه خارج لعبة هذا الخطاب .
تبدأ الرواية على لسان محمد الأصغر ، ليضعنا أمام حالة عامة تتشابك فيها خطوط متعددة منها خط البداية الذي يشير إلى الغاء السفر إلى بيروت بسبب اجتياح لبنان من قبل اسرائيل ،إضافة إلى بعض جوانب حياته وحياة الأسرة . لينتهي الى "الآمال التي يعلقها أبي علي ، لعلي أفعل شيئا نافعا للعائلة وللعشيرة ، فأشعر بثقل المهمة التي تعني تتبع الأسرار الخاصة والمصائر المتنوعة لنساء ورجال ، لعل من أبرزهم أخي فليحان ." (15)
وهنا يسلم محمود أو محمد الأصغر( إن شئتم ) الخطاب الروائي إلى فليحان ، قائلا : " قال أخي : أنا فليحان بن منان العبداللات ... "( 15) لقد انتهى خطاب البداية بذكر فليحان وبدأ الخطاب الثاني به وعلى لسانه . وهذا ما سنلمسه أيضا في نهاية خطاب فليحان حيث يتم التطرق إلى وضحا ، فيقوم محمد الأصغر بتسليمها دفة الخطاب بقوله قالت أمي .
هذا الأسلوب في تسليم دفة الخطاب من راو إلى آخر ثم العودة إلى الراوي المهيمن ( محمد الأصغر ) هو ما طبع أسلوب الرواية حتى النهاية .
لا شك أن هذا الأسلوب ليس جديدا لدى الرواة . مئات وربما آلاف الروائيين استخدموه . وأنا أحد هؤلاء في العديد من قصصي ورواياتي . والروائي الناجح والمتميز هو من يستطيع أن يحمل هذا الأسلوب خصويته وتميزه ككاتب ، بحيث يغدو في مقدورنا القول ، إن هذا اسلوب الكاتب الفلاني وليس اسلوب وليم فوكنر أو أي كاتب آخر . ولا شك أن محمود شقير استطاع أن يقول لنا وبجدارة مطلقة : هذا أنا وليس أي كاتب آخر . ترى لماذا ؟ لا شك أن بعض ما تطرقنا إليه يشكل جزءا مهما من هذه الخصوصية . لكنه ليس الأهم . فما هو الأهم ؟
الأهم في هذا الأمرهو أن محمود لا يسرد قصة شخصية بل قصة شعب عبر حياة أسرة لا بطولة مركزية لأحد أفرادها ، بل معظمهم أبطال . وكل واحد له قصة واقعية جدا حتى ليشعر المرء أن محمود لا يقص علينا أحداثا متخيلة مما يلجأ إليه الأدباء لخلق عناصر تشويق درامية تجعل القارئ يلهث خلف الصفحات . وأطرف ما حدث معي في هذا المجال هو خلال قراءتي لرواية علاء الأسواني الأخيرة ( نادي السيارات ) فالرواية تروى على لسان راو ، وشخصياته .. ونظرا لأن لكل شخصية حدثا دراميا مشوقا ، تركت الراوي ورحت أتابع الفصول حسب أسماء الشخصيات التي تحملها ، وما أن انتهيت من الفصول التي تحمل عنوان (صالحة) حتى رحت أتابع الفصول التي تحمل عنوان ( كامل ) وأخرشيء عدت إلى الفصول التي كتبها الراوي لأنني أدرك أن الخيوط في النهاية ستتجمع عنده . كانت قراءة ممتعة فعلا ،وأشرت إلى ذلك في المقال الذي كتبته عن الرواية .
هذا الأمر الذي اقترفته مع رواية علاء لا يمكن اقترافه مع رواية محمود شقير لأنها لا تستند إلى الإغراق في الخيال المصطنع،وأقصد بالمصطنع الدرامي المثير . رواية محمود تستند إلى واقع واقعي ،إلى ملحمة شعب في سيرورة حياته العادية ، يرويها بكل أمانة وصدق ،باذلا كل جهده في تقديم معادل فني واقعي لهذه الحياة بشموليتها وخصوصيتها. ولا أظن أن أحدا في الأدب العربي كله كتب رواية حسب هذا المنهج المغرق في الواقعية .
يبدأ محمود روايته من آخر نقطة فيها : الغاء السفر . ثم يعود القهقرى إلى الماضي ، ليفتح منه خطوطا متعددة تتقهقر بدرورها في الزمن التاريخي أو تخطو خطوة إلى الأمام أو تدخل في النسيج الروحي والإجتماعي للناس ، أو تدخل حتى في أحلامهم وما يطرأ من تطورات على حياتهم وتحولات في طرق معيشتهم ، متنقلا بين شخصياته من شخصية إلى أخرى ، ليبدو محمود لاعبا ماهرا في تكثيف الزمن واللعب بسيرورته . أنا شخصيا لو أردت أن أكتب رواية تستند إلى التاريخ لاحتجت لأكثر من ألف صفحة .
لا يعود محمود بنا إلى اغلاق الدائرة ( النقطة ) التي انطلق منها (الغاء السفر إلى بيروت ) إلا في الصفحة ( 184) حيث يسافر محمد وسناء إلى اسبانيا .
أسهبت في الحديث كالعادة مع أنني لم أتطرق إلى أحداث الرواية إلا بالعموميات ، وهذا موضوع يحتاج إلى مقال آخر يلخص أحداث الرواية ،ولا أظن أنني سأقوم به ، لأن معظم من كتبوا تطرقوا إليه . وهناك أشياء كثيرة أخرى كانت تجول في مخيلتي وقد أهملتها أيضا ، حتى لا أطيل أكثر مما أطلت.
لكن بودي أن أشير إلى أنني قرأت مشهد رحيل منان أربع مرات عبر قراءات متباعدة ،وفي كل مرة كانت عيناي تغرورقان بالدموع ، ربما لأنني انسان عاطفي جدا ، وربما لأنني شعرت أن في منان بعضا من أبي وأب محمود ،وربما لأن محمود أبدع في رسم مشهد الرحيل.
****




















(3)
ملحمتا محمود شقير بين خصوصية الخطاب السردي
والإستلهام المقصود !
( رد على د. غسان عبد الخالق )
"صديقي العزيز الأستاذ محمود شاهين ... أشكرلك مبادرتك للتعليق على مقالتي حول رواية " مديح لنساء العائلة " ، واسمح لي بأن أؤكد كل الأطر المرجعية ... الرئيسة والثانوية ... التي نوهت بها في مقالتي ... علما بأن الرواية منقوعة بهذه الأطر وتفيض بها فيضا ... سواء على صعيد استلهام السيرة الهلالية أم على صعيد أدب الرسائل أم على صعيد أدب المنامات أم على صعيد أدب الرحلة أم على صعيد استحضار نموذج شهرزاد . وفضلا عن أن الاستلهام لا يعني بحال من الأحوال الترجمة الحرفية والميكانيكية للسيرة الهلالية وغيرها من النماذج التي تم استلهامها ... فإن أخشى ما أخشى قوله هنا هو أنك تحمست للتعليق على مقالتي حول الرواية قبل أن يتسع وقتك لقراءة الرواية !!! مع بالغ الاحترام والتقديروالحب لشخصكم الكريم .
تستلهم الرواية مأساة تغريبة بني هلال التي تحكي ما واجهوه من صعاب وما خاضوه من حروب في طريق عودتهم من المغرب الأقصى –وفي رواية أخرى من الأندلس- إلى مصر، حيث تعرّضوا لما يمكن تسميته (تصفيات حساب) مع كل خصومهم الذين سبق لهم أن تسببوا بتشريدهم وتدمير ديارهم. ومع أنّ السارد لا يأتي على ذكر هذه التغريبة صراحة، إلاّ من خلال بعض الإشارات الخاطفة لعازف الربابة المولع بالسيرة الهلالية طبعًا، إلاّ أنّ الإطار العام للحكاية، والذي يمكن تلخيصه في تزايد رغبة زعيم قبيلة العبد اللات في الارتحال بقومه من عمق الصحراء إلى تخوم القدس خلال أعوام الحرب العالمية الأولى، يعزّز لدينا هذا الاستلهام غير المباشر. ومن المؤسف أن تتجه أنظار بعض النقاد الذين قرأوا الرواية إلى المقارنة بينها وبين (مائة عام من العزلة) لجابرييل ماركيز، بدلاً من قراءتها في ضوء تغريبة بني هلال، وهي المرجعية الثقافية الأوثق الأعمق. والحق أن ما تعرّضت له قبيلة العبد اللات من صعوبات وما واجهته من عقبات في طريق ارتحالها لمتاخمة مدينة القدس يزيد من قناعتنا بوجود هذا الاستلهام لتغريبة بني هلال. "*
* د. غسان عبد الخالق . نادي الجسرة الثقافي.
*****
عزيزي الأستاذ غسان . اشكرك بدوري على الرد .الذي دفعني إلى التفكير في رد مطول .
كنت قد كتبت تعليقا قصيرا على صفحة الجسرة ،أشكرك فيه على المقال وأشير إلى اختلافي معك حول استلهام سيرة بني هلال .غير أن الجسرة لم تنشره .
في مقالك الحالي أشرت إلى أن محمود استلهم مرجعيات تراثية أخرى :
(والحق إن الجزء الثاني الذي تدثر بعنوان شعري لافت "مديح لنساء العائلة" لم يشتمل على ما يؤكد المرجعية الهلالية فقط، بل اشتمل أيضًاعلى مرجعية ثانوية كنت قد لمّحت لها في مقالي الأول، وأعني بها "شهرزاد" بكل ما يمكن أن تحيل إليه من سياقات تتصل بليالي السمر العربية، فضلاً عن أدب السيرة النبوية وأدب الرسائل وأدب المنامات وأدب الرحلات)
أظن لو أنك قلت إن محمود شقير استلهم عبر تجربته الأدبية المديدة، الأساليب المختلفة لفنون السرد الأدبي، بما فيها التي تذكرها أعلاه ، والتي لا تتفق مع من تطرقوا لها (مائة عام من العزلة ) ولكن حين كتب لم يكن إلا مع نفسه ، ليخرج بأسلوب محمود شقير وحده . لو أنك قلت ذلك ولم تتقيد بالتغريبة الهلالية لكنت قاربت الحقيقة . وهذا هو رأيي .
فثقافة البشرية وليس الأدب وحده تؤثر وتتأثر . وللكاتب الحق أن يستلهم اسلوبا محددا بعينه كما سبق لي وأن استلهمت اسلوب أميل حبيبي إلى حد التمثل في ( الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ) في قصة لي كتبتها في سبعينيات القرن الماضي تحمل عنوان ( الأسباب العجيبة التي حدت بمواطن مجهول الى الوقوف ضد الزيارة وضد المختار) نشرت في مجموعتي القصصية الثانية ( الخطار ) عن دار القدس 79..وكما للكاتب الحق وبالتأكيد في أن يستلهم دون أن يتمثل أو يقلد أو يحاكي أسلوبا بعينه كما فعل محمود شقير .
إنّ محمود شقير في روايتيه لم يستلهم حسب ما أعتقد إلا من الواقع الفلسطيني ، وبشكل خاص هجرة عرب السواحرة من برّية القدس إلى ضواحيها ،وليس للأمر أيّة علاقة على الإطلاق بهجرة بني هلال أو سيرتهم .
وسامحك الله تفترض أنني لا أعرف ما هو الإستلهام وتفترض أنني لم أقرأ رواية محمود شقيروتسرعت في الرد عليك .. هل يعقل هذا يا عزيزي أن توجه لي هذين الإتهامين وأنت أديب وناقد ، دون أن تستند إلى مرجع !
لقد قرأت الرواية مخطوطة يا عزيزي وكانت بعنوان غير الذي تحمله حاليا .. وأعدت قراءتها بعد النشر . وأراجع حاليا بعض فصولها . وبالأمس بكيت على رحيل منان ، انزلقت دمعتان من عيني دون إرادتي . وقد سبق لي وأن كتبت عن الجزء الأول مقالا مطولا نشر في شؤون فلسطينية وفي العديد من المواقع منها الحوار المتمدن ، بعنوان " البطولة الجماعية في فرس العائلة "
محبتي واحترامي .
.










(4)
" أصابع لوليتا " حب وألم وفهم تقليدي لسفر أيوب !

في أكثر من خمسمائة صفحة يوغل بنا واسيني الأعرج في متاهات الحب والألم ، في ظلام السجون وعصور الإنقلابات ، متنقلا بين آلام الجزائر وأحضان المنفى الباريسي ، ثوار يقتلون وثورات تغتال ، أشراف يسقطون وأوغاد يعتلون العروش ، مناضلون وأدباء يلاحقون ،ويطاردون في المنافي ، حتى أريج الحب الذي يعبق فجأة في ليالي يونس مارينا ، لا يلبث أن
يتدمر على أرصفة الألم .
يونس مارينا كاتب جزائري مشهور ، يهرب من وطنه بعد ملاحقة انقلابيين له على أثرمقالات صحفية كان يكتبها عن معاناة الزعيم الذي انقُلب عليه في السجن . يقع في حب عارضة أزياء شابة (لولا) كانت معجبة بكتاباته . غير أن هذا الحب لا يلبث أن يتحطم حين تنتحر الشابة لما كانت تعانيه من آلام مكبوتة في نفسها ، فهي ضحية والدها التاجر الذي اغتصب عذريتها وهي في سن المراهقة .
في مشهد مؤثر طويل نسبيا يصف واسيني لحظات ما قبل الإنتحار ، حيث كانت الفتاة تخطوعلى رصيف الشانزيليزي وسط عاصفة ثلجية وتلقي نحو مارينا الذي كان يرقبها من شرفة غرفته في فندق ، نظرات وداعية وترسل إليه قبلات في الهواء :
" شعت ابتسامتها مثل البرق الخاطف . ما كادت ترفع رأسها من جديد نحوه وتعيد الحركة نفسها بقبلة أخرى ،حتى لمع برق أعمى بصره ، هل كان الألق القادم من كل حواسها الحية ،أم مجرد دوار سحره حتى غير كل شيء في عينيه ؟ فتح عينيه عن آخرهما ..
كان الإنفجار جافا وحادا هز الشرفة وزجاج الكثير من المحلات ،فتطاير جسدها الهش في كل اتجاه مشكلا حرائق صغيرة ظلت مشتعله في مكانها على كتل الثلج مدة طويلة " ( ص 476)
يأتي انتحار الفتاة مفاجئا وصادما،فلم يكن هناك أي تلميح له في مقدمات الفصول العاصفة بالحب بين الطرفين ، وإن كانت الآلام التي مرت بها الفتاة في حياتها حاضرة ،عبر لغة واسيني الشاعرية جدا في أغلب فصول الرواية ، غير أنها لا تخلو من اسهاب في بعض الفصول ، وخاصة تلك التي تتحدث عن الأزياء وعروضها وعارضاتها ، وعن شغف مارينا بلوليتا .
يوقع واسيني القارئ في حيرة حين يشير إلى ما نشره الأمن الفرنسي الذي كان مسؤولا عن حماية مارينا من التهديدات بالإغتيال التي كانت تلاحقه ، حين ينشر
( الأمن ) أخبارا مفادها أن الفتاة كانت مكلفة من قبل جهات ارهابية باغتيال مارينا . وليس في الرواية ما يشير إلى ذلك في حياة لولا التي لم يكن لها أية علاقة بالإرهاب والإرهابيين ،إلا عبر تصريحات الأمن التي أشارت أيضا إلى أنها قتلت أخاها ، ففي النص الصوتي المسجل على هاتف مارينا من قبل رجل أمن محذرا مارينا من فتح غرفته لأحد حتى للوليتا ، فهي " اسمها الحقيقي ملاك ، تتحرك بجواز مزور ، وهي متابعة من طرف الإنتربول بسبب جريمة ارتكبتها في جاكرتا ضد أخيها الذي كان يتاجر في إندونيسيا .. وهي مكلفة بقتلك من طرف تنظيم مرتبط بجهة متطرفة تم تفكيك جزء كبير منها ... "( ص 484)
ولو كان الأمر كذلك لاستغله واسيني ومهد له بأسلوب مختلف ، جعل الرواية أكثر تشويقا ودرامية ، فهل هناك ما هو مشوق أكثر من ترقب مقتل شخص أو عدمه من قبل من ستقتله بعد أن وقعت في حبه ؟!
تتضح الدعاية الأمنية حين تبث الأخبار بشكل مفتعل وخاصة من التلفزيون ، الذي راح يتحدث عن "عمل إرهابي في الشانزيليزي نفذته ارهابية " (485- 486)
فلوليتا ، كانت مع مارينا في الغرفة قبل أن تنزل ، ولو أرادت أن تغتاله لاغتالته بتفجير نفسها معه . ( وهنا يضعنا واسيني أمام احتمال آخر ، أن الفتاة عدلت عن قتل نفسها مع مارينا إذا كانت مكلفة باغتياله أو إذا كانت ترغب في الإنتحار معه )
ويظل الإلتباس قائما وخاصة بوجود النص الصوتي على الهاتف الذي يحذر مارينا
من فتح باب غرفته لأحد وإن جاء متأخرا ، أي بعد خروج لوليتا من غرفة مارينا ..
حفلت الرواية بالكثير من المشاهد المؤثرة . كمشاهد وصف الذبابة في سجن الريس بابانا الذي كما يبدو يرمز إلى شخصية ابن بلة أول رئيس للجزائر بعد الثورة . ولقاء مارينا له في أوروبا .. ومشاهد أخرى كثيرة ..كما حفلت بالكثير من الوقائع المتعلقة بالجزائر ، وعارضات الأزياء وغيرها .
وكثيرا ما يلجأ واسيني إلى استطرادات ثقافية وحوارات معرفية في الثقافة والفنون والآداب والنفس الإنسانية ، تثقل على العمل في بعضها .. فلا يدع الأحداث تسير وتتطور بتلقائيتها دون هذا الإثقال ، أو دون اسهاب فيها ، وأحيانا يقوم بطرح وجهات نظر تقليدية أو خاطئة في مسألة ما ، كما هي وجهة نظره في سفر أيوب .
* الفهم التقليدي والخطأ لسفر أيوب !

في معرض حديثة عن المازوشية التي حشر الحديث عنها على لسان بطله دون مبررات مقنعة ، يقول:
" وحدها الصدفة هي التي قادته إلى سفر أيوب ، وفتحت عينيه على الكثير من التفاصيل المبهمة فيه ، وعلى سحر المازوشية الآتي من بعيد ، تساءل لحظتها قبل أن يرتكن إلى إجابة في حالة ارتباك كلي : كيف يسمح الله للشيطان بأن يؤذي انسانا خيرا فقط ليختبر قدرته على المقاومة ؟ " ( 15)
محاولة الله والشيطان مع أيوب كانت لاختبار مدى إيمانه وليس اختبار قدرته على مقاومة الألم . يقول الشيطان ليهوه ( الإله حسب التوراة ) كما ورد في سفر أيوب:
1 :11 و لكن ابسط يدك الان و مس كل ما له فانه في وجهك يجدف عليك
والتجديف على الله هنا يقصد به الكفر.. وقدرة أيوب على مقاومة الألم لم تكن مطروحة على الإطلاق في الحوار بين الله والشيطان . والدليل هو أن أيوب احتمل الضربة الأولى التي أوقعها الشيطان في ماله وعياله ولم يجدف على الله بل قال :
1 :21 و قال عريانا خرجت من بطن امي و عريانا اعود الى هناك الرب اعطى و الرب اخذ فليكن اسم الرب مباركا
وبدلا من أن يقتنع الرب بإيمان أيوب حسب هذا الكلام الجميل ، راح يستجيب للشيطان في اللقاء الثاني بينهما ، حين أشار عليه :
2 :5 و لكن ابسط الان يدك و مس عظمه و لحمه فانه في وجهك يجدف عليك
فيقول الله :
2 :6 فقال الرب للشيطان ها هو في يدك و لكن احفظ نفسه
وتتكرر مسألة التجديف ثانية على لسان الشيطان وليس القدرة على المقاومة .
فالله يطلق يد الشيطان في جسد أيوب شريطة أن لا يميته (و لكن احفظ نفسه )


ويمعن واسيني في التحليل الخطأ بعد أن يتساءل :
" وكيف على الإنسان الذي يتلقى أقصى المحن والعقوبات المجانية ، بسبب أخطاء لم يرتكبها أبدا ، أن لا ينكر الله ، بل وأن يحبه على الرغم من الظلم المسلط عليه ،ويتلذذ بهذا الألم المقدس . لا بد أن يكون شيء من المازوشية في كل الكائنات لتتقبل هذه الحالات بلذة " ( ص15)
وهذا ما جعلني أتساءل : هل فعلا قرأ واسيني سفر أيوب ووجد أن أيوب يتلذذ بالألم المقدس ومحبة الله ؟ أم أنه قرأه على عجل ولم يسبر ما يبطنه، خاصة وأنه يشير إلى تفاصيل مبهمة في النص ؟!
لقد وضحت ذلك في دراستي المقارنة على النت ( أيوب التوراتي وفاوست غوته ) وهذه بعض شكاوي أيوب من الظلم الذي وقع عليه بعد أن أصبح مجرد جلد على عظم :
16 لو دعوت فاستجاب لي ، لما آمنت بأنه سمع صوتي
17 ذاك الذي يسحقني بالعاصفة، ويكثر جروحي بلا سبب
18 لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر
**************
32 لأنه ليس هو إنسانا مثلي فأجاوبه، فنأتي جميعا إلى المحاكمة
33 ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا
34 ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه
35 إذا أتكلم ولا أخافه ، لأني لست هكذا عند نفسي
*******
( سفر أيوب 10 )

20 عظمي قد لصق بجلدي ولحمي، ونجوت بجلد أسناني
21 تراءفوا، تراءفوا أنتم علي يا أصحابي، لأن يد الله قد مستني
22 لماذا تطاردونني كما الله، ولا تشبعون من لحمي
23 ليت كلماتي الآن تكتب. يا ليتها رسمت في سفر
24 ونقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد وبرصاص

( سفر أيوب 19 )

النص واضح جدا وليس في حاجة إلى شرح ، أيوب يطالب الله أن يرفع عنه عصاه وأن لا يسلط عليه رعبه . ورد فعل الله معروف لمن يهمه أن يرى الحقيقة .. وفي الإمكان العودة إلى بحثنا على النت إن أراد التوسع في فهم الأمر ، أو بالعودة إلى السفر نفسه ، وهوملحمة أدبية تقع في 42 صفحة .
لقد تحول سفر أيوب إلى صراع بين أيوب والله بفتنة شيطانية .. ولم ينتصر الله على أيوب إلا بجبروته :

:6 فاجاب الرب ايوب من العاصفة فقال
40 :7 الان شد حقويك كرجل اسالك فتعلمني
40 :8 لعلك تناقض حكمي تستذنبني لكي تتبرر انت
40 :9 هل لك ذراع كما لله و بصوت مثل صوته ترعد
والمسكين أيوب لم يبق لديه حقوان ليشدهما ويقف كرجل أمام الله بكل جبروته وصوته المرعد ، فلا يجد غير الإستسلام .
قلنا في بحثنا إن ملحمة أيوب هي أول وأقدم ملحمة انسانية تراجيدية تطرح أسئلة وجودية عميقة ما تزال قائمة في عالمنا حتى اليوم ،صيغت بلغة غاية في الرفعة والسمو . وأنه لأمر مؤسف جدا أن يأتي كاتب مثقف بحجم واسيني الأعرج ويفهمها بشكل تقليدي بل وربما أسوأ بإسقاط المازوشية عليها . لقد سبق ملحمة سفر أيوب " ملحمة جلجامش " السومرية ، وهي ملحمة تبحث في سر الخلود ،وليس في ما هية وجوهر الله وعما إذا كان يحمل الخير والشر في ذاته ، كما في سفر أيوب .
*****
(5)
تألق الخطاب الملحمي بين الشاعرية والتاريخ
في " زمن الخيول البيضاء "
( مجلة نزوى العمانية العدد 83 حزيران 2015)
مدخل:
على مدار أكثر من خمسمائة صفحة في ثلاثة كتب تشكل أجزاء الملحمة هي ( الريح ، التراب ، البشر ) يحلق بنا ابراهيم نصر الله بلغة شاعرية ملحمية متتبعا آثارالألم الفلسطيني عبر زمن يمتد لبضعة عقود ، من أواخرسني العهد التركي إلى عام النكبة ، عام 1948 .
يتنقل ابراهيم بين الحب والألم ، بين عشق التراب والأفراس ووله الحب بالفاتنات من النساء ، بين تماوج سنابل القمح وصهيل الخيول ، بين زغاريد النساء وعشق الجمال ، بين فيض العادات والتقاليد الراسخة والترنم بأغنيات الفرح إلى التفجع بالندب على الراحلين . سيول من الدماء وأنهار من الدموع . تعسف وصلف محتلين وغزاة ، يواجه بتمرد عاشقين لا ينتصرون رغم بطولاتهم ، كما لم ينتصر جليات على داود قبل ثلاثة آلاف عام ، . شموخ وكبرياء ، أصالة ونبل . كرم ورجولة . حب وحرب . عمالة ونذالة . تواطؤ وتآمر . قتل وتدمير . ترحيل وتهجير وسجون . حرق ونسف بيوت . إنها القيامة ! قيامة شعب أبى أن يركع على أقدام الغزاة ، وظل مخلصا لتراب أنجبه ، كما كان مخلصا طوال ثلاثة آلاف عام ونيف ، ليواجه الغزاة القادمين ، مسلحين بالسيوف والوعود ألإلهية ، ليبيدوا الإنسان والحيوان .
ينهض جليات من أعماق التاريخ ممثلا بالحاج خالد ليواجه ديفيد ، وتنهض دليلة من العمق نفسه لتقص شعر شمشون ، سر قوته .
يطوي ابراهيم صفحات التاريخ متلاعبا بوطأته بين تقديم وتأخير وتجاوز، ليجعل الزمن ماثلا بين يديه ،متحكما به ، متنقلا من حالات اجتماعية متخيلة إلى حالات وثائقية تاريخية ، جاهدا لأن يماهي المتخيل الملحمي بالوثائقي التاريخي ، ليوحد بينهما في أفق يمتد طويلا ليغطي صفحات الملحمة ، مضفيا عليها جمالية خطابية لم يطرقها ويبلغها كاتب من قبل .
في رسالة لي لإبراهيم خلال قراءتي الثانية للملحمة للكتابة عنها ، قلت :
( لم أذرف دموعا في حياتي كما ذرفتها على صفحات هذه الملحمة ، ، وعلى مواقف يتعلق معظمها بالعادات والتقاليد والتعامل مع الخيول ، مما تأصل في نفوس هؤلاء الناس الطيبيين وشكل نسيج أرواحهم ، لم أحب الخيول في حياتي كما أحببتها في الرواية ولا أظن أن كاتبا في العالم كتب عن الخيول بهذه المحبة وهذا الوله .. شاعرية مدهشة .. رواية استحقت عنوانها بجدارة .. ما أستطيع قوله أن هذه الدموع أراحتني كثيرا ربما لأنني كنت في حاجة إليها ، ليس لأغسل عيني بل لأنفس عن حالي ! )
سنتوقف قدر الإمكان مع الكتب الثلاثة التي شملتها الملحمة ، كل كتاب على حدة ، لعلنا بذلك نلم بهذا العالم الذي رسمته بتؤدة وجلد ومعاناة ، خطها قلم ابراهيم نصر الله .
* الكتاب الأول : الريح .
ضم الكتاب الأول 56 فصلا حسب ترقيمي ، إذ لم يرقم ابراهيم الفصول . شملت 182 صفحة ، بدأت ب "وصول الحمامة "( الفرس ) وانتهت ب " حافة القيامة " حيث هبت عاصفة هوجاء كادت أن تقتلع البيوت والأشجار .
يبدأ الكتاب باستجارة فرس مسروقة ( الحمامة ) بمضافة الحاج محمود، تأبى الإذعان لسارقها ، يهرع الحاج وابنه خالد وآخرون نحو الفرس وفارسها الذي نزل عنها وفر هاربا ما أن رأى الهارعين إليه..
هذه البداية كانت في العهد العثماني أما النهاية فكانت في العهد البريطاني حيث أطلقت النار في ليلة العاصفة على الإبن خالد الذي غدا حاجا .
يبدأ ابراهيم روايته بنفس ملحمي شاعري هيمن على الكتاب الأول بكامله ، فمن الصفحة الأولى نلمس هذا النفس ، حين وظف التشبيه المجازي لوصول الفرس البيضاء واصفا إياها بكتلة الضوء :
" كان الفارس يحاول ما استطاع السيطرة على كتلة الضوء المتقافزة تحته ، كتلة الضوء التي تعانده غير عابئة بذلك الألم الذي يسببه اللجام . الألم الذي يتصاعد همهمات محترقة مع حرارة اللهاث . تطلعت كتلة الضوء إلى الأعلى وراحت تطلق صهيلها المجروح . عند ذلك صاح الحاج محمود : يا رجال هنالك حرة تستغيث . أجيروها ". (ص9)
صياح الحاج محمود ينقلنا إلى عالم الأساطير والحكايات ومفاهيم عميقة متأصلة في نفوس أهل البلدة ، فهو عرف من همهمة الفرس وصهيلها أنها مخطوفة وأنها تستغيث ، فهب الرجال وامتطوا خيولهم لنجدتها وهذا ما كان . لتصبح الفرس وابنتها وحفيدتها بعد ذلك من المعشوقات لدى الأسرة وخالد بشكل خاص ، حتى أنه لم يجد غيرها ليهيم بحبه بعد وفاة زوجته الأولى ( أمل ) متسممة بتناولها حفنة قطين . وليظل اسم (الحمامة ) ملازما للأفراس الثلاث رغم انتمائهن إلى ثلاثة أجيال .
هذه المفاهيم ومثول العادات والتقاليد والأعراف وأغاني وزغاريد الأفراح والمآتم والبطولات والمكرمات والتفاني والحب ، التي مثلت بقوة في الكتاب شكلت النسيج الروحي لأبناء البلدة ورسمت مقومات الشخصية الفلسطينية .
في مشهد عاطفي مؤثر يصف لنا ابراهيم لقاء طارق ابن الشيخ السعادات بفرسه الحمامة :
" أخذ وجهها بين راحتيه . أخفضت رأسها . هدأت تماما ،وأمام دهشة العيون المتطلعة إليه انحنى أمامها حتى استوى على ركبتيه . أمسك بحافرها الأول . رفعه برفق وقد منحته إليه . قبله بهدوء وأعاده إلى الأرض بهدوء أكثر . ثم أمسك بحافرها الثاني وقبله بالطريقة نفسها وهي تراقبه بانفعال " ( ص 30 )
يضعنا ابراهيم بهذا المشهد أمام أعمق سلوك روحي أخلاقي يعبر عن العلاقة الإنسانية الحميمة التي تربط العربي بما يملكه من ماشية وإبل وأغنام ، والخيول بشكل خاص ،وقد تأتي الإبل بعدها .
ومن القصص المحزنة عن الخيول يروي الشيخ السعادات قصة عن انتحارحصان أصيل كمموا عينيه ليسفد أخته ، وحين رفعوا الكمامة بعد اتمام الأمر . أدرك الحصان أنه سفد أخته . فامتنع عن الأكل والشرب إلى أن مات .
وعن حكمة الشيوخ يروي لنا ابراهيم كيف أعاد الشيخ ناصر (أمل) إلى خالد بعد أن طلقها خطأ قبل وفاتها ، فقد قال إنها أحلى من الشمس والقمر ، وهذا الكلام تطاول على خلق الله حسب الأعراف لا يجوز ، ومن يرتكب هذا الخطأ تصبح زوجته بحكم المطلقة ، مما أوقع خالد في حزن وكمد شديدين ، دفعاه إلى أن يجوب البلاد طولا وعرضا بحثا عن حل . وحين جاء إلى الشيخ ناصر ، قام الأخير بجمع الناس للصلاة وتعمد أن يخطئ في سورة التين قائلا :.. لقد خلقنا الشمس والقمر في أحسن تقويم ! فاعترض بعض المصلين . قطع الشيخ الصلاة وسألهم : ما الذي يقوله الله ؟ ردوا : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) " فقال الشيخ " مادمتم تعرفون أن الله يقول ذلك وأن الإنسان هو أجمل خلق الله ، فلماذا تفرقون بين الرجل وامرأته ؟ "
هذه الأجواء الملحمية التي تنهل من النسيج الروحي للناس لم تكن تجري في أجواء فردوسية أو عالم فردوسي كما قال بعض النقاد ، فتعسف العثمانيين كان ماثلا في الكثير من الصفحات والضرائب الباهظة التي يفرضونها لم تكن تحتمل فقد طالت حتى غطاء الرأس ، كالكوفية والعمامة والطربوش ! . ونهب الأموال والخيول وذبح المواشي والدجاج والحمام من قبل الدرك ، وتخريب البيوت وتدمير الحقول .. وسوق الرجال إلى حروب لا يعرفون أين تدور رحاها وقد لا يعودون منها أدت إلى تهرب كثيرين في الجبال .. وإذا أضفنا !لى ذلك تعسف عملاء السلطة يكون الظلم الواقع على الناس فظيعا .. فالهباب كان يقتل أي رجل يعترض على مطالبته بالأموال ، وكان يخطف من النساء الأجمل بموافقة الأهل أو عدمها ، حتى أنه قتل زوج ريحانة وتزوج منها وإن أذلته ، حتى موته كان مكيدة لسكان البلدة حين طلب إليهم أن يربطوه بالحبال ويجروا جثته حول البلدة مما دفع الدرك إلى القاء القبض على المئات بالجرم المشهود . فأين الفردوس الذي تحدث عنه النقاد ؟!
هذا عدا الصراعات العشائرية التي كانت تدور بين العائلات الكبيرة في البلد وتابعيها ، والتي كانت السلطة تغذيها .. وما يدفعه الناس إلى الدير الذي تبين أنه لفق عقود ملكية وشراء لأراضي البلدة وبيوتها ، بحيث أصبح سكان البلدة خدما وعبيدا له !
بطولات خالد بدأت تظهر شيئا فشيئا إلى أن توجت بملاحقة محصلي الضرائب ( الدرك ) ليلا لاستعادة الحمامة وكل ما نهبوه . قضى على أفراد الدرك جميعا واحدا واحدا في عتمة الليل ، إلى أن توج انتقامه للبلدة والناس وما فعلوه بهم بقتل قائد المجموعة ( الياور ) وأعاد الحمامة وكل ما نهب إلى أصحابه .. وبهذا يكون خالد قد توج فارسا للبلدة من قبل جميع سكانها .
أصبح معظم أبناء البلدة مشردين في الجبال بما فيهم أولاد الحاج محمود ، خالد ومصطفى ومحمد وسالم . قام محمد ومصطفى بزيارة أختهما العزيزة ليلا . وبناء على وشاية لم يكن زوج العزيزة والهباب بريئين منها قام الدرك بتطويق البيت وألقي القبض عليهما ليعدما في القدس بعد يومين . بكى خالد أخوية وهو يحتضن وجه الحمامة التي شاركته البكاء .
لم يكن التعسف هو مشكلة الناس بل القحط أيضا .. " جفت الآبار ولم يجد الرجل جرعة ماء يروي بها ظمأ أولاده ، أو ظمأ خرافه " " وفي السهول العالية كانت التجارة الرائجة التي يزداد بها الهباب غنى ، هي مبادلة النعجة بسلة تبن ، أما الخيول فكان الأمر معها مختلفا تماما " ( 153)
العزيزة التي تركت بيت زوجها هي وأولادها .. هالها يوم عاصف ممطر جرف سيله من على تلة تعلو البيت أشلاء أخويها من قبريهما .. راحت تلاحق السيل لتجد الأشلاء قد تجمعت أمام الباب في زاوية إلى جانب جدار " دخلت البيت . غابت قليلا , وحين خرجت ، كانت ملتفة بعباءة سوداء تحجبها تماما فوق ظهر الجليلة ." ( 158 )
لقد ذهبت العزيزة وقتلت زوجها عبد المجيد ، فيما راح الحاج محمود يجمع أشلاء وعظام ابنيه من زاوية الجدار ويدخلها إلى داخل الحوش ليتم دفنها فيما بعد ثانية في قبر واحد .
ينهي ابراهيم الكتاب الأول بظهور الإنكليز ليطوي صفحات الزمن العثماني ولا يعود إليه إلا لماما ، مشيرا إلى ذلك بإضافة لقب الحاج إلى اسم خالد ومحاولة اغتياله على يد دورية انكليزية ليلية برفقة أحد العملاء .
* الكتاب الثاني : التراب .
احتوى الكتاب الثاني (41) فصلا شملت ( 208) صفحات .
يبدأ الفصل الأول بعودة الحجاج وإطلاق الزغاريد والأغاني وسباق الخيول . ونكتشف في الفصل الثاني أن الحاج خالد قد تزوج من سمية ابنة البرمكي التي كانت قد صممت على الزواج منه بعد شهرته رغم أنه كان يخطب فتاة ثانية هي ياسمين .
ينجب الحاج خالد من سمية ثلاثة أبناء وبنتين ونعرف أنه تزوج منها في أواخر أيام العهد التركي .
يلاحظ أن ابراهيم يقوم بتعداد المواليد الأحياء منهم والأموات ليتجاوز الزمن إلى بدايات الصراع مع الإنكليز ، فقد حفلت الأعوام الأولى التي تلت الحرب العالمية بعض الهدوء لأن الأوضاع لم تتوضح بعد إلى أين تتجه وكان الناس منهكين من آثار الحرب .. ولم يسبق ثورة 1936 إلا تحركات قليلة كان أشهرها ما سمي ثورة البراق سنة 1929 .
يتغير الحاج خالد بعد زواجه حسب ما يشير ابراهيم " كما لو أنه طوى كل الصفحات القديمة مرة واحدة ، كما لو أنه أغلق كتاب الماضي ، لم تعد الإبتسامة تفارق شفتيه أبدا إلا حين يغضب " ( 189)
يشهد الكتاب العديد من التحولات الإجتماعية وزواج ناجي ومحمود والعمل في معسكرات للإنكليز.من أطرف ما فيه ولع فاطمة بالحيوانات والتخاطب معها والتأثير عليها فالجمل الهائج يهدأ أمامها والغزالة تستجير بها .. وقصص وحكايات كثيرة عن العمل والماضي ، واكتساح الجراد للبلدة ، وفرض ضرائب على الأرض .. وإقامة مستعمرة يهودية على قمة تل مجاور للبلدة ، والحمدي يأخذ مكان الهباب في التعامل مع الإنكليز واضطهاد الناس . وظهور الضابط الإنكليزي بترسون المولع بالقتل الهمجي وكتابة الشعر* . نقيضان اجتمعا في شخص كائن يقتل دون رحمة ويشرع في ركل ضحيته وهي تحتضرأو بعد موتها، ويكتب شعرا في اليوم نفسه . يتم قتله فيما بعد .
من المهم في هذا الكتاب هو دخول الوثيقة التاريخية كهامش يسند ما يتطرق إليه الخطاب الروائي . فبعد مقتل أول شرطي بريطاني في ( ثورة البراق ) نجد ابراهيم يشير في الهامش إلى " اعتقال 26 شابا فلسطينيا ممن شاركوا في ثورة الدفاع عن حائط البراق في القدس وأصدرت بحقهم أحكاما بالإعدام في محاكمة صورية ، ثم خففت الحكم عن 23 منهم إلى السجن المؤبد ،وأبقت حكم الإعدام بحق كل من محمد جمجوم وفؤاد حجازي ، وعطا الزير ، وتم اعدامهم في سجن عكا يوم 17/6/1930. وقد أعدم من المحكومين في ست سنين ( على يد الإنكليز ) في فلسطين وحدها أكثر مما أعدم في المملكة العثمانية الكبيرة في عهد السلطان عبد الحميد الذي طال أكثر من ثلاثين سنة ) ( 262)
تتصاعد الوقائع بعد ذلك بإضرام النار في المستوطنة ومداهمة الإنكليز للبلدة واعتقال الرجال وإحراق الحقول والبيوت .. مقتل بعض الرجال وإهانة الحاج خالد من قبل بترسون بنزع شاربيه .( 278)
الحاج خالد يعود إلى الحياة بعد محاولة اغتياله التي تم استباق الحديث عنها في نهاية الكتاب الأول . وكانوا قد حفروا له قبرا إلى جانب ابنيه ، غير أن معجزة طبية أنقذت حياته في المستشفى الذي نقل إليه . ليتم اعتقاله على أثر مقتل شقيق النجار . غير أنه هرب من السجن ليتحول إلى اسطورة ويشرع في قيادة مجموعات قتالية للنضال ضد الإنكليز في ثورة 1936 . وحين لم يتم لبترسون القبض عليه قام بنسف بيته .
معارك طاحنة مع الإنكليز .. ولجوء الحاج خالد إلى الشام لبضعة أشهر.. وإعدام ابني العزيزة فايز وزيد بتهمة قتل ضابط وثلاثة جنود بريطانيين . ( 341)
مشاهد مؤلمة لحزن العزيزة على ابنيها وهي تلطم خديها وتصرخ وتبكي وتتمرغ على سجاد المسجد الأقصى وكأنها تريد لله أن يشاركها مأساتها ..
تعذيب سكان البلدة بأن يبقوا طوال الليل في العراء في فصل الشتاء . ونسف وتدمير للبيوت ..
وقوع الحاج خالد ومن معه في كمين يؤدي إلى استشهاده . وعكس ما كان يفعله بترسون مع ضحاياه أمر جنوده بحفر قبر للحاج خالد وبحضور الجنرال مونتغمري قائد القوات الإنكليزية في شمال فلسطين . تم "إطلاق النارفي الهواء تحية للحاج في الوقت الذي كان بترسون ومونتغمري والضباط الكبار يؤدون التحية العسكريى للجسد المسجى " ( 375)
سنكتفي بهذا القدر من أهوال الكتاب الثاني لننتقل إلى الكتاب الثالث:
* الكتاب الثالث : البشر .
شمل الكتاب الثالث ( 116) صفحة في (24) فصلا بدأت بعصر الأب ( منولي) الذي حل محل الأب ثيودورس في الدير وانتهت بحرق البلدة وتهجير السكان إلى المنافي وسط الدموع والأحزان والويلات ليطول الفراق ويمتد إلى الزمن الحاضر .
الدير يسعى لمصادرة أراضي البلدة وسعي أهلها لدى سليم بيك الهاشمي للمساعدة . مقتل باترسون على يد الثوار . طيور سمان منهكة تعلق بشباك الصيادين على شاطئ بحر يافا ومحمود ابن الحاج خالد يغرق في حب ليلى . قضية أرض الهادية تخسر أمام المحامي ابن الهاشمي .. واللجوء إلى المحامي سليم المروزقي الذي اشترط أن تكون حقوقه خمسين جنيها مقابل كل كلمة يقولها في المحكمة !. الدير يحاول بيع أراضي البلدة ليهودي والحاج سالم وحشد من الناس يتصدون لجماعة البائع والشاري .مقتل اثنين وجرح آخرين بقذائف أطلقت من المستوطنة . ناجي يلتحق بالبوليس الإنكليزي ، ليساعد الناس في الحصول على السلاح من معسكرات الإنكليز . محمود يغدو سكرتير تحرير للصحيفة التي يعمل فيها لاستغلال اسمه كإبن للحاج خالد . عفاف تكتشف حب محمود لليلى . ناجي في نوبة حراسة ليلية يذيق طعم الموت لمستر ( كمن ) قائد المعسكر.سمعة الهاشمي، (رجل بريطانيا) تسوء بين الناس فيلجأ إلى المندوب السامي ليعتقل أمام الناس ويسجن لثلاثة أسابيع في سجن مفتعل بخمس نجوم ليخرج بعدها بطلا وطنيا . أبناء البلدة يسلبون السلاح من معسكر انكليزي بمساعدة ضا بط عربي .
المرزوقي يكسب قضية أراضي البلدة ، والأهالي يجمعون مواشيهم ليطلقوها دفعة واحدة أمام لجنة الكشف التي أرسلها القاضي لإثبات ملكية الأرض بأن الناس ملاك وليسوا عبيدا وعمالا :
" اندفعت الجمال والأبقار والخيول والأغنام والكلاب والقطط والدجاج كلها معا ،وخلفها الناس يستحثونها ويندفعون معها " ( 465)
لم يكن من السهل على سالم شحاده عد الكلمات التي نطق بها المحامي المرزوقي في قاعة المحكمة ، فاتفق على أن تكون ألف كلمة وبهذا يتوجب على سكان البلدة أن يدفعوا خمسين ألف جنيه! بهت الجميع وصمتوا .. تنازل المرزوقي عن نصف المبلغ مقابل إحضار السكان بعض الكواشين والوثائق التي تثبت الملكية . وحين ظل الرجال صامتين . قال المرزوقي :
" حين قلت لكم أريد خمسين جنيها مقابل كل كلمة أقولها . يا أخوان لم أكن أريد إلا شيئا واحدا لا غير ، أن أتأكد من أنكم مستعدون لفعل أي شيء من أجل قريتكم . لقد أعدت لكم الهادية نعم . ولكني أعدتها لي أيضا ، أم أنكم تعتقدون أنها لكم وحدكم ؟!!
في تلك اللحظة طفر الدمع من عيون الرجال " ( 467/468)
معارك عديدة تحتدم وجيش الإنقاذ يدعي أنه لم يتلق أوامر للمشاركة في القتال .
نصب كمين لقافلة انكليزية وحرق جميع مصفحاتها . يقول متحدث : ( ما حصل ذلك اليوم لا يمكن أن أنساه أبدا . لا،لا يمكن)
كتابة اسم الحاج أمين الحسيني على حمار دار به اليهود شوارع محانيه يهودا ، أثار غضب الناس فانتفضوا في كافة أنحاء فلسطين وتم نهب سوق الشماعة وإحراقه .
الإستيلاء على سلاح مركز بوليس انكليزي . نسف برج المستوطنة في الهادية . المستوطنة تنتقم بقنص الرجال وقتلهم ، لتختفي الحركة في شوارع البلدة .
وصول قوة من جيش الإنقاذ إلى البلدة . وبعد بضعة أيام جاءت الأوامر بالإنسحاب لأنه تم إعلان الهدنة .
اليهود يفجرون المقاهي بالقنابل ويزرعون ألغاما موقوتة في الأسواق لتحصد العشرات .. ( هامش 486)
وصول ناجي إلى الهادية والنار تشتعل في بيوتها .. دار في أحيائها لم يعثر على أي أثر لحياة . فقد داهم اليهود البلدة وفتكوا بالسكان فقتل من قتل وهرب من هرب .
القاوقجي الذي نجح في إيقاف ثورة 1936 ، عين فيما بعد بإجماع الملوك والزعماء العرب قائدا ميدانيا لجيش الإنقاذ .. انسحب بقواته ليستقر في جنوب لبنان . ( هامش 488)
قوة مصرية تصل إلى البلدة وتساعد من بقي من أهل القرية على دفن القتلى .
" من الحوادث المشهودة قيام فرقة من جيش الإنقاذ بقصف فرقة أخرى هاجمت مستعمرة اسرائيلية قرب غزة لأنها لم تأخذ الإذن من الفرقة الأولى وأمرتها بالتراجع " ( هامش 491)
" بعد أن استقبل القاوقجي في الشمال الفلسطيني بحفاوة كبطل يقود جيش الإنقاذ خرج من فلسطين مذموما تلاحقه اللعنات " ( هامش 492)
القوة المصرية تحاصر في الهادية وتواجه الحصار ببطولة .وحوار بإشراف الأمم المتحدة بين قادة القوة والضباط الإسرائيليين . تم الإتفاق على هدنة نقضها اليهود بعد عشرة أيام حين باغتوا القوة المصرية بهجوم . دارت معركة بين الطرفين . امتلأت الحارات والملاجىء بجثث القتلى ..
القائد المصري قرر أن ينتقم بأن أعلن لقوات الأمم المتحدة أنه سيخرج مع قواته مستسلما رافعين الرايات البيض شريطة أن تضمن سلامتهم . فرح اليهود بالأمر وتجمعوا في ساحة ينتطرون ظهور رايات القوة المصرية ، لكنهم فوجئوا بالقذائف تنهال عليهم ..
"أدرك الإسرائيليون أن الهادية لن تسقط بالقوة أبدا " ( 500)
أخيرا تم الإتفاق على خروج القوة التي اصطحبت بعض رجال البلدة معها وفي مقدمتهم الحاج سالم .
عودة إلى قنص الناس من المستوطنة وسط فرض حظر التجول .. مصفحات تجوب البلدة وتطلق النار .." اقفلت أبواب الحياة تماما ..نفق ما تبقى من مواش لعدم وجود شيء تأكله .." ( 501)
لم يبق أمام الناس إلا الرحيل بضمانات من قوات الأمم المتحدة .."بدأ الناس بجمع أشيائهم بانتظار يوم الرحيل وجاء عدد آخر من مراقبي الهدنة لتنظيم خروج الناس " ( 503)
أمطرت السماء ولم تأت شاحنات ..فبات الناس تحت المطر في العراء وقد منعوا من العودة إلى بيوتهم ..نصبت لهم خيم .. وبدأت القذائف تتساقط على القرية وحتى على الدير في محاولة لمحو القرية من الوجود ...( 504)
مرت أيام قاسية مريرة إلى أن وصلت الشاحنات أخيرا ..صعدوا إليها بصعوبة لإنهاك قواهم من جراء الإقامة في العراء ..
"انحدرت شلالات الدمع على وجه منيرة وأحفادها وعفاف وأولادها وحسين وأولاده وأم الفار، الذين كانوا قد تجمعوا في صندوق تلك الشاحنة البيضاء.. دوت عدة انفجارات .. التفتوا فإذا بالنار تلتهم عددا من بيوت البلدة ..راحت العزيزة ترقب النار التي تتصاعد ملتهمة البرج وما فيه وعندها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبدا : كان الحمام يطير محترقا قاطعا مسافات لم تفكر يوما أن حماما بأجنحة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهاياتها، وحيثما راح يسقط في البساتين والكروم والسهول المحيطة كانت نار جديدة تشتعل .. وحين وصلت العربات إلى تلك النقطة العالية التي تتيح للناس مشاهدة الهادية للمرة الأخيرة ، كانت السنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع " ( 506)
******
لا شك أن بلدة الهادية إن كانت متخيلة أو غير متخيلة (أي أن يكون لها وجود حقيقي على التراب الفلسطيني ) قد نسجت وقائعها من تفاصيل الواقع الفلسطيني في الزمنين التركي والبريطاني ،واستلهم ابراهيم التراث الفلسطيني بمعظم جوانبه
ليرسم به النسيج الروحي لأبنائها ، لتغدو ممثلة لفلسطين كلها ، بل فلسطين نفسها . ولقد ساعدت الوقائع التاريخية الوثائقية على رسم صورة متكاملة للواقع أغنت رسم النسيج المتخيل للملحمة ، بحيث غدا النسيج كلا واحدا بكتبه الثلاثة ..
وقد أضفت الموهبة الشعرية لإبراهيم على إثراء البعد الملحمي لخطابه الروائي .
ولا ننسى أن القضية الفلسطينية بحد ذاتها تحمل في طيات تاريخها بعدا ملحميا ، فمنذ أن غزا بنو اسرائيل أريحا بقيادة يشوع بن نون عام 1186 ق. م. استنادا إلى وعد إلهي ، فقتلو جميع سكانها ما عدا العاهرة العميلة راحاب ، وقتلوا حتى حيواناتها .. مرورا بقيام يهوة بقتل الإله الفلسطيني داجون ،وصراع جليات مع ديفيد ومصرعه بحجر من مقلاعه ، وانتهاء باغتيال ياسر عرفات في عصرنا ، وفلسطين تعيش ملحمة صراع طويلة ، لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا لها . كما لم يشهد الأدب العربي برمته عملا تاريخيا عن فلسطين بحجم " زمن الخيول البيضاء " وإذا ما أضفنا إلى ذلك " قناديل ملك الجليل " وخمسة أعمال أخرى تكمل الملهاة الفلسطينية ‘ فإن ابراهيم بذلك يكون قد عمل ما لم يعمله أي كاتب عربي قط ، لا ليؤرخ لحياة شعب ، بل ليرسم نسيج روحه ، وينشر على الملأ أصالة هذا الشعب ، برسوخ عاداته وتقاليده وأهازيجه وأغانيه وشجاعته ،وكل ما يغرس جذوره بعيدا في أعماق التاريخ .
ولا يسعني في الختام إلا أن أقول : إن زمن الخيول البيضاء هي الملحمة الفلسطينية في جزئها الأول .. ولا نعرف من سيكتب الملحمة في جزئها الأخير( ما بعد 48 وحتى اليوم ) الذي لن يكون له نهاية . ويهمني أن أنوه بجهود الأديب يحيى يخلف في ثلاثيته وجهود محمود شقير في ثنائيته التي ستغدو ثلاثية بالتأكيد ، ولا أعرف إن كان هناك آخرون حاولوا أو يحاولون .وأدرك وعورة هذا الطريق الشائك الذي يصعب سلوكه !
******
* طرحت على ابراهيم بعض الأسئلة حول الأشعار التي كان يكتبها بترسون بعد قتل ضحاياه عما إذا كانت من تأليفه ، فلم يرغب بالإفصاح ونوه أن هذه مسألة تتعلق ببناء الشخصية . وعن الوثائق التاريخية التي وردت ضمن النص بحرف مميز أو في الهوامش ، أكد على صحتها وأنها لشخصيات تاريخية ، لكن لم يكن هناك داع لذكرها ، باسثناء الشخصيات التي اشتهرت كالقاوقجي .
*****














(6)
" قناديل ملك الجليل " ملحمة الفارس الأسطورة .
عن رجل ليس ككل الرجال . عن قائد ليس ككل القادة .عن بطل فذ ببطولته ، بفروسيته ، بنبله ، بشهامته ، بشجاعته ، بعدالته ، بحلمه بوطن حر ، وشعب حر ، يبحر بنا ابراهيم نصر الله لأكثر من خمسمائة وخمسين صفحة ، متتبعا سيرة الجليلي ظاهر العمرالزيداني ، الشخصية التاريخية التي عاشت ما بين أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر،وثارت على السلطة العثمانية ، لتنشئ أول كيان سياسي عربي شمل " عكا ويافا وحيفا والجليل وبلاد اربد وعجلون وأجزاء من سورية وحوران وصيدا وسواها، في حين أن صور كانت في يد حلفائه المتاولة ، وبيروت في يد حلفائه الشهابيين " ( ص 528)
عن رجل رحلت أمه عند ولادته فأرضعته فرس ( حليمة) فكانت أمه بالرضاعة ، وربته زوجة أبيه (نجمة) فكانت أمه بالتربية . تعلم الفروسية منذ صغرة وشارك في أول حرب وهو لم يتجاوز سن الطفولة .
رجل لم ينته من معركة إلا ليشرع في أخرى ، ولم يطو أوجاع حرب إلا لتنزل عليه حرب أخرى فظائعها ، ليمضي عمره محاربا حتى سن الخامسة والثمانين .
تزوج خمس نساء انجب منهن خمسة أبناء وبنت .وقف اخوته وابن عمه وأبناؤه معه مرات و تآمربعضهم عليه وغدروه مرات أخرى . ليقتل في النهاية على يد أحد قادته ( أحمد الدنكزلي ) الذي أكرمه وأعزه وعمل منه قائدا بعد أن كان مجرد محارب في جيش أحد خصومه .
عالم من التآمر والحروب والسلب والنهب والغدروالخيانة والقتل وقطع آلاف الرؤوس . عالم بلا رحمة ولا شفقة . القبيلة القوية تسطو على القبيلة الأضعف منها ، والجميع يرزحون تحت النير االعثماني .
وثمة فسحات للحب والمشاعر الإنسانية وعشق الأرض والإحتفالات والأفراح والأتراح ، مما يحرك الوجدان ويبهج القلب أو يبكيه في حالات أخرى.
عمل ظاهر العمر على أن يقيم عالما مختلفا فكان صراعه مع القبائل والمدن من ناحية ، وصراعه مع جيوش السلطنة من ناحية أخرى .نجح إلى حد كبير . وعم العدل والأمان وسادت المحبة ولو إلى حين .
بمهارة فنية عالية وبلغة شاعرية في بعض المشاهد وملحمية وغرائبية في أخرى ينقلنا ابراهيم من حالة إلى أخرى ومن واقعة صغيرة إلى حرب مستبقا الأحداث بالتلميح إليها أو داخلا في صلبها ، ليعود فيما بعد إلى ما خفي منها وما كان من الماضي . محركا ما يزيد على مائة وعشرين شخصية بين تاريخية ومتخيلة ، دون أن يغلب المتخيل على التاريخي ودون أن يطغى التاريخي على المتخيل . وإذا كانت الرواية التاريخية في العادة تستند إلى التاريخ أو تتكىء عليه عبر أبطال متخيليين ، فإننا هنا أمام رواية مختلفة لا تتكئ أو تستند إلى التاريخ بل تقوم عليه وبأبطال حقيقيين إضافة إلى الأبطال المتخيلين الذين قد لا نستطيع تمييز معظمهم عن الأبطال التاريخيين الحقيقيين . ولهذا نستطيع القول أننا أمام رواية تاريخية فريدة ، نجحت في أمرين :التأريخ من حيث كونها أرخت لمرحلة زمنية تقارب القرن بأبطال تاريخيين ، والإبداع كونها أبدعت عملا أدبيا ملحميا بلغة أدبية شاعرية لوقائع تاريخية وأخرى متخيلة . بحيث يمتزج الواقع التاريخي بالمتخيل المبدع دون أية امكانية للفصل بينهما .
يقول ابراهيم في مقدمة الرواية " لا يستند هذا العمل إلى دقة المعلومة تماما رغم إخلاصه لها ، بل يستند أكثر إلى قوة الحقيقة وقوة الخيال في اتحادهما بجوهر الأحداث وجوهر الشخصيات " ( ص 9)
ولو عدنا إلى المقدمة نفسها سنجد أن ابراهيم تطرق إلى تخوفه من الإقدام على عمل من هذا النوع " كان الخوف الوحيد الذي يسكنني هو أنني إذا ما كتبت رواية عن شخصية تاريخية حقيقية كهذه ‘ فإنني سأكون مقيدا إلى حد كبير ، لكنني حين قرأت سيرتي ظاهر المقتضبتين اللتين كتبهما ميخائيل الصباغ وعبود الصباغ ، بدأت أصبح أكثر جرأة ، وحينما أنهيت بحثي حوله وبدأت أشكل رؤيتي الخاصة لهذه الشخصية ، قلت لنفسي : لم لا ! فلتذهب إلى القرن الثامن عشر لتعيشه ، إنها فرصة لا تتكرر، ولتتعلم أيضا كيف يمكن أن تكون حرا وأنت تكتب عن شخصية تاريخية بهذا الوزن ، وهذا ماكان " ( ص8)
*************
مدخل أوسع إلى عالم الرواية .
في البدء لا بد من القول أنني لم أقرأ في حياتي رواية حملت هذا القدر من العناوين الفرعية ، 136 عنوانا ، تبدأ ب" الظل الشاسع والمرأة الحافية " وتنتهي ب " النهايات " وإذا ما عرفنا أن حجم الرواية هو 555 صفحة فإن معدل حجم الفصل في حدود أربع صفحات . وهذا يعني أن الرواية كتبت بلغة مكثفة تخلو من الإسهاب .
وإذا ما عرفنا أن أحداث الرواية تدور خلال ما يقرب من قرن ، وتدور بين دفتيه أحداث هائلة ، فإننا ندرك إلى أي حد هي مكثفة .
قسم ابراهيم روايته إلى اربعة أجزاء هي :
1- بحر الجليل .
2-الجنة بجانب البحر.
3-الجنة بين بحرين.
4- عذاب الجنة .
لم يقم ابراهيم بترقيم الأجزاء والفصول ، هذا ما قمت به أنا .
معظم العناوين كانت تشي بما يحمله الفصل ، كفصل " العدو والصديق "الذي يخون فيه الدنكزلي ظاهر ويقوم بقتله .أما عناوين الأجزاء فقد أشارت إلى بعض أراضي فلسطين " الجنة " وبحارها التي تنسب إلى المناطق المحاذية لشواطئها ، فيما أشارالجزء الأخير للعودة إلى الحروب والعذاب في ظل العسف التركي والولاة ومقتل الشيخ ظاهر واحتلال عكا وحيفا ويافا وغيرهما .
**********
تبدأ الرواية برحيل الأب عمر الزيداني ودفنه ، وتحاور الأبناء "سعد ويوسف وصالح وظاهر " حول من يخلفه ويحتل مكانه كمتسلم لمدينة طبرية يجبي الضرائب لخزينة الدولة ويسلم الأموال لها . لم يتم الإتفاق على أحدهم لصعوبة المهمة التي لم يرغب بها أحد حتى الإبن الإبن الأكبر سعد . وظاهر هو الأصغر
الذي أشار سعد وصالح إليه لتسلم المهمة.
في الفصل الثاني يعود بنا ابراهيم إلى الوراء لولادة ظاهر ورحيل امه ومشكلة ارضاعه بعد أن رفض حليب النساء ! وحين كانت الفرس البيضاء "حليمة " تصهل
وهي ترضع مهرتها " أشرق خاطر ما في قلب نجمة " فيما كان عمر الزيدي يصارع الموت بسيفه حتى لا يقترب من وليده .أسلمت الوليد إلى عمر وخطت إلى الداخل لتعود بصحن فخار وتهرع إلى الفرس التي كانت تصهل وكأنها تستحثها لتحلبها ، وهذا ما كان .
راق الحليب للوليد . وثابرت نجمة على حلب الفرس له إلى أن أخذ يرضع من الضرع بنفسه في بعض الأحيان ويعدو خلف الفرس إلى أن تجاوز الخامسة . وهكذا نشأت علاقة حميمة أشبه بعلاقة الامومة بين الفرس والوليد ظاهر .حتى أنه نام ذات ليلة إلى جوارها بعد أن أصبح رجلا.
هجمت سنوات القحط فتركت سهول القرى " شاحبة لا حياة فيه " وهدد وزير صيدا
بشن حرب على السكان إذا لم يقوموا بتسديد ما عليهم من ضرائب.لكن لم يكن لدى الناس ما يدفعونه . ثلاث سنوات من القحط أتت على كل شيء . ذبح الناس مواشيهم . وهناك من ذبح حصانه كي لا ينفق من الجوع .
زحف وزير صيدا بجيشه قاصدا عكا وحيفا ويافا ونابلس والقدس . حملت الأخبار من قرى البقاع " الكثير من الأهوال عن نهب البيوت واغتصاب أكثر من ثلاثمائة امرأة ... وإحراق قرى بأكملها "
جمع الشيخ حسين شيخ بلدة البعنة رجالا من بلدته وجوارها لملاقاة جيش الوزيروقطع الطريق عليه . اندحر جيش الوزير حين فوجىء بالأمر، لكنه عاد وجمع قواته استعدادا لمعركة كبيرة.
استغاث الشيخ حسين بسكان القرى . لبى الفتى ظاهر النداء لصداقة تربط العائلتين
وخاصة صداقة ظاهر للفتى عباس ابن الشيخ .
حصن الشيخ بلدته قدر الإمكان استعدادا للمعركة ، لكن وزير صيدا اتخذ قراره بتدمير البلدة على من فيها .
راح يدكها بالمدافع طوال سبعة أيام إلى أن نفدت ذخيرته.فتابع حربه بالسهام . إلى أن جاءته ذخيرة .
كان ظاهر وعباس من الفتيان المدافعين عن أسوار البلدة مع الرجال . صمدت البلدة خمسة أسابع . لكن مؤونة الناس وذخيرتهم نفدت ، وساءت أحوالهم .رفعت البلدة راية الإستسلام في اليوم الأربعين .
قامت امرأة بتهريب ظاهر عبر نفق سري يقود إلى خارج البلدة .
"فتحت أبواب السور ، خرج أهل البعنة وقد وضعوا مناديلهم في رقابهم وخلفهم كان الدمار يعلن عن قسوة الأيام التي عانوها " ( ص 37 )
نقض الوزير وثيقة الإستسلام وأمربقلع عيون سكان البلدة أولا ثم اعدامهم .
****
تدارس الأخوة قضية المتسلم ثانية ولم يجدوا إلا اللجوء إلى قرعة القناديل . من ينطفىء قنديله أولا يكون المتسلم . انطفأ قنديل ظاهر أولا فكان المتسلم . اقتادته نجمة إلى حقل فسيح وجعلته يسير معها حافي القدمين كما اعتادت هي أن تسير دائما .قالت له " أنت بحاجة لأن تسير اليوم فوق هذه الأرض وأن تحسها ، وتحس بكل الخيول التي عدت فوقها ، أنت بحاجة لأن تتشربهما معا : الأرض والخيل !"(ص43 )
امتطى ظاهر جواده وانطلق إلى صديقه بشر ليعلمه الفروسية .وهذا ما كان.
كان بشر قد فقد أسرته في مذبحة ويعيش وحيدا مع ابنة عمه "غزالة " الناجية الوحيدة أيضا. وكان أصبح بمثابة الإبن لعمر الزيدي بعد أن أنقذه من مطاردة الدرك له. تزوج من غزالة بعد أن رفضت فارسا من بني صخر ، وراحت
تعمل على أن تجعل من بشر شيخا بعد أن كان مجرد راع لقطيع صغير من المعز .
وهذا ما شرعت غزالة فيه منذ الخطوبة حتى العرس ، الذي كان حافلا بالناس تسابق فيه الفرسان وتبارزوا وغنت النساء وزغردن .
عاد ظاهر لتستقبله الفرس بصهيلها وليدنو منها ، يقبل جبينها ، ثم ينحني ليقبل قائمتيها الأماميتين.. وكانت الفرس تلعق وجهه كلما عانقها . علاقة الأمومة هذه بالفرس ظلت قائمة إلى أن ماتت الفرس ليحزن عليها ظاهر وتصرخ نجمة وتنثر شعرها وتهتف وهي تحتضن ظاهر " لقد ماتت وغبار الطريق على قدميها ، رحمها الله . ونظرت إلى الأعلى وقالت شيئا كما لو أنها تهمس في أذن السماء " ( ص 138)
تم في اجتماع لوجهاء طبرية بينهم المفتي والقاضي وإمام المسجد ومدير السجن ، توقيع طلب تعيين ظاهر متسلما خلفا لأبيه .
جاء جابي الضرائب وعساكره من صيدا. وجد أن ظاهر أعد له كل ما يريد لكنه لم يكتف . فقد راح يختار فوق الضريبة شاة أو عجلا ، جرة عسل أو بساطا .. راقب ظاهر الأمر بصمت ، وحين هرع الناس صارخين قبض على الجابي ومن معه ، أوثقهم رجاله وأودعوهم السجن .
كتب ظاهر إلى وزير صيدا يخبره بما جرى . تلقى منه رسالة " تثني على التزامه بما عليه من أموال الميري وبما أوفى به من ضرائب متأخرة ، ويعد فيها بمعاقبة الجابي على كل ما فعله "
أرسل ظاهر المال في صباح اليوم التالي .. وأفرج عن السجناء.
كانت تلك أول واقعة يؤكد ظاهر فيها قوة شخصيته .
*******
ذات يوم وفيما كان ظاهر عائدا من شاطئ البحيرة ممتطيا حصانه والفرس حليمة تسير خلفه ، سمع صراخا مكبوتا لامرأة وهو يجتاز بيارة ليمون .ترجل عن حصانه وهرع ناحيته . كان ثمة رجل يحاول اغتصاب امرأة ، مطبقا بيد على فمها ، مشهرا سيفه باليد الأخرى .
نهض الرجل وتهيأ لمواجهة ظاهر . كانت المرأة شبه عارية بثيابها الممزقة . تصارع الرجلان بسيفيهما ... وتمكن ظاهر من قتل الرجل .
خلع ظاهر عباءته وأعطاها للمرأة لتستر نفسها .. كانت فتاة في السابعة عشرة ، عرف ظاهرأنها ابنة صاحب البيارة . سألها عن اسمها فقالت : هنية ! وستظل هنية منذ ذلك اليوم ذكرى تتجدد كل بضعة أعوام ، وظلال حب انساني دفين ، بأن راحت ترسل جديلتيها معطرتين في صرة لظاهر ، وأوصت قبل موتها أن تثابر ابنتها على ارسال الجديلتين له .
ترك مقتل الرجل في نفس ظاهر أثرا عميقا راح ينعكس حتى على اخوته ونجمه مربيته ، فما كان منهم إلا أن باعوا أملاكهم وارتحلوا إلى ضواحي صفد حيث مضارب عرب الصقر الذين استضافوهم .
ابتاع واخوته بيتا واسعا في عرابة البطوف لا يقل وسعا عن بيتهم في طبرية .
في رحلة إلى دمشق تعرف ظاهر إلى نفيسة ابنة الشريف محمد الحسيني وخطبها وتزوجها بمساعدة الشيخ عبد الغفار الشويكي .
في العودة إلى صفد تعرضت القافلة التي فيها ظاهر ونفيسة إلى هجوم من قطاع طرق .. تصدى ظاهر ورئيس القافلة ومن معهم للمهاجمين وانتصروا عليهم ،
لكن أحدهم تمكن من قتل طفل ، وكان في مقدور ظاهر قتله ، غير أنه تركه طريحا على الأرض حين مثل مقتل مغتصب الفتاة في مخيلته ، وراح يطارد اللصوص ليستعيد ناقتين وثلاثة بغال ، وحين عاد وجد اللص قد قتل طفلا هاجمه بعصا .
أقدم ظاهر على سجن الجابي وعساكره مرة أخرى . ودبر أمره مع وزير صيدا " محمد باشا " بأن أهداه فرسا أصيلة ، ووعده بأن يصله مال الميري كاملا كل عام .
وهكذا تم تعيينه متسلما لعرابة وأراضيها .
" سارت الأمور كما خطط لها ظاهر تماما ، اختفى جنود الدولة ...وأصبحت كرامة الناس فوق كل اعتبار ، وحقوقهم خطا أحمر لا يجرؤ أحد على الإقتراب منه " 0 ( ص 149)
تحالف ظاهر مع عرب الصقر وانتقل إلى طبرية . وحين جاءه رجل مسيحي( جريس) يشكو ما جرى له من المتسلم من ابتزاز وخطف للزوجة، اعتقله ظاهر وقيده إلى نخلة وأفرج عن السجناء الذين كان يعتقلهم ظلما. جيء بزوجة جريس التي كانت قد قصت شعرها وسخمت وجهها ، وطلب إليها ظاهرأن تنتقم لنفسها ، فخلعت نعليها وظلت تضربه إلى شروق الشمس.
أشار ظاهر إلى جريس أن يأخذ زوجته ، وإلى مرافقيه أن يحلو وثاق المتسلم ويركبوه بالمقلوب على جحش ويطوفوا به في طبرية ليشتم ويصفع ممن يريد من الناس ، وليودع في السجن بعد ذلك .
انتشرت الأخبار في طبرية وما حولها عما فعله الشيخ ظاهربالمتسلم . فرح الناس وغنت النساء لظاهر :
خيي يا ظاهر ياتاجي وراسي .. يا سيف الفظة مشعشع بالماسي
في يوم وصولك رديت أنفاسي... وخليت الشمس تطلع علينا.
أخذ نجم ظاهر في الصعود بعد ذلك ، فطلب إلى صديقه بشر تكوين جيش من أهالي طبرية ومن البدو.وشرع في ضم البلدان المجاورة إليه ، وتحصين طبرية
بأن رفع أسوارها لتتحول إلى قلعة .
عبد الله باشا الأيضنلي والي الشام ارتاب مما يفعله ظاهرفقرر أن يخضع طبرية ، فاشار لرجاله بأن يبدأوا بإنهاء تحالف عرب الصقر مع ظاهر بالترغيب أو الترهيب.
نجح رجال الباشا في الأمر . وشرع رجال الصقر يشنون الغارات على القوافل ، إلى أن انتهوا بأسرأخيه صالح .
انتظر ظاهر عودة أخيه دون جدوى .أرسل إلى الأمير رشيد أمير الصقريسأله عن الثمن الذي يريده مقابل رأس صالح .كان الرد صاعقا لظاهر " مطلبي أكبر من كل ما ستدفعه لقد سبقك من يملك أكثر منك واشتراه ” يقصد والي الشام .
وهذا ما تم . فقد أرسل صالح إلى والي الشام ليتم شنقه . وصل الخبر صاعقا إلى ظاهر . هتف : لنعلم الأمير رشيد كم رأسا من رؤوس الصقر يساوي رأس صالح .
" مباغتا كان الهجوم . أول ما فعله ظاهر هو الإغارة على خيمة الأمير رشيد ، مال واقتلع الرمح ( رمز القوة ) المغروس أمام بابها وكسره وألقاه في الهواء.حلق طويلا ثم هوى ، وما أن لامس الأرض حتى اندفع جنوده في مضارب الصقر كالإعصار " " تطايرت الرؤوس في ذلك الفجر الدامي قبل أن تشرع أعينها لترى ما يحدث . سقط الموت كله كغيمة صخرية باتساع السماء ساحقة كل ما تحتها " " لم يدم الهجوم طويلا ،كان خاطفا مثل مرور منجل في حزمة سنابل"(ص 191 )
هذا ما أمر به ظاهر الذي لم يكن يريد معركة . عبر مضارب الصقر بجيشه دون أن يرتد .
ذهل عرب الصقر مما جرى حين رأوا الجثث المبعثرة بين الخيام الممزقة .
ولم يكن هناك إلا الرعب وعويل النساء.
***************
لم ينل الأمير رشيد أي ثمن لصالح ، بل جاءه عسكر وزير صيدا لجمع الضرائب ،
أما باشا الشام فقد تسلم أمر سلطاني بعزله وتعيين سليمان باشا بدلا منه .
لم يجد عرب الصقر إلا الصلح مع ظاهر والعودة إلى التحالف معه .
اشتكى سكان جدين والمناطق التي حولها إلى ظاهر من سوء معاملة الشيخ أحمد الحسين لهم فبعث برسالة إلى والي صيدا يطلب فيها شن حرب على الحسين وأرسل الحسين رسالة مماثلة إلى الوالي ، فكان رد الوالي بأن بعث برسالة إلى كل منهما بشن الحرب على الآخر .
وهذا ما كان . التقى الجيشان وتعاركا .. قتل الحسين في المعركة . ضم ظاهر جدين ومناطقها إليه .
وهو يستعرض الجيش المستسلم توقف ظاهر أمام أحد الفرسان . كان يقاتل ببسالة لفتت انتباه ظاهر . سأله عن اسمه وهويته ، فقال أنه مغربي وأن اسمه أحمد الدنكزلي. عرض عليه ظاهر أن يكون جيشا من المغاربة وسكان طبرية . فوافق .
وهكذا أصبح الدنكزلي قائدا.. ولم يكن ظاهر يعرف أن منيته ستكون على يديه .
أخلص عقودا لظاهر لكنه خان في النهاية ، وظاهر يطوي سني عمره نحو حتفه .
نفيسة التي لم تنجب . كان ظاهر قد أسكنها في الناصرة . جاءت إليه بطلبين : أن يزحف إلى الناصرة ليضمها إليه ، وأن يتزوج من العروس التي اختارتها له من الناصرة (بدرية) .
تزوج ظاهر من بدرية التي أنجبت له ابنه الأول . " صليبي" في الوقت الذي كانت فيه نفيسة تذوي .
كان حب نفيسة قد ملأ عليه قلبه ، ولم تكن بدرية أو غيرها من الزوجات الثلاث اللاحقات أن تعوض الفراغ الذي خلفه رحيلها. رحلت وهي في حضنه وهو يمشط شعرها :
" في تلك العتمة لم يعد ظاهر قادرا على معرفة إن كان المشط لم يزل قادرا على معرفة طريقه في ذلك الشعر الطويل ، أم أن النتوءات التي تعترضه ما هي إلا العتمة القاسية الهابطة فوق جسديهما كحجر "
" رجل يحتضن رأس امرأته ، يتشبث بجسدها ، وأذرع الليل تتسلل لتختطفها وترحل بها بعيدا إلى ظلمة أقسى وأشد "
" بكى . بكى كثيرا . كانت دموعه تغرقه . تجرفه . وتجرفها بعيدا " ( ص 228)
راح ظاهر يتوسع في البلاد فضم صفد والبعنة وسحماتا.وتزوج من ابنة متسلم البعنة .
استقبل في صفد بالغناء بعد أن تسلمها دون حرب .عمل الدنكزلي استعراضا ليليا للجيش بالقناديل على مشارف صفد ، ما أرهب واليها فأرسل رسولا إلى ظاهر يعلمه بتنازله عن تسلم صفد .
الزوجة الرابعة لظاهر كانت سلمى التي أهداه إياها الأمير رشيد الجبر أمير عرب الصقر . لم ير ظاهر أجمل منها حتى حينه . لكنها كانت تخفي سرا في نفسها يجعلها تهرب بعينيها بعيدا كلما حدثته .
الحرب اللاحقة كانت مع المتاولة بعد أن طلب ظاهر من أميرهم ناصيف النصار التنازل عن قريتي البصة ويارون . أبى الأمير فأشعل فتيل الحرب .على مدار اثني عشر يوما كانت الدماء تنزف . ولم يتوقف النزيف إلا باختطاف ولدي الامير ناصيف ،الذي وافق على شروط ظاهر.
أصرت نجمة على أن تختار زوجة لظاهر بعد أن رأت أنه ظل مسكونا بنفيسة .
فسلمى طلقها ظاهر لتتزوج من تحبه ، بعد أن كشفه معها . وبدرية عادت إلى أهلها . أما ابنة متسلم البعنة التي فرضت عليه من أبيها ، فقد أخفى وجهه بين يديه
حين رأى وجهها !!
اختارت نجمة زوجة شامية جميلة ، فكانت دهقانة ، التي رأى فيها ظاهر ما كان يراه في نفيسة .
اندلعت الحرب مع نابلس التي كانت تعتبر ملكا خاصا للسلاطين العثمانيين . خان عرب الصقر ظاهر ثانية وانضموا إلى النوابلسة . كسب ظاهر الحرب وضم أراضيهم الساحلية إليه .
توالت حروب ظاهر بعد ذلك فخاض حروبا ضارية على أسوار طبرية وعكا وحربا مع دمشق وحروبا مع بعض أولاده ومن تحالفوا معهم .
جردت الدولة جيشا من ستين ألفا بقيادة محمد أبو الذهب والي مصر للقضاء على ظاهر وأولاده واستعادة المناطق التي تحت سلطته .
قتل أبو الذهب من قبض عليه من سكان يافا ، فقطع سبعة آلاف رأس جعل جيشه يعمل منها أبراجا ."وما أن وصلت أخبار مذبحة يافا حتى فر الناس تاركين قراهم ومدنهم صوب الجبال والحقول ... فأقفرت شوارع حيفا وعكا وصيدا وصولا إلى بيروت " ( ص 543 )
مات أبو الذهب قبل أن يقتل ظاهر ويسيطر على كامل المناطق .وعاد ظاهر إلى عكا بعد أن غادرها على أثر احتلال ابنه علي لها .
راح ظاهر يحصن المدينة من جديد ، فيما الدولة تعد جيشا عرمرما وضعت على رأسه ثلاثة وزراء ، هم وزراء دمشق والقدس وأضنه وأحمد باشا الجزار محافظ السواحل . إضافة إلى اسطول حسن باشا الجزائري الذي سيحاصر عكا من البحر ،
والذي كان يحمل فرمانا سلطانيا بقطع رأس ظاهر ورؤوس أولاده وذريتهم والعودة بها إلى اسطنبول.
كان الدنكزلي آخر خونة ظاهر فاتفق سرا مع الجزائري أن يكون معه . وأول ما قام به بعد المعركة، هو خطف جارية جورجية ساحرة الجمال اسمها باتريشا أطلقت عليها دهقانة قبل رحيلها اسم عيشة ، بعد أن أحبتها ورعتها، وأحبها ظاهربدوره بحيث غدت الفرح الوحيد في حياته .
حين راحت مدافع سفن الجزائري تدك عكا مستبقة وصول الجيش من البر، كان ظاهر يقف على الأسوار .. أطلقت مدافع جيشه لكنها كانت تسقط بعيدا عن السفن .
أدرك الخيانة . انقسم الجيش إلى قسمين : قسم معه وقسم مع الدنكزلي . بعد ثلاثة أيام حسم الدنكزلي المعركة واقتحم سراي ظاهر واختطف عيشة .
أتاح الدنكزلي لظاهر وما بقي من اسرته وجماعته أن يخرجوا ..
" في صباح التاسع والعشرين من شهر آب عام 1775 ألقى ظاهر من بعيد نظرة على المدينة . كانت صامتة مثل قبر . وبعد نصف ساعة اقترب من نجمة وشد على يدها يطمئنها فأشاحت بوجهها بعيدا تخفي دمعتين على وشك السقوط .
طاف يتفقد الجميع ، وفجأة سألهم السؤال الذي لا يعرفون إجابته : أين عيشة ؟!
ولم ينتظر إجابتهم . استدار بفرسه نحو نجمة . رأته فعرفت أنه اكتشف غيابها ."
"كان الدنكزلي يقف أمام بوابة المدينة وفي يده عيشه . شاهد ظاهر يعدو نحوه على حصانه الأبيض. وطلب إلى جنوده أن يتركوه له ليقتله . صوب وأطلق النار . افلتت عيشة وانطلقت تعدو نحو الشيخ ظاهر.وصلته .مد يده ليرفعها فوق حصانه ، لكن الطلقة التي عبرت كتفه ، اختطفت الكثير من قوته ..اختل توازنه .كانت يده أضعف من أن ترفع إنسانا .تمايل ثم سقط على الأرض بجانبها ."( ص 552)
"أطلق ظاهر النار فلم يصب . استل سيفه . أطلق الدنكزلي .. أصاب قلب ظاهر.لكنه لم يسقط .ظل واقفا والدم يتدفق من صدره وعيناه مثبتتان إلى وجه الدنكزلي .. العينان نفسهما القويتان الثاقبتان .. عند ذلك سحب الدنكزلي سيفه وأغار على ظاهر ، وبكل قوته قطع عنقه ففار الدم من جسده متحولا إلى أكبر شعلة قنديل يمكن أن يراها أحد تحت شمس وراحت تتقد وتعلو وتعلو " !! ( ص 552 )
" إلى البحر انطلقت عيشة .. وقبل أن تصله دوت طلقة .. رآها الدنكزلي تسقط "
حمل الدنكزلي رأس ظاهر وعاد إلى بوابة المدينة يتبعه جنوده . فيما كانت نجمة تغرس قدميها وكفيها في التراب .
**************
انسانية ظاهر وعدالته :
ثمة مشاهد كثيرة في العمل تعبرعن انسانية ظاهر ، ومن أهم هذه المشاهد هو اكتشافه لوجود رجل مع زوجته البدوية سلمى ، لم يكن إلا حبيبها وابن عمها قبل أن يطلبها الشيخ رشيد لظاهر .وحين عرف قصته طلب إليه أن ينسى ما حدث ويعود إلى أهله .
وحين عاد إلى سلمى قال لها وهي تداري حالها : خرجت هذا المساء من هنا وأنا زوجك وعدت الآن وأنا أبوك "
غارت عيناها في الأرض وانحنت على قدميه لتقبلهما .
" دخلت بيتي عزيزة وستخرجين منه عزيزة ليست ابنة ظاهر من تقبل قدمي أحد حتى لو كان أبوها "
طلب إليها أن ترسل في طلب أبيها وعند حضوره تشكو إليه شراسة أخلاق ظاهر وتعنيفه لها ليل نهار ، وأنها ستنتحر إن بقيت في بيته . وهو بدوره سيقول له أن ابنته جاهلة ورعناء .. وأنه سيطلقها .وهذا ما تم . عادت سلمى لتتزوج من ابن عمها " غيث " الذي كشف خيانة عرب الصقر لظاهر فيما بعد .
وحين راود ابنه عثمان مرضعة ابنه عن نفسها . أحضر عثمان وعلقه على مشنقة
وأحضر المرأة لتقرر مصيرة وهو معلق . فظل معلقا طوال الليل وحتى ظهيرة اليوم التالي حتى جاءت المرضعة وسامحته .
عدم تفريقه بين الأديان :
" على بوابة كنيسة البشارة سجد ظاهر وصلى . رفع يديه وشكر مريم العذراء . وحين وقف واستدارؤ أمام العيون المحدقة به ، العيون التي امتلأت بالدمع تأثرا ، أصدر أمره : كل ما يلزم الكنيسة من قناطير الزيت يتم احضاره لها في كل موسم .ويتم اقتطاع كرم زيتون من كفر كنا وآخر من المجيدل ليكونا وقفا أبديا لكنيسة البشارة " ( ص 274 )
وما يزال الكرمان وقفا للكنيسة حتى اليوم .

قال لابنه سعد ذات يوم " والله يا سعد لو وقف بباب قلبي رجلان ، رجل عادل من أي مذهب أو ملة أو دين ، ومسلم ظالم ، لأسكنت الأول قلبي وطردت الثاني " ( ص 254 )

لم يكن ظاهر يجبي من الناس أكثر من طاقتهم ، وأزدهرت في عهده تجارة القطن مع بريطانيا وفرنسا . وكان حرصه على أمن الناس شديدا ، وكي يطمئن طلب أن يأتوه بفتاة جميلة .. البسها أجمل الملابس وزينها بأجمل الحلي والجواهر وجعلها تجوب الجليل وحدها . وجعل جنودا يحرسونها عن بعد دون أن تدري . وحين عادت سألها إن تحرش أحد بها . فقالت إن أحدهم سألها إلى أين تذهب وآخر من رجال الصقر اعترض طريقها وحين عرف أن ظاهر هو من أرسلها ، تركها وهو يتفوه بكلمات غير مفهومة .
أرسل ظاهرفي طلبهما وأعدمهما شنقا !!
وأقام ظاهر ما يشبه الضمان الإجتماعي حين رأى مشعوذا عاريا يقوم باستدرار عواطف الناس ، فأمر بإحصاء للفقراء من السكان ودفع ما يكفيهم من مال كل شهر. ومنع التسول.
*************
ليس في الإمكان التوقف عند الكثير من المشاهد التي تعبرعن إنسانية ظاهر وعدالته وشهامته في الحروب حيث كان يحترم خصومه . وليس في الإمكان التطرق إلى البطولات والوصف الخلاق للمعارك ، والمواقف الإنسانية المؤثرة ، وأحوال الناس وعاداتهم وطقوسهم وعلاقتهم بالأرض ، وخاصة نجمة الحافية دائما ، التي تشبه الأرض عينها ، والتي ثابر ظاهر على تقليد حفيها حين تسنى له الأمر. مما جعلنا نعيش مع هؤلاء الناس ، نفرح لأفراحهم ، ونحزن لأحزانهم.
لجأ ابراهيم إلى لغة شاعرية جميلة جنحت إلى التغريب والأسطرة والترميز أحيانا ، مما أضفى على العمل أبعادا جمالية أخاذة ، كما في مشهد قطع رأس ظاهرحيث تحول الدم إلى شعلة قنديل كبيرة راحت تتقد وتعلو ..
في تقديمه وتأخيره للأحداث ، واستقراء أفكار شخصياته ، لعب ابراهيم لعبة ذكيه ، جعلت القاريء يتفكر في ما يجري ، كما في الفصول التي يتآمر فيها أبناء ظاهر عليه وغيرها.
خلاصة القول : لقد قدم ابراهيم نصرالله عملا أدبيا تاريخيا لم يكتب مثله أو بمستواه وعلى الإطلاق في الأدب الفلسطيني كله ، إن لم يكن في الأدب العربي .
ورسم لنا بنجاح باهر شخصية البطل الفلسطيني كما لم يرسمها كاتب من قبل .
البطل الفارس ، الذي يحارب بشجاعة ويحقق انتصارات ، لكنه يهزم ويستشهد في النهاية ، وكأن القدر قد رسم له مسبقا هذه النهاية التراجيدية . وهذه هي حال البطل الفلسطيني بدءا بجليات وانتهاء بياسر عرفات .
لقد حاول ابراهيم أن يرسم ببراعة لحظة سقوط ظاهر . ويا ليته لم ينه الرواية باستشهاده ، بل بتشييع جثمانه وإقامة جنازة مهيبة له ، تنثر فيها النساء شعورهن ، ويشققن ثيابهن عن جيوبهن ، ويدققن صدورهن بقبضاتهن ، ويلطمن خدودهن ، ويندبن الفارس الراحل من أعماقهن بأجمل ما تجود به قرائحهن . فبطل فارس بهذه الصفات ، أشبه بكوكب أو نجم سقط من مكانه وآل إلى الإنهيار . ويستحق الحزن عليه وإقامة طقس فريد له بترحيله إلى مثواه الأخير .
**************





















(7)
جنى الحسن :
أجيال التصالح والحب في " طابق " 99!!
في 264 صفحة تنقلنا جنى الحسن في روايتها " طابق 99 " - التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية – بين سنوات من الألم والحب .. سنوات الحرب اللبنانية بكل مصائبها وآلامها .. من القتل على الهوية والقصف العشوائي وحتى مجزرة صبرا وشاتيلا ، إلى ليالي الحب والعشق في نيويورك بين جيل ما بعد الحرب ، يمثله شاب فلسطيني " مجد " وشابة لبنانية " مسيحية " هيلدا "
مجد الذي قتلت أمه الحامل في مجزرة صبرا وشاتيلا وأصيب هو بجرحين في وجهه ورجله ، تركا أثرهماعليه طوال حياته ، ليظل الندب باديا على وجهه والعرج ماثلا في مشيته جراء الجرح . وهيلدا طالبة الرقص الجميلة التي تنتمي إلى أسرة حزبية معادية للفلسطينيين ، فقدت عمها الذي انتحر بعد أن قال أنه قتل ثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين . أبوها قائد في حزب لبناني مسيحي توحي الوقائع بأنه حزب كبير .
مجد وهيلدا كانا طفلين إبان الحرب التي لم يكن لهما فيها أي شأن .. أب مجد وبمعرفة بعض أقاربه قرر أن يهاجر إلى أمريكا ليتابع ابنه دراسته فيها بعيدا عن أرض الحروب والويلات ، دون أن ينسى وطنه السليب " فلسطين " وهيلدا قررت متابعة دراستها للرقص في أميركا بعيدا عن الأمر نفسه .
تعارفا صدفة في نيويورك بعد أن أصبح مجد رجل اعمال ناجحا في صناعة تكنولوجيا لعب الأطفال وأصبحت هيلدا راقصة محترفة . لم يشكل عرج مجد حاجزا أمام هيلدا ،ولا كذلك الندبة في وجهه، بل أحبته بكل جوارحها .. وهو أحبها من أعماق قلبه :
" كلما فكرت في هيلدا ، شعرت كما لو أن خلايا الجلد التي تآكلت من وجهي ورسمت فيه تلك الندبة ، صارت تلد خلايا أخرى نضرة وطازجة ،وأن جلدا ينبعث من تحت اللحم ،وأن الدم بات أخضر يزهر كريات بيض وحمر وصفر لأصبح فجأة جميلا " ( ص12)
يبدأ القلق حين تقرر هيلدا الذهاب إلى لبنان للزيارة . فمجد يتخوف من أن تتخلى عنه ولا تعود إلى أمريكا ، وإن عادت فقد لا تعود إلا من أجل الرقص الذي تعشقه وليس من أجله . ورغم أنها ظلت تكالمه وتراسله إلا أنه لم يجب على رسائلها .
" كان قد مضى على رحيل هيلدا أكثر من ستة أشهر .انقطعت رسائلها ومكالماتها منذ اكثر من ثلاثة أشهر ولم أحاول أن أتصل بها . بدا لي أنها لن تعود وأنه يجدر بي أن أنساها إلى الأبد " ( ص 183)
" في لحظات ، كنت متأكدا من أنها ستعود ولكن ليس من أجلي . كانت ستعود لكي ترقص " ( ص 183)
لم تتأقلم هيلدا طوال ستة أشهر مع حياة أهلها .. فأختها ماتيلد التي كانت مدمنة مخدرات ووضعت في مصح لتركها، ما تزال مخلصة لوالدها وترى أنه رجل عظيم ولم يظلمها كما ترى هيلدا ، وتأمل أن يسامحها :
" أريد أن أتطهر من أخطائي عساه يسامحني يوما ما " ( ص 253)
وكلما حاولت هيلداأن تقاطعها " لأذكرها أن أبي نفسه كان يزود المقاتلين بالمخدرات أثناء الحرب ، كان لونها يمتقع وتستغرق في الدفاع عنه " ( ص 254)
لم تستطع هيلدا التأقلم مع حياة أهلها وباتت تشعر أنها امرأة مختلفة ،وأن " هوة كبيرة بيني وبينهم ، كأنني لم أعرفهم يوما ،وكأن هذه الفتاة التي كانوا جميعا يحبونها ويلاعبونها لم تكن يوما أنا " ( ص 257)
وراحت تحن إلى مجد " كنت أحتاج أن أكلمك لأشعر أن هيلدا أخرى ما زالت في مكان ما " " لقد حاولت أن أتصل بك منذ قليل ولكنك كنت قاسيا جدا معي " " اليوم تحديدا بدا لي غيابي عنك قاسيا ، كما لو أن هناك ثقبا في رحمي لا يمكن أن يملأه سواك " ( ص 257)
لم تجد هيلدا ضالتها في لبنان إلا في شاب يتيم ( جورجيو ) جننته الظروف الإجتماعية غير الإنسانية ؟ لمحته من الشرفة يركض هربا من الأولاد ، أسرعت لنجدته . وجدت رجله مجروحة بعد أن وقع . اصطحبته إلى البيت وأسعفته .
هذا الأمر أغضب الأب كثيرا . لا يريد أن يرى مجنونا في المنزل وبصحبة ابنته المحبوبة . وحين تشير هيلدا أن هذا من حقها ، يصرخ الأب قائلا :
" هذا منزلي وقواعدي تسري هنا "
ترد هيلدا :
" أتركه لك من غير عودة ، أقسم لك "
وهذا ماكان ، وخاصة بعد أن نفد صبر الأب من تصرفات هيلدا التي اعتبرها صبيانية وطائشة .( ص 261)
قبل رحيلها . راحت تحكي لهم على مائدة الطعام عن الشاب اللطيف الناجح في عمله الذي أحبته في نيويورك وأحبها بدوره كثيرا.. كانوا جميعا صامتين .. وحين سألتها أختها لماذا لم تخبرهم من قبل ولماذا لم يأت معها ؟
فجرت هيلدا قنبلتها :
" آه نسيت أن أخبركم أن أصله فلسطيني ،وأن هذه هي آثار شظية أصيب بها في مخيم صبرا وشاتيلا "
"ولم تكد تنهي جملتها وتضع الشوكة من يدها استعدادا للرحيل وسط ذهولهم جميعا ، حتى سمعنا طرقا على الباب . كان وفد من أهل القرية . زغاريد نساء في الخارج .. رجال يطلقون النار في الهواء .. رجل يبشر الأب بأن اسمه وارد في التشكيلة الوزارية .. "
" أمسكت هيلدا حقائبها بهدوء وانسحبت من الضوضاء .. " ( ص 264)
****
وهكذا تعود هيلدا إلى نيويورك لا لترقص فحسب ، بل لتجدد الحب مع مجد وليبدآ معا فصلا جديدا وزمنا جديدا لأجيال جديدة أبقت الماضي في مهده .
لم نتطرق إلا إلى البناء الدرامي الأساس الذي أقامت عليه جنى الحسن خطابها الروائي الجميل حقا . فهناك خطوط درامية أخرى رافدة ومساعدة هامة جدا . هناك محسن الفلسطيني المغرم بالنساء وايفا المكسيكية ،وهناك ماريان الأمريكية التي مات زوجها في حرب الخليج الأولى ولم يعثر على جثته . تاركا خلفه زوجة وطفلين . وحين أقيمت له جنازة رمزية رثته بكلمات مؤثرة جدا . وهناك خطوط درامية رافدة أخرى .
كما أننا لم نتطرق إلى الشكل الفني في الرواية وإلى الرواة أنفسهم . فالرواية تروى على لسان مجد وهيلدا . وثمة فصول قليلة جدا تروى على لسان راو . ولكن كان لمجد الدور الأكبر والأهم في السرد. فقد روى قرابة عشرين فصلا من ثلاثين .
29/2/015











(8)
شرفة الفردوس :
لواعج النفس الإنسانيىة بين قدَرَين !
منذ زمن طويل لم أجد نفسي منقادا إلى قراءتين لرواية ، إحداهما واقعية والثانية رمزية . حدث ذلك مع " رجال في الشمس " لغسان كنفاني ، و" أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ . فرواية " شرفة الفردوس " لإبراهيم نصر الله ، وضعتني من عنوانها أمام هذا الإحتمال ، غير أنني تجاهلته وشرعت في القراءة .
من الصفحة الأولى أعاد ابراهيم الشك إلي حين اختار لبطلته اسم ( حياة ) وأراد لها أن تسكن أعلى طابق في بناء عال تطل منه على العالم ، وكأنها تريد أن تسكن السماء نفسها ! كما أن الحوار بينها وبين رضوان (عفوا ادريس وكيل البناء !) وضعني في قلب الشك حين أكد أنه يعرف حياة تمام المعرفة . زاد شكي حين عرفت أن اسم زميلة حياة في العمل هو ( دنيا ) . وقطعت كل هذه الشكوك باليقين حين التقت حياة بخطيبها (أنس) في الشقة العالية المطلة على الكون ، مرتكبة بذلك الخطيئة ، التي استوجبت طردها منها من قبل المالك ، لتسكن طابقا سفليا لا تحبه . اتضحت الصورة لي ، وأسفرت الرموز عن دلالاتها . وأنا أتساءل في نفسي عما إذا كنت أمام الربة إنانا وقد هبطت إلى العالم السفلي؟ أم أنه هبوط عشتار ؟ أم أنني أمام حواء وآدم وقد طردا من الجنة ؟ ورحت أجزم أن ابراهيم علقني أو علق بطلته ( حياة ) بين قدرين لا فكاك منهما : قدر السماء وقدرالأرض ( الدنيا ) وأن الفكاك منهما أو التعايش معهما يتطلب معجزة ، فلكل منهما شروطه ، الشقاء في الدنيا والقلق والرعب مما يخفي القدر .
على ضوء هذه القراءة المبدئية ( التي تنبهت الدكتورة رزان ابراهيم لبعض رموزها، في مقالة لها في الاهرام ) رحت أتابع الصفحات بمتعة ، جاهدا قدر الإمكان الإفلات من سطوة الرمز ودلالته لأتمتع بالنص الواقعي تاركا التأويل والتحليل إلى وقته . فواقعية النص مشحونة بالمؤثرات والوقائع الدرامية المشوقة . فالمالك ( قاسم ) يجزم بأن حياة لن تكون إلا له ، وله وحده ، مهما حاولت الرفض ، ففي رسائله المدسوسة من تحت باب شقتها ، يؤكد لها " لم توجدي لسواي " وهذا ما يدفعه إلى تدبير أمر سفرلأنس إلى جده ، ليقتل هناك في حادث سير مدبر يُعزى إلى عاصفة مطرية . عدا عن توعده لحياة بالندم .. ثم إن غموض شخصيته يعمق من دلالات رمزيتها بعلاقتها بالسماء ! وهناك ( دنيا ) دنيا القبيحة بالبثور التي تنتشر على وجهها ، والحزن الدائم الذي يلفها ، والبكاء عند معظم لقاءاتها بحياة . والعلاقة الخفية التي تربطها بالمالك ، ووجودها كثيرا في شقته . تكاد تكون رمزا للدنيا ولقبح العالم . وإذا ما أضفنا إلى ذلك الكوابيس التي تتراءى لحياة في صحوها ونومها ، نجد أن ابراهيم وظف الكثير من المؤثرات التي تجعل القارىء يتابع الرواية بشغف وشوق . عدا أن ابراهيم الذي عرف بشاعريته وتوسعه ، وخاصة في النص التاريخي ، ابتعد في هذا العمل عن الإثنين ( وإن كان هناك بعض العبارات الشاعرية العابرة ) وحافظ على إيقاع خاطف وهادف وسريع ، دون أن يلجأ كثيرا ،حتى إلى التلاعب بالزمن تقديما وتأخيرا .. فالوقائع تجري بشكل تصاعدي في معظم الفصول ، مستفيدة قدر الإمكان من ثقافة سينمائية يوظفها ابراهيم في رسم المشهد الأدبي ، متوغلا في لواعج النفس الإنسانية وآلامها .
يأتي الجزء الثاني من الرواية بعد مقتل أنس مشحونا بالكوابيس التي تدهم حياة باستمرار. والأدهى من ذلك أنها بدأت ترى نفسها في شخص دنيا ، وترى دنيا في شخصها . لقد بدت حياة وقد هزمت أمام القدرين قدر السماء وقدر الدنيا ، ولم تعد قادرة على رؤية نفسها إلا كذلك . ورغم ذلك لا نرى دنيا تتباهى بهذا الجمال الذي يفترض أنها اكتسبته ، فالحالة نفسية لدى حياة لا تستشعرها دنيا ، ونظرا لأنه لا يوجد هناك إنسان أقرب إلى حياة من دنيا ، فقد تأثرت بشخصيتها سلبا ، ولو لم تكن حياة ذات إرادة قوية لغرقت في نوع من الشيزوفرينيا ( انفصام الشخصية ) لم تجد فكاكا منه .
جاء الأمل على يد الشاب الدكتور حين اتخذت حياة قرارا بأنها ستحبه رغم القبح الذي يكتنفها .. وما بدالي هو أن الدكتور طبيب نفساني قد كلف من قبل دنيا بمعالجة حياة من مرضها النفسي . فقدومه إلى سهرة في مقهى وترك مقعد له في مواجهة حياة لم يكن صدفة . كما أن كل سلوكه معها وتطرقه إلى جمالها الباهر ، يشير إلى أنه طبيب نفساني وليس طبيب عيون كما قدم نفسه . وإذا لم يكن طبيبا نفسانيا فقد كان ذا ثقافة رفيعة ساعدت حياة على الخروج من حالتها وأزمتها . معلنا لها عن حبه ، لتبدأ الحياة من جديد ..
القواسم ( جمع قاسم ) بين ما يرسمه القدران : قدرالسماء وقدر الدنيا ، كثيرة .. وقد وجد الإنسان ليكافح ،مراوحا بين الهزائم والإنكسارات ، وتحقيق الآمال ، والسير قدما في الحياة إلى نهايتها بخيرها وشرها ، فرحها وحزنها .. فالشخصيات التي رسمها المؤلف انتهت إلى ما أراده المؤلف ، وإن بدا لنا الأمر عكس ذلك ، حتى قاسم نفسه عاد إلى وحدته ..
******










(9)
" ترانيم الغواية " في مدينة السماء : موطن الآلهة ومقام الأمم والأنبياء !**
* بوابة التاريخ !*
القدس . بيت المقدس . اورشليم . يبوس . إيلياء . اورسالم . مورياه . بنت صهيون . مدينة داود*1 ، وأسماء أخرى كثيرة بلغات مختلفة تجاوزت العشرين اسما لمدينة الآلهة*2 . مدينة عناة وعشتاروت وإيل وبعل . مدينة يهوة *3ويسوع المسيح والله .مدينة الأمم والطوائف. مدينة المعابد والكنائس والأديرة والمساجد . مدينة العشق والحب والآلام ، ظاهرها ايمان مطلق بآلهة ( أو إله ) بمفاهيم وأسماء متعددة ، وباطنها لا يخلو من غواية وضلال من أقدم العصور،لا لأكل تفاحة، بل للوقوع في الخطيئة الأكبر من أكل تفاحة حسب الشريعة . فمن على سطح بيته فيها ، المبني من خشب الأرز، رأى داود بثشبع الجميلة زوجة المحارب أوريا الحثي تستحم ، فأغوته،فاشتهاها وأرسل من يحضرها له ليواقعها، رغم مئات النساء والسراري لديه ، وليأمر بقتل زوجها ليضمها إلى نسائه لتحمل فيما بعد وتنجب سليمان الأسطورة : مروض الجن ومروع الأمم المولع بالنساء، الموله ببلقيس ملكة سبأ ، والمتمرد على عبادة يهوة! أثارداود غضب يهوة فأعلن " أن السيف لن يفارق بيته وأنه سينزل الشر به ويجعل نساءه تزني بأقاربهن أمام عينيه " فقام أبشالوم بن داود باغتصاب ملك أبيه والإستيلاء على نسائه وسراريه ، كما قام أمنون باغتصاب أخته ثامار شقيقة أبشالوم مما دفع أبشالوم لينتقم من أخيه أمنون بقتله، لتستعر الحرب بين داود وابنه أبشالوم ليقتل أبشالوم معلقا بين أغصان شجرة بطم " *4
مدينة اختلف المؤرخون حول تاريخها بين من أعاده إلى حوالي خمسة آلاف عام وآخر إلى قرابة ثلاثة ألاف عام ..هدمت وأعيد بناؤها ثماني عشرة مرة ** كانت تنهض من دمارها لتحيا من جديد وتبقى رغم أنف جميع الغزاة عبر التاريخ، من كلدانيين وفرس ويونانيين ورومان وصليبيين وإنكليز وإسرائيليين .
*ندبها أرميا في مراثيه " مترنما " بعد الغزو الكلداني ، وكأنه يندب حالها اليوم ، قائلا:
1 كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم. السيدة في البلدان صارت تحت الجزية
2 تبكي في الليل بكاء، ودموعها على خديها. ليس لها معز من كل محبيها. كل أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداء
7 قد ذكرت أورشليم في أيام مذلتها وتطوحها كل مشتهياتها التي كانت في أيام القدم. عند سقوط شعبها بيد العدو وليس من يساعدها. رأتها الأعداء. ضحكوا على هلاكها
8 قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة. كل مكرميها يحتقرونها لأنهم رأوا عورتها، وهي أيضا تتنهد وترجع إلى الوراء
16 على هذه أنا باكية. عيني، عيني تسكب مياها لأنه قد ابتعد عني المعزي، راد نفسي. صار بني هالكين لأنه قد تجبر العدو
17 بسطت صهيون يديها. لا معزي لها. أمر الرب على يعقوب أن يكون مضايقوه حواليه. صارت أورشليم نجسة بينهم
19 ناديت محبي. هم خدعوني. كهنتي وشيوخي في المدينة ماتوا، إذ طلبوا لذواتهم طعاما ليردوا أنفسهم *5
15 يصفق عليك بالأيادي كل عابري الطريق . يصفرون وينغضون رؤوسهم على بنت أورشليم قائلين: أهذه هي المدينة التي يقولون إنها كمال الجمال، بهجة كل الأرض *6
1كيف اكدر الذهب، تغير الإبريز الجيد انهالت حجارة القدس في رأس كل شارع
4 لصق لسان الراضع بحنكه من العطش . الأطفال يسألون خبزا وليس من يكسره لهم
الذين كانوا يأكلون المآكل الفاخرة قد هلكوا في الشوارع . الذين كانوا يتربون على القرمز احتضنوا المزابل
6 وقد صار عقاب بنت شعبي أعظم من قصاص خطية سدوم التي انقلبت كأنه في لحظة، ولم تلق عليها أياد
7 كان نذرها أنقى من الثلج وأكثر بياضا من اللبن، وأجسامهم أشد حمرة من المرجان . جرزهم كالياقوت الأزرق
8 صارت صورتهم أشد ظلاما من السواد . لم يعرفوا في الشوارع . لصق جلدهم بعظمهم . صار يابسا كالخشب
9كانت قتلى السيف خيرا من قتلى الجوع . لأن هؤلاء يذوبون مطعونين لعدم أثمار الحقل
10 أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن . صاروا طعاما لهن في سحق بنت شعبي
12 لم تصدق ملوك الأرض وكل سكان المسكونة أن العدو والمبغض يدخلان أبواب أورشليم
13 من أجل خطايا أنبيائها، وآثام كهنتها السافكين في وسطها دم الصديقين *7
ويختتم أرميا مراثيه بالقول :
1اذكر يارب ماذا صار لنا . أشرف وانظر إلى عارنا
2 قد صار ميراثنا للغرباء . بيوتنا للأجانب
3 صرنا أيتاما بلا أب . أمهاتنا كأرامل *8
*وفي "ترانيم غوايتها" تغنت ابنة اورشليم بجمالها وسحرها وأسرار محبتها في نشيد الأنشاد:
2ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر
5 أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان
6 لا تنظرن إلي لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره
7 أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى ، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك
8 إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة
10 ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد
11 نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة
13 صرة المر حبيبي لي. بين ثديي يبيت *9
2 كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات*10
1 ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة عيناك حمامتان من تحت نقابك. شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد
2 أسنانك كقطيع الجزائز الصادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم، وليس فيهن عقيم
3 شفتاك كسلكة من القرمز، وفمك حلو. خدك كفلقة رمانة تحت نقابك
4 عنقك كبرج داود المبني للأسلحة. ألف مجن علق عليه، كلها أتراس الجبابرة
5 ثدياك كخشفتي ظبية، توأمين يرعيان بين السوسن
7 كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة *11
4 أنت جميلة يا حبيبتي كترصة، حسنة كأورشليم، مرهبة كجيش بألوية
5 حولي عني عينيك فإنهما قد غلبتاني.
6 أسنانك كقطيع نعاج صادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم وليس فيها عقيم
7 كفلقة رمانة خدك تحت نقابك
8 هن ستون ملكة وثمانون سرية وعذارى بلا عدد
9 واحدة هي حمامتي كاملتي. الوحيدة لأمها هي. عقيلة والدتها هي. رأتها البنات فطوبنها. الملكات والسراري فمدحنها
10 من هي المشرفة مثل الصباح ، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية *12
1 ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعة يدي صناع
2 سرتك كأس مدورة، لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن
4 عنقك كبرج من عاج. عيناك كالبرك في حشبون عند باب بث ربيم. أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق
5 رأسك عليك مثل الكرمل، وشعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل
6 ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات
7 قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد
8 قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها. وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح
9 وحنكك كأجود الخمر. لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين *13
مدينة الآلام :
في طريق جلجلتها سار يسوع المسيح مترنحا تحت وطأة صليبه ، حاملا آثام البشرية ، ليصلب على تلة من تلالها ، ولينهض في اليوم الثالث من لحده ويصعد إلى السماء .. ومن فوق صخرتها صعد محمد بدوره إلى السماء ليلتقي الله حسب الرواية الإسلامية .
تاريخ القدس تاريخ مخضب بالدماء والدموع وتحولات الشرائع. ولا غرابة إن قيل في الحروب الصليبية أن الخيول كانت تخوض في دماء القتلى العرب في ساحات الأقصى وحارات القدس .
هذه بعض الملامح التاريخية لمدينة الحب والآلام . المدينة التي تقبل كل الصفات والأسماء
بخيرها وشرها ، حسنها وقبحها ، وهذا ما سطرته ليلى الأطرش في روايتها .
عن مدينة الآلهة والأنبياء هذه، مدينة الآلأم والدموع ،كتب بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب ،كان آخرهم محمود شقير في روايتيه المتميزتين ( فرس العائلة ) و(مديح لنساء العائلة ) وليلى الأطرش في روايتها ( ترانيم الغواية ) *14
تدخل ليلى خفايا الحارات المقدسية بما لم يفعله كاتب من قبل عبر ذاكرة امرأة ، لنشم بذلك عبق البخور المفوح من حول المحاريب والمذابح مضوعاً فضاء المدينة .
سبق وأن كتبنا عن روايتي محمود شقيرفي شؤون فلسطينية عن (فرس العائلة) *15 وفي مشارف مقدسية عن ط مديح لنساء العائلة " وسنتناول في هذا المقال رواية ليلى الأطرش الممتعة والصعبة في الوقت نفسه .
وبما أننا أشرنا إلى صعوبة الرواية حتى على القارئ المثقف فما بالكم بالقارئ العادي ، سنقوم بلململة خيوط المحور الأساس الذي أقامت ليلى عليه خطابها الروائي في حوالي 300 صفحة ، لتسهيل وصول عالمه إلى القارئ، وهو سيرة حياة ميلادة أبو نجمة بطلة الرواية الرئيسة ، لتروي من خلالها سيرة العائلة ، بل وسيرة القدس لتشمل بذلك جانبا من سيرة فلسطين وبلاد الشام في ما يقرب من قرن من الزمان ، يبدأ من أواخر القرن التاسع عشر .. لنجد أنفسنا في النهاية أمام سيرة مدينة في حياة امرأة ،وإن شئتم تعبيرا أعمق وأشمل : المرأة المدينة ! وسنأتي فيما بعد إلى البناء الفني في الرواية الذي أقامت ليلى عليه صرحها الأدبي .
*ميلادة سالم أبو نجمة ، الملقبة ( ميلادة الحنش ) :
يوم أن كانت الحرب العالمية الأولى تقرع أبواب العالم " كانت ميلادة على صدر أمها يوم مات خالها *17، أعدمه الأتراك بالرصاص لهروبه من الجندية ، أي أنها ولدت مع الحرب الكونية الأولى ،وفي واحد من العامين 1915 أو 1916،وأنها تجاوزت العاشرة يوم الزلزال الكبير "
الذي ضرب البلاد عام 1927 . ( ص182)
ميلادة هي الإبنة الوحيدة لسالم أبو نجمة *18 بعد طفلين هما ابراهيم وحبيب . تزوج سالم المدمن على ركوب البحار والهجرات ، من مريم الضاوي بعد العودة من هجرته الثانية إلى التشيلي ، غير أنه ما لبث أن ترك زوجته وأولاده تحت وطأة العيش ، وخسارته الفادحة لمرج في بلدة عين كارم تمتلكه الأسرة مقابل صفقة حديد مستوردة لمد سكة حديد القدس - يافا ،غرقت في البحر.. فعاد إلى التشيلي ،ليحيا مع عشيقة تشيلية تزوج منها فيما بعد .
قسا الزمن بوطأته على مريم وأطفالها .. وساءت حال الأطفال بعد رحيل الأم بمرض الكوليرا .
جاء في رسالة شقيقها يوسف إلى سالم " رحمة الله عليها ،وصبرنا على فراقها ،وكان في عون أيتامها ،كانت الأب والأم لهم في غيابك ،راحت بالهواء الأصفر " ( ص 93)
عاش الأطفال بعد ذلك في كنف الخال يوسف ، الذي راح يستولي على المصروف الذي يرسله الأب لأطفاله .. ولم تكن زوجته ( أم عوض ) أقل ظلما منه ( تحملوا شتائم امرأة الخال وتبرمها ،وكفاف العيش ،والتعليم الهزيل في مدارس الروم ، وثيابا لا تتغير ) ( صراخ زوجة الخال تجاوز الجدران والأبواب ) ( ص 99)
أراح الخال زوجته من تربية الأطفال بأن أدخلهم مدرسة شنيللر الألمانية شريطة أن يتعهد بتعميدهم على المذهب البروتستانتي حسب طلب المدير الألماني . ظل الخال يماطل للحصول على موافقة الأب في التشيلي ، إلى أن وضعه المدير أمام خيارين : إما توقيع التعهد أو إخراج الأطفال من المدرسة . فاختار إخراج الأطفال .
جاء الفرج لأم عوض بالخلاص من الولدين حين أرسل سالم تذكرتي سفر بالباخرة إلى ولديه ، على أثر رسالة مؤثرة كتبها ابراهيم له :
" وإن لم تسحبنا خلال شهر ، فأقسم بروح أمي أن نمشي أنا وحبيب إلى يافا ،ثم نقطع البحر سباحة ، فإما أن نموت أو نصل إليك .. أما لو عشنا فسنسحب أختنا ميلادة ."( ص100)
وهكذا سافر الولدان ليجدا أن أباهما متزوج من شابة جميلة ولديه طفل وامرأته حامل ، ويعيش في بيت كالقصر ! لم يمكثا كثيرا في كنف أبيهما.. فتسللا إلى أميركا في هجرة غير شرعية في سفينة شحن صغيرة ،وعاشا بضعة أعوام ثم عادا إلى فلسطين . عمل ابراهيم مترجما في مقر المندوب السامي البريطاني .فيما عمل حبيب في محلات أي بي سي البريطانية .
أم عوض رأت في ميلادة كنزا بعد سفر الأخوين إلى التشيلي ، فقررت أن تزوجها إلى ابنها عوض ، قائلة ليوسف :" سيغتني ابنك من خير سالم وأخويها لو تم المراد ،واقرب الغني بتغنى ،وليس بعيدا أن يسحبونا إلى التشيلي .( ص100)
تحققت أحلام أم عوض ، وتزوج عوض من ميلادة .. ابتلع يوسف النقود التي أرسلها سالم من التشيلي لتجهيز ابنته وإقامة عرس لائق لها تفرح به . فتزوجت " في عرس بسيط ... وفي جهازها فساتين قليلة فصلتها خياطة في عين كارم " ( ص105 )
كانت ميلادة تبكي حالها بصمت ، وعرفت متأخرة أن أباها أرسل لها ما يكفي لنفقات عرس كبير .
في يوم الزفاف في الكنيسة أشرقت بوادرترانيم مستقبل مختلف يرسمه القدر لميلادة ..فالخوري الكاهن متري الحداد الذي يقوم بطقوس الزفاف ، والمولود يوم وفاة زعيم الطائفة البهائية ،ويوم تسيير أول قطار بين القدس ويافا في السابع عشر من تموز عام 1892 ، وقف مبهورا بجمال ميلادة وهو يمسك بيد زوجها ليدور بهما حول المحراب ويعلنهما زوجا وزوجة . يقول في أوراقه لابنه رفيق : ( وميلادة تشبهني . فرس شاردة مما يطاردها . جامحة أمام ما تخشى . تنفلت مما يقيدها إلى أكوان بعيدة . رأيت هذا في عينيها فسحبني إلى غربتها .. عيناها حمامتان تبحثان عن لا شيء. طرت وراءهما .. فتهت في عالم لم أعرف طريق عودتي منه ." والعين سراج الجسد ") ( ص 167- 168)
من هنا بدأت " ترانيم الغواية " وبانتهائها سيسدل الستار !
رحلت زوجة الحداد بحمى النفاس بعد أن وضعت ابنها رفيق .. الذي ما أن كبر حتى راح يكره أباه لهيامه بعشق ميلادة فيما بعد ،وعدم تحمله لمسؤولياته الكهنوتية .
تزوج ابراهيم وحبيب من معلمتين أصبحتا مفتشتين في عموم فلسطين. أنجب ابراهيم ابنا هاجر إلى أمريكا . وتبنى حبيب طفلة امرأة يهودية يشك في أنها عاهرة . لم تكن علاقة ميلادة مع أخويها وزوجتيهما على ما يرام ، بل كانت متوترة في معظم الأحيان وخاصة مع حبيب وزوجته .
رحل عوض بانفجارالزائدة الدودية ،فترملت ميلادة قبل أن تبلغ سن العشرين .
* قصة اللقب وفضيحة العشق الحرام !
سبق وأن أشرنا إلى أن ميلادة لقبت ب ( ميلادة الحنش ) ولذلك قصة تداولتها الألسن همسا
وعلانية بعض الشيء :
( خرجت " ميلادة " تتنزه في أحراش دير المسكوب .. داست على حنش تكوم في شمس الربيع ، فهاجمها . تسلق ساقها وطوق خصرها وبدأ ينقبض ويرتخي . قالت لم تره ! معقول؟! على طوله وضخامته؟ أكيد.. العشق بيعمي ! قالت لمزارعين هبوا لصراخها : قتلته وحدي، فلم يصدقها أحد ..ونبع الشك من سكوت الرجال . رفض أي منهم أن يحكي عما رأى . كل ما قالوه بعد إلحاح . الله يستر على ولايانا .. وصلنا ورأسه مسحوق ! لكن من يقتنع أن صبية تقتل حنشا وحدها ؟! يعجز عن هذا رجل بطول وعرض! وبعد الحادثة إذا تحدثت النساء عن ميلادة تغامزن وقلن " الحنش راح والحنش جاء "( ص11+12)
شاعت قصة الحب على الألسن إلى أن بلغت بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليوناني ذيميانوس . قرر الحداد أن يترك الكهنوت . غير أنه فوجئ بصد البطريرك قائلا : ( لن تحتمل كنيستنا فضيحة ثانية ، يتحلل كاهنان من الرهبنة من أجل النساء والشهوات ،ستنال الطوائف من سمعتنا ،وكنيستنا ما زالت تقاسي من فضيحة الراهب أشيل، بعد أن فشلنا في السيطرة على رعونته . لن نحتمل فضيحة أخرى " ( ص 152)
وأشيل هذا " أحد رهبان أخوية القبر المقدس ، شاب يوناني وسيم . أديب وشاعر . ترقى إلى أعلى مراتب الكهنوت .أحب صبية يونانية (صونيا) ابنة لأحد تجار المجوهرات . جمالها فريد . ترك عبادته وتبع الصبية في الدروب والأزقة . لم ينتظر قرار البطريرك . قص شعره وخلع ثوبه ،ولزم من يحب " ( ص 153بتصرف)
ومما زاد الطين بلة "أن أرشمندريت روسي في دير المسكوبية في عين كارم أصيب بفالج بسيط. أشرفت على علاجه لمدة طويلة ممرضة عزباء جميلة هي خالة صونيا . واللغط جاوز البلدة . تدارك المسكوبي خطأه بما انقلب فضيحة مدوية . فقد منح الممرضة بيتا موقوفا للكنيسة لتترك الدير . غير أنها حولت البيت إلى خمارة ،ومجلس انس لكبار القدس ، سهر وغناء وكاس وطاس لم تغب صونيا أو أشيل عن ليلة منها " ( 153-154بتصرف)
حاول متري الحداد مقاومة قدره . ترك ابنه في رعاية جدته لأمه "وأبحر يطلب الخلاص في دير بستان العذراء فوق قمة جبل آثوس اليوناني .. متوحد يراقب البحر . زاهد يتعبد لخالقة . يسبح بترانيم الإعجاز صبحا ومساء " ( ص155)
كاد أن يحدث مع الحداد ما حدث مع نيكوس كازنتزاكي خلال اعتكافه في الجبل نفسه وربما في الدير نفسه بحثا عن الله ، (وهذا ما سنأتي عليه فيما بعد ) فقد " سبقت صورة ميلادة رحيله ،وسكنت كهوف تبتله . تجلت في صلاته لوحة على جدران الدير . تعربشت أشجارا تحرس البحر . غطت صفحة الماء " ( ص 155 بتصرف )
" البقاء بين نساك عابدين أثقل صدر الحداد، زهدهم زاد من ذنوبه. عاد إلى القدس ليتحلل من قسم قطعه على نفسه ،فخذلته قدرته" ( ص 155 بتصرف )
أعلن للبطريرك صراحة " أيها المبجل .. نفسي تدفعني إليها وعاجز عن ردعها . سنوات وأنا أقاوم رغبة المعصية ،ولا مجال لاحتمال أكثر، يراودني الإغواء كل لحظة ،وستتحمل ذنبي يا عظيم الإحترام " ( ص 155 )
بعد مداولات" ومشاورات مع رهبان أخوية القبر المقدس ، هداهم الله إلى قرار أملوا أن يكون فيه الخير ، رغم تعارضه مع قوانين الكنيسة ونواميس الشريعة ، وهو السماح بزواج كاهن أرمل لحماية الكهنوت ولدرء خطيئة الزنى ، شريطة أن يقسم الحداد على الكتاب المقدس ، أن يظل الزواج سرا لا يعترف به لأحد ، حتى ابنه"( ص 156 بتصرف )
" ركع متري الحداد أمام ذيميانوس وقبل يده حين وجد نفسه عاجزا عن رفض القرار " ( ص 156 بتصرف )
وهكذا ترنح الكهنوت تحت وطأة الغواية ورضخ للأمرالواقع !
" في دار ذيميانوس تم عقد الزواج ،وكان الإشبينان ( الشاهدان ) عليه مدبرة المنزل وزوجها اليوناني " ( ص 156 بتصرف )
عاش الحداد تحت وطأة معاناة هائلة ، خاصة أمام ابنه " وسط همس الظنون والأقاويل وكتمان الحقيقة .. وكثيرا ما راودته نفسه أن يعترف له، بل وأن يخرج إلى الشوارع صارخا بأنه وميلادة زوج وزوجة ، غير أن قسمه كان يردعه " ( ص 156-157 بتصرف)
" لم يكن خالصا لها يوما .. لكنها تغض الطرف عن غيابه .. بلا عتاب أو لوم تحتضن عودته . تلم اغتراب روحه وتهدهد قلقه .لم تطالب بوقت لا يعطيه . تمسح لهفتها الحرج عن غيابه ..وهي الجميلة بين النساء .. المتفردة باللهفة إليه . تحملت شك العيون ،وحرقتها ألسنة السوء دون تذمر أو اعتراض" ( ص 159 بتصرف )
في إحدى رسائل الإعتراف لإبنه لم تصل إليه كونه مات قبله . يقول متري الحداد عن القدس المدينة " القدس أضاعتنا لأنها تشبهنا . مدينة مثلنا بوجهين . دروبها العتيقة تصل أبواب الخلاص . تنشد الغفران في كنائس وأديرة ومعابد وزوايا ومساجد وكنس وتكايا .. وتفتح أبواب سورها على ملذات تقود إلى ضلال.. " ( ص 157)
هذا عن حال متري مع ابنه وميلاده والقدس، فماذا عن حال ميلادة ومعاناتها في ظل هذا الزواج السري ، الذي لا أذكر أنني قرأت مثيلا له في الأدب رغم كثرة ما قرأت ، فجاء معبرا بمنتهى الصدق عن واقع مدينة ظاهرها ايمان وباطنها غواية وضلال ولو من منظور الشريعة الي تكللها برموزها !!
تقول ميلادة من قلب أثقله الحزن " الدنيا كانت قاسية . وأنا قبلت قسوتها علي وبخلها ..استكثرت سعادتي معه فأعطتها بشروط صعبة ، حرمتني حتى فرحة الأشياء البسيطة ، أن أستقبله وأودعه عند الباب .أحضر له ما يحب . أن تختلط روائح ثيابنا في خزانة واحدة . أن يرى الجيران ملابسه على حبل غسيلي. أعاتبه وأغضب إن تأخر . كان يغيب ولا أعرف متى يعود . يقولون الإنتظار يجدد اللهفة ، لكنه متعب .. تصوري ! أنا لم أدخل داره ،حتى يوم مات رفيق لم أذهب للعزاء .. خفت أن تطردني زوجته ،ومن نظرات الإتهام في عيون النساء . حتى وهو ميت وقف يمينه ( حال قسمه ) بأن يظل الزواج سرا بيني وبين تابوته ، حرمني أن أرتمي فوقه وأبكي وأنوح مثل أرملة " ( ص 286) ( لم أستطع كبح دموعي خلال قراءة وكتابة هذا المشهد )
تقص ميلادة لحظات من لقاء جمعها بالحداد :
" بعد انتهاء عزاء ابنه جاء . دموعه بللت حضني . وابنه مثله مات بلا إشارة أو مرض . نام وما قام . قال : يا ميلادة ، أنا والدنيا ظلمنا رفيق . عاش ومات غريبا ويتيما : قلت : أنا اليتيمة . رفيق عاش تحت جناحك ، لم تبخل عليه بشيء . فبكى واهتز مثل ريشة وقال : أبوك هاجر إلى بلاد بعيدة . بينك وبينه بحر ومراكب وسفر . وبيني وبين رفيق بحر من الجفاء والبعد ونحن تحت سقف واحد. ليست الغربة بعد البلاد . الغربة بعد الأرواح "( ص 287)
*كل من أحبتهم أو عايشتهم ميادة رحلوا .
رحل الأب سالم في الغربة . جاء نبأ رحيله في رسالة من زوجته التشيلية . تقول : إن الله أخذ وديعته . مات فجأة فدفنته في مقابر عائلتها. اطلبي له الرحمة يا ميلادة وسامحيه . كان يعرف أنه قصر في حقك ويتعذب " (ص 103)
ورحل الحداد فجأة .. عاش تائها بعد موت ابنه " كل من أحبتهم ميلادة رحلوا دون أن يفكروا بها ، حتى الحداد دمره موت رفيق فلحق بابنه وتركها .. لم يفكر بأنها ستعيش تائهة من بعده .. علمها الحياة ثم راح .. اختفى فجأة بلا إنذار ،اهتزت الدنيا وطوحت بها مثل زلزال لا يتوقف .. رأسها يلف ولا تدري ماذا تفعل بنفسها .. تركها فأحست أنها غريبة عن حالها . حياتها معه غيرتها فلم تعد هي .بعد موته لم تعرف على أية صورة ستكون ليقبلها من حولها ... في حياته لم تكن في حاجة لأحد ،وبعد موته صارت وحدها " ( بتصرف ص 288و 287)
" عارفه شو يعني وحدي ؟ كان لا يمل ولا يتوقف عن تعليمي وتدليلي ونحن نلف البلاد .. ثم فجأة اختفى .. مات " ( ص 288)
******
هذا بعض ما حصلت عليه المخرجة السينمائية الشابة راوية بنت عيسى من شتات ذاكرة قريبتها العجوز وهي تقاوم الزهايمر على أعتاب الثمانينات بإرادة لا تلين ، لتبدده على مدار ما يقرب من ثلاثمائة صفحة ، مختلطا بوقائع سياسية واجتماعية وإقتصادية وصراعات دينية بين طوائف وأمم وعائلات ..لأقوم بلملمة بعض ما يتعلق منه بحياة ميلادة أبو نجمة ، لأسهل فهم النص على القارئ .
سأنتقل الآن إلى المضمون الفكري في الرواية الذي بني على فهم فلسفي للروائية بنت عليه وقائع روايتها لتخرج برؤية تنسجم مع رؤيتها لكل ما يحيط بالواقع الإنساني . تاركا الحديث عن المعمار الفني في الرواية إلى الآخر إذا ما أتاح المجال لنا ذلك . دون أن نغفل ما علّقت به وأوردته حتى الآن عن هذه الخلفية الفلسفية القائمة على مكابدات الروح في مواجهة رغبات الجسد ، أو الكهنوت في مواجهة الطبيعة الإنسانية والصراع القائم بينهما .
* المضمون الفكري في الرواية .
لسنا في حاجة إلى الكثير من التفكير لنرى خيوط الصراع الأممي الدائر على الساحة المقدسية الفلسطينية ، فكل أمة تريد أن تثبت وجودها في مدينة الله لتكون على مقربة منه واتصال به . . يونانيون . مسكوب . فرنسيون . ألمان . انكليز . يهود . عرب . مسلمون ومسيحيون بطوائف متعددة . كنائس ،معابد ،كنس ، تكايا ، صوامع ، جماعات ، زوايا.. والسر في كل هذه الفانتازيا السريالية هو سر وجودي يتعلق بالخالق . فكل طائفة تريد أن تثبت ارتباطها به حسب مفاهيمها له التي لا يطالها الشك ، فهي حقائق مطلقة غير قابلة للشك على الإطلاق . . فالصراع صراع ديني يأخذ لبوسا سياسيا في بعض الأحيان ، يشمل كافة مناحي الحياة الإجتماعية . نشكر الله أن ديانات الهنود والصينيين ليست سماوية ، ولولا ذلك لكنا الآن واقعين تحت وطأة صراعات أعقد بكثير مما هو قائم حاليا في مدينة السماء وحولها .
يا لهذا الحظ الذي جعل من بلادنا مصدرا لعقائد أكثر من نصف البشرية . وبدلا من أن تحتفي البشرية بنا كوننا مصدرين لعقائد وغير مستوردين ، راحوا يزاحموننا على عقائدنا بذريعة حمايتها بدءا من الحروب الصليبية وانتهاء بالزمن الحاضر الذي تحاول اسرائيل فيه إحياء عقيدة مر عليها قرابة ثلاثة آلاف وخمسمائة عام وتستولي على وطن متذرعة بها .
هذا في الظاهر ، فماذا عن الباطن في واقع الحياة اليومي ، هل علاقة هؤلاء البشر وبكافة فئاتهم ، من مسلمين ومسيحيين ويهود ، تخضع لنواميس شرائعهم ؟! هذا ما لا نلمسه في الرواية وبشكل شبه مطلق . وإن حدثت هبات سياسية نتيحة لواقعة دينية قام بها طرف ما أو طائفة ما ، فهي لا تأتي في حقيقتها للدفاع عن دين بقدر ما تأتي للدفاع عن تراث لا غنى عنه لكل فئة. تراث يشكل مقومات شخصية رغم كل سلبياته ، دون أن يعني ذلك تقيدها بشرائع دينية . كعاهرة أو زانية مسلمة أو مسيحية أو يهودية تتمسك بحقها في ممارسة الدعارة والزنى في الوقت الذي تدافع فيه عن دينها كأحد أهم مقومات شخصيتها .
ثمة شخصيات كثيرة في الرواية ومن كافة الطوائف الرئيسة الثلاث تمارس ما يخالف نواميس الشريعة ..وتأتي قصة الأب متري الحداد وميلادة لتتوج مجموع هذه التناقضات الإجتماعيىة ، طارحة أعقد المشاكل الإنسانية مع الشريعة ، وهي العلاقة بين متطلبات الروح ورغبات الجسد ، أو الشرائع الدينية والحاجات الإنسانية الغريزية التي تظن بعض الشرائع أن هذه الأخيرة لا تحمل بعدا روحيا .. رغم أن الآداب البشرية طرحت هذه المسائل منذ القدم ،وبعد أن انتهى عصر الألوهة الأنثوية غير المنزلة من السماء ، الذي قدس الغريزة الجنسية وقدس حتى دم الطمث والولادة، ولم يعتبره دنسا ، في عقائد بابل وسومر وغيرها ( حيث لم تكن قوانين التحريم سائدة ، فكان الفراعنة يتزوجون حتى من اخواتهم ،كزواج ايزيس من اوزيريس ) ، ليحل محله عصر الألوهة الذكورية الذي توج بظهور الإله اليهودي وما بعده . فمعظم ملوك وأنبياء وأبناء بني اسرائيل مارسوا الزنى بكافة أشكاله ، حتى مع المحارم كمواقعة ابنتي لوط لأبيهما ومواقعة أمنون بن داود لأخته ثامار ، وغير ذلك كثير .. وهذا اوديب في الملحمة الإغريقية يحاول الهروب من قدره دون جدوى، ليتزوج من أمه لتنجب منه ، وهو الشخص الوحيد في تاريخ الأدب البشري الذي عانى من الإثم إلى حد قلع عينيه، فيما شنقت أمه نفسها ..
ولو عدنا إلى بداية صحوة الفكر الإنساني لوجدنا جوته في فاوست يطرح الجنس كحاجة غريزية روحية لا غنى للإنسان عنها . فيعشق جرتشن ويحضر له مفستوفليس( الشيطان ) هيلين الطروادية رمز الجمال الأوروبي ، ليتزوج منها وينجب ابنا ،وحين يموت فاوست نجد الملائكة تحف بروحه وتصعد بها إلى السماء لتستقبلها مريم العذراء بينما يذهب جسده مع التراب في المطلق الأزلي ! *19
لقد قدم جوته أول فهم إنساني رحماني لعلاقة الإنسان بالإله ، وحاجة الإنسان إلى تلبية غرائزه دون تشريع ينزل من السماء أو شأن للإله به ، أو حتى بالشرائع الدنيوية كلها ، ليقدم إلها محبا يسمو فوق الشر والعذاب . لا يمكن لعقل نابغ أن يتصور إلها يعذب . فالدول والحكومات ، أي الإنسان ، هو الموكل بهذه المهام، لوضع قوانين ودساتير وغيرها تسير حياة الإنسان بما يلبي احتياجاته كلها ، التي تظل العلاقة بالخالق دونها ناقصة . فلا يعقل أن يكون الخالق قد وضع غرائز في الإنسان ليقوم الإنسان بالحد منها أو قتلها ، بما يخالف نواميس الخالق نفسه .
وهذا دوستويفسكي في ( الجريمة والعقاب ) يجعل راسكولنيكوف يسجد أمام العاهرة سونيا معلنا لها أنه يسجد أمام عذابات البشرية . لم ير راسكولنيكوف عهرا في شخص سونيا بل عذابات وآلام .
وهذا نيكوس كازنتزاكي في مذكراته يعلن أنه أمضى عمره في البحث عن الله ، فذهب إلى فلسطين وإلى مصر . كان كلما التقى راهبا سأله عما إذا رأى الله ، فلم يجد أحدا رأى الله . غير أن راهبا في دير سان كاترينا أسر له بسر معلنا أن الشريعة لم توفق بين الروح والجسد ، فقتلت الجسد لصالح الروح ! وربما لهذا لم ير أحد الله !! وحين عاد كازنتزاكي إلى اليونان
اعتكف في دير في جبل آثوس ،وفيما كان نائما ذات ليل أيقظه راهب من رهبان الدير ليهمس له أنه رأى الله . هب كازنتزاكي بكل حواسه ليسمع القصة . قال الخوري ما معناه :
( أرسله القائم على الدير ليساعد الفلاحين في موسم الحصاد وليجمع حصة الدير من غلال الحنطة . حين وصل إلى حقل حصاد رأى امرأة ترضع طفلا .. لم يكن الخوري قد شاهد نهدا في حياته،ربما غير نهد أمه الذي أرضعه ومحته الذاكرة . صرخ بالمرأة أن تختشي من الله وأن ترضع ابنها بعيدا عن أعين الناس . امتثلت المرأة واتخذت مكانا جانبيا . في المساء افردت غرفة للراهب لينام فيها . .لم يفارق النهد مخيلته . رآه في ضوء اللمبة . وحين أطفأها راى النهد يضوي فيها ! جاءت له المرأة نفسها بطبق العشاء .. وحين عادت لتأخذ الطبق وجدت أنه لم يأكل .. هتفت له قائلة : إن لجسده عليه حق كما أن لله عليه حق . قاصدة أن يأكل .. تكرر الأمر في اليوم التالي .. وحين استدارت المرأة ببطء لتخرج من الغرفة . فوجئت بالراهب يثب عن سريره ويأخذها من كتفيها ويطرحها على السرير ويشرع في مواقعتها .. وينهي الراهب حديثه لكازنتزاكي قائلا : ( وفي ذلك الصباح شاهدت الله ،كان يقف فوق سريري ) *20 لم تتم رؤية الله إلا عبر ما تعتبره الشريعة خطيئة . وبهذا ربط كازنتزاكي بين التواصلين الروحي والجسدي ، السماوي والدنيوي، ليشكلا وحدة لا تنفصم للوصول إلى المحبة الإلهية المطلقة ،وربما الذوبان فيها عبر المواقعة بحد ذاتها كطقس يشكل تواصلا مقدسا مع السماء !
وإذا ما انتقلنا إلى الأدب الحديث جدا سنجد أن بطل اسم الوردة ( داسو) ل امبرتو إيكو، وبطل عزازيل (هيبا ) ليوسف زيدان، لم يستطيعا كبح رغباتهما الجنسية رغم أنهما راهبان، فالأول مارس الجنس مع فلاحة في الدير ليشعر بطمأنينة وراحة نفسية ،والثاني ما رسه مع وثنية( اوكتافيا ) في الإسكندرية ومن ثم مع (مارتا) في الدير الحلبي.
الراهبان مارسا خطيئة الزنى . والراهبان انتهيا إلى الحرية ،وإن كانت حرية آدسو ذهابا في المطلق " وستنسى ( روح آدسو ) كل الفوارق . سأكون في الآس المجرد وفي الصحراء الصامتة ، التي لم ير فيها أبدا اختلاف ، وفي الجوهر الذي لا يجد فيه أحد نفسه في مكانه ، سأسقط في الألوهية الصامتة واللامسكونة ،حيث لا عمل ولا صورة " ( ص 538 )
إنه الذهاب في المطلق الذي تحدث عنه جوته . و قد يقصد به الطاقة السارية في الخلق .أما هيبا فقد ترك الكهنوت إلى غير رجعة لعدم اقتناعه به :
" ولسوف أدفن معه ( المخطوط ) خوفي الموروث وأوهامي القديمة كلها ، ثم أرحل مع شروق الشمس حرا " ( ص 368)
هذا بعض أهم ما تجلى في " ترانيم الغواية " الصراع بين الروح والجسد . الروح كرابطة تصل الإنسان بالخالق ، والجسد كنظام غريزي يصل الإنسان بشقه الآخر( أنوثة وذكورة ) ، لخلق حالة توازن روحية بين الإنسان والخالق ، يظل الإتصال دونها ناقصا . لم نر في سلوك الأب الحداد ما يشيرإلى أن الله تخلى عنه بعد زواجه المخالف للتشريع الكهنوتي ، وخاصة بعد أن تخلص من الصراع الذي كان يمور في دخيلته قبل الزواج ، فنرى أن علاقته بالخالق قد توطدت أكثر حين أوكل أمره إلى مشيئته " الرب نوري وخلاصي ممن أخاف ؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب " حتى أنه حمل البطريرك اليوناني المسؤولية إذا لم يتم الإذعان له :"يراودني الإغواء كل لحظة وستتحمل ذنبي يا عظيم الإحترام " لقد أصبح الذنب عدم تلبية رغبات الحداد في حب ميلادة،وليس العكس !( وهنا يكمن فكر ليلى الفلسفي،لا سبيل للنجاة إلا بالحب ولو أدى الأمر إلى الإنعتاق من حضن الكهنوت ) لذلك جاء هذا الحل التوفيقي الذي اتخذه رهبان أخوية القبر المقدس للإحتفاظ بكهانة الحداد وعدم التفريط بعشقه .
قصص العشق المخالف للشريعة تحدث مع أكثر من شخصية من شخصيات الرواية ، فعدا ما أوردناه من قصة الراهب أشيل وقصة الأرشمندريت المسكوبي ، هناك سالم أب ميلادة الذي كان عاشقا لتشيلية رغم أنه متزوج ، وحبيب شقيقها ثمة شك في علاقة تربطه مع الجارة اليهودية التي ادعى أن ابنتها ندى هي ابنته من زوجته .. وأب الحداد نفسه هاجر إلى بلاد المسكوب سعيا وراء صبية روسية جميلة عشقها " فضاع في بلاد البلشفية " بعد الثورة . وعن المسلمين فحدث ولا حرج ، ففخري النشاشيبي أسكن عشيقته اليهودية في " البيت الأحمرالوقف التابع للجمعية الروسية ، بعد أن منحه إياه الأرشمندريت الروسي ، على أثر خلافه مع الكنيسة اليونانية بزعامة ذيميانوس .
هذه بعض الوقائع شبه الخفية في حياة سكان مدينة السماء .
يتجلى موقف ليلى النقدي لهذا الواقع في أكثر من قصة وواقعة في الرواية ، عدا عن إحاطتها بالتاريخ السياسي للمدينة .. في موقف آخر وخلال مشاهدة فيلم شمشون ودليلة على التلفاز تتحدث عن التحريف الذي أجراه منتجو الفيلم على قصة شمشون ودليلة ، ليظهروا الفلسطينيين قساة القلوب يقتلون ابنتهم لأنها تزوجت من يهودي ، مع أن حقيقة القصة غير ذلك . *21
* المعمارالفني في الرواية :
لا شك أن ليلى وظفت خبرات سردية اكتسبتها من قراءات مختلفة لنصوص أدبية عربية وعالمية لتقيم صرحها الروائي بخصوصية متميزة . فلجأت إلى مخرجة سينمائية (راوية ) ترغب في انتاج فيلم يحقق طموحا عالميا لها . فقررت الذهاب إلى القدس للقاء قريبة مسنة لها ( ميلادة ابو نجمة ) تحوي ذاكرتها الكثير من الأحداث التاريخية المقدسية لحياة أسرة "أبو نجمة " ونظرا لأن ميلادة مسنة وتجهد لمقاومة التخوف من إصابتها بالزهايمر أو استفحاله بها ، فقد تركت لها حرية إيقاظ ذاكرتها كما تشاء مستعينة ببعض الحبوب المنبهة والمنشطة . لذلك جاء الشكل الفني مستندا إلى تداعيات الذاكرة . فالعمة ميلادة ، تستيقظ ذاكرتها أحيانا على حدث موغل في القدم من أيام الطفولة ،وأحيانا على حدث أقرب منه زمنيا . وهذا ما قررت الكاتبة استغلاله لبناء خطابها الروائي،مما أتاح لها إدخال متحدثين وساردين آخرين تخللت رواياتهم ذكريات العمة ميلادة ، عدا أنه أتاح للمخرجة التحدث بدورها والدخول كساردة أيضا لبعض الوقائع ،مستعينة بوثائق تاريخية أدخلتها في متن النص المسرود ، ليشكلا وحدة سردية متماسكة تنهض بخطاب روائي رفيع ومتميز . ومن هنا جاءت صعوبة النص على القارئ العادي ( وخاصة في نصفه الأول ) الذي يبحث عن نص يسليه ولا يشغل عقله . فقد بدا النص كلوحة فسيفسائية ترصّع قطعة قطعة لا يمكن فهمها دون رصع جميع القطع . وحتى هذه العملية لن تكون سهلة على القارئ العادي ، كما لم يكن سهلا علي جمع مقتطفات من متفرقات حكائية متناثرة وردت على لسان العمة ميلادة . لأسرد قصتها بشكل شبه متسلسل . وقد ساعد هذا الأسلوب اللعب على تجاوز وطأة الزمن الواقعي ، لنجد أنفسنا امام زمن روائي يحتويه بفنية عالية . ولا شك أن تجاوز الزمن يشكل عبئا على الفنون الدرامية كلها وخاصة تلك التي تجري أحداثها عبر عقود أو قرون ..
لم تلجأ الكاتبة إلى إيراد الوثائق التاريخية ضمن حواش أسفل الصفحات كما فعل ابراهيم نصر الله في بعض الوثائق في "زمن الخيول البضاء" و" قناديل ملك الجليل "وحتى ايرادها ضمن النص لم يشعرنا أنها وردت كما هي بالضبط ،مما بدا واضحا أنها استلهمتها وأعادت صوغها روائيا لتنسجم مع المعمار الفني الذي اختطته .
تطعيم المسرود الشعبي سواء على لسان العمة أو غيرها بمفردات شعبية أو مفردات أعجمية ( تركية ) ساعد على رسم صورة الشخصية والزمن المسرود عنه . وقد حافظت الكاتبة على لغة سهلة رفيعة خالطتها شاعرية شفافة في بعض أحاديث العمة عن آلامها ورسائل متري الحداد إلى ولده رفيق ، وخاصة حديثه عن ميلاده ولوعته وولهه بحبها .
وصف بيوت المدينة وأحواشها وحاراتها وأزقتها وما حوته من كنائس ومعابد ومساجد وأديرة ،وغير ذلك ، جعلنا نستشعر وجود القدس حقيقة لا وهما .
تطرقت الكاتبة إلى العديد من الوقائع التاريخية السياسية كاشفة الكثير مما كان مجهولا لدى الناس، وخاصة في ما يتعلق بغباء السياسة العربية.
أخيرا يمكن القول بثقة إن ليلى الأطرش قدمت صرحا أدبيا رفيعا ومميزا وفريدا ليس في تاريخ القدس فحسب ، بل في تاريخ الأدب الفلسطيني ـ الأردني ، لم يسبقها إليه أحد ، ولم يبلغ مستواه أحد أيضا ، متمنيا لها دوام الخلق والإبداع .
م.ش.
*********************
** شؤون فلسطينية العدد 260 حزيران 2015
* نورد هذه المعلومات دون اعتمادها كنص وثائقي تاريخي حقيقي .
*1تاريخ مدينة القدس . الموسوعة الحرة ومواقع أخرى على النت .
*2همسات فلسطينية . نت . ومواقع أخرى على النت.
*3 الإسم المميز للإله في المفهوم اليهودي .
*4 راجع الكتاب المقدس . سفر صموئيل الثاني . الإصحاح الثامن وما بعده .
** راجع همسات فلسطينية والموسوعة الحرة ومدينة القدس تاريخيا على النت .
*5 مراثي ارميا الإصحاح الأول .
*6 مراثي أرميا الإصحاح الثاني
*7 ( من 1 إلى 13 ) مراثي أرميا الإصحاح الرابع .
*8 (1-2-3-) مراثي أرميا الإصحاح الخامس.
*9 نشيد الأنشاد الذي لسليمان . الإصحاح الأول .(2-15)
*10 المصدر نفسه الإصحاح الثاني.
*11نفسه .. الإصحاح 3 ( من 3-7)
*12 نفسه الإصحاح 4 ( من 4 – 10 )
*13 نفسه الإصحاح 7( من 1- 9)
*14 ترانيم الغواية . ليلى الأطرش . منشورات ضفاف . 2014 . الطبعة الأولى . 294 صفحة.
*15 البطولة الجماعية في فرس العائلة . محمود شاهين . شؤون فلسطينية . عدد مزدوج 253+254
*16 الشكل والمضمون في مديح لنساء العائلة . محمود شاهين .مقال أرسل في آذار الماضي ل ( الإمارات الثقافية ) ولا أعرف إن نشر في عدد نيسان الحالي ،خلال كتابة هذا البحث .
*17 لا أعرف إن كان هذا سهوا من المؤلفة أو إشارة إلى خال آخر لميلاده لم يذكر اسمه. فالخال يوسف عاشت ميلاده في كنفه إلى أن أدخلها مع أخويها مدرسة الأيتام الألمانية (شنللر ) ومن ثم طردوا منها لعدم تعميدهم كبروتستانت حسب طلب المدير الألماني . واحتفظت زوجة المدير بميلادة لتساعدها في أعمال البيت ، ولتتعلم "الطهي والكعك والتطريز " ( ص100) ثم إن يوسف عاش إلى ما بعد زواج ميلادة من ابنه عوض.
*18 الأسماء أينما ترد لا يشملها النحو .
*19 لمن يرغب في الإستفاضة يمكنه مراجعة بحثنا على النت " أيوب التوراتي وفاوست جوته "
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=448863
كذلك يمكنه مراجعة بحثنا ( ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة )
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=462123
* 20 سقت القصة من الذاكرة وبإسلوبي لعدم توفر المصادر لدي . والأمر نفسه ينطبق على القصص التي لم أشر إلى مراجعها .
*21 يمكن مراجعة بحثنا على النت " دليلة الغزاوية تقص شعر شمشون "
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=456539













(10)
عزازيل : صراع الكنائس حول طبيعة المسيح وتمرد الجسد على قيود الشريعة !
* البطش والسحل لإعلاء مذهب على آخر .
* زيدان يعتمد بناء " اسم الوردة " لتأليف روايته
بين يدي الطبعة الثانية والعشرون من رواية عزازيل وهي صادرة عام 2011،ولا شك أنها قد تكون الرواية الوحيدة في الأدب العربي التي نالت هذا القدر من إعادة الطبع .
تدور أحداث الرواية في مصروسورية وفلسطين أوائل القرن الخامس الميلادي ، مع بداية تأجج الصراعات بين المذاهب المسيحية الناشئة حول طبيعة المسيح ، فهل هو الله أم ابن الله أم تجل لله في إنسان ، أو أحد أضلاع الأقنوم التي تشكل الألوهة : الآب والإبن والروح القدس . فثمة من كان يرى أن مريم العذراء هي أم للمسيح وليست أما لله ، فالله لا أم له ولا أب ولا ولد أيضا ، رافضا أن يكون الله أحد ثلاثة أو أنه يتشكل من أقنوم ثلاثي ! وقد ظل هذا الصراع محتدما لأكثر من ألف عام بعد ذلك إلى أن أودى بحياة الملايين من البشر ، ولم يتوقف إلا بعزل الدين عن الدولة في أوروبا .
كما تتناول الرواية صنوف الإضهاد والقتل الذي تعرض له أتباع العبادات الأخرى من وثنية ويهودية على أيدي المسيحيين الأوائل . ففي خمس صفحات يصف يوسف زيدان ببراعة مشهد سحل وحرق عالمة الرياضيات والفلسفة في الإسكندرية هيباتيا . ومما جاء فيه :
" .. وجروا هيباتيا بعدما صارت قطعة، بل قطعا ، من اللحم الأحمر المهترىء،عند بوابة المعبد المهجور الذي بطرف الحي الملكي البرخيون . ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب ، وبعدما صارت جثة هامدة .. ثم .. أشعلوا النار .. علا اللهب وتطاير الشرر،وسكتت صرخات هيباتيا ، بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم عنان السماء .. " (ص 159)
المحور الثالث الذي تتناوله الرواية هو مكابدات الجسد في مواجهة قيود الشريعة
التي تحد من الجنس بل وتصب جام غضبها على المرأة وتنشد الإبتعاد عنها والدخول " في الرهبنة حيث الطهر والصفاء وهجران للدنيا الفانية ، ومن أهم علاماتها العزوف عن النساء " جاء في الرواية عن يسوع المسيح :
" من استطاع أن يحتمل عدم الزواج فليحتمل !" وقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثه " حسن للرجل أن لا يمس امرأة " ( ص 221)
واضح أن زيدان يطرح أسئلة جوهرية حول هذه المفاهيم الدينية ،متسائلا عن مبررات كل هذا الكره للمرأة ، ومخالفة طبيعة الخلق في ممارسة الجنس
والتكاثر. خيار الكبت هذا لا يصمد أمامه بطل الرواية الراهب الشاب هيبا ، في أول فرصة في حياته لممارسة الحب مع اوكتافيا :
" كانت طريقتها أن أريح خدي الأيمن على نهدها الأيسر ، حتى يلتصق شق وجهي بنعومة صدرها الممتلىء..لم أشعر قربها بخطر الخطية ، وإنما شعرت بأنني أغوص فيها وأنسى ما عداها " ( ص 82)
ولم تكن الفرصة الثانية مع الشابة مرتا إلا امعانا في اقتراف متعة الخطيئة مع فتاة
كان هيبا يراها أجمل فتاة في الدنيا :
: " لمست صدرها بباطن كفي، عصرت بيديها يدي ، فعصرت ما تحتهما . لحظتها ،اندفقت أنهاري الكامنة كمثل شلال آت من أزمنة سحيقة ليروي أرضا تشققت جفافا عشرين عاما .. ارتجفت مرتا تلك الرجفة التي عاينتها قبل عشرين عاما في قبو النبيذ .. " ( ص 310)
ولم يتوقف الأمر على اقتراف هيبا للخطيئة .. فقد صادف في إحدى رحلاته شابا اعترف له بفظائع لا يمكن تصديقها . فقد مارس الشاب الجنس مع الماعز ومع أمه ومع أخته ، وقد حملت أخته منه .. هرب هيبا من الشاب الذي راح يلاحقه باعترافاته المخيفة ، ظانا أنه عزازيل ( الشيطان ) وقد حضر له في شخص الشاب .( 257- 258 )
يحضرني هنا كازنتزاكي في مذكراته ، حيث أمضى عمره في البحث عمن رأى الله ، إلى أن عثر في دير على راهب اعترف له أنه رأى الله يقف فوق سريره في صبيحة اليوم الذي مارس فيه الزنى مع امرأة فلاحة . فالتواصل مع الله يتم عبر ما يعتبر خطيئة في نظر الكنيسة !!
الشيطان ( عزازيل ) الذي حملت الرواية اسمه والذي يظهر كبطل في أعمال أدبية كثيرة كفاوست وغيرها وخاصة النصوص الدينية ، يقدمه زيدان في روايته كصنو لشخصية هيبا لا ينفصل عنها فهو جزء من دخيلته الباطنية . وكثيرا ما يتحاور معه أو يقطع تأملاته .
تطرح الرواية أسئلة فلسفية ووجودية عميقة عبر تأملات وحوارات مختلفة ، تستند إلى ثقافة زيدان الثرية .
تنتهي الرواية بأن يترك هيبا الرهبنة ويعود إلى حريته ليعيش الحياة بجمالها :
" ولسوف أدفن معه ( المخطوط ) خوفي الموروث وأوهامي القديمة كلها ، ثم أرحل مع شروق الشمس حرا " ( ص 368)
*البناء الفني في الرواية :
لا شك أن يوسف زيدان يحمل ثقافة تاريخية غنية كما أسلفنا فهو باحث بالدرجة الأولى في تاريخ الأديان والعقائد والأساطير وكان دخوله إلى عالم الرواية متأخرا نسبيا ، وربما شعر آنه في حاجة إلى ثقافة في فن الروي ، تمكنه من تأليف خطاب روائي متين ، وربما فكر في ما حوته ذاكرته من أساليب وفنون الروي ، وربما بحث ، إلى أن وجد أن أسلوب " أمبرتو ايكو " في "اسم الوردة " هو الأفضل لديه ، فاتبعه . اتبعه إلى حد تقصي خطواته في بعض الفصول . فقد اختار أن يستند إلى ترجمة مخطوط قديم كما عند إيكو..
تتبع الأسلوبين في الكتابين يحتاج إلى دراسة خاصة لمعرفة كيف أفاد زيدان من نص إيكو. لكن في الإمكان إيراد الملاحظات التالية .
البطلان في الروايتين راهبان شابان مع بعض الإختلافات في عملهما . ولكل منهما أستاذ أو عالم قدوة .
الراهبان دونا الوقائع التي عاشاها حول صراعات المذاهب الكنسية . الراهبان بدآ نصيهما بالتطرق إلى المخطوطين الأصل . الراهبان مارسا خطيئة الزنى . الراهبان انتهيا إلى الحرية ،وإن كانت حرية آدسو ذهاب في المطلق " وستنسى ( روح آدسو ) كل الفوارق . سأكون في الآس المجرد وفي الصحراء الصامتة ، التي لم ير فيها أبدا اختلاف وفي الجوهر الذي لا يجد فيه أحد نفسه في مكانه ، سأسقط في الألوهية الصامتة واللامسكونة ،حيث لا عمل ولا صورة " ( ص 538 )
المؤلفان قدما نفسيهما كمترجمين للنصين . المؤلفان يحملان فكرا فلسفيا وإن كان الفكرالذي يحمله آدسو أشمل وأعمق ولا يخلو من غموض أحيانا .. المؤلفان أرادا إدانة التاريخ الذي يكتبان عنه ، من أجل ما هو أفضل .
وسأتطرق إلى البداية عند الكاتبين :
يمهد إيكو للشروع في روايته بنص ديني :
" في البدء كان الكلمة ،والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله .. " (ص 29)
ويبدأ زيدان تدوينه بابتهال ديني :
" الرحمة يا إلهي الرحمة والعفو يا أبانا الذي في السموات .. " ( ص 13 )
يسعى إيكو للتقرب إلى الله من تدوينه :
" أنتظر أن أغيب في فضاء الألوهية اللامتناهي والصامت لأتحول إلى نور يستمد
نوره من الملائكة " ( 29 )
ويسعى زيدان للتقرب إلى الله كذلك :
" وكنت أنوي أن أدون فيها ابتهالاتي التي تقربني إليك " ( 13 )
وبتتبع النصين يمكن اكتشاف التشابه في التناول مع اختلاف اللغة والوقائع ، فلغة النص تبدو أحيانا عند زيدان أقوى وأقرب إلى النفس من لغة الترجمة إلى العربية في نص ايكو. الذي لا شك هو نص كبير ،ويحوي فصولا غاية في الدهشة والإمتاع ،وقد يكون لنا معه وقفه في مقالة لاحقة .






(11)
ماذا فعلت بعلاء الأسواني في " نادي السيارات " *
* تركته مع الخدم في النادي ورافقت صالحة وكمال!
حين أفرغ من رواية فارعة الطول كروايات ابراهيم نصر الله وخاصة " قناديل ملك الجليل "
و" زمن الخيول البيضاء " أو رواية رجاء عالم " طوق الحمام " أو رواية واسيني الأعرج
" أصابع لوليتا " أو رواية امبرتو ايكو " اسم الوردة " أهمّ في البحث عن رواية جديدة وأنا أتمنى ان لا تكون من المطولات .. لسوء حظي جاء اختياري على " نادي السيارات " لعلاء الأسواني وهي مطولة في حوالي (650) صفحة !
شحذت عزيمتي وشرعت في القراءة . كالعادة أقرأ في السرير قبل النوم ، وأحيانا تمتد القراءة حتى التاسعة صباحا ، وخاصة إذا ما كان الروائي ممسكا بخناقي !
يطالعنا الأسواني في المقدمة بشخصيتين من شخصياته (كامل وأخته صالحة )، يظهران له ويخبرانه أنهما سيمنعان نشر روايته لأنها " تنقصها أحاسيسنا وأفكارنا " حسب تعبيرصالحة.( ص 11) وقبل أن يغادرا مكتبه مرغمين يتركان له قرصا مضغوطا يحوي الرواية وبعض ما أضافاه إليها .
في الفصول الثلاثة الأولى يقدم لنا الأسواني حكاية اختراع السيارة على يد الألماني " كارل بنز " ووقوف زوجته " بيرتا " معه ، لإنجاح الإختراع. وما رافق ذلك من مشاكل عاطفية وردات فعل اجتماعية .كما ويقدم لنا عائلة عبد العزيز همام التي هاجرت اثر فقر بعد ثراء ، إلى القاهرة ليعمل عبد العزيز في نادي السيارات الذي يشغل الملك الشاب ( فاروق ) شرف رئاسته ..
تجري الوقائع في هذه الفصول على لسان الراوي الشامل الذي يعرف كل شيء ، متحدثا بضمير الغائب. ثم وفي الصفحة (54 ) تدخل (صالحة ) لتروي فصلا على لسانها يحمل اسمها الكامل ولا يحمل رقما . يتبعها الراوي بالفصل رقم (4 ) ثم يدخل ( كامل ) ليروي فصلا على لسانه يحمل اسمه ولا يحمل رقما أيضا .
وهكذا تتوالى فصول الرواية . فصول مرقمة يكتبها الراوي وهي (44) فصلا . وفصول تحمل اسم صالحة أو اسم كامل ، وهي 24 فصلا تروى على لسانيهما . (12) فصلا لكل منهما . طبعت بحرف أسود كبير للتمييز عن فصول الراوي ، مع أن العنوان يكفي .
حين قاربت منتصف الرواية كنت قد أمسكت بخيوط الرواية وأسلوب الأسواني ، وحين تركني بعد بضعة فصول أمام حدث درامي مثير يجري مع كامل ، وانتقل إلى فصل آخر ، هتفت لنفسي " لا يا علاء هوه انته جاي تبيع المية في حارة السقايين ؟ أو كما يقال عندنا " انته جاي تبيع السلك لأهل سلوان " لا يا عم ! " وهكذا تركت علاء مع الخدم في النادي يقص عنهم وإليهم ما يشاء ورحت أقلب الصفحات لأقرأ كل الفصول التي تروى على لسان كامل ،لأعرف معظم ما حدث معه . ثم شرعت في قراءة الفصول التي تروى على لسان صالحة . وأخيرا عدت لأتابع الفصول التي يرويها علاء عن باقي أحداث الرواية . بدا غاضبا مني لأنني لم ألتزم بأصول القراءة وتركته مع أبطاله الخدم في نادي السيارات ! قلت له : بس يا علاء أنا مش قارىء ،هو انته نسيت إني أنا روائي ولا أيه ؟"
تدور أحداث الرواية في أواخرأعوام حكم الملك فاروق وتتطرق إلى النشاط السياسي والنقابي داخل مصر ، وبشكل خاص نشاط حزب الوفد والشيوعيين .ولا تتطرق إلى أية أحداث خارج مصر . الأبطال مصريون في معظمهم إضافة إلى بعض الإنكليز .
إضافة إلى الظلم الفادح الذي يطال العمال والخدم والموظفين . يصور لنا علاء ببراعة نضال
الحزبيين ونضال العمال لرفع االظلم ،وإن كانت النهاية في غير صالحهم .
كما يصور علاء حياة الأسرة الرئيسة والأسر والشخصيات الأخرى ببراعة .
صالحة الفتاة البريئة الجميلة تنتهي إلى الطلاق بعد أن تزوجت من تاجر ابل مدمن مخدرات وضعيف جنسيا إلى حد يوحي بالعنّة .
كمال يغرق في حب فتاة انكليزية يدير أبوها نادي السيارات . يكتب كتابه عليها في السجن ، بعد أن كشف انتماؤه السياسي. مشهد مؤثر وجميل لكتب الكتاب.
محمود الأخ الأصغر يغرق مع صديق له في مضاجعة النساء العجائز لقاء مقابل مادي. مشاهد تثير الضحك في معظمها.
سعيد الأخ أكبر أناني مصلحي يتزوج عن حب من ابنة الجيران ويتسبب لأخته في زواج فاشل
من تاجر الإبل .
أم سعيد الأم : امرأة عظيمة تواجه قسوة الأيام بصلابة نادرة .
الأب عبد العزيز : يموت قهرا وكمدا بعد أن تعرض لعقوبة الضرب في عمله في النادي .
الأمير شامل ابن عم الملك : يسجن ثلاثة أيام ويفرج عنه لانتمائه السياسي.فنان مهذب وحضاري.
قرابة مائة شخصية يحركها علاء الأسواني بمهارة الروائي المتمكن ، وبتشويق درامي
ممتع. رغم أنني أعتقد أن بدء الرواية بظهور صالحة وكمال للراوي ، لم يكن هناك ضرورة له
، والأمر نفسه ينطبق على تاريخ صناعة السيارات ،وكان يمكن التطرق له باختصار عند الشروع في الحديث عن النادي .
يبقى أن نقول أننا أمام عمل روائي كبير لكاتب كبير ، يستحق أكثر من وقفة صحفية كهذه .
* نادي السيارات . دار الشروق . طبعة اولى 2013



















(12)
مملكة الفراشة ومملكة مارك زوكر بيرغ !
كابوس من أكثر من أربعمائة وعشرين صفحة يضعنا فيه الروائي الجزائري الصديق واسيني الأعرج عبر روايته ( مملكة الفراشة ) ، كابوس من الألم والعشق والجنون، أبطاله طرفان : المجتمع الجزائري بعد الحرب الاهلية ،ومملكة مارك زوكر بيرغ أي : الفيس بوك ! قلق يعيشه معظم أبطال الرواية . قلق من الإعتقال ، قلق من القتل، قلق من التشرد ، وحتى قلق في الحب والعلاقات الإجتماعية . الحرب المدمرة انتهت لكن آثارها ما تزال خامدة تحت الرماد ، فالقتل سلك طرقا أخرى ، تتبعها ما فيات الدواء ومافيات تجارة الخيول ومافيات السلطة ،وغيرها من المافيات .. حرق صيدليات ، وحرق مصانع أدوية ، وحرق اصطبلات خيول لصالح المافيات . وقتل أطباء ومثقفين ..
( ياما ) شابة صيدلانية تهوى الموسيقى وتعزف على آلة الكلارينات في فرقة موسيقية ، تعيش حباً افتراضيا أقرب إلى الجنون ، مع مخرج وكاتب مسرحي مهاجر( هربا من الحرب ) إلى اسبانيا ( فادي ) تطلق عليه اسم فاوست . يعيش في أشبيليا وسيعود إلى الجزائر ليعرض مسرحيته الجديدة ( لعنة غرناطة ) وليوقع النص المسرحي لجمهور المعجبين .. تنتظره ياما على نارعشق يتأجج كلما خبا أو أوشك على الإنطفاء .
عدا المكالمات الغرامية ، خطت له 777 رسالة لتهديها له عند قدومه . وانتظرت عودته أكثر من ثلاث سنوات وعشرة أشهر ! كان شريك وحدتها والأمل الذي يدفعها لحب الحياة ، بعد أن قتل أبوها ( الكيميائي ) غدرا بطلق ناري لأنه رفض التعاون مع المافيا ، وبعد أن جن أخوها وسجن وأحرقت مزرعة خيوله ،وبعد أن أصيبت الأم بانفصام شخصية ووقعت في حب كاتب فرنسي راحت تعيش حياتها معه إلى أن ماتت ، وبعد أن هاجرت أختها إلى كندا ، وبعد أن قتل صديقها في الفرقة الموسيقية ..
كان فاوست بالنسبة إلى ياما حياتها كلها . كتبت له في البدايات :
" حبيبي فاوست . حبيبي لك كل شيء ، كل ما أملك بلا استثناء ، ولي فقط وردة من يديك وقبلة مسروقة ، في غفلة من القتلة ،والركض معك في مدن التيه قبل الموت ، بسكرة العاشقة بين ذراعيك " (ص20)
وكتب لها في النهايات، أي قبل قدومه :
".. نحن في عز الحب . في ألق الجنون الذي وصل بنا حد الإلتصاق جسديا . ألم نمارس الجنس في المرة الماضية باللغة فقط ؟ وبأكثر الأشكال جنونا وتفننا ؟ ألم تقولي لي إنك شعرت بلذة عالية وجميلة . كانت لحظة لذيذة ومليئة بالنعومة . بعدها نمنا كل واحد في زاويته قرير العين " ( ص 315)
وجاء اليوم الموعود . السلطة احتوت المخرج بأن هيأت له استقبالا حافلا وأجرت حوارات متلفزة معه ، وأحاطته بالعناية الفائقة ، ورحبت بعودته إلى الوطن . وهيأت له دار الأوبرا لعرض مسرحيته .
يوم العرض المنشود . حملت ياما كتاب الرسائل أل 777 بأن ضمته إلى صدرها ، لتهديه للحبيب فاوست عند اللقاء ، وهي مدركة تماما أنه سيعرفها بمجرد رؤيتها لكثرة ما رأى صورها على الفيس ، كما أنها أخبرته أنها ستضم كتاب الرسائل إلى صدرها .
بعد العرض شرع فاوست في توقيع مسرحيته محاطا بالمئات .. اقتحمت ياما الحشود بصعوبة ..
تقول " كان التدافع ورائي قد بلغ أشدة ..تمنيت لحظتها أن أهرب ، ولكني لم ولن أستطيع .. سحب بلطف مسرحية : لعنة غرناطة ،من يدي وهو يتأمل ملامحي التي لم تذكره بأي شيء .. ربما الإرهاق الشديد .. كنت متأكدة من أنه سيسألني السؤال الذي انتظرته طويلا : ياما ؟ فراشة مملكة مارك زوكير بيرغ الزرقاء . لكنه سألني سؤالا مسطحا كان يطرحه على الجميع :
-الإسم الكريم ؟
- ياما . ياما . ياااااااماااااا
ضحك .
- عذرا سمعتك من الوهلة الأولى ! "
غير أن ياما لم تقطع الشك حتى حينه . فراحت تعرفه بنفسها حين أخبرها أن اسمها جميل وسألها عن مصدره .. وأخيرا سألها عن رأيها في المسرحية . أخبرته أنه سيقرأ رأيها في الفيس بوك . وحين أجابها بأنه لا حساب له في الفيس بوك ، وأنه لا يحبه حتى ولا يعرفه ! أحست أن العالم كله قد دار في رأسها ، حسب تعبيرها كراوية للكتاب كله :
" دار العالم كله في ثانية في رأسي "
" أخذتني فجأة رجفة داخلية وأحسست بالدوار ، ولكني اتكأت على المقبض الذي كان يفصل الجمهور عن الكاتب ... "
لقد اكتشفت ياما الحقيقة . حقيقة الوهم الذي كانت تعيشه في حب افتراضي ليس له وجود . وما فاوست الحبيب إلا ابن عم للمخرج الكاتب كان ينتحل شخصيته !
إنها مملكة مارك زوكر بيرغ التي كما الضوء تحوم حولها الفراشات لتحترق في النهاية . فكان أن احترقت مايا وربما كثيرات وكثيرون غيرها بهذه النار الخادعة .
في الطريق ألقت كتاب الرسائل في برميل قمامة تشتعل فيه نار كان يتدفأ حوله بعض العمال .
للأسف لا يتسع المجال أكثر للكتابة عن الرواية الأخاذة ، التي حفلت بالعديد من المواقف المؤثرة. ولن يفوتني أن أنوه إلى اللغة الشاعرية الجميلة التي حفلت بها الرواية .



(13)
المحطات الضائعة من زمن جون بوسمان !!
يستجمع باتريك موديانو الحائز على نوبل 2014 في روايته ( الأفق ) الصادرة عن منشورات ضفاف 2014 بترجمة لتوفيق سخان ، المحطات الضائعة في حياة كاتب فرنسي من أصل ألماني هو جون بوسمان .
يشكل بوسمان وصديقته ذات الأصل الألماني أيضا مارغريت لوكوز المحور الأساس في الرواية الذي تنسج من حوله وقائع عابرة في حياتهما .. غير أن هذا النسيج لا يتم عبرشكل تقليدي في بناء الرواية ، فهو يراوح بين تقديم وتأخير وتعدد لشخصيات كثيرة تمر في حياتهما من أيام الطفولة إلى الشيخوخة ، بحيث لا يعود من السهل الإمساك بالخيوط المفصلية للرواية .. فبوسمان يلجأ إلى ذكريات هامشية دونت بشكل عشوائي في دفترين بجمل مقتضبة ، كان يلجأ إليها حين كان يدهمه شعور بالإختناق من الواقع المحيط به ، غير أن هذه الذكريات ( المظلمة حسب تعبيره ) تشكل في مجموعها الجزء الأكبر من حياة بوسمان غير المعروفة ( المظلمة ) ، فقد قال عنها " إن هذه المادة المظلمة كانت أكبر حجما قياسا بالجزء الظاهر من حياتك " ( ص6)
يلجأ الكاتب إلى اطلاق صفات وأفعال مميزة على أشخاص بعينهم ليظلوا عالقين في الذاكرة ، فحين يتطرق إلى رئيس مارغريت في العمل المكتبي يصفه ب ( الفتى الأسمر صاحب الوجه الذي يشبه وجوه الكلاب الشرسة ) ( ص 9)
يستأثر بعض هذه الشخصيات بالإهتمام الأكثر للكاتب لتغيب الشخصيات الأخرى من صفحات الرواية .. فعدا بوسمان ومارغريت هناك بويافال الذي يظهر دائما كالشبح أمام مارغريت أو خلفها ، مسمما حياتها ، مستشعرة أنه يريد قتلها ، مع أن الأمر ليس كذلك كما يتضح من النص ، فالمسألة تتعلق بحب دفين رفضته مارغريت ، متمنية لو أن في مقدورها أن تقتله ، على أثر هذه الملاحقة الدائمة لها .
ثمة شخصيات أخرى تظهر في حياة مارغريت خلال عملها في رعاية الأطفال ك باغريان السويسري المولع بالغرام والنساء وكان لديه صديقتان يطارحهما الغرام عدا مارغريت ، إحداهما نرويجية والأخرى سكرتيرة .
وهناك أم بوسمان ورفيقها (الذي يشبه رجل دين بلباسه الأسود) اللذان يظهران دائما لبوسمان ، لتنقض أمه عليه بعصاها طلبا للنقود أوبحثا عنها في جيوبه . وهذا ما دفعه إلى التساؤل حول مفاهيم الحياة مستنكرا ذلك . يستقرئ الكاتب أفكاره قائلا " لماذا فرضت عليه الحياة ،على وجه التحديد ، مثل هذه الدمى التي تتصور بأنها تمتلك حقوقا عليه " ؟ ( ص 69 )
لا يشير الكاتب إلى أي أب لبوسمان غير أنه يشير إلى أن مارغريت لم تعرف أبا يوما .. وأن أمها متزوجة من شخص يعمل في مرآب . ( ص 107) كما أننا لا نعرف شيئا عن طفولتهما المبكرة ، غير أننا نعرف في نهاية الرواية ،وبعد أن تركت مارغريت باريس عائدة إلى برلين ، أنهما ينتميان إلى جيل الحرب العالمية الثانية ، حين يشير الكاتب إلى برلين المدمرة في سنة ميلادهما " " حتى في سنة ميلادنا نحن الإثنين ، حينما كانت هذه المدينة وهي تشاهد من الأعلى مجرد ركام من الأنقاض ) ( ص 150 . الصفحة الأخيرة في الرواية )
امتهن بوسمان الكتابة ، وأصبح لديه أكثر من عشرين مؤلفا في زمن شيخوخته ، زمن الإنترنت ، الذي كان له الفضل في العثورعلى عنوان مارغريت في برلين ، حين ذهب يبحث عنها ليمضي باقي أيام حياته معها ، دون أن يكون متأكدا من أنها ستتعرف عليه ، فكل هذا الجيل ، من أبطال الراواية ( الأصدقاء ) الذين عاشوا طفولتهم خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها لم يتعرفوا على بعضهم حين يلتقون في شيخوختهم ،كدلالة على الضياع الذي خلفته الحرب . يقول الكاتب " وحينما يلتقون جميعا ، بعد مرور أربعين سنة ، لا يتعرفون تماما على بعضهم البعض " (ص 109) فكل واحد منهم " يوجد في دهليز زمني مختلف ، إذا مارغبوا في تبادل أطراف الحديث ، فلن يتمكنوا من سماع بعضهم البعض ،كما لو كانوا شخصين يعزلهم حوض سمك زجاجي "( 109)
لكل هذا الواقع .. لا نجد الكاتب يتطرق إلى لقاء بوسمان ب مارغريت في برلين ، مع أنه قادم من باريس ليكمل حياته معها كما هو واضح ،ويكتفي بالإشارة إلى أنه عرف عنوانها وأوقات عملها في مكتبة ،وأنه يسير بخطوات منهكة في شارع وسط مطر غزير، على بعد أمتار منها مستشعرا " السكينة واليقين بأنه عاد إلى المكان المحدد الذي انطلق منه يوما ما " ( ص 150 )
وبهذا يلعب المكان الأصل الدور الأهم في إعادة ترميم جراح بوسمان ، وإذا ما أضفنا إلى ذلك وجوده بالقرب من صديقة الشباب مارغريت واحتمال لقائه بها .. تكون العودة أكثر جمالا .
*******









(14)
القصة الواقعية في أدب عادل بشتاوي*
كانت مصادفة عابرة تلك التي أوقعت أحد أعمال الأديب عادل بشتاوي بين يدي، فقد كنت في رحلة استجمام إلى اللاذقية، ولم أصحب معي فيها سوى رواية الزميل غالب هلسا التي كانت قد صدرت حديثاً، أقصد “ثلاثة وجوه لبغداد”، وما أن فرغت من قراءتها حتى رحت أبحث عن شيء أقرأه، فأمواج البحر التي كانت ترتطم بقدمي وتتراجع لم تكن لتشغلني عن القراءة، لكن أين سأعثر على كتاب في هذا الشاطىء الذي لم أر أحداً يحمل كتاباً حوله؟
وكانت الفرصة حينما دعاني صديق إلى العشاء فطلبت منه أن يعيرني شيئاً من مكتبته! اعتذر الصديق بأدب جم، فهو ارتحل حديثاً إلى اللاذقية وظلت مكتبته في دمشق، لكنه استدرك قائلاً: “لدي كتاب واحد فقط لشقيق زوجتي، وربما تجد فيه ما يسليك ولا سيما أنه فسطيني!”.
تساءلت في دهشة : فلسطيني؟”
، قال: نعم! قلت: ماذا يكتب؟ قال: القصة القصيرة!
ما اسمه؟ "”
“عادل بشتاوي” “ألم تسمع به؟”
هززت رأسي بعد برهة صمت كنت أجمع فيها شتات مخيلتي :
" للأسف لا "
” أضفت “للأسف” هذه حتى لا أحرج صديقي الذي ربما يعتز بشقيق زوجته الأديب
الحلقة الأولى
كان عنوان الكتاب "لا تقتلوا الكناري"
شرعت أقرأ القصص مبتدئاً بالقصة التي حملت عنوان الكتاب، ولا أعرف كيف انغمست في صفحاته، أضحك تاره وأحزن تارة وأغضب تارة أخرى!
وظل عادل ينقلني من قصة إلى قصة إلى أن أتيت على المجموعة كلها، التي ضمت ثلاث عشرة قصة.
أتيت بالمجموعة كي أكتب عنها، لكن صديقاً أخذها كي يقرأها ويكتب عنها، لكنه لم يكتب ولم يُعدها! ونسيت الأمر إلى أن التقيت صديقاً رحت أحدثه عن هذه المجموعة الجميلة، وإذا به يقدم لي ثلاث مجموعات قصصية أخرى لعادل بشتاوي إضافة إلى المجموعة الأولى.


*مدخل إلى قصص عادل بشتاوي.
إذا كان الموت في حياتنا وافراً فإنه وافر أيضاً في قصص عادل: الموت ظلماً والموت اضطهاداً، والموت يأساً، والانسحاق حتى العظم لدى غالبية الأبطال، والشعور بالحزن، بالقهر في مجتمعات لا ترحم الفقراء أبداً! مجتمعات يسيطر عليها ويسلبها قوتها ذووالكروش الكبيرة المنتفخة.
وثمة نوع آخر من قصص عادل. نوع يمتزج فيه الواقع بالخيال الأسطوري المستوحى من التراث، حيث نجد أنفسنا نعيش مع أبطال واقعيين يصارعون قوى غيبية شيطانية ساحرة، تتقمص أشكالاً مختلفة، كما كنا نسمع في حكاياتنا الشعبية. وقد أطلق عادل على هذا النوع من قصصه اسم أو عنوان “موسم الرعب”! وربما أخفق عادل في بعض القصص الأسطورية وبدت شاذة عن عالمه، لكن معظم القصص الواقعية كانت موفقة جداً كقصة " رحلة الموت" في مجموعة “موسم الرعب”، فهي جديرة بأن تترجم لأي لغة من لغات العالم! وهي تذكرنا بقصة غسان كنفاني رجال تحت الشمس لكن الأبطال هنا من الباكستانيين. والموت يواجههم فيموتون بالعشرات ولا يصلون إلى الخليج!
بالإمكان فصل قصص عادل بشتاوي إلى قسمين، قسم يمكننا أن نطلق عليه القصص الواقعية وقسم يمكننا أن نسميه القصص الأسطورية ولنبدأ الحديث عن كل قسم من هذه القصص على حدة:
القصص الواقعية :
ضمت مجموعته الأولى لا تقتلوا الكناري ثلاث عشرة قصة تنتمي إلى الأدب الواقعي كلها، بينما راوحت في المجموعات الأخرى بين الواقعية والفانتازيا الموغلة في الخيال..
في القصة الأولى " أحزان فاطمة " التي تصدرت الكتاب يطرق عادل أبواب البؤس والاضطهاد في بلد عربي لم يشر الكاتب إليه بشكل محدد وواضح:
فاطمة امرأة فقيرة يعمل زوجها في المدينة. يموت حموها فحماتها في أسبوع واحد! ولا يستطيع الزوج الحضور، ولا يعلم بما جرى، وحتى لو علم فإن صاحب المصنع لن يعطيه إجازة لتقبل عزاء أمه وأبيه! تحتار فاطمة في أمرها، فهي امرأة وحيدة، وأولاد عم زوجها سيصلون قريباً وسيطالبون بالدار والحقل، والمختار وشلته يعتبرونها سبب موت عمها وزوجته، وقريباً سينظر إليها الرجال نظرتهم إلى امرأة سهلة المنال زوجها بعيد في العاصمة وهي وحيدة في دار كبيرة.
وتزداد مخاوفها حين تخبرها صديقتها زينب أن زوجها عزيز ربما تزوج فتاة من فتيات المدينة يتزوج غيرها! ، فهو فضلها على ابنة عمه ولن
تركب فاطمة سيارة أجرة (تاكسي) وتذهب إلى المدينة للبحث عن عزيز. في الطريق يعرف السائق أن المرأة تجهل المدينة تماماً ولم تشاهدها في حياتها، وما أن ينزل الركاب الذين معه حتى يجنح بالسيارة إلى طريق فرعي.
تنتابها المخاوف فهذا الطريق لا يبدو أنه يؤدي إلى المدينة! لكن السائق لم يفعل شيئاً حتى الآن . وربما ظلمته!
توقفت السيارة فجأة وادعى السائق أنها تعطلت، وطلب اليها أن تنزل لمساعدته: “شد ذراعها الأيسر وكتفها الأيمن وأجبرها على الجلوس. صرخت فاطمة حتى قامت الأحجار من قبورها الترابية، لكن السائق شد شعرها إلى الخلف وضغط على كتفها الأيسر حتى التصفت بالتراب، صرخت ثانية فهوى بقبضته على رقبتها فسكنت".”.
استعطفته ببناته وأخواته وبالأولياء الصالحين، وهددته بأن زوجها شرطي!ر "هددته بالمختا
، أعطته الصرة التي كانت تحت ثديها والتي وضعت فيها كل ما تملك لعله يسترها! لكنه لم يسترها، فاغتصبها وسلب كل ما تحمله، وتركها ملقاة على جانب الطريق كجيفة “وكانت تشعر أنها جيفة، وتشعر أن العالم ظالم لئيم، وتشعر بالخجل لأنها أمرأة؛ الخجل لأن السائق اغتصب أنوثتها بلا رحمة"
لم تكن هذه نهاية أحزان فاطمة فقد تمالكت نفسها وراحت تبحث عن عزيز في المدينة التي وصلتها ليلاً. أخرجت رسالة من تحت ثديها وطلبت إلى امرأة أن ترشدها إلى العنوان المكتوب عليها. وهنا كانت الفاجعة، فقد حل الحبر على العرق، وسالت الحروف واختفت الكلمات التي كانت مكتوبة على الظرف.
أطلقت صرخة مدويّة هائلة، وأغرقت الدموع عينيها، وظلت تصيح بالشارع الكبير: “عزيز … عزيز"
هذا مجرد تلخيص سريع للقصة التي احتلت خمس عشرة صفحة في الكتاب لتصوّر لنا عالماً
مغرقاً في قسوته، مغرقاً في ظلمه. عالم القوي فيه يأكل الضعفيف.


! وهذا ما نجده في القصة الثانية: لا تقتلوا الكناري!
عبيد الرحمن رجل مسحوق ينوء تحت وطأة مشاكل الحياة: حظه العاثر في العمل وحظه مع زوجته أيضاً، فلم يعمل في مكان إلا وطرد منه لأتفه الأسباب! وفي عمله الأخير، كان في المستطاع أن يصبح رئيساً لقسم جمع النفايات في البلدية لولا حظه التعيس الذي جعله السجين رقم 12734 في السجن المركزي. فقد تغيب يومين عن العمل دون مبرر فطرد. سار في الشارع تحت شمس تكفي حرارتها لإذابة يافوخه العاري، ومخيلته تستحضر الأعمال السابقة التي طرد منها، في شريط حياته البائسة: لو دارت حياته دورة ثانية لرغب أن يكون شاعراً، كانت له في الماضي محاولات شعرية مشجعة.
وظلت الأفكار تنهش مخيلته إلى أن دخل البيت. لا يعرف ماذا يقول لزوجته. ووجد نفسه.
يقول لها حينما سألته:
“وقع انقلاب عسكري اليوم وأغلق العسكر جميع المحلات والمكاتب
ونزلت الدبابات إلى الشوارع" دبابات كثيرة وجنود أكثر من التراب!
في هذا الحر القاتل"
ويقولون إنهم استوردوا دبابات مكيفة الهواء"
أدركت زوجته أنه طرد من العمل، فنهضت إليه بكل الكتل التي تراكمت على جسمها نتيجة نهم غير عادي، وقبل أن يبعد وجهه شعر بلطمة على جبينه وخيل إليه أنه يرى شرراً أخضر اللون يحوم وسط الغرفة.. وراحت الزوجة تكيل له اللكمة تلو اللكمة حتى أن الابن شاركها الضرب، وكذلك العم الذي اقترب يريد المشاركة!!
حاول عبيد الدفاع عن نفسه بعد أن استفز، فأسقط العم ولطم الزوجة وهرع نحو ابنه، لكن الشرطة هرعت وأخذت الجميع إلى القسم ما عدا العم الذي ذهب إلى المستشفى.
يخرج من القسم متعباً، يستنشق هواء مشبعاً بالرطوبة: “في الصباح كان موظفاً وزوجاً وأباً وصاحب بيت، وهو الآن دون شيء! ود لو أنه يبكي ولكنه لم يستطع. ".
"في الطريق رأى بعض الرجال منهمكين برفع قوس نصر على مدخل المدينة. حملق في الظلمة فرأى رافعة هائلة تئن تحت ثقل نصب فولاذي كبير. تسلل نحوها بحذر وأخذ يلاحق دوران محركها، ولما اطمأن إلى انشغال العمال، صعد إلى الرافعة وأمسك بمقبض أصفر اللون وحركه إلى الأمام، فاندفعت الرافعة نحو مدخل المدينة، خيل إليه أنه يسمع صياح بعض العمال، ضغط على المقبض فارتجت الآلة قليلاً ثم عادت إلى سرعتها الأولى! وانطلقت تأخذ السيارات في طريقها وتجرف أمامها كل شيء! فتحول سكون المدينة إلى صخب مرعب: أبواق الحافلات وأبواق سيارات الشرطة راحت تنطق منبهة! أما عبيد الرحمن فكان جالساً في مقعده
(مقعد القيادة) يوجه الرافعة خلف من رأى فيهم مديره وزوجته وعمه والشرطي وكل الشخصيات المماثلة الأخرى التي عرفها في حياته.
إلى جانب هذا النفس المأساوي نلمس في معظم قصص عادل نفساً ساخراً، سخرية ترغمك على الضحك وسط الحزن والكآبة.
في قصة “وفاة زوجة مخلصة” يلجأ عادل إلى تصوير مشاعر أسرة في اللحظة التي تتمدد فيها جثة الزوجة داخل البيت ليكشف لنا مدى حقارة ووضاعة بعض الناس، وقد مثلهم هنا في شخصية أب الزوج الذي يفكر في مستقبل الأسرة أكثر مما يفكر في دفن الزوجة، حتى أنه أخذ يفكر كيف سيقتصد في مصاريف الدفن.
وفي قصة أبراج الصمت التي تدور أحداثها في بومباي يغرقنا عادل في الضحك فوراً! يقول الدليل الهندي الذي اعترض طريق السائح العربي ::
“بونجورنو سنيور، إيتاليانو؟”
“لا.. عربيانو”.
وتتحدث القصة عن مشاكل الحياة الزوجية. هذه الحياة التي تصبح مملة وقاتلة بعد الأشهر الأولى، حتى في حالات الاستجمام والسياحة تبقى هذه المشاكل قائمة، لكن مشاهدات السائح العربي في بومباي بدءاً بحرق جثث الموتى مروراً بالطيور الجارحة التي تنهش جثث آخرين وانتهاء بقطعان المتسولين والأسر التي تنام وتأكل وتعيش على الأرصفة، تجعل مشاكل الحياة الزوجية ليست ذات شأن أمام هذه الحياة!
ويغرق عادل هنا في أفكار فلسفية عن الحياة، عن الفقر والغنى “منذ أن شاهد منظر النيام على الأرصفة لم يشعر بدهشة لوضع مثل هذا، ولكنه شعر بغضب لتقبل تلك الحقيقة. ولكنه يعرف الآن أنهم يقبلون واقعهم لا لأنه جزء من ضريبة الحياة، وإنما لأنه جزء مقبول من قدرهم. بين الغنى الفاحش والفقر الفاحش لم تكن هناك طبقات، لم تكن هناك ضغينة أو حقد وإنما قبول فقط ورضوخ لمسيرة قدر يعتقدون أن من غير الممكن تغيير اتجاهها! أما بالنسبة إليه كسائح فقد كان يرى أن نمط حياتهم شيء لا يمكن فهمه، ولكن يمكن فهم أسباب تقبلهم له"
ولا أظن أنني قرأت قصة في حياتي فيها هذا التمايز المخيف بين الغنى والفقر، فالهند هذه بلد عجيب حقاً، فتصوروا الفارق الهائل بين من يحرق موتاه بخشب الابنوس الثمين جداً، وبكميات هائلة! وبين من يحرق موتاه ببضعة أرطال من خشب رديء مسوس!
لقد نجح عادل الى حد كبير هنا في توظيف مشاهداته السياحية لخدمة الموضوعة القصصية التي يطرقها، ولم تكن عبئاً عليها، بل كانت جزءاً منها.
“الهنود الذي عاشوا حضارتهم محاولين مصالحة المتضادات عرفوا أيضاً أن الحياة برمتها تكمن في وجود المتناقضين المتصالحين للكل الواحد،”.
وهو، أي بطل القصة، سيغادر بومباي، وسيحاول أن يتقبل زوجته كما هي، ليس كما يريدها
أن تكون، وإنما كما هي بكل متناقضاتها.
"فالانسان وإن كان يمضي كل حياته وهو يحاول أن يجعل الآخرين يحبّون ما يحب ويكرهون ما يكره، إلا أنه أول من يرفض النسخ المشابهة له"
ربما لا نتفق مع عادل حول بعض الأفكار الفلسفية التي تطرحها هذه القصة، لكننا لا نستطيع إلا أن نقول إنها قصة جميلة"
في قصة " طفلتان ورجل" عودة الى الحياة الزوجية، والمرأة التي لم تعد تحتمل بؤس هذه الحياة ولا سيما في الخليج، فتقرر أخذ طفلتها والهرب من هذا الجحيم. وتركز القصة على معاناة الزوج الداخلية لحظة الوداع، الفراق وما بعدها..
وفي قصة "لحظة اليقين" يدخل عادل إلى عالمه الأصلي، أقصد قلسطين، فالبطل هنا نازح أو لاجىء في دمشق منذ عام 1948، ويظل يحلم بالوطن والعودة إلى أن يتحطم هذا الحلم بعد حرب 1967، ومع ذلك تظل العينان محدقتين إلى سماء الوطن وسهوبه.
وفي قصة " لم يبق إلا الوداع نقرأ أجمل نثر شعري حملته قصة عربية لشاب منتحر؛ شاب يئس من الحياة بعد أن فشل في الحب. ونظراً لأن المجال لا يتسع هنا لنشر معظم الفقرات الشاعرية هذه، سأكتفي بإيراد بعض ما هو هام منها:
"أحب وطني وفتاتي وأمي وأكره الغربة غير أنّي أتغير كما النهر. سيل من التجارب يشوّه وجه الصغيرالمختفي خلف وجه الرجل. وطني في الجانب الآخر من الحقيقة وفتاتي تفتح ذراعيها فأضمّها، غير أن قلبي لا يموء حبا ، ولا تغرد البلابل، ولا يضيء وجه القمر، ولا تموج الأشجار ولا تتدفق الأغادير الجافة"
وأنا؟ أنا لا أريد أن امسك بالأشياء التي لا أستطيع تملّكها، ولا أريد تلك الأشياء التي تقترب مني من دون رغبتي. وأنا لا أعرف أشياء كثيرة ، لكنني أعرف أن وراء البدلة والياقة والنظارتين وعلبة التبغ بدوي يعتقد أن أوان الرحيل حان، وعليه الآن أن يطوي الخيمة قبل أن تتثاءب أشعة الشمس وتنتقل إلى مكان آخر"
“"ألمح وجه الصبية هناك قرب الباب فلا تقوى القدمان على الانتقال خطوة واحدة فأقول: أيها الرفاق! هلا بكيتم معي؟ أنا مثلكم أفتقد الوطن وأمي ووجه من أحب. وأنا، مثلكم، أنظر الى المستقبل وملايين الخيوط الدقيقة تشدّني إلى الماضي. وأنا مثلكم أموت ألف مرة في اليوم فلا تخرج من الصدر أنّة أو بحّة أو حرّة. وأنا مثلكم أختنق من دون أن اسمح لهم أن يروا اختناقي. وأنا مثلكم أخاف أن أقول إنني أحبها فلا تفهم ما قصدت"
………..
“"أغنّي لك أيها البحر. أغنّي لكل ما هو نضر وجديد وآسر فيك. أغرق مع إغراقتك الأزلية، وأرقص على أمواجك التائهة إلى الأبد لأطفو معك على سطح هذا العالم المضني. أردّد معك همسك العميق، وأحلم بالندى يسقط عطراً صباحياً يجعل الارض ركناً يستأهل العيش"”.
… قرابة ثلاث عشرة صفحة من هذا الشعر الحار المتدفق المشحون بالآلام والمعاناة، ويا ليت في مقدوري أن أورد أكثر مما أوردته، ولا يظنن أحد أن كل هذا الشعر قد جاء على حساب فنية القصة، بل كان من صلبها. إننا نقرأ أوراق شاب انتحر للتو حتى أن صديقه يشرع في قراءتها قبل أن يسمع بنبأ الانتحار.
*******
في قصة " العجوز والليل" يحدثنا عادل عن هموم صاحب المقهى ( المسالم ) الذي يعمل في الخليج، لكنه لا يظل مسالماً عندما يتسلط عليه أحد مراقبي البلدية ويبدأ في ابتزاز تعبه وعرق جبينه، وليس هذا فحسب، بل إغلاق المقهى لمدة شهر أيضاً! وهنا يضطر الرجل المسالم الى التفكير في القتل..
وفي قصة "بائع الشاورما" نلمس هموم طالب فلسطيني يدرس في لندن، لكنه يخفق في دراسته فيتحوّل إلى بائع شاورما!
وفي قصة "الخور" نلتقي بمن هرب من جحيم بيروت الى العمل في الخليج، وقرر استدعاء زوجته وطفله، لكن الطائرة التي جاءا على متنها سقطت! وكأن عادل يريد أن يقول لنا إن الموت في كل مكان ولا مفر منه!
في قصة "جدار الليل" تختلط المعلومات التاريخية بالخواطر والذكريات عن الحكم العربي لاسبانيا، وتضيع (عبر مشاهدات سائح عربي لغرناطة) الفكرة الرئيسة التي أراد الكاتب ان ينقلها لنا، رغم أنه أورد وأوصل لنا الكثير من الأفكار..
في "الحقيقة الثالثة" نعيش حزن مواطن مالطي على ابنته المنتحرة، وفي "الحصة الأخيرة " نتعرف على وسط الجامعات في البلاد العربية، تلك الجامعات التي لا تخلق إلا علاقات مشوّهة وبشراً مشوهين لا يستطيعون البوح بما في دخائلهم لزملائهم، ولا سيما إذا كانوا من الجنس الآخر! فنحن هنا أمام شابين لم يستطيعا مصارحة فتاتين عن شعورهما نحوهما رغم مرور أربع سنوات على الزمالة الجامعية، فتحل الخيبة في نهاية السنة ويتحطم الأمل.
اكتفيت بتلميح سريع للقصص الأخيرة لأن المجال لا يتسع. وخلاصة القول إن عادل بدا وكأنه يبحث في قصصه الواقعية عن الجانب الآخر من الشقاء الفلسطيني؛ الشقاء الذي يشمل البشر كافة بغض النظرعن هويتهم وانتمائهم، محتلة أوطانهم أو غير محتلة، وقد أوصل لنا ذلك عبر لغة تراجيدية-كوميدية في بعض الأحيان، لمست فيها نفس انطون تشيخوف، وعبر لغة شاعرية ساحرة مؤثرة أحياناً أخرى لمست فيها نفس طاغور وبدر شاكر السياب.
******
* عادل بشتاوي . روائي وقاص وباحث فلسطيني مقيم في لندن .وهذا المقال كتب قبل ما يقرب من ثلاثة عقود ،وقد عثرت عليه صدفة على النت في صفحة لعادل بشتاوي نفسه.








(15)
رشاد أبو شاور
القامة الشامخة في الثقافة الفلسطينية
• أكثر من أربعة عقود من المعرفة والصداقة .
عرفت رشاد قبل أكثر من أربعة عقود . كان ذلك بعد أيلول 1970 في الإعلام الموحد الذي شكل حديثا بعد أيلول . كنت خارجا من سجن الجفر بعد اعتقال في أيلول دام قرابة شهر . ولم يكن قد مرعلى عودتي من الأرض المحتلة كمقاتل حينذاك سوى بضعة أسابيع، حيث خرجت في أواخر تموز 1970 .
حولت إلى الإعلام بناء على طلبي ، حيث كان ولعي بالكتابة والقراءة في بداياته ، ووجدت حين خيرت باختيار جهاز أعمل فيه أن الإعلام هو الأقرب إلي رغم أنني كنت مقاتلا ..
تعرفت إلى ماجد أبو شرار وحنا مقبل ورشاد ، الذي طلب إلي أن أعمل معه .. وأظن أن قسم الأخبار كان من ضمن مسؤولياته ، أرسلني رشاد في اليوم التالي إلى الأشرفية لألتقي مناضلا أبعدته سلطات الإحتلال بعد أن تنقل بين سجنين في غزة وعسقلان وليعتقل لبضعة أيام في سجن السلط قبل الإفراج عنه . عدت إلى الصحيفة بأول لقاء كتبته في حياتي ،ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى فرحي حين رأيت اللقاء منشورا بمانشيت كبير ( من سجن غزة إلى سجن عسقلان إلى سجن السلط )!
مرت الأيام سريعة وبدأت أحداث جرش وعجلون في ال 71 , وحين جئت إلى مقر الصحيفة لم أجد أحدا. سألت فقيل لي أن الجميع غادروا إلى سوريا .
كانت سوريا قد أغلقت أجواءها وحدودها مع الأردن . فاضطررت إلى بيع حلي زوجتي بعد مضي شهرين على زواجنا لقطع تذكرة طائرة إلى بيروت .
في بيروت أخبروني أن أتوجه إلى دمشق ..حاولت أن أحصل على بعض النقود دون جدوى .
ذهبت إلى دمشق مع زوجتي .. اهتديت إلى مكتب الصحيفة . صرف لي خمسون ليرة سورية فقط !
وأظن أنها كانت بكتاب من أبي مازن إلى المالية . استأجرت غرفة مع عائلة في مخيم اليرموك ، وابتعت بابورا يعمل بالكاز، كنا نوقده في الغرفة التي لم يكن معها مطبخ !!
حولوني إلى المطبعة لأقوم بتصحيح الصحيفة بدلا من أحمد دحبور الذي كان يشرف على التصحيح كما يبدو .
حين دخلت إلى المطبعة وجدت أحمد دحبور منهمكا في استغراق شديد في كتابة قصيدة ولم يكن يصحح .ونظرا لأنني لم أكن قد تبينت هذا الإستغراق بعد فقد سلمت - دون مصافحة- وأردت أن أسأله عن طريقة العمل غير أنه فاجأني بالطلب بعدم التحدث إليه بإشارة من يده رافقها بضع كلمات .
لم أكن أرى رشاد كثيرا فهو حين يأتي يجلس في غرفة التحرير ، أما أنا ففي الإدارة في أحسن أحوالي .
وقليلا ما كنا نتبادل الحديث ، وحين كان يعرف أن لدي طموحا بأن أكون كاتبا ، كان يأخذ الأمر بسخرية لاذعة ! كما هي عادة رشاد في السخرية والمرح .
كنت ارافق الصحيفة أو المجلة من الكلمة إلى التغليف والتوزيع وأحيانا كنت أقوم بتغطية بعض الأخبار . وذات يوم حدث هجوم اسرائيلي على موقع في درعا وذهبت لتغطية الخبر ،( ما أذكره أن يحيى يخلف هو من أرسلني ) وفيما كنت قادما مع مصور على مسافة أمتار من الموقع انفجر صاروخ مؤقت ألقته طائرة الإحتلال .كانت المسافة بعيدة نسبيا ولم ينلنا أي ضرر. لم أكن أميز بين عمل وعمل فأنا اساعد العاملين في تغليف المجلة وكتابة العناوين على الأغلفة ، وحتى ارسالها إلى البريد وتوزيعها إن تطلب الأمر .
وأحيانا كنت أبقى في المطبعة إلى ساعة متأخرة من الليل لتصدر المجلة في وقتها ، تنبه إلى ذلك حنا مقبل حين فأجأني ذات يوم بقوله ( أنت مناضل حقيقي )!
شرعت في كتابة مسرحية قصيرة وما أذكره أن المجلة رفضت نشرها ولا أذكر إن كان رشاد هو المسؤول عن ذلك ، وإن كنت أتوقعه . فما كان مني إلا أن ارسلت المسرحية إلى روز اليوسف باسم مستعار . وتابعت المجلة لبضعة أسابيع ولم أعد أتابعها ، إلى أن فاجأني رشاد بعد بضعة أسابيع أنه رأى المسرحية منشورة في روز اليوسف . وعبثا رحت أبحث عن المجلة دون جدوى . حتى بعد أن ذهبت في دورة اعلامية إلى القاهرة .
مرت الأيام ونحن في عام 1972. حيث انتقلت المجلة بكوادرها إلى بيروت لتصدر باسم ( فلسطين الثورة ) بعد أن كانت تصدر باسم ( فتح ) إذا لم تخني الذاكرة . وانقطعت علاقتي بالمجلة إلى أن أصبحت مراسلها في دمشق بعد قرابة سبعة أعوام .تنقلت فيها بين مجلة أخرى كانت فتح تصدرها وبين مكتب الدراسات الذي كان يرأسه الأخ أبو مازن .
عام 72 اسس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وكنت ورشاد بالتأكيد من المشاركين فيه .
وراحت علاقتي برشاد تنمو بعض الشيء ونحن نلتقي في بيت الصديق مصطفى الحلاج أو في فرع الإتحاد الذي افتتح في دمشق أو في مكتب الإعلام .
عام خمسة وسبعين أخذت درسا قاسيا جدا من رشاد ، فقد فرغت من كتابة رواية ( حسب اعتقادي حين ذاك ) وأعطيتها لرشاد ليبدي رأيه فيها .. لا أعرف إن كان قد تصفحها أو قرأ بعض الصفحات فيها ، لكن ما أذكره جيدا أنه قال لي حرفيا حين سألته رأيه ( روح كبها في الزبالة ) !
كانت كلماته أصعب علي من طعن السكاكين لكنها دفعتني لأن أغرق في قراءة الأدب أكثر وأتوقف عن طموحي في كتابة الرواية ولو إلى حين، خاصة وأنني لم أجد من يشجعني على نشر الرواية .. وهكذا تحولت إلى كتابة القصة التي لم تكن بمستوى طموحي الروائي . ولم أنشر تلك الرواية ولم أعد إليها حتى اليوم وبعد صدور خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية لي ، وكتابة أكثر من ستة مخطوطات لم أدفعها للنشر ، ما عدا مخطوط واحد رفضت الرقابة الموافقة على نشره ، وهو الجزء الثاني من رواية ( الأرض المغتصبة ) وهذا يعني أن الرواية ما تزال في القمامة التي أشار علي رشاد بوضعها فيها . ومنذ ذلك اليوم وأنا أهتم برأي من ينقدني أكثر مما أهتم برأي من يمدحني ، رغم أن الطرفين كثيرون !!
أخذت صداقتي برشاد تتعمق ونسهر في بيتي أحيانا وفي بيت الحلاج أحيانا أخرى... إلى أن انتقل الحلاج وكذلك رشاد إلى بيروت ..وكنت حين أذهب إلى بيروت أحرص على أن التقي رشاد أو الحلاج وأحيانا أصدقاء آخرين كعلي فوده ورسمي أبو علي وغيرهما.
التقينا بعد حرب 82 في دمشق وأجرى رشاد معي حوارا لمجلة كان تنظيمه يصدرها. وحين غادررشاد دمشق انقطعت لقاءاتنا إلا ما ندر في دمشق ، لنتحدث قليلا ونتناول الغداء معا . وغاب رشاد طويلا إلى أن فاجأته بوجودي في عمان اثر هروبي من دمشق في العام الماضي . اصطحبني رشاد إلى صديق لم أتعرف عليه من قبل ، رغم أنه من فتح وعمل في الصحافة ، إنه فتحي البس الذي أصبح صديقا لي أيضا . عزمنا فتحي على الغداء وتكررت لقاءاتنا وحواراتنا ، لأجد نفسي أمام انسان نبيل وكريم . أهداني كتابا له عن حياته وكان كتابا ممتعا قرأته بنهم .
رشاد أديبا :
لقد تابعت رشاد في معظم أعماله ، من مجموعته القصصية الأولى ( ذكرى الأيام الماضية )إلى روايته الأخيرة ( سأرى بعينيك يا حبيبي ) التي سيكون لي معها وقفة مطولة بعد التطرق إلى أعماله السابقة .
في معظم أعماله ينحو رشاد منحى نقديا للواقع ، وكان أول من انتقد واقع الثورة الفلسطينية في روايته (البكاء على صدر الحبيب ) وتكرر الأمر في كتابه ( الرب لم يسترح في اليوم السابع ) وكان للنكبة حضور في بعض أعماله كما في ( أيام الحب والموت ) وتناول الواقع الطبقي كما في ( العشاق ) ولا تكاد تخلو سلبية من سلبيات الواقع الفلسطيني إلا وتطرق رشاد إليها في رواياته وقصصه .وإذا كان معظم الكتاب
متأثرين بمدرسة الواقعية الإشتراكية في الأدب في العقود التي سبقت أواسط الثمانينات من القرن الماضي فإن رشاد لم يكن مهتما بها إلى ذلك الحد . وكانت هذه حالي أيضا ، غير أنني كنت أختلف مع رشاد في نقد واقع الثورة لأن المرحلة كانت تتطلب أن تكون أولويات الصراع مع العدو ، وأعترف أنني كنت مخطئا ، فقد وجدت نفسي أنقد واقع الثورة بقسوة لم يسبقني إليها أحد من قبل ، حين أدنت سلوك الزعامات في رواية (الأرض المغتصبة ) التي قوبلت بهجمات شرسة علي ، ولو لم تمنع الرقابة الجزء الثاني منها ، لقامت قيامتي بالتأكيد. وهو ما يزال قيد الأدراج . وتحولت في الكتابة إلى قلقي الوجودي، وشرعت في كتابة ( الملك لقمان ) وكتبت على هامشها ( غوايات شيطانية )
وحين تعذر نشرهما أدركت أن طموحي الأدبي تحطم على صخرة الرقابات العربية ، فتحولت إلى الرسم الذي رحت أعتاش منه بكرامة بعد قرابة ثلاثة أعوام من المعاناة في تسويق اللوحات ، وها أنا اواجه مشكلة التسويق ثانية في عمان وأعتاش منذ قرابة عامين مما ادخرته في دمشق من الرسم . ولم تتعرف السلطة الفلسطينية علي حين طلبت مساعدتها بعد أن لجأت إلى عمان محطما تاركا تعب اثنين وأربعين عاما في دمشق عرضة للتدمير والنهب .(مئات اللوحات والمنحوتات والتحف والمؤلفات والمخطوطات والمكتبة والبيت وغير ذلك )
نشرت( الملك لقمان ) و(غوايات شيطانية) في دمشق، قبل أربعة أعوام ، أي بعد خمسة عشر عاما من كتابتهما .. ولا أظن أنني سأعود لكتابة الرواية ،وإن كتبت أبحاثا فكرية وأشعارا ومقالات نقدية وبعض الخواطر نشرتها على النت . *
******
* لقد عدت وليس كما توقعت . وكتبت "أبناء الشيطان " و"أديب في الجنة " كما أنني شرعت في كتابة رواية لم تكتمل بعد " رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي " وأصدرت بعض قصصي في " رسائل حب إلى ملينا "
*****
















(16)
( سأرى بعينيك يا حبيبي) والتحول من البداوة إلى المدنية !!
في أكثر من ثلاثمائة صفحة سرت مع رشاد بمتعة فريدة لأتابع حياة ثلاث أسر في تحولها من الريف البدوي إلى المدنية التي لم تكن مدنية كما يفترض أن تكون عليه حياة المدينة.
مدينة يختلط فيها الحابل بالنابل ، التخلف بالتقدم والتحرر بالتحفظ والتنوير بالعتم ! والإنفتاح على العصر بالإنغلاق على الماضي، وأي ماض ؟ ماض لم يوجد إلا في عقول من اتبعوه. ماض ابتدعته قوى ظلامية تفهم الدين على هواها ، وتفسره حسب منطقها الذي يتناقض مع الدين . لتغدو المدينة بلا مدنية ، وبلا هوية تنتمي إلى العصر الذي نعيش فيه ، في غياب منهج حضاري أو مشروع ثقافي ينهض بالمجتمع ولو بالحدود الدنيا من التطور الإجتماعي في كافة مناحي الحياة .
المدينة تزحف بأبنيتها إلى الريف والريف يزحف إلى المدينة لتختلط المدينة بالريف والريف بالمدينة ، لتغدو المدينة بلا مدنية والريف بلا ريفية لتتشكل هوية ضائعة ، لا يربطها بالمدنية إلا البناء الحديث والشوارع والجسور ومقتنيات الحضارة الحديثة . بينما تظل العقول في الغالب على حالها رغم التعامل مع كل ما هو حديث.
أهم شخصيات الرواية :
1- نجمة
نجمة ، فتاة تخطب إلى ابن عمها صخر منذ ولادتها حسب العادات البالية المتبعة ، ورغم عدم موافقة الأم على الخطوبة إلا أن الأب الطيب ( أبو حسن ) يرضخ لطلب أخيه (أبو صخر ) .
وهكذا ترغم نجمة على ترك المدرسة من الصف الثالث الإعدادي رغم تفوقها في المدرسة، لتتزوج من الخطيب الموعود الذي لم تكن تطيقه لجلافته وانغلاقه .والذي يتحول إلى التدين السلفي بعد أن اكتشف أنه عنين وغير قادر على الإنجاب ،في محاولة بائسة للتغلب على حالته، وليلصق تهمة العقم بزوجته لتنهال عليها تقولات الحماة والناس . ولتحيا نجمة في كابوس فظيع وهي مصدقة أنها عاقر.
يوغل صخر في ظلاميته ليتزيا بزي السلفيين ويطيل ذقنه ويغير سلوكه اليومي حتى علاقته بزوجته تغدو أقرب إلى الحيوانية حين يمارس معها الجنس. حتى سماع الأغاني وأصوات الرجال يغدوان كفرا ، ويشرع في الغياب الطويل عن البيت إلى أن يغدو أمير جماعة لاحقا، فيما نجمة تتألم وهي تستمع إلى كلمات الحماة الجارحة :
( معمول له عمل حتى لا يتركها ويتزوج غيرها .. أتريد أن تغشمني عنها وعن أمها رباب وألاعيبهما ) (ص106)
الدموع الغزيرة تسيل من عيني نجمة فتدخل إلى غرفتها وتنطرح على السرير وهي (تضرب بطنها وتنهشه بأظافرها كأنما ترغب في تمزيقة ، وهي تكتم صوتها مرددة : بطن مجدب ، بطن عاقر، بطن يذلني ويكسرني ) ص106)
تترك نجمة بيت الزوجية بعد غياب لصخردام ثلاثة أعوام.
في بيت أهلها تنعم نجمة بحريتها فتشاهد التلفاز وتستمع إلى الراديو وتتحدث إلى أخيها عصام الذي كان يتعاطف معها باستمرارإلى حد أنها بكت بين ذراعية حين استقبل عودتها.
بدافع من صديقتها سلمى تلجأ نجمة إلى فحص نفسها ليتبين لها أنها امرأة سليمة وطبيعية وليست عاقرا على الإطلاق .
بعد عناء طويل ورفع قضية في المحكمة تتمكن نجمة من تطليق نفسها من صخر لتتابع دراستها وتدخل الجامعة.ولتوافق لاحقا على الزواج من سامي شقيق صديقتها سلمى العائد من ألمانيا بعد أن ترك طليقته الألمانية مع ابنه وابنته .
2- وطفاء
وطفاء ، شقيقة صخر فتاة طموحة . شجعتها نجمة على متابعة الدراسة . تابعت دراستها إلى أن دخلت الجامعة ، وهجرت بيت أهلها لتسكن في سكن الجامعة . وأصبحت
صديقة لسلمى أيضا .تعرضت لأول هجوم من صخر ، أنقذها منه الناس بعد أن نالها بضربات وجراح بالغة .. الهجوم الثاني كان بحامض الكبريتيك ( ماء النار ) وهي تعد لتقديم اطروحة الدكتوراة في علم الإجتماع ، كان المعتدي أحد أتباع صخر الذي غدا أمير جماعة سلفية . أصيبت بحروق في وجهها وعنقها وسلمت عيناها .
في مشهد مؤثر يصف رشاد دخولها إلى الجامعة بعد خروجها من المستشفى ،مع الدكتور يونس الذي ستتزوج منه . سأورد مقتطفات منه :
( حشد من طلاب وطفاء وزملاء نجمة وطلاب يونس تجمع قريبا من البوابة ن وفي الممرات تحت اشجار السرو ، وأخذوا في التصفيق والتفوا حولهم ، ومضوا كأنما يزفون يونس ووطفاء ..
أطلقت احدى الفتيات زغرودة بينما ارتفع صوت أحد الطلاب هاتفا بمرح : يحيا الحب .. يحيا الحب ).( ص 299)
تشعر وطفاء أنها أمام زفاف لم تحلم به :
( مضى الحشد مصفقا باتجاه قاعة نقاش اطروحة الدكتوراة ، بينما راحت طالبات يرشقن وطفاء ويونس ونجمة بما أحضرن من باقات الورد ) ( ص 301)
يعبر الدكتور يونس لوطفاء عما كان يتخوف منه أن تفقد بصرها جراء الإعتداء ، فتضغط على يده وهي تقول :
( كنت سأرى بعينيك يا حبيبي ، كنت سأرى بعينيك ، أما كنت ستعوضني عن فقدان نظري فأرى بعينيك )؟!
وقد اتخذ رشاد من هذه العبارة عنوانا لروايته .
( تشابكت راحتا يديهما وهما يمضيان بخطى متناسقة معا بين الحشد باتجاه قاعة نقاش الأطروحة .) (ص301)
(إلى القاعة تتقدم وطفاء بخطى ثابتة وحولها الحشد بعد أن رفعت النظارة السوداء عن عينيها وردت شعرها إلى الخلف وهي تضغط أطروحتها على صدرها ..و ترفع رأسها وقد أظهرت صفحة عنقها التي تشوهها الحروق ، غير آبهة بنظرات الشفقة ، ولا باحثة عن التعاطف ،بثقة بأن المستقبل ينفتح أمامها ، هي التي قطعت مشوارها بعناد وجد )
(ص 302)
بهذه الكلمات المعبرة تختتم رواية رشاد . ستسير الحياة إلى الأمام بإصرار وعناد رغم أنف الظلاميين وخناجرهم المشرعة في وجه التحرر ومياه نارهم الحارقة .
3- سلمى
سلمى الصيدلانية صديقة الجميع : نجمة ووطفاء وعصام وغيرهم .تعيش حالة قلقة بعد
أن عادت بابنها (محسن) وابنتها ( زينب ) من ألمانيا للتعرف على وطنهما وإجادة لغته
التي شرعا في تعلمها في ألمانيا . لكنهما لم يعودا قادرين على احتمال الحياة بعد أن شاهدا مشهدا أثار فيهما الهلع اثر قيام أحدهم بذبح اخته بخنجر حين كانت تجالس صديقا لها في مطعم . مما أدى إلى هرب محسن إلى القنصلية الألمانية ليعود إلى وطنه الذي ولد فيه ( ألمانيا ) . ولترغم سلمى على تسفير ( زينب ) لتلحق بأخيها وأبيها في ألمانيا ، بعد أن ساءت نفسيتها في موطن أمها وأبيها .
تعبر عن قلقها لنجمة قائلة :
( كثيرا يا نجمة – تقصد متعبة – أنا تقريبا لا أنام . استيقظ وأنام وأنا أقلب الأفكار في رأسي . كل ما خططنا له ينهار ، ويضيع . أردنا إنقاذ محسن وزينب ، وها نحن نفقدهما )
( ص286)
4- صخر
صخر الذي غدا أميرا لجماعة من السلفيين كان فاشلا في دراسته . جلفا ، غليظا ، متخلفا إلى حد غير معقول . إضافة إلى أنه غبي ومنافق وكذاب ! كذب على زوجته (نجمة ) وألصق تهمة العقم بها . وراح يظهر أمام الناس بزي ديني أبيض ولحية طويلة جدا ليخفي زيفه وتخلفه ، غير أن معظم من عرفوه ابتعدوا عنه بعد أن اكتشفوا أمره .
تزوج صخر سرا من امرأة أنجبت سفاحا من رجل غيره بالتأكيد ، وحين غاب عنها كما غاب عن نجمة رفعت عليه دعوى نفقة لها وللطفل ابن الزنى ، وكسبتها !! جن جنون صخر حين علم ولم يكن أمامه إلا الإختفاء ليتذرع بالجهاد في سبيل الله ، وربما في أفغانستان !!
ضمت الرواية أكثر من عشرين شخصية، يأتي معظمها لضرورات الروي واستكمال رسم المناخ الذي تدور فيه الوقائع .كالآباء والأمهات والأخوة والمعلمين والمعلمات وغيرهم .
ومعظم هؤلاء الأشخاص طيبون . قد نستثني بعض الشخصيات النمطية كأبي صخر الرجل التقليدي النمطي ، وأم صخر النمامة القاسية والحاقدة إلى حد ما .
يأتي في مقدمة هذه الشخصيات عصام الذي كان يتعاطف مع شقيقته نجمة ،وقد تابع دراساته العليا حتى غدا محاميا ناجحا ، وتولى مكتبه دعوى طلاق نجمة من صخر .
إن معظم الشخصيات الشابة في الرواية تسعى إلى التحرر وفهم الدين بعقول منفتحة
وهي تسعى لحمل ثقافة تنويرية بعيدا عن التكفير والظلامية والتعصب الأعمى التي يمثلها في الرواية صخر وجماعته التي لا تظهر إلا للقتل أو للنصح بارتداء الحجاب وعدم سماع الموسيقى والذهاب إلى السينما وحتى عدم سماع صوت الرجال ! إن عالما يحكمه هؤلاء القوم ستكون جهنم أفضل منه !
معظم الفتيات في الرواية منفتحات يسعين إلى فهم منفتح للدين لا يضع أية قيود أمام الحياة . وبما أن رواية رشاد جاءت لتناقش مسألة حساسة جدا ما زلنا نعاني منها في كافة أنحاء المجتمعات الإسلامية التي تعيش صراعا مريرا بين من يفهم تراثها بعقل
تنويري منفتح وبين من يفهمه بعقل منغلق . فلا بأس من التطرق إلى الواقع والتراث
لنرى أين نحن من هذا الواقع وذاك التراث .
ذات يوم في دمشق دعاني صديق لحضور عرض راقص لفرقة أوروبية قي فندق الشام .
كان العرض يحمل عنوان ( أوروبا في الشام ) ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشتي حين وجدت أن الراقصات عاريات ومعظم الجمهور من النساء المحجبات !! ويمكن لكل
قارئ أن يفسر الأمر حسب فهمه ، لكنه في كل الأحوال يشير إلى عدم منع المرأة من مشاهدة ما تريد ، وإن كان يشير إلى ما قد تفكرفيه المرأة حين ترى رقصا عاريا بحجاب !!
وذات يوم أحببت فتاة كانت ترتدي الحجاب أحيانا وتأتي سافرة أحيانا أخرى ، إلى أن حسمت الصراع الذي تعيشه في داخلها بأن تحجبت !! وأعترف أنني فشلت في اقناعها بحقها في السفور .
وفي عمان كنت صاعدا درج اللويبدة ألهث ، وأنا ما زلت في الدرج الأول من أدراجه،
فأنا أحرص كلما نزلت إلى البلد أن أصعد الدرج في محاولة لتحدي شيخوختي وأنا في السابعة والستين . شاهدت شابتين تصعدان أمامي . التفتا ليراني أصعد لاهثا ، ابتسمت لهما ، فابتسمتا ، وانتظرتاني إلى أن بلغتهما . كانتا محجبتين وترتدي إحداهما قفازين في يديها . هتفت من لهاثي :
- مرحبا عمو .
- أهلا عمو أنت فنان ؟!
وهذا ما يوحي به شكليّ
- أجل عمو أنا فنان وأديب كمان !
- يا الله نحن محظوظتان فلم نلتق أديبا في حياتنا .
ورحنا نصعد الأدراج معا وحين أتوقف لألتقط أنفاسي تتوقفان معي .
الفتاتان جامعيتان ، سألتاني عما أكتبه ، وكانتا حريصتين على أن تعرفا فكري . وحين عرفتا أن لدي فهمي وفلسفتي ابدتا اهتمامهما لتعرفا شيئا عنهما . وكان علي أن أعرف مدى استعدادهما لسماع فكر ربما لم تسمعاه في حياتهما .سألتهما :
- هل تقرآن يا عمو ؟
أجابتا : أجل .
- لمن ؟
- لابراهيم نصر الله .
- أوه هذا جيد ! وإنه لأمر مؤسف أنكما لم تسمعا بي ّ!
- هل تعرفه عمو!
- أجل وهو صديقي !
وربما لم تصدق الفتاتان أ نني أعرف ابراهيم وإنه صديقي إلا بعد أن طلبا هاتفه
وأعطيته لهن .
وحين انتهينا من صعود الأدراج دعوتهما للجلوس في صالة تعرض بعض لوحاتي فلبتا
الدعوة . سالتاني كثيرا وأجبت وتحدثت كثيرا وهما تستمعان بكل خلجات نفسيهما ، لم تقاطعاني أو تعلقان بأي تعليق ، كانتا تسألان أحيانا فقط .
كان حديثي تنويري عن الإسلام المنفتح الذي لا يميز بين البشر مهما اعتنقوا ومهما كان الشكل الذي يتقربون به من الخالق وأنه لا يمكن لأحد أن يكون رقيبا على علاقة الإنسان بخالقه ويجعل من نفسه وصيا عليه ، فلا إكراه في الدين فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن .ولا تهد من أحببت إن الله يهدي من يشاء .
(أسوق المعنى دون التقيد بحرفية النص لأنني أعتمد على الذاكرة فلا مراجع لدي حاليا )
طال الحديث والفتاتان تستمعان إلى أديب وفنان وليس إلى شيخ دين ، وكم كانت دهشتهما حين تطرقت إلى فهم ابن عربي والحلاج وغيرهما للدين .. غادرتا وهما في غاية السرور. وما لمسته أن الجيل الجديد بل والذي سبقه ، أي من هم دون سن الثلاثين أو الخامسة والثلاثين ، يطمحون إلى الإنفتاح ويريدون من يفهمهم أحد الدين المنفتح ، حتى من ينتمون إلى الطبقات الفقيرة التي يكثر التطرف فيها لوجود مناخ يساعده على ذلك.
لا أظن أنني خرجت عن مضمون فكر رواية رشاد . الفكر الذي يسعى إليه كل مثقف ، يسعى للرقي بثقافة أمته . فنحن لا نبحث عن فكر علماني صرف مع أن أكبر علماني وربما في تاريخ البشرية هو مفكر اسلامي عبقري عربي هو (أبو عبد الله محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن العربي الحاتمي ) المعروف بابن عربي !فهو آمن بكل فكرحتى الالحادي وبكل دين حتى بمن يعبد الأوثان ، فهو القائل :
( لقد صار قلبي قابلا كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف .... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني ) *
*( هكذا تكلم ابن عربي .. نصر حامد أبو زيد . ص 13 )
حتى الحيوانات ( الغزلان ) ابن عربي يمكن أن يقدسها لأنه يتقرب بها أو عبرها
إلى الله لتجليه فيها ، وهي النظرة نفسها التي ينظر بها إلى الراهب والواح التوراة
وعابد الأوثان . فدين ابن عربي الذي يخلص إليه هو دين الحب لأن الله لا يمكن إلا أن يكون محبا .
ابن عربي هو مؤسس مذهب ( وحدة الوجود ) الذي ينتشر حاليا في أوروبا بشكل لا يصدقه المسلمون ، وقد لمست ذلك حين دعتني جامعة ألمانية لإلقاء محاضرة عن الفكر الصوفي الإسلامي وتدريس طريقتي في الرسم ، لطلاب من الإتحاد الأوروبي. بعد أن أقمت أول معرض رسم لي تحت عنوان ( ألوان من السماء ، المعرض التجريبي الأول لمدرسة الصوفية الحديثة ) قبل قرابة عشرين عاما . وكتبت على ضوء هذا الفكر روايتي الأخيرتين ( الملك لقمان وغوايات شيطانية ) كما كتبت كتابا بعنوان ( الخالق . الخلق .الغاية )
إن ديانة الشنتو اليابانية هي أقرب الديانات إلى مذهب ابن عربي . ففي اليابان يقدسون كل شيء . وقد اقاموا ديانتهم في محاولة للحد من انتشار البوذية ، التي تلتقي مع ديانة الشنتو في الكثير من الأسس القائمة عليها .
مذهب ابن عربي ينتشر في المغرب العربي أيضا بكل أقطاره وخاصة المغرب ، كذلك في عمان وبعض دول الخليج بين المثقفين .
نحن لسنا في مجال عرض فكر شيخ عظيم لا يمكن الإحاطة به وقد أذهل العالم كله بفكره ، واعتبر نفسه خاتم الولاية المحمدية وأحد حملة العرش الإلهي ولم يعتبر نفسه متوحدا مع الذات الإلهية ،المنزهة عن التوحد بها ، كالحلاج ( حسين بن منصور ) مثلا ،القائل :
(أنا من أهوى ومن أهوى أنا .. نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني ابصرته .. وإذا أبصرته أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا .. لو ترانا لن تفرق بيننا
نحن مذ كنا على عهد الهوى .. تضرب الأمثال للناس بنا
روحه روحي وروحي روحه .. من رأى روحين حلت بدنا ؟)*

*( من الذاكرة لأن مكتبتي وكل شيء أملكه ظل في دمشق ، فأنا الآن لا أملك إلا ذاكرتي
وبضعة كتب ابتعتها أو أهداني إياها الأصدقاء )
عذرا من أخي وصديقي رشاد إذا رأى أنني خرجت عن موضوع روايته التي لامست بعمق ألما أعاني منه وقلقا أعيشه ، وإذا كان قد تطرق إليه عبر أشخاص عاديين
في عمل روائي ، فقد طرقته في كتبي الثلاثة الأخيرة بشكل مباشر بالبحث عن ماهية الخالق ( الله ) وكيف يمكن التقرب إليه وعبادته ، إذا كان حقا في حاجة إلى عبادة تقليدية !!
ما الذي يعرفه هؤلاء التكفيريون الظلاميون الذين يستلون خناجرهم لقطع أعناق أخواتنا
وبناتنا أو أخواتهم وبناتهم ، عن الدين ؟! والنبي الأعظم الذي لم ولن تنجب أمتنا مثله قال (حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" . وفي حديث آخر أنه قال: "أرحنا يا بلال بالصلاة)
" .( رواه كثيرون .. ويلاحظ أن النبي وضع النساء أولا ) وروي كثير عن زانيات عفا عنهن النبي محمد ومنهن من كن حاملات من زنى فتركهن ليلدن ويربين ابناءهن . وروي عن أخريات عاقبهن بصفعة برزمة من القش على مؤخراتهن . ولم يعاقبهن لا بحجارة ولا بخناجر تقطع الرؤوس .
أصبح من يحب النساء في زمننا يخجل من قول ذلك أمام أقرب الناس إليه ، فما بالكم أمام الناس ؟ بالمناسبة ( يسلم لي ربهم ما أحلاهم ) !!!وأنا معك يا حبيبي يا رسول الله .
ما الذي يعرفه هؤلاء عن الدين ، هل قرأوا سيرة النبي محمد لابن هشام بأجزائها الأربعة ؟ أشك ! هل يعرفون أنه لا يوجد دين في العالم يبيح الجنس (وليس الحب فقط )أكثر من الإسلام ؟ ألا يعرفون كم امرأة تزوج النبي محمد ؟ وألا يعرفون كم امرأة وهبت نفسها له ، ألا يعرفون أنه كان هناك متعتان في الإسلام وهما متعة الحج وزواج المتعة ؟! متعة الحج كانت تمارس في موسم الحج وبوجود النبي . وهاتان المتعتان منعهما عمر بن الخطاب بعد أن أتاحهما النبي محمد . وما زال الشيعة يأخذون بزواج المتعة . وفي السعودية ابتدعوا زيجات كثيرة لا تقل عنه متعة ، كزواج المسيار!هل يعرف هؤلاء أن طواف الحج كان عريا أو شبه عري، قبل الإسلام واستمر في صدره إلى أن استبدله النبي محمد بملابس الإحرام ؟ّ هل يعرف هؤلاء التكفيريون لماذا جبل عرفة هو الجبل الوحيد في الدنيا الذي يجمع اسمه (عرفات ) أي جبل التعارف الجماعي ! (واللبيب بالإشارة يفهم )!!
لنترك كل هذا.. ما معني أن يبدأ القرآن الكريم بكلمة إقرأ ؟! وأمتنا تصر على عدم القراءة . لماذا طلب إلينا أن نطلب العلم ولو في الصين ومن المهد إلى اللحد ، وأنتم أدرى بشؤون دنياكم ؟! ما الذي يقصده النبي محمد بكل هذه الأحاديت وغيرها كثير جدا . ألم يكن يدرك أن العلم في الصين قد يقودنا إلى ما قد يخالف فهم زمن النبوة ؟ بالتأكيد وإلا لما قال ( أنتم أدرى بشؤون دنياكم )
إن رواية رشاد هي صفعة للتخلف الثقافي الذي نعيشه في غياب مشروع نهضوي ثقافي ينتقل بالمجتمع إلى العصر الذي نعيش فيه . وهي بالتأكيد نصرة وانتصار للمرأة وحقوقها المستلبة في مجتمع ذكوري متخلف يضهدها ويتنكر لحقوقها .وآمل من اتحاد المرأة الأردنية والفلسطينية بل والعربية أن يتبنى الرواية ويطبعها بطبعة رخيصة ويعممها على النساء بسعر بسيط .
* البناءالفني في الرواية .
آن الأوان لأن أتحدث عن الشكل الفني في الرواية بعد أن أتيت بما تيسر عن المضمون .
كما هي عادته في معظم كتاباته التي قرأتها لا يلجأ رشاد إلى أساليب معقدة ، فهو يكتب بأسلوب مبسط تمكن منه عبر تجربته الطويلة مع الكلمة . فالوقائع تسير بشكل تصاعدي والشخصيات تتكشف لنا عوالمها عبر تتابع الأحداث وتقليب الصفحات . غير أن رشاد زاد من التبسيط هذه المرة بأن اعتمد التقطيع المشهدي . فكلما تغير المكان والزمان انتقل رشاد إلى مشهد جديد . ويندر أن نجد تغيرا في الزمان والمكان والحدث بتغير المشهد ، ربما في فصول لا تتجاوز أصابع اليد .
هذا التقطيع المشهدي شبه السينمائي وإن لم يكتب بلغة السيناريو السينمائية سهل القراءة أمام القارئ بحيث جعله يتنقل بسهولة من مشهد إلى آخر دون أن يشعر بأية أعباء جراء القراءة . فبعض المشاهد لا يتجاوز الصفحة ونصف وأطولها لا يزيد عن سبع صفحات .
هذا التقطيع المشهدي أدى إلى أن تكون الرواية في سبعة وسبعين مشهدا ، بسبعة وسبعين عنوانا إذا استثنينا بعض المشاهد التي يمكن أن تعتبر فصولا لاحتوائها أكثر من مشهد ، وهو في الغالب يتعلق بشخصية واحدة تنتقل من مكان إلى مكان لتتابع شأنا من شؤونها .
لم يلجأ رشاد إلى ترقيم المشاهد ، فهذا التعداد الرقمي تم من قبلي . هناك مشهد واحد حمل رقما وهو المشهد الأول حيث حمل الرقم واحد ولم تتكرر الأرقام بعد ذلك . وإذا كان هذا الرقم يشير إلى فصل ‘ ففي الإمكان القول أن الرواية كلها كتبت بفصل واحد !! وربما
كان رشاد ينوي ترقيم المشاهد أو الفصول ثم تخلى عن ذلك في ما بعد وظل الرقم دون حذف .
عنونة المشاهد سهلت على القارىء تتبع أحداث الرواية ، فهي معظمها تشي أو تفصح عما يتضمنه المشهد من حدث ، كما في المشهد الأول ( ولادة نجمة ) والثاني ( دفن حبل
السرة والمشيمة ) . وثمة بعض المشاهد لا تشي عناوينها بشكل مباشر عما يتطرق إليه المشهد ك (غبار ) و(على ظهور العيس ) و( تقريبا ) وإن كان المشهد يتضمن شيئا مما يوحي به العنوان .
لغة رشاد مبسطة ، سهلة ، مكثفة ، ليس فيها أي تكلف على الإطلاق ، يقول ما يريده بأبسط الكلمات وأقلها ، مما يجعلق القارئ يتابعها بسهولة ودون أي عناء ، متتبعا الأحداث المشوقة والمؤثرة . من لحظات انسانية تحمل دفء الحب ولحظات غير انسانية
( عدوانية ) تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس . ونظرا لأنني انسان عاطفي جدا
فقد كانت الدموع تترقرق في عيني وأحيانا تنزلق على وجنتي في بعض المشاهد الإنسانية المؤثرة كدخول وطفاء إلى الجامعة بعد حرق وجهها وعنقها بمياه النار .
لقد قرأت منذ قدومي إلى عمان قرابة عشر روايات من ضمن ما قرأت ، وتعتبر رواية رشاد واحدة من أهم الروايات التي قرأتها . والحق أنني فوجئت بما وصلت إليه الرواية الفلسطينية الأردنية . فوجئت بابراهيم نصر الله وجمال ناجي ومحمود شقير كما فوجئت برشاد ، القامة الشامخة في الثقافة الفلسطينية .
ويهمني أن أتطرق إلى حوار جرى معي في ( القدس العربي ) قبل قرابة عشرين عاما . حمل عنوانا أثار نقمة الكثيرين علي ، ومنهم رشاد بالتأكيد ، وقد جاء في العنوان ( لا يوجد في الساحة الفلسطينية روائي كبير واحد ) وهذا ما أثار نقمة كثيرين علي وراحوا يقولون ( محمود شاهين ألغى الجميع ليبقي نفسه كروائي كبير ) ّ!!
يهمني جدا أن أؤكد الآن أنني مجرد مشروع روائي تحطم طموحه في أن يكون روائيا كبيرا على صخرة الرقابات العربية والعوز وغير ذلك ، فتحول إلى الرسم في مغامرة جنونية ليتخلص من العوز ويحيا بكرامة ، وقد لا يعود إلى الرواية أبدا !! وها هو يعود إلى العوز ثانية رغم ممارسته للرسم بعد تشرده في عمان .
وحين تطرقت إلى عدم وجود روائي كبير كان يمثل في مخيلتي أسماء مثل : دوستويفسكي ، ثربانتس ، دانتي ، شكسبير ، هيجو ، بلزاك ، كازنتزاكي ، شولوخوف ،
بوشكين ، ديكنز، شارلوت برونتي ، جوته ، هوميروس . بغض النظر عن وجود شعراء ومسرحيين بين هؤلا.
من في الساحة الفلسطينية أو العربية وحتى العالمية يجرؤ على القول أنه بحجم دوستويفسكي مثلا ؟!
دوستويفسكي وبعض هؤلاء العمالقة لن يكرروا في تاريخ البشرية . أما من حيث المقارنة بأدباء عالميين معاصرين وغير معاصرين ، فلدينا من هم أهم من هؤلاء أو بمستواهم ، وهم كثر .
ختاما .. تحية حارة للصديق والزميل رشاد في يوم تكريمه ، وهذا أقل ما يمكن عمله
لرجل أمضى عمره مناضلا من أجل كلمة حرة ومن أجل فلسطين .
25-3-2013









(17)
" وداعا يا زكرين "سيرة بلدة فلسطينية 1948.

بعد مجموعة من الأعمال القصصية والروائية منها : أيام الحب والموت . البكاء على صدر الحبيب. العشاق . شبابيك زينب . سأرى بعينيك يا حبيبي. الرب لم يسترح في اليوم السابع . إضافة إلى أعمال أخرى : آه يا بيروت ،ورائحة التمر حنة ، وثماني مجموعات قصصية ،وغيرها. يعود رشاد ليطل على قرائه بروايته الجديدة "وداعا يا زكرين" التي يرصد فيها وقائع ما جرى في بلدته " زكرين " قضاء الخليل ، بين أعوام امتدت من هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى إلى حرب 1948 وسقوط البلدة في أيدي العصابات الصهيونية وتشرد سكانها مع آلاف الفلسطينيين الذين شردوا عن وطنهم وتحولوا إلى لاجئين ومشردين وما يزالون .
صدر أكثر من رواية فلسطينية عن النكبة الفلسطينية منها ما هو لإبراهيم نصر الله ، ويحيى يخلف ، ومحمود شقير، وغيرهم . وتأتي رواية رشاد في هذا الإتجاه الذي يسعى جاهدا للتأريخ للنكبة " ابراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء" ، أو الإتكاء عليها كما فعل محمود شقير في " فرس العائلة " و"مديح لنساء العائلة " أو الإستناد إليها وهو ما فعله رشاد متتبعا السيرة الذاتية لأسرته ، حيث يظهرجده ووالده في الرواية ، إضافة إلى رشاد الطفل نفسه، ومتتبعا حياة الناس في البلدة وما طرأ عليها ابان الحرب العالمية وأواخر سني الإحتلال التركي وسوق الناس للمشاركة في حروب السلطنة العثمانية ،وعودة من نجا منهم منها ، ومن ثم ما طرأ على حياتهم إبان الإحتلال البريطاني ، وقدوم المهاجرين اليهود وبدء الصراعات انتهاء بحرب 1948 .
لن أتطرق إلى وقائع الرواية والخوض في أحداثها ، فهي بالتأكيد تتطرق لأوجاع ونضال بشر في أزمنة احتلال إضافة إلى الميول الإنسانية في الحب والكره والغيرة وعثرات الزمن ، صاغها رشاد بتمكن . لكني سأضطر إلى التطرق لشخصية تظهر لأول مرة في الأدب الفلسطيني حسب ما أعلم ، . وهي شخصية اللص النبيل! وهو في الرواية يفترض أنه جد رشاد لأبيه . فسلمان هذا لا يسرق إلا الأثرياء والميسورين . ولا يسرق إلى ما يسد الحاجة . وحين يضطر إلى سرقة بقرتين مع لصين أخوين استعانا به ليعلمهما فن اللصوصية ،تلحق بهم صاحبة البقرتين مستغيثة مستنجدة هاتفة " طنيبة عليكم يا أخوتي في عرضكم ،أنا مثل خواتكم ، جوزي يشك بي ... فإن سرقتم البقرتين ، سيتهمني في عرضي ، وسيفضحني بتهمة أنني أعطيتها لعشيقي ،وأنا والله شريفة وبنت ناس ،وجوزي عقله زغير وناقص ، أستروا عرضي ،وردوا البقرتين ،وصونوا شرف أهلي في البلد "
يقترح أحد اللصين المتدربين اغتصابها وقتلها . وهذا ما أغضب سلمان . سدد ( طبنجته ) إلى رأس اللص وهتف :
" يا عديم الشرف المرأة تنتخي بنا وأنت تريد هتك عرضها يا ناقص .. يا حرامي .. يا نذل .. والله إذا لم تهرب أنت وشقيقك لأقتلكما حالا وأترككما للكلاب . يلا من قدامي .. "
وهكذا هرب اللصان . وأعاد سلمان البقرتين والمرأة إلى بيتها . وحين هرع سكان البلدة مشهرين عصيهم ليقتلوه ، أخبرتهم أن هذا الرجل هو من حمى عرضهم . فأكرموه وأحسنوا إليه واستضافوه لثلاثة أيام وثلث اليوم حسب العادات القديمة . وحملوه بالهدايا حين غادرهم . وعلى أثر هذه الواقعة . تخلى سلمان عن السرقة .
المسألة الثانية التي تستحق التطرق إليها وهي جديدة على الأدب الفلسطيني أيضا . هي الوفاء والمحبة بين رجلين عاشا معا ويلات الحرب العالمية الأولى ورجعا معا بعد الحرب وكانا يساعد أحدهما الآخر في كل شيء. وكانا قد تعاهدا على الصداقة الأبدية وحتى الدفن في قبر واحد بعد الموت . مات ( حرب ) أولا . وحين مات (مرشد) دفن معه حسب وصية الصديقين ،رغم أن حرب مدفون مع شقيقته في القبر نفسه.
لا شك أن الرواية تتطرق إلى مشاهد مؤثرة كثيرة . وخاصة سقوط زينب في الطاحونة وبتر يدها ونهدها وساقها ووفاتها فيما بعد .
****
في معظم ما قرأته من أعمال أدبية لرشاد لم أجد أنه يلجأ إلى تقنيات غير تقليدية في كتابة الرواية . فهو يلجا إلى الأسلوب التقليدي المتمكن منه بجدارة . بداية . صعود. تطور. ذروة درامية . يندر عند رشاد الإسترجاع ،والدخول في لا وعي أبطاله ،ومتاهات دواخلهم . يتجاوز الزمن الذي طالما شكل تجاوزه عبئا ثقيلا على الروائيين بيسر . فأن تتحدث عن حياة بلدة في زمن يقرب من أربعة عقود . فأنت تحتاج إلى مقدرة في فن السرد تشعر القارئ أنك جعلته يعيش هذا الزمن . وخاصة إذا ما كانت البطولة جماعية كما هي في رواية رشاد الحالية . فقد سجلت أسماء 78 شخصية حسب ما ترد في الرواية ، لأعود إليها إذا ما دعت الضرورة ، وفكرت في كتابة دراسة مطولة .. علما أن هؤلاء ليسوا جميع الشخوص .
والناحية المهمة عند رشاد في معظم أعماله الأدبية ،هي حرصه على الواقعية التاريخية في تصوير المجتمع ، فهو لا يلجأ إلى شخوص تتجاوز واقعها مثلا لاستشراف المستقبل ، أو تبدو متفوقة عليه ، كما لا يبدو أن رسم الشخصية يكون معدا مسبقا من قبله ، فيحاول قدرالإمكان أن يجعلها تبدو لنا وكأنها تعيش واقعها حسب رؤيتها وليس برسم من المؤلف . وقد لا يتصور أحد أنني أحد هؤلاء الذين لا يحبذون الشخصيات الواقعية فينتجون شخصيات متخيلة (من ضمن الشخصيات الواقعية) يستشرفون عبرها آفاق ما مستقبلية . طبعا هذه مسألة أخرى أتقنها جبرا ربما اكثر مني بكثير . مسألة أخرى يتجاوزها رشاد وهي اسقاط أو إقحام الأمل في حياة أبطاله في نهاية العمل الروائي ، وأبرز ما يتجلى ذلك عند يحيى يخلف وبعض الكتاب لا يحضرونني الآن ، وهو مالم يكن على الإطلاق عند رائدينا سميرة عزام وغسان كنفاني ،وخاصة ( في رجال في الشمس ) وهذا ما اتبعته أنا فيما بعد . فأبطالي لا ينتصرون . أو يموتون في نهاية أعمالي . وأظن أن هذه الحقبة التي راجت لفترة من الزمن في القرن الماضي بفعل تأثير ما أطلق عليه أدب الواقعية الإشتراكية قد انقرضت .
أخيرا :
في الإمكان القول إن " وداعا يا زكرين إضافة مهمة إلى مجموع الأعمال الأدبية التي طمحت إلى التأريخ للنكبة الفلسطينية . ولا شك أننا نحتاج إلى الكثير من هذه الأعمال التي قد ترقى في المستقبل إلى آفاق إنسانية عالمية تعبر عما تمخضت عنه النكبة وليس على ما سارت عليه فحسب . وبالتأكيد لن تكون المسألة سهلة على الإطلاق .


















(18)
سعود السنعوسي يحلق عاليا في " ساق البامبو"
+ مدخل :
في كانون الثاني من هذا العام كنت قد أنهيت قراءة ما لا يقل عن خمس عشرة رواية عربية ، أثر لجوئي إلى عمان بعد إقامة في دمشق دامت لأكثرمن أربعين عاما ، لم أجد ما أفعله غير القراءة ، وككاتب لم أجد صحيفة توافق على تشغيلي أو حتى على الكتابة فيها ، وكرسام لم أجد صالة تقبل إقامة معرض لي ، عدا صالة رابطة التشكيليين الأردنيين التي وافقت على إقامة معرض لي ما أن طرحت الأمر على إدارتها.
نجحت فيما بعد في نشر بعض المقالات في شؤون فلسطينية وأفكارالأردنية ونزوى العمانية والعرب اللندنية والقدس، وظل هاجس الكتابة عن الروايات الكثيرة التي قرأتها يشغلني ، خاصة وأن لي تجربة مع الكتابة الأدبية والنقدية لقرابة أربعين عاما ، وإن كنت قد تحولت في قرابة عشرين منها إلى امتهان الرسم أيضا ، الذي كان هوايتي ، ثم إنني وجدت نفسي في حاجة إلى عمل ثابت يغطي تكاليف إقامتي في عمان قبل أن تنفد نقودي التي وفرتها من الرسم في دمشق .
ثمة روايات أثرت في أكثر من غيرها . كانت رواية " ساق البامبو" من أهمها . وحين لم أجد صحيفة أتفق معها بشكل دائم ، شرعت في كتابة مقال بعنوان ( أقل الكلام في خير ما سطرته الأقلام ) عن عشر روايات دفعة واحدة بكلمات مقتضبة أسجل فيها انطباعي عن كل رواية. أرسلت المقال لأكثر من عنوان صحفي في حاسوبي ، لأفاجأ بأن جميع من أرسلت لهم المقال نشروه . صحف : العرب والقدس والحياة وغيرها ، إضافة إلى صحف ومواقع ومنتديات كثيرة على النت نقلت المقال عن الصحف أو وصل إليها من قبلي ..
وكان مما قلته عن " ساق البامبو" :
"عشق. محبة. دفء. تتمنى لو أن للرواية حضنا لتغفو عليه. عمل آسر، ممتع، مضحك، مبك، محلق في رحاب النفس الإنسانية، عذاباتها، آلامها، طموحاتها وآمالها.. ابن من خادمة فلبينية يبحث عن أبيه الكويتي وهويته الكويتية "
هذه الأيام قررت أن أتناول هذه الروايات على حده ، بأن أكتب مقالا عن كل واحدة منها ، إضافة إلى روايات أخرى قرأتها . كانت رواية السنعوسي هي الأقرب إلى قلبي . قلت سأتصفحها من جديد لأتذكر بعض وقائعها بعد مضي قرابة عام على قراءتها .
أخذتها وشرعت في القراءة التي يفترض أنها تصفحية .. لكني لم أتنبه لنفسي إلا وأنا أغرق
في قراءة الرواية وكأنني لم أقرأها من قبل " غضبي عليك يا سنعوسي كم أنت جميل ، هل أنا أمام دوستويفسكي ؟ أي سحر هذا ؟ أي أديب أنجبته الكويت ؟ " وهكذا أرغمني السنعوسي على قراءة الرواية مرة ثانية ، وهي بالتأكيد الرواية الوحيدة في حياتي التي قرأتها مرتين ، حتى رواياتي الشخصية ،لا أذكر أنني قرأتها كاملة بعد نشرها ،كنت أقوم بالتصفح ومراجعة بعض الفصول فقط ، قد أستثني ملحمة "غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس ) التي منعت مع شقيقتها " الملك لقمان " في معظم الدول العربية .
لا أذكر لمن قرأت لهم من قبل من الأدب الكويتي إلا ليلى العثمان وإسماعيل فهد اسماعيل وبعض القصص والأشعار لآخرين لا أذكر منهم إلا سعاد الصباح.. وللحق إن الشعور بأنني أمام أدب عظيم لم يراودني إلا مع سعود السنعوسي في روايته هذه . وهذا لا يعني أن أدب الآخرين ليس جيدا ، وخاصة الكبيرين اسماعيل فهد اسماعيل وليلى العثمان .. وأنني أنتهز المناسبة لأعتذر من الأديبة ليلى العثمان لأنني لم أف بوعدي بالكتابة عن أعمالها ، لأنني توقفت عن الكتابة في صحيفة الحياة اللندنية التي كنت أكتب فيها آنذاك ، ومررت بظروف قاسية مثل التي أتعرض لها الآن ، وتحولت إلى الرسم ..
أمضيت ثلاث ليال في إعادة قراءة " ساق البامبو " ، دون أن أشعر أنني أقرأ الرواية للمرة الثانية ، بل كنت متشوقا للغوص في التفاصيل وإعادة قراءة بعضها .
يتسلل سعود إلى نفوسنا بهدوء وترو وخفة دم وصدق قل نظيره في الأدب . لم أشعر ولو للحظة بالمبالغة أو التكلف والإفتعال في السرد ، بل شعرت أنني أمام حياة حقيقية لأشخاص
حقيقيين ، لا مكان للخيال فيها . شخصيات مرسومة بدقة متناهية . أحببت عيسى وراشد وغسان ووليد. أحببت جوزافين وآيدا وهند وميرلا وخولة .. وأحببت المجانين أصدقاء عيسى .
أحببت جميع أبطال الرواية .. وأحببت سعود السنعوسي والكويت ، رغم إدانة الرواية لواقع اجتماعي أفرزته مجموعة عوامل كان عيسى ضحيته . ففي الوقت الذي كان فيه قانون الدولة إلى جانب عيسى بمنحه الجنسية الكويتية كابن كويتي ، كان القانون الإجتماعي غير المدون يرفض هذا الشاب كونه ابن خادمة فلبينية . كم هو قاس هذا القانون ، حتى القانون الذي يصنف البعض (بدون) يسمح لهم بالإقامة في الكويت ، أما هذا (القانون ) الشفهي فهو يحاصر المرء حتى في سريره، وبينه وبين نفسه . وهذا ما دفعني إلى التساؤل هل هذا التمايز الطبقي كان سائدا أيام اللؤلؤ أم أن الواقع الحديث للكويت هو الذي أفرزه ؟ مع أن هذا التمايز لا يلمس في الرواية إلا ضمن الأجيال القديمة ، الأجداد والكبار نسبيا ،أما بين أجيال الشباب فلا وجود له ،فعلاقة عيسى بالمجانين الخمسة كانت علاقة حميمية ،وكما تكون عليه أي صداقة .
ثمة مواقف مؤثرة كثيرة في الرواية: تشييع جثمان الأمير . وقوف عيسى على قبر أبيه الشهيد راشد . وداع خولة لعيسى عند تركه منزل العائلة . وداع خولة وهند وغسان لعيسى في المطار عند مغادرته الكويت عائدا إلى الفلبين . إضافة إلى مشاهد كثيرة تحتاج إلى وقفة مطولة معها .
وثمة مشاهد كثيرة تثير الضحك أيضا وتحتاج إلى وقفة .
البناء الفني في الرواية :
إن أهم ما ميز اسلوب الرواية هو البساطة والصدق . لكن أية بساطة ، إنها بلاغة البساطة أو السهل الممتنع كما يقال .. حيث لا يشعر المرء أنه أمام كتاب يقرأه ، فيأتي الخطاب الروائي سلسا سهلا يتسلل إلى نفس القارئ قطرة قطرة إلى أن يجد نفسه أسير النص .
من الفصل الأول يضعنا السنعوسي في أجواء روايته ، فيقدم نفسه على أنه ابن رجل كويتي من خادمة فلبينية وأنه يبحث عن هويته ووطنه " لينعم برغد العيش ويحيا بسلام " كأبنائه . لقد فعل ما لم يفعله روائي من قبل حسب ما أعلم . وفي مقدور أي قارئ أن يقرر على ضوء هذه المقدمة ما إذا كان يستهويه هذا الأمر ليقرأ الكتاب أو لا يقرأه . غير أنني أكاد أجزم أن أي مهتم بالأدب لن يقرأ هاتين الصفحتين إلا ويشرع في قراءة الكتاب بشغف .
لجوء السنعوسي إلى لعبة الترجمة التي ليست غريبة علي ككاتب خاصة وأنني قرأت "عزازيل " و" اسم الوردة " في الفترة نفسها ، جعلني أشك في أن السنعوسي ابن فلبينية ويكتب بالفلبينية ،لكثرة ما أجاد في وصف الحياة الفلبينية ،ولعمق الصدق الذي قدم به عيسى ، خلال 79 فصلا وخاتمة في خمسة أجزاء .
بعد المقدمة ، يعود السنعوسي إلى الوقائع من بدايتها ،ويشرع بها صعودا إلى النهاية ..
لا شك أن الرواية تحتاج إلى أكثر من مقال ، والتوقف عند محطات كثيرة فيها ، لكن الصحف تشترط أن لا يزيد المقال عن كذا كلمة ،حسب خطها ، وآخر صحيفة أكتب فيها أحيانا ( العرب ) أعطتني حد أقصى 1100 كلمة للمقال ! وها أنا أنظر أسفل شاشة الحاسوب لأجد أن الرقم
1117 ، ولم أنته بعد وما يزال لدي الكثير لأقوله ، وكم كان بودي أن أشرك القراء في المشاهد التي أبكتني أو أضحكتني وغير ذلك ،وآمل أن يتاح لي في مقالة ثانية .
تهاني الحارة للأديب سعود السنعوسي وتهاني للكويت بالجائزة العربية التي نالتها الرواية والتي استحقتها بجدارة .
*******








(19)
أقل الكلام في خير ما سطرته الأقلام !!
قرأت في الأشهر الأخيرة عشرات الكتب . بعضها كتبت عنه . ومعظمها لم أكتب عنه بعد لعدم عثوري على صحيفة أو مجلة تنشر لي بشكل دائم ، خاصة وأن العديد من المقالات المكتوبة عن بعض الكتب لم ينشر بعد . ساتناول في هذه العجالة وبكلمات مختصرة جدا آخر أهم عشر روايات قرأتها ، وسأبدأ من آخر رواية وأعود إلى الوراء .
1- عمارة يعقوبيان : علاء الأسواني .
يمسك علاء بتلابيبنا ولا يكاد يترك لنا فرصة للتنفس وهو يحدثنا عن عالم القاهرة في العقود الأخيرة ، طارقا أبوابا جديدة لم يطرقها الأدب العربي إلا نادرا كاللواط والشذوذ الجنسي بين الرجال ، والجماعات السلفية . رواية مكتوبة بإتقان شديد ، ومهنية عالية .تؤهلها لأن تكون واحدة من أهم الروايات في الأدب العربي .
2- ترمي بشرر: عبده خال .
كابوس فظيع . زلزال . استهانة واستهتار وتجاهل لكل القيم الدينية والأخلاقية ، في بلد يفترض أنه بلد القيم والدين والأخلاق . المترفون يحيون في عالم الترف بقصوره ونسائه وغلمانه وخموره . حتى إن صلوا الفجر يوما يصلونه وهم سكارى ولا ينهضون من السجود ، أو بين أحضان العاهرات . لواط ، شذوذ ، اضطهاد ، قتل ،سحق للإنسان ، ولكل ما هو نبيل . رواية صادمة في عالمها ، ممتعة وشيقة في أسلوبها . أرشحها لأن تكون الرواية الأهم في الأدب العربي على الإطلاق ، لما حملته من جرأة شديدة في تعرية الواقع المزيف حتى العظم .
3- عزازيل : يوسف زيدان .
عالم المسيحية بصراعاته وتناقضاته . الرهبنة المضادة للغرائز الإنسانية . حتى الخوري الراهب لا يستطيع تطبيقها ، يعشق اول مرة ويغرق في حمى المتعة الجنسية . يحاول أن يستقيم لكن دون جدوى . يغرق في العشق مرة ثانية ويمارس الحب . ومن حوله أناس يضاجعون أمهاتهم وأخواتهم وحتى الأغنام ..صفعة لعالم مزيف يرتدي قناع الدين .
4- ساق البامبو: سعود السنعوسي .
عشق . محبة . دفء. تتمنى لو أن للرواية حضنا لتغفو عليه . عمل آسر : ممتع ، مضحك ، مبكي ، محلق في رحاب النفس الإنسانية ، عذاباتها ،آلامها ، طموحاتها وآمالها .. ابن من خادمة فلبينية يبحث عن أبيه الكويتي وهويته الكويتية دون جدوى . المجتمع الكويتي يرفض وبشدة أن يكون كويتي ابن خادمة !! إنها ضريبة الثراء التي تفقد الإنسان بعض انسانيته . لو كانت أحداث هذه الرواية تدور في زمن اللؤلؤ وما قبل النفط ، لكان ابن الخادمة كويتيا كامل الحقوق .
صفعة مؤلمة للمجتمع ، ومؤثرة في النفس الإنسانية . تستحق وبجدارة أن تكون واحدة من أهم الروايات في الادب العربي .
5- شرفة الهاوية : ابراهيم نصر الله .
بشر يتسلقون ويهوون . نساء مضطهدات . نفوس معذبة . جشع . استغلال . طمع . بحث عن الملذات .
اسلوب متقن وممتع . يتلاعب ابراهيم بالزمن تقديما وتأخيرا . يستولي على قارئه
وهو يقود أبطاله إلى الهاوية .. هاوية العواصم العربية التي لا تختلف إحداها عن الأخرى .
6- ماء السماء : يحيى يخلف :
( ماء السماء ) هي الجزء الثاني من ثلاثية ليحى يخلف ، سبقها الجزء الأول ( بحيرة وراء الريح ) الذي لم يسعفني الحظ حتى الآن في العثور عليه .
يحيى كمعظم الكتاب الفلسطينيين مسكون بمأساة شعبه ، وهاجسه الأول هو التأريخ للقضية الفلسطينية ، ففي هذا الجزء يتابع يحيى الصراع الذي بدأه في الجزء الأول ، فينقلنا إلى التشرد واللجوء والعوز والحياة في الدول المجاورة لفلسطين وانطلاقة الثورة الفلسطينية. نحيا مع ابطال يحيى آلامهم عبر اسلوب واقعي مؤثرومشوق يصور الحياة في قسوتها . وسيكون لي وقفة مطولة مع ثلاثية يحيى بعد حصولي على الجزء الأول .
7- يحيى يخلف : جنة ونار :
إنها الجزء الثالث من ثلاثية يحيى . هنا تتعمق شخصيات يحيى ، في ظل الثورة ، ويبدأ البحث عن الهوية والوطن والأهل ، وتتعزز الآمال بالعودة .. نعيش مع سماء
فرحها وحزنها وهي تبحث عن أمها التي تبين لها أنها فقدتها منذ عام 48 .تدخل مع دورية مقاتلة إلى الأرض المحتلة ، وبعد بحث مضن تعثر على أمها وتلتقي بها . يصور يحيى لنا اللقاء في مشهد مؤثر جدا .
حسب معرفتي أن ثلاثية يحيى هي الثلاثية الاولى والوحيدة التي تناولت القضية في ثلاث روايات تكمل واحدتها الأخرى ، وتتابع حياة شخوصها . عمل ممتع وشاق وهام بذل يحيى جهدا كبيرا لإنجازه . ويحتاج إلى دراسة ووقفة مطولة كما أسلفنا .



8- سجاد عجمي : شهلا العجيلي :
نقوش وزخارف وفسيفساء على صدر مدينة الرقة . مدينة الأديب الكبير عبد السلام العجيلي ، ومدينة شهلا. عودة إلى زمن ما عباسي وصراع بين شيعة وسنة في خلفية المشهد الروائي ، عنوانه مصحف عائشه !! نساء عاشقات مبدعات .. نحيا آمالهن وآلامهن ..
لوحة تراثية ترسمها لنا شهلا ، بدفء وحميمية ومحبة وتأن ، نسيج متقن بأرواح الرقاويات . نسمات منعشة تهب على ضفاف الفرات ، باعث الحياة ، المفرح أحيانا ، والمحزن أحيانا حين يغرق فيه طفل جميل وحيد أمه .
لا بد من وقفة مطولة مع الرواية في الأيام القادمة .
9- غريب النهر : جمال ناجي :
كتبت مقالا عن هذه الرواية . يتابع جمال فيها اسرة عائلة فلسطينية في تشردها ومقاومتها لمصاعب الحياة ، باسلوب ممتع شيق ، يمسك فيه جمال بالزمن لقرابة قرن ، متلاعبا به بين الماضي والحاضر ، مطلا على شرفات المستقبل ، وحلم الفلسطيني بفلسطين . يبدو جمال متمكنا من ناصية السرد ، يضحكك من أعماقك
أحيانا ، ويدفعك باتجاه التأمل والتفكر أحيانا أخرى ، وأنت تقوم بربط الوقائع بعضها بالآخر ، حتى لا تفلت خيوطها من بين يديك .
10- على جناح الطير : سميحة خريس :
أي عشق هذا ؟ أي حب ؟ أي وله بالمدن والعواصم ، تحيلك سميحة إلى ركن ما في مدينة أو إلى أحد أبنائها ، وهي تدفعك لأن تحب هذه المدينة بإرادتك .. هي ليست رواية . إنها سيرة مدن عاشت فيها سميحة بصحبة والدها الدبلوماسي الأردني .. مدن أصبحت جزءا من ذاكرتها ونسيج روحها ، فتحدثت عنها بمحبة وعشق حتى الوله .كتاب دفعني لأن أبحث عن كتب أخرى لسميحة لقراءتها وقد فعلت .
وسأستغل هذه المناسبة لأتسول من بعض اصدقائي الكتاب في الأردن بعض مؤلفاتهم .. فأنا مشرد من دمشق والنقود التي ادخرتها لشيخوختي (من الرسم وليس من الأدب ) تطير ، وأوشكت على النفاد ، ولا أمل في الأفق إلا مسدس الإنتحار .فآمل أن يزودوني ببعض هذه المؤلفات لتكون غذاء لروحي حتى يحين أجلي مع المسدس ! يمكن وضع الكتب في رابطة الكتاب .
مع جزيل شكري .
م.ش.



(20)
نخز وأدب ونقد وعرض عمل فوقي جدا !!
160 ناخزا وناخزة نخزوني ( على الفيس بوك ) وأنا ولا على بالي ! لأ ما إلي حق ! ورب الكعبة لأذهب وأنخزكم نخزا شديدا لأنني في هذه الليلة قررت أن أريح وأستريح وأمتطي بساط الريح بعد أن سحبت من المكتبة خمس عشرة رواية قرأتها في الأشهر الأخيرة ولم أكتب عنها . وبعد أن كومتها أمامي لتشكل رجما قنطريا وجدت نفسي أصرخ متأوها " أوه هل سأكتب عن كل هذا الكم من الروايات " ولا أعرف كيف وجدت نفسي ألغي الفكرة وأشرع في إعادة الروايات إلى المكتبة . لكن وللحق والحقيقة والمرأة الطليقة أن ثمة روايات سحرتني بجمالها ولا بد من ذكر عناوينها وأسماء مؤلفيها لمن يحب أن يقرأ ما هو جميل وممتع ومفيد :
1- عندما تشيخ الذئاب : جمال ناجي ( فلسطيني أردني )
2- زمن الخيول البيضاء: ابراهيم نصر الله . فلسطيني أردني
3- حارس المدينة الضائعة : ابراهيم نصر الله
4- السيدة من تل أبيب : ربعي المدهون . ( فلسطيني بريطاني ) !
5- محال . يوسف زيدان .مصري
6- النبطي . يوسف زيدان =
7- ظل الأفعى . = =
ملاحظة : أهمية الروايات حسب ترتيبها
8- طوق الحمام : رجاء عالم : ( السعودية )
9- فرانكشتاين في بغداد : أحمد سعداوي ( العراق)
10- الأسود يليق بك : أحلام مستغانمي ( الجزائر )
11- مملكة الفراشة : واسيني الأعرج . ( الجزائر )
الروايات الأخرى بعضها قديم وبعضها نسيت عنوانه ولا أريد أن أنهض لأبحث في المكتبة من جديد .
لن أكتب عن هذه الروايات وغيرها إلا لمن يدفع أفضل من الصحف والمجلات . واعتبارا من هذا اليوم لن أكتب نقدا عن روايات وكتب إلا بعقد عمل واضح وصريح ومقبول . ولتذهب الصحف والمجلات العربية والمواقع المأجورة إلى الجحيم !
ثمة كتب غير أدبية وهي كثيرة ،أهمها للراحل الكبير نصر حامد أبو زيد ويوسف زيدان .
الشعر الذي قرأته بعضه جيد لعبد الله رضوان . ومعظمه مقبول لنوري الجراح وغيره ،والقليل منه رديء .
الآن سأذهب لأصدقائي أبادلهم النخز بالنخز واللكز باللكز وسأبدأ بالجنس اللطيف لأن نخز الجنس الخشن خشونة مطلقة !





















(21)
( غريب النهر ) سفر الشتات الفلسطيني .
من بلدة العباسية القريبة من يافا إلى اسطنبول مرورا بالأردن وسوريا ولبنان ينقلنا جمال ناجي في فضاء جغرافي شاسع ليقص علينا بمهنية رفيعة سيرة عائلة ( أبو حلة ) الفلسطينية ، لزمن يمتد لقرابة قرن ، نبحر فيه مع آلام هذه الأسرة وآمالها ،
مع أفراحها وأتراحها ، في تشردها وكدحها ، في حكاياتها وتحولاتها ، من اسرة مشردة ، إلى مالكة بيارة في أغوار الأردن .
تأتي ( غريب النهر ) بعد ست روايات وأربع مجموعات قصصية لجمال ناجي ، فيوظف خبرة في فن الروي دامت لقرابة أربعة عقود ، يحرك فيها أكثر من خمسين شخصية على أكثر من مائتي صفحة ، بنفس ملحمي يقارب فضاء الميثولوجيا دون أن يوغل فيه ، ليظل واقع حال الشخصيات هو الماثل في صفحات الرواية .
يبني جمال روايته على بناء درامي محكم ومشوق . فمن السطور الأولى يضعنا أمام زائر غريب في الستين من عمره يفاجىء اسماعيل أبو حلة ( عمي اسمعين) وزوجته فخرية بزيارته .ولم تتكشف لنا أبعاد هذه الشخصية والغاية من زيارتها إلا بعد أن عرفنا جمال بتاريخ عائلة (أبو حلة ) كله ، عبر استقراء ذاكرة الشخصيات تارة أو عبر الإسترجاع والعودة إلى التاريخ الماضي تارة أخرى ، وغير ذلك من الأساليب .
لم يكن الضيف إلا شوكت ابن أخي اسماعيل ( مصطفى ) الغائب منذ أكثر من ثمانين عاما ، حين جند في الجيش العثماني ابان اندلاع الحرب العالمية الأولى ، حيث قبض عليه أثناء هروبه من قرية العباسية أثر مطاردته لشاب ( غمز بعينه شقيقته أثناء مرافقتها له إلى بيارة والده ، وكان من نتائج تلك المطاردة أن وقع الشاب في قاع الوادي المجاور وضرج وجهه بدمه ، ثم كف عن الحراك ، فظنه ميتا ) (ص 24)
وحين انتهت الحرب ومرت عقود دون أن يعود مصطفى اعتبر قتيلا أو ميتا ..
وهو في الحقيقة لم يمت ، فقد عاش في اسطنبول وتزوج من تركية بعد أن حمل الجنسية التركية وأنجب يلماز وشوكت ، الذي حضر في خريف عمره يبحث عن كنوز وموطن أبيه وأجداده .
يوغل بنا جمال في التاريخ لنسب عائلة أبو حلة الذي دون على انطاء حفظ على مر السنين ، حتى أن اسماعيل أبو حلة حفظه عن ظهر قلب وراح يرويه للتعريف بنفسه ، ليخبرنا أنه ولد في العباسية بعد سبعة أعوام من انتهاء الحرب العالمية الأولى لأبويين عربيين فلسطينيين ، ,وأن جده فاروق أبو حلة ينحدر( من إحدى قبائل بني تميم من بني عبد الدار ، رهط الصحابي الجليل تميم الداري ، المتحدر من قبيلة عربية اسمها لخم ، أقامت في فلسطين قبل ألف وثمانمئة عام من ميلاد المسيح ، ثم انتشرت عائلاتها بعد الفتوحات الإسلامية في مناطق الخليل والساحل الفلسطيني ونابلس والسلط والكرك وسواها ) ص 16
من الواضح في هذا المقطع أن جمال يؤكد هنا على قدم الوجود التاريخي للعربي
في فلسطين ، فيعيده إلى أقدم الهجرات العربية .كما يتطرق إلى قصة اسلام هذه الحمولة ومبايعة النبي محمد في يثرب ( فقد أقنع تميم ( الداري ) شقيقه نعيم بن أوس ونفرا من أهله بالسير إلى يثرب لإعلان الإسلام أمام رسول الله صلعم )
وهكذا ( امتطى الرجال خيولهم وبغالهم وتوغلوا جنوبا في الصحراء مدة ثلاثة و ثلاثين يوما بلياليها ، وحين وصلوا يثرب رحب بهم رسول الله فأعلنوا اسلامهم في حضرته )
وقد أقطعهم رسول الله (الجبال والسهوب التي يسكنون فيها بعد أن ينتشر الإسلام
.. فأقطعهم مدينة الخليل التي كان اسمها حبرون والمرطوم وبيت عانون وبيت ابراهيم ) ص17
ويورد جمال النص التاريخي لهذا الإنطاء حسب ما يرد في كتاب " الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل " لقاضي القضاة أبو اليمن القاضي مجير الدين الحنبلي .
ص17
والد اسماعيل ( عبد الجبار أبو حلة ) كان مزواجا وعاشقا للنساء ، فتزوج من أربع ، اتسم بالكرم والشهامة معهن ، وميز في القرية بثلاث علامات فارقة : النار التي كان ينفخها من فمه والنساء اللواتي تزوجهن ، ومعارض الحصر التي كان يتاجر بها .
أنجب تسع بنات وثلاثة أبناء. البنات تفرقن في أصقاع الدنيا بين فلسطين والأردن وسوريا ولبنان بعد النكبة . الإبن الأصغر (حمدان ) استشهد في معركة الكرامة .
دارت حول عبد الجبار تقولات ، كالسهر مع الغانيات في يافا والتبذير وتغيير الزوجات ، رغم أنه كان يتبرع بشكل دوري لمدرسة القرية ويوزع ما تيسر من معونات للفقراء خلال شهر رمضان ، وقد أصيب بنكسه أثر اختفاء ابنه مصطفى من القرية بعد مطاردة الشاب الذي غمز اخته !
وثمة ما كان عبد الجبار يخفيه عن أهل القرية ، وهو ما جعلهم يتعاطفون معه ، فقد
دهم عسكر الإنكليز بيته واقتادوه مصفدا بعد أن أخرجوا ثلاث عشرة بندقية وثلاثة صناديق من الرصاص من مستودع القش والحصر أسفل البيت .
لم يحتمل عبد الجبار وطأة السجن فمات صبيحة اليوم الذي رأى نفسه فيه يطير ممتطيا ظهر حصانه الأبلق ليطاول أعالي السماء . وكان ذلك اليوم هو ( اليوم السادس من الشهر الأخير من شهور الموت في العائلة ، أي شهر آذار ، من العام الذي وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها ) ص106
يرسم جمال جانبا من ميثولوجيا عائلة أبو حلة وهي أن أفرادها لا يموتون إلا في الأشهر الثلاثة الأولى من العام ، حسب ما رسم لهم القدر الإلهي !
نزح اسماعيل أبو حلة في عام النكبة الأولى برفقة زوجته فخرية وشقيقه حمدان وأمه عائشة وابنه الرضيع حينذاك شعبان .وحط رحاله في بلدة الشونة الجنوبية
في غور الأردن .وابتاع ببطاقة الإعاشة التي حصل عليها من وكالة الغوث ستين دونما من الأرض البور ليحولها إلى بيارة . وهذا ماكان بعد أن باعت زوجته وأمه مصاغهما لبناء بيت وإصلاح الأرض وزراعتها .
أنجب اسماعيل ثلاثة أبناء : شعبان ورزاق وجهاد ، وابنة ( خلود ) من زوجته الثانية نجود ، التي تزوجها فيما بعد .
رزاق : أصبح مستثمرا لأموال منظمة التحرير الفلسطينية في العالم بعد أن رشحته خالته سفر لياسر عرفات الذي ربطتها به علاقة حميمة اثر اكتشافها محاولة لاغتيالة, حمل العديد من الجنسيات و صاريتحدث لغات مختلفة .
جهاد : انضم إلى صفوف الثورة الفلسطينية لينتهي مع زوجته في رام الله بعد اتفاقية أوسلو.
شعبان : أصبح مديرا لسوبر ماركت كبير أنشأه رزاق من أموال منظمة التحرير ، وكانت زوجته ( شهله ) تحيا حياة باذخة مترفة .
كان مصطفى والد شوكت قد تزوج في تركيا من أخت زميله في العسكرية الإمباشي التركي (طلعت أتاش ) وكان هذا قد دفن كنزا في منطقة المفرق ، بعد أن تعرضت قافلة الجيش العثماني التي كانت تقل تحفا وجواهر نفيسة جمعت من الناس لدعم المجهود الحربي، تعرضت لهجوم طائرات بريطانية مما أودى بحياة 123 جنديا وضابطا .
كان بينهم اليوزباشي سرهان الذي مات وهو يحتضن صندوقا . وحين عرف طلعت
ما في الصندوق ، أخذه ودفنه وعمل خارطة لمكانه .
خارطة هذا الكنز آلت إلى شوكت الذي جاء إلى الأردن يبحث عنها .تم البحث ووجد الكنز . لكن كانت هناك خارطة أخرى في الكنز تقود إلى كنز آخرقرب قصر هشام بن عبد الملك في أريحا ، وهذا الأخير فيه خارطة تقود إلى كنز في العباسية .
وهذا الأخير كان من المحال العثور عليه بعد أن تغيرت معالم المنطقة ، وأقيمت البنايات وشقت الشوارع ولم يعد أي أثر للعباسية .
حاول جمال هنا اسقاط الكنز الثالث على القضية الفلسطينية برمتها حين راح يستقرئ نفسية شوكت:
( ولقد أحس بأن البحث عن الدفينة الثالثة غير ممكن في ذلك الحين ، وربما في ما تبقى من حياته هو وتمنى لو أنه لم يذهب إلى ذلك المكان لظلت العباسية في ذاكرته مثلما حدثه أبوه مصطفى عنها ) ص 189
ولهذا أعطى الخارطة لابنة عمه اسماعيل ( خلود )بعد عودته إلى الشونة ( خذي هذه الخارطة ، قد تستطيعين الإستفادة منها ، لا أستبعد عنك شيئا ) ص212
الحدث الآخر كان موت مصطفى الذي تبين أنه كان ما يزال حيا في استانبول وإن كان مقعدا . وكانت وصيته أن يدفن في العباسية . غير أن هذا الأمر كان مستحيلا
رغم تدخل الأردن وتركيا لدى اسرائيل ، فموافقة اسرائيل على دفن الجثمان في العباسية تعني الإعتراف بحق العودة للفلسطينيين . ودفنه في أي بقعة من أرض السلطة الفلسطينية تعني الإعتراف بحق المواطنة !ولذلك كان لا بد من دفن مصطفى خلسة على بعد أمتار غرب النهر ، وقد تم ذلك تحت جنح الظلام .
ليبقى مصطفى هناك وحيدا غريبا دفينا في جدث متواضع .ومن هنا جاء عنوان الرواية ( غريب النهر) .
بهذا تكتمل الدائرة الفنية التي فتحها جمال بقدوم شوكت إلى عمه اسماعيل في الشونه وأغلقها بدفن مصطفى وسفر شوكت عائدا إلى استانبول وسفر خالته سفر وابن عمه رزاق .
وكما احتفظ الفلسطيني بمفتاح بيته منذ عام النكبة ،1948 راحت خلود في السطرين الأخيرين من الرواية ( تجلد خارطة مكان دفن جثمان عمها مصطفى ، وخارطة الدفينة الأخيرة ( الكنز ) في أراضي قرية العباسية ) ص 215
لا يستغرق زمن الروي ضمن الدائرة التي فتحها جمال أكثر من أسابيع ، بينما يشمل زمن الرواية أحداثا تقارب القرن ، تبدأ من أوائل القرن العشرين وتنتهي
في أواخره .
يدفع جمال بما حشده من وقائع لروايته قطرة قطرة فما أن يعطينا رأس خيط حتى يتركه ليدخلنا في رأس خيط آخر وهكذا .. كما أنه يتجنب المباشرة والسرد التقليدي ، ويجعل من نفسه محايدا قدر الإمكان ، رغم ادراكنا أن ثمة روائيا خلف االنص
الذي بين أيدينا هو من يسير الأحداث ويبني خطابه الأدبي . فحين يحاول أن يقول لنا من هو شوكت هذا الذي فاجأ عمي اسمعين بزيارته ، لا يقول ذلك بشكل مباشر
بل بطريقة تساؤلية استقرائية تتلاعب بالموضوع وتلتف عليه . وحين يعرف شوكت بنفسه ، يعود للتشكيك في المسألة بصيغة الجمع واستقراء مخيلة عمي اسمعين :
( لو افترضنا أن الستيني هو شوكت بن مصطفى عبد الجبار مثلما ادعى بثقة أمام عمي اسمعين وزوجته فخرية ، بعد أن تناولوا طعام الغداء الخالي من اللحوم بناء على طلبه الذي بدا غريبا ، فإن من المستحيل أن يتعرف عليه أو يتحقق من صدق حكايته التي تصلح لقصص الخيال ، فهو لا يحتفظ بصور أو وثائق لذلك الأخ مصطفى ، الذي غادر القرية قبل حوالي عشرة أعوام من ولادته هو، ومات في الحرب حسب ما قال أبوه عبد الجبار ..) ص36
حفلت الرواية بالعديد من المشاهد الملحمية المؤثرة كمشهدخلوأسواق القرى والمدن من الشباب عام إعلان النفير العام عند اندلاع الحرب العالمية الأولى ، وكذلك مشهد غزو الجراد في العام نفسه :
( حجبت زوابع جحافله الشمس فبدت السماء غماما متحركا بلون التراب ، والأرض حصيرة منسوجة من أجساد الجراد ، وأثقلت الأشجار بعناقيد كثيفة من تلك الدويبة الماحقة ، حتى أن الأشجار في بيارة عبد الجبار أبو حلة تحولت إلى مجرد أعواد شاخصة في صفوف مجردة بلا أغصان أو أوراق أو ثمار) ص24
لقد أتى الجراد على كل شيء بما في ذلك التبن والحصر ، واستشرس حتى في مهاجمة الرضع في أحضان امهاتهم . فقاومه الناس بحفر الخنادق وقرع الطبول وكل ما يقدرون عليه .
وفي ذلك العام تفاقم الفقر إلى درجة لم تشهدها البلاد من قبل ، فلم يعد في الحوانيت والمتاجر والمخازن ما يمكن أن يقتات به .
كما حفلت الرواية بالعديد من المشاهد الطريفة والقليل من المشاهد الجنسية وحاول جمال قدر الإمكان أن يصور لنا ما يدور في دخيلة شخصياته . ويصور نفسياتهم ، فقدم لنا عمي اسمعين وهو يواقع زوجته الثانية نجود في حالة غضب .
لقد حاول جمال بشخوصه الكثيرة أن يغطي حقبة زمنية طويلة من حياة الشعب الفلسطيني حفلت بالكثير من الأحداث الإجتماعية والسياسية كان آخرها اتفاقية اوسلو.وعبر عن التحولات التي تمت في زمن الثورة ، منها ما كان تطورا إلى الأمام ومنها ما كان ارتدادا إلى الخلف . فشخصيات مثل شوكت وسفر وشعبان وجهاد وسهير وشهلة ورزاق وأخيرا خلود ، سعت إلى التحرر قدر الإمكان والإنفلات من أسر التحفظ والعادات والتقاليد ، بينما شخصيات مثل نجود زوجة عمي اسمعين الثانية ارتدت إلى التدين بعد تعرفها على نساء متدينات ، فأخذت تتنقب وترتدي الجلباب وتبشر بالدين ، إلى أن قرر " الصالحون والصالحات الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة .." أن يرشحوها عن الجماعة لانتخابات مجلس النواب !
هذا الإرتداد إلى الدين عند بعض فئات المجتمع ممثلا بنجود، يشير ولو بشكل غير مباشر إلى فشل الثورة الفلسطينية وحركات التحرر العربية في تحقيق أي انجاز حضاري ينهض بمستوى حياة الناس ويحقق بعض آمالهم وتطلعاتهم .
العم اسماعيل لم يتغير فيه شيء فهو الفلاح الأصيل ابن الأرض المعطاءة المحافظ على تدينه التقليدي والقادر على تقبل اختلاف الأجيال الجديدة عنه . حتى أنه يمزح متخوفا من ان يكون نصيبه من حوريات الجنة السبعين نسخا عن زوجته فخرية " فيأكلها في الدنيا والآخرة " كما سيأكلها أبناء حمولة أبو حلة !
الزيجات الكثيرة ومشاكل الطلاق أدت إلى تقاطعات وتشابكات بين أبناء الحمولة أدت في بعض الأحيان إلى أن يتزوج أحدهم من أخت له في الرضاعة أو فتاة محرمة عليه لصلة القربي .
هذا هو العالم الذي رسمه جمال في (غريب النهر ). بحرفية متقنة وأسلوب مشوق .
ومن أهم ما قالته لنا الرواية أن الفلسطيني مهما تغرب ومهما حمل جنسيات مختلفة لن يقبل عن وطنه بديلا حتى لو لم يعد إليه إلا جثة . وسيظل حلم العودة يراود الفلسطيني ما دام على قيد الحياة ، وقد تعود خلود يوما كما عاد شوكت لتبحث عن الكنز الدفين في العباسية .
لقد قدم جمال ناجي لنا رواية ملحمية متميزة تستحق وبجدارة أن تتبوأ مكانتها في رأس الهرم الروائي الفلسطيني إلى جانب القليل والنادر من الروايات التي تبوأت رأس الهرم .
لقد وجدنا أنفسنا أمام عمل أدبي ممتع أقل ما يقال فيه أنه " سفر الشتات الفلسطيني "
****














(20)
كنعان تنهض من أعماق التاريخ في" قصة عشق كنعانية "
في روايته الملحمية " قصة عشق كنعانية " الصادرة عن دار الفارابي في بيروت 2009 ، يستنهض صبحي فحماوي الحضارة الكنعانية ما قبل التاريخ ، ليعيد إحياءها لتجوب فضاء العالم بعد أن غيبتها التوراة اليهودية لتقدمها كحضارة اسرائيلية تخص بني اسرائيل ( يعقوب ) وحدهم . جاعلة من الكنعانيين والفلسطينيين بشكل خاص أعداء لهم ، بناء على وعد قطعه الإله ( يهوه ) لهم بمنحهم الأرض الكنعانية .
يقتحم صبحي مجاهل التاريخ القديم ليتوجه بالحضارة الكنعانية التي سادت لقرون عدة ، مقدمة واحدة من أهم حضارات الشرق القديم ، إلى جانب الحضارات الفرعونية والسومرية والبابلية وغيرها . مستلهما واقع ذلك الزمن ، ممثلا بآلهته وملوكه الكثر، حيث كان كبير الآلهة الكنعانية ( إل ) أو( إيل ) والذي تحول إلى أحد الأسماء الكثيرة التي اتخذها يهوة ، ليقول أنه إله الآلهة كلها وأنه الإله الوحيد ، رغم اعترافه بوجود آلههة أخرى ووجود شعوب تعبد هذه الآلهة ، حتى أن بني اسرائيل أنفسهم كانوا يتخلون كثيرا عن عبادة يهوة ويتبعون عبادة الآلهة الكنعانية وكان الملك سليمان أشهر هؤلاء. وما ( إيل ) إلا من "خلق الإلهة الأولى الأم ( يم ) خالقة الكون التي شقت الهيولى البدئية إلى نصفين لترفع نصفا إلى أعلى تجعل منه سماء وتجعل من النصف الثاني أرضا ، ولتعمد الكون بخلق الربة شمس نهارا وبالقمر والنجوم المتلألئة ليلا ، ثم خلقت ابنها الأول ( إل ) وبينما هو نائم سحبت أحد أضلاعه وخلقت منه امرأة أسمتها عشيرة ، جعلت منها زوجة له " وبهذا يكون الخلق الأول قد جاء من آلهة ، وهذا يتفق مع ترجمة بعض المخطوطات الأوجاريتية في السبعينيات من القرن الماضي ولصق أجزائها ببعض فيما بعد ليسهل فهمها.
ينجب الإله ( إيل ) الإله الأوحد للكون، من زوجته عشيرة آلهة مساعدة كثر، تذكر بعض المصادر الأثرية،أنهم سبعون إلها ، يأتي في مقدمتهم الإله (بعل) إله الخصب والمطروالأرض، ، والإله (موت) إله القحط والموت والجفاف والعالم الأسفل ، والإلهة العذراء عناة إلهة الخير والمحبة . وعشتروت ( عشتار) ربة الحب والحرب . وفي الأساطير البابلية الاولى تكون ألوهية عشتار مطلقة كإلهة للكون والمسؤولة عن كل شيء .
يقيم صبحي بناء روايته على ثلاثة خطوط درامية أساسية :
الخط الأول ، ويتمثل في حب دانيال ابن ملك غزة العال بالتبني لإيزابيل ابنة ملك بيتسان ومن ثم حبه لفرح ابنة ملك أورسالم .
الخط الثاني ، ويتمثل في حشد الملوك الذي يقوم به ملك غزة لمحاربة الملك الكبير ملك أوغاريت الذي تحول عن عبادة إيل إلى عبادة البعل .
الخط الثالث ، ويتمثل في صراع الإله بعل مع موت على الحياة ، فالأول يريد إحياءها ونموها كإله للخصب والثاني يريد أن يدمرها ، كإله للموت والدماروالقحط . وهنا يمكن الإشارة إلى أن الشيطان أو إله الشر لم يبدأ ظهوره في العقيدة الزرادشتية ( الفارسية ) حسب ما رأى بعض الباحثين ومنهم فراس السواح . وهذا ما يتضح في ترجمة بعض مخطوطات أوجاريت مؤخرا . وهناك صراع بعل مع جدته يم حيث يقوم بإقصائها عن عرش الكون وتنصيب إيل مكانها .
وهناك وقائع اجتماعية واقتصادية وطقسية وأسطورية ( كقصة أهل الكهف وطوفان شوح ) ترفد هذه الخطوط إضافة إلى ظهور الآلهة والإلهات كعناة ، التي تظهر أكثر من مرة في الرواية .
********
الخط الأول :
يقع دانيال ابن الملك العال ملك غزة في حب إيزابيل ابنة ملك بيتسان كما أسلفنا. يقع هذا الحب خلال تجارة دانيال بالخمور بين الممالك الكنعانية . حيث يحكم كل مدينة ملك ، وبلغ عدد الملوك الكنعانيين الذين يرد ذكر عددهم في الرواية 2450 ملكا0 وحين يقابل أباه الملك ليطلب له يد ايزابيل من أبيها الملك حزرائيل تقع المصيبة التي لم يتوقعها أحد، والتي يبني عليها صبحي أهم الخطوط الدرامية التشويقية في بناء روايته . فإيزابيل ليست إلا أختا لدانيال من أمه ولا تتيح له الشريعة الإيلية الزواج منها كونها محرمة عليه ! ويشرع الملك الأب في سرد القصة لدانيال التي كان يجهلها تماما .
" في الحقيقة أن والدتك هي زوجة حزرائيل ملك بيت سان .. وإن زوجتي رفقة هي ليست أمك ، ولكن بسمة زوجة حزرائيل هي أمك . كانت والدتك بسمة قد وصلت إلى شواطئنا جسدا هامدا . فهمنا بعد ذلك أنها قادمة من بحر إيجة . ضمن سفينة حربية مصرية متجهة إلى بلادنا . وأن السفينة قد أغرقت عند شاطىء غزة . في مناوشات لم نفهم تفاصيلها . وفهمنا بعد ذلك أن زوجها هو إيجي المولد ويدعى أخيل . كان قد عاد إلى بلاد أجداده الكنعانيين ضمن موجات إعادة الإنتشارفي المنطقة وانفتاح بلاد الكنعانيين على كل بلاد بحر كنعان الكبير . حمل رجالي جسد امرأة شقراء بعيدا عن الموج ، فلاحظوا أن بطنها المنتفخ قد طفح من ماء البحر . وبخبرة الغطاسين المهرة اسعفوها على رمال الشاطئ واخرجوا الماء من بطنها ،فعادت روحها من جديد "
ويتابع الملك سرد القصة لابنه المتبنى :
" كانت المرأة صبية وجميلة وعيناها زرقاوان مثل عينيك . تركتها تعيش في قصري هذا . عرفنا فيما بعد أنها كانت حاملا من زوجها المتوفى . بعد سبعة أشهر ولدتك ، فكنت غلاما بهيا ، فربتك وتابعتك الجواري ،وخدمتك الخادمات ، ورقصت بك الأمات ،وحماك خصيان القصر من العثرات . كانت المرأة على خلق عظيم . أعجبت بها ورغبت في الزواج منها . لتصبح ولدا لنا ، إذ لم تنجب زوجتي رفقة غير البنات السبع .لم تمانع بسمة في الزواج مني ،ولكن رفقة عارضت ورفضت زواجي من أصله . عاشت أمك في قصرنا معزوزة مكرمة .. ولدى الإجتماع الملكي الذي عقد في تلك المرة في قصري ، والذي حضره كل ملوك الكنعانيين ، من جزيرة أرواد مرورا بأوغاريت وغزة ، بالإضافة إلى ولي عهد فرعون طيبة ، وحتى بعليل الكنعاني ،ملك أمازيغ المغرب . وكان الملك حزرائيل وقتها ملك بيتسان أحد أقطاب ذلك الإجتماع ، فتعرف على بسمة ،وكانت خدومة له ، فطلب منها أن يضاجعها ، فرفضت الصبية الجميلة بحزم وتعففت باكية . ازداد إعجاب حزرائيل بها ، إذ أن زوجته كانت قد توفيت في لحظات الولادة تاركة له طفلا وليدا يدعى (حاتوئيل )"
ويتابع الملك سرد القصة :
" قال لي الملك حزرائيل يومها : إن حاتوئيل ابن الشهرين لا تكفيه الجواري ، بل يحتاج إلى أم تربيه . فما كان منه إلا أن طلب يدها مني . أشارت بالموافقة بعد أن أدركت أن ليس لها في هذا البيت خبز وخمر وستر.. وكان أن حصل بيننا اتفاق سري هو أن تترك أمك الصغير دانيال بينما تذهب هي إلى عريسها الجديد دون ولد ، وليس هذا فحسب ، بل كان من أهم شروط الزواج إخفاء علاقتك بأمك ،واعتبارك ولدا لنا أنا ورفقة ، فتعيش معنا لتكون وليا للعهد "
يفجر صبحي بهذا المدخل في بداية روايته بؤرة درامية مثيرة لا يمكن الفكاك منها لأي قارئ يحب الأدب . ولا شك أن القارئ سيلهث خلف الصفحات ليعرف كيف سيتم اللقاء بين من غدت محبوبته أخته ،ومن يفترض أن تكون حماته غدت أمه ، ومن يفترض أن يكون حماه ، غدا زوج أمه . وأنا بدوري سأتبع لؤم الراوي ولن أقول لكم كيف كان اللقاء وسأتركه إلى حينه .
*******
الخط الثاني :
المتمثل في حشد الملوك لمواجهة الملك الكبير ملك اوغاريت . الذي تخلى عن عبادة إيل وراح يعبد الإله بعل .. وشرع في حشد الملوك وشن الحروب على الممالك الكنعانية التي تعبد الإله إيل . فهو كما جاء في رسائل الملك العال ملك غزة إلى الملوك الكنعانيين :
" .. إن الملك الكبير في اوغاريت قد انقلب على ديننا / وختلنا في مستقبلنا / إنه يشرب حتى يسكر/ ويكفر بإيل وعشيرة / ويتخذ سرية من نساء عشتار/وبدل أن يحمي جماعته /ثارت ثائرته / وهاجم جيشه كل من حوله/ حتى القريتيين المؤمنين مثله ببعل إلها / إذ انقضت جيوشه فسرقوا حنطتهم وخمرهم / وأنزلوا الخراب حيثما حلوا/ وفتحوا بيت اللعنات / وخرجوا عن المعتقد /وكالشبل الشبعان يقتل الجداء / قتل شعوب القريات ( القرى ) /ودحرج الرؤوس كالجلاجيل / والأيدي تطايرت كالجراد / وكالمجانين جمعوا الأيدي المقطوعة في ساحة الهيكل بالأكوام /وقريات كثيرة غرقت بالدم /وحقولها خربت / إنه يفرح بتدمير الآخرين / ويحتل سهل عزرائيل وجبال الجليل /ويوزع بقايا الغنائم على المنفذين لجرائمه الشنيعة / لقد حطموا هياكل إل وزوجته عشيرة / وسرقوا جواهرها لتنعم بها سريته ، ونهبوا آلاف الجرار من خمورها / لينعم بها الكبير وحاشيته ثم الجنود /"
نص الرسالة هذا وغيره يحملها الأمير دانيال إلى ملوك حبرون ( الخليل ) واورسالم ( يبوس / القدس ) وريحا ( أريحا ) وبيتسان ( بيسان ) وعكا وغيرها!
يطمح الملك الكبير في الخلود ككلجامش في الملحمة السومرية والزواج من الربة العذراء عناة ، يخاطبها بعد اختفائها على اثر ظهور له :
" أين اختفيت يا محبوبتي الغالية ؟/ اسمحي لي ببعض الوقت معك / فأنا أحبك وأريد أن أتزوجك / أريد بك أن أحمل صفات بعل / فأحمي نفسي من الخضوع لحكم الزمن /أريد الخلود والبقاء بلا موت /أريد أن أحيا ملكا إلى الأبد / لا يشق لي غبار/ ولا تسحب مني عصا الطاعة / أريد أن أمتلك الكون بيدي هاتين / أن أمسك الشمس والقمر كل بيد / فأنا لا ينقصني كملك سوى أن أعيش إلى الأبد /"
الخط الثالث :
موت عدو الحياة يلاحق بعل أينما حل . بعل مانح الحياة ومخصب الأرض ومانح الثماروالغلال وراعي تلقيح المواشي والأغنام وعاشق عشتار حيث ينام معها سبع ليال متتاليات .." وغزة مكلومة بحزن كئيب ،نظرا لغياب الرب بعل عنهم . إذ تذوي أوراق حقولهم ،وتتقزم محاصيلهم ، وتنتشر إشاعة مفادها أن الرب موت يحاصر أخاه الرب بعل ويضعفه ويحاول قتله وإرساله إلى سابع طبقة جحيم تحت الأرض،فيقاومون جحيم موت وذلك باللجوء إلى البحر في الصيف ليصطادوا السمك "
موت ينفث الجراد في وجه دانيال ومرافقيه وهم في طريقهم لتبليغ رسائل الملك العال للملوك : "وأما الرعب الذي فاجأ مسيرتهم فهو جراد متطاير ينفثه الرب موت في الفضاء المكفهر تحت شمسها الصحراوية ، فيكاد ظله أن يحجب الشمس عن مسيرته ، فتراه يتقافز ويصطدم بكل شيء حتى بوجه دانيال ،فيكاد يعمي العيون "
وموت ينشر الطاعون ويبيد البشر والحيوانات وفي صراعه مع بعل يتوعد بان يجعله " عنزة في شدقه / وضأنا في فكه / ليزيله من الوجود/ هو وجميع تابعيه "
في الفصل الذي يحمل عنوان ( موت ) ثمة تناص وتحوير واستعارات لجمل أو مقاطع من نصوص تراثية مختلفة منها ما هو توراتي حيث يسقط صبحي شخصية يهوة على موت فيبدوالمتحدث وكأنه يهوه وليس موت . فهو يتحدث "عن أرض وهبت لقومه ،وأنهم سيرثون الكنعانيين ،وأن كل مكان تدوسه بطون أقدامهم سيكون لهم ،ولن يقف انسان في وجوههم ، وسيخربون جميع الأماكن التي لا تخضع لهم ، ويردمون آبار مياههم ،ويحرقون غاباتهم ،ويخلعون الشجر المثمر من حقولهم ،ويأكلون شعوبهم الذين سيدفعهم موت إليهم ، دون أن تشفق عيونهم عليهم " ويعلن موت مؤكدا " كل من ذهب وراء بعل الكنعاني أبيده/ وأمحو اسمه من هذا المكان / أنا أبيد أطفالهم ونساءهم وحميرهم وأذلهم أمامكم"(1)
يلجأ الكاتب أيضا إلى نصوص تاريخية أوجاريتية كنعانية وغيرها فيوظف مقتطفات منها في متن النص كما هو( واضعا إياه بين أقواس صغيرة ) أو يحور فيه أو يستوحي منه. وهذا من حقه بالتأكيد خاصة وأن روايته تستند إلى تراث المنطقة الموغل في القدم . فنص الصراع بين بعل وموت مثلا موجود في التراث الأوجاريتي ، حتى تعابير التناطح والترافس موجودة كما هي وهذا ما يعطي مصداقية لتاريخية النص الأدبي كونه يطمح في التعبير عن عالم قديم ثبت وجوده التاريخي كما ثبتت معتقداته ، التي أثرت إلى حد كبير في المعتقدات اللاحقة ، بدءا من العقيدة اليهودية .
يتأجج الصراع بين بعل وموت . " يتلاحم العدوان ، فطورا ترجح كفة بعل / وطورا ترجح كفة موت / يتناطحان كعجول البرية / جولة لبعل وجولة لموت / كأفعتين تلدغ كل منهما الأخرى/ حينا يغلب موت ، وحينا يغلب بعل ، يترافسان كما تترافس الخيل / مرة يقع موت ومرة يقع بعل ."
في هذا النص القليل جدا من التحوير . فصبحي يستخدم كلمة ( العدوان ) بينما في النص الأصلي ترجمت (البطلان ). وفي النص الاصلي " كأفعى يلدغ أحدهما الآخر ) وثمة احتمال أن تكون الترجمة التي رجع صبحي إليها غير الترجمة التي رجعت إليها (2). ما هو مهم أنه لم يجرتغيير للنص التراثي . وفي دردشة معي عن الرواية قال صبحي أنه استند إلى نصوص تراثية قديمة ووظف بعضها أو استوحى منه ضمن قصة متخيلة ، حين تحدثت إليه عن قصة اللاوي الذي قطع جسد سريته إلى اثنتي عشرة قطعة، وهي قصة توراتية ترد في سفر القضاة /19، أورد صبحي شيئا منها في الرواية على لسان حكواتي يبوسي ، تذكرنا بتقطيع ست لجسد أخيه أوزوريس (في الميثولوجيا المصرية) إلى اثنتين وأربعين قطعة وتوزيعها على أقاليم مصر حتى لا تعثر أخته إيزيس عليه . ومع ذلك تعثر عليه وتعيد إحياءه بجمع أشلائه وتتزوج منه لتنجب حورس .
" يدخل بعل في صراع طويل مع موت . ينهك بعل ، فيبتلعه موت في أغواره ، يهبط في هاوية شدقية ، فتخرج النساء بالعويل والبكاء ،وتقشعر أبدان شجر الزيتون ، فيتجلد ويصاب بالجفاف،ويذوي شجر الكروم ، ويشح عطاء الماء، ويصير رأس الحمار بمائة شاقل "
تهب الربة عناة لنجدة بعل فتسعى إلى الربة الجدة يم في خضم أمواج البحار ،وتلتقي بها عند منابع الأنهار ،وتركض وسط مجرى المياه العظمى ، وفي قمم الجبال تصل إلى مقام إل صاحب الدهور ،وتجوب من أقاصي الأرض إلى أدانيها . تصل إلى أبهى الحقول القريبة من مقر الموتى. لن تسمح له بالقول :
" إن العلي القدير بعل قد مات / الأمير سيد الأرض لن يموت /ترفع صوتها إلى إل رحمن وتسأله قائلة / أيعجبك هذا التدمير / إنهم ينزلون ابنك بعل عن عرشه / ويقعدونه في الهاوية / ويعفرون جبهته بالتراب ، ويمرغونه فيه / ويمزقون جلده بالحجارة / وبموسى حادة يقطعون جديلته سبع قطع / ويجرحون وجهه وذقنه سبعين مرة "
تبكي عناة بعل بكلمات وردود فعل مؤثرة " صارخة في جنبات مقابر الموتى / بيديها تغطي عناة خديها/ وبأظافرها تخدش بشرتها /وبموسى حاد تقطع ضفيرتها /وبحجر مسنن تجرح ذقنها سبع مرات /ومثل تربة بستان تحرث ذراعيها وصدرها / ومثل أرض واد تضرب ظهرها سبع مرات "
تستنجد بربة الفجر بدرية " بدرية يا ربة الفجر رقي واحملي إلي أخي بعل " تنطلق بدرية "إلى حيث يقف إل ،وتسقط عند قدميه ،وتسجد فتحييه قائلة : سيموت بعل يا مولاي ، سيهلك الأمير سيد الأرض" لم تنجح عناة وبدرية في سعيهما .. "فتمضي سبع سنين عجاف وموت يتحكم في رقاب العباد "
يتم أنقاذ بعل أخيرا على يد الإلهة شمس" حيث تسلط عليه أشعتها الحارقة فينكسر بصره /ويغمض عينية اتقاء لأشعتها / ويضطرب قلبه ويرتعد بين ضلوعه / ويتهاوى أمام الأمير الأعلى بعل / وتظفر به في نهاية المطاف / فتشده بطرف ثوبه / وبحربة نيرانها تطعنه / فيخر مغشيا عليه /وعلى وجه الأرض ترميه / لتأكل الطيور لحمه / وتنهش جوارح السماء بقايا جثته / "
*****
يسير صبحي بهذه الخطوط الثلاثة مع روافدها بشكل متواز صعودا إلى النهاية محاولا قدر الإمكان أن لا يغلب خط على آخر . أول محطة للأمير دانيال في موكبه المهيب بعد انطلاقه من غزة تكون في حبرون ( الخليل ) حيث يلتقي الملك ( خليل الرحمن ) ويسلمه رسالة الملك العال . يوافق على نص الرسالة قائلا " صحيح اننا نؤمن ببعل ربا للخصب والنماء والحرية في بلاد كنعان ، ولكننا نؤمن أولا بأن إل هو الإله الأوحد الأحد للكون كله . لقد سمعنا كثيرا مما قيل ، وديننا لا يسمح بالعودة إلى وعر الغاب ، والفوضى في الخصب والنكاح حسب الإنفتاح الذي يراه الرب بعل "
بعد استراحة دامت ليومين شملت التنزه في كروم حبرون وأكل العنب الحبروني وشواء اللحوم ، انطلق موكب دانيال محملا بالهدايا إلى ملك يبوس ( القدس ) التي تحول اسمها إلى (اورسالم ) بعد أن بنى الملك الكنعاني (سالم) سورا عظيما حولها وبنى فيها هيكلا عظيما أيضا من سبعة طوابق تيمنا بالسموات السبع .!
يصف الكاتب ساحة المدينة بالقول " في أطراف الساحة العامة التي تتفرع منها طرقات المدينة تقف تماثيل متباعدة بأطوال مختلفة للأرباب عشيرة وبعل وعناة . وفي زاوية معتمة بعيدة يقبع تمثال مخيف للرب موت . وتنهض في وسط الساحة صخرة المذبح المقدسة أمام تمثال إل العظيم المنحوت من حجر أبيض ضخم ،ويتعاظم خلفهما هيكل اورسالم الكنعاني ، الذي لم يبن مثل معماره الحجري في البلاد ،والمبطنة جدرانه من الداخل بخشب الأرز ، بطول حوالي مائة ذراع ،وعرض يقدر بمئة ذراع ،وارتفاع خمس وثلاثين ذراعا . والذي تمكن رؤية قمة طابقه السابع من كل قمم جبال فلسطين وموآب وعمون وجلعاد وعجلون .
وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا هنا أن هذا هو الهيكل الذي ادعى بنو إسرائيل أنه هيكل سليمان !
ثمة حديث مطول عن أحياء القدس ووصف معالمها والحركة التجارية فيها وصناعتها وعملتها ، بحيث تبدو مدينة تعج وتنبض بالحياة .
يقدم الكاتب لنا الملك سالم حين يقف ليلقي خطابا في المحتشدين إيذانا بتدشين حفر نفق يجرمياه عذبه إلى المدينة من نبع جيحون الدافق !
يرد ذكر بنو اسرائيل كعبيرو في نهاية خطاب الملك سالم " وسنحمي حقول اليبوسيين ورعاتنا المنتشرين في الجبال من اعتداءات العبيرو، رعاة الأغنام المتسللين ببطء إلى ديارنا، ينتجعون الكلأ والماء في أراضينا ،ولا يتورعون عن السطو على ممتلكات الآخرين ! "
عند وصول دانيال إلى المدينة يضحي بسبعة جداء سمان على صخرة الهيكل ، ويخبر كاهن الهيكل ( جبريل ) برغبته في مقابلة الملك . يستقبله الملك ببالغ الإحترام ويمسح جبينه بزيت الزيتون.
بعد الإنتهاء من لقاء الملك يصحب الكاهن جبريل دانيال في جولة لمشاهدة معالم الهيكل والتجول في الأسواق.. إلى أن ينتهي به عبر شارع مضاء بالمشاعل إلى مصطبة الحكواتي
حيث تروى القصص القديمة من التاريخ بمرافقة زمار وطبال . يستمع دانيال مع المستمعين من الحكواتي ( بعليل ) إلى قصة الراعي اللاوي وسريته التي اغتصبها البنيامينيون ليلا بكامله ، فما كان من سيدها وزوجها إلا أن قطعها إلى اثنتي عشرة قطعة ووزعها على جبال يرعى فيها جماعة داود ، في محاولة منه لاستدرار الثأر لشرفه.
تطرقنا لهذه القصة التوراتية دون أن نخوض في تفاصيلها . تروى القصة مع القليل من الإضافات ودون عرض ردة الفعل التي قام بها بنو اسرائيل حيث شنوا حربا على بني بنيامين أودت بحياة عشرات الآلاف حسب التوراة .
من أهم ما حدث مع دانيال في أورسالم هو أن الرب إيل أرزقه حبا جديدا عوضه عن حبه الذي تبين أنه كان حبا لأخته ، فما أن وقعت عيناه على الأميرة فرح ابنة الملك سالم ، حتى
وقع في حبها . بدت الأميرة فائقة الجمال وهي تشرف على الجواري والخصيان والخادمات لترتيب مائدة العشاء الملكية ، فدهش بجمالها " ولم يستطع أن يمنع نفسه من إطالة النظرة الأولى ليشاهد خديها اللامعين الرقيقين الأبيضين وعينيها الزرقاوين الواسعتين ، اللتين ذكرتاه باتساع بحيرات بيت سان النقية ، وعندما لاحظته الأميرة فرح ، قابلته بابتسامة حيية من عينيها المنسوبتين إلى لؤلؤتين زرقاوين ، فاخترقت قلبه بسهم لم يعرف كيف يتقيه ، فخجل من التحديق فيها !"
*****
غادر دانيال اورسالم على أمل أن يعود يوما مع الملك العال خاطبا للأميرة فرح . وانطلق إلى ريحا ( أريحا ) ليسلم ملكها رسالة ، ثم يكمل طريقه إلى بيتسان حيث اللقاء المنتظر بينه وبين إيزابيل التي غدت أخته بعد أن كانت محبوبته وأختها حورية التي ينتظر أن تزف إلى ملك عكا الذي فقد زوجته وأسرته في حريق التهم القصر ، وما لا يقل أهمية لقاء أمه التي لم يقابلها من قبل .
بعد أن رحبت إيزابيل بالحبيب دانيال في القصر الملكي .. هرعت لتهتف إلى أمها " أمي أمي لقد جاء خطيبي دانيال ، أنا أحبه يا أمي ، فلتخرجي لا ستقباله والترحيب به ، إنه في انتظار أبي وفي انتظارك في صدر القاعة "
" جلس دانيال مترقبا قدوم بسمة الأم التي لم يرها من قبل ، متأملا تمثال الرب سان على مدخل القصر "
" تقدمت الملكة فرحة لتقابل الخطيب فشاهدت شابا عمليقا يقف أمامها بشعر منسدل طويل يتضاءل على قمة رأسه . ووجهه يذكرها بوجه زوجها الراحل أخيل . اختلطت عليها الأمور . وبدأت تتشكل في ناظريها صور ضبابية "
وبعد أن قدمت ايزابيل دانيال إلى أمها على أنه ابن الملك العال ملك غزة وأنه جاء ليطلب يدها . بدا دانيال مترددا وما لبث أن هتف بالحقيقة :
" في الحقيقة انا اسمي دانيال بن أخيل . ومنذ عدة أيام فقط اكتشفت أن ايزابيل التي أحبها هي من أقرب الناس إلي "
” بدأت الأحداث تتفاعل في مخيلة بسمة مستعيدة الأحداث .. وما لبثت أن غامت الدنيا في وجهها قبل أن تخطو خطوة باتجاه ولدها الحبيب ،وقبل أن ترتمي في أحضانه ، انهارت ، وسقطت على الأرض مغشيا عليها"
" لم تفهم ايزابيل ماذا حصل ، إذ انشغلت مع دانيال بإسعاف أمها ،وطلبت من جاريتها أن تشممها عطورا منعشة "
" بعد أن أفاقت الأم وشاهدته أمامها وتأكدت أنها لا تحلم احتضنته باكية وهي متهالكة على سريرها . وحدقوا الثلاثة إلى بعضهم البعض دون أن ينبس أحدهم بكلمة "
****
لا شك أننا وصلنا إلى الذروة الأهم دراميا في الرواية وهي ذروة القصة التي قام عليها البناء الروائي وكان حاملا لكل وقائعها ، التي لعب عليها الروائي بنجاح . وما يأتي بعد ذلك هو استكمالا للخطوط الرافدة االتي بثها الكاتب في الرواية وتتلخص في :
هزيمة موت أمام شمس وعودة بعل إلى الحياة . هزيمة الملك الكبيرمضروبا بالحجارة بعد أن ثارت عليه معظم الممالك واتحدت ضده ، ومن ثم موته ليتولى ولي عهده نقمد حكم اوغاريت .
وزواج حورية أخت ايزابيل من يائيل ملك عكا بحضور دانيال والعديد من الملوك . وثمة قصص عن التجارة وصناعة السفن في جبيل، إضافة إلى أساطيرعن طوفان شوح وأهل الكهف وليالي سمر وجنس،ومعابد وهياكل وتقديم أضحيات للآلهة. حيث حشد صبحي الكثير من الأحداث في الرواية لتغدو كنزا للتراث الكنعاني في 240 صفحة .
لم نتطرق حتى الآن للبناء الفني الذي اختاره صبحي لروايته . فالمسألة ليست بالسهولة التي سردنا أهم الوقائع بها .
*******
البناء الفني في الرواية :
أقام صبحي معماره على مخطوط أثري كنعاني عثر عليه أبنه عمر في كهف. وما جرى هو أن عمر شرع في قراءة المخطوط . والقارئ يتابع المخطوط حسب قراءة عمر له ، وتعليقاته في نهاية كل فصل ، ليذكرنا أننا نتابع المخطوط كما يقرأه عمر . كما أن صبحي أهدى المخطوط إلى ولده عمر قائلا :
"إلى ولدي عمر ، الذي اكتشف كهف عناة المتوج بالكنعانيات نافرات النهود كقطوف عنب النبيذ الناضجة "
قصة المخطوطات هذه اتبعها يوسف زيدان في (عزازيل) متأثرا (بإسم الوردة ) للإيطالي امبرتوايكو،واتبعه غيرهما بالتأكيد ، وها هو صبحي يسير على الطريق نفسه بغض النظر إن اطلع على الروايتين أو غيرهما أوحتى لم يطلع.
يستهل صبحي روايته بقصة بحث عمر عن الآثار وشغفه بها بعد "أن درس التاريخ والأحفورات في جامعة حيفا" وكيف ظهرت له الربة عناة وتحاور معها. وكيف عثر على المخطوط تحت بلاطة في مغارة " غائرة في أعماق التاريخ السحيق متوجة بتمثال محفور على رأس واجهتها الأمامية ، للنصف العلوي من امرأة جميلة تبرز ثدييها النافرين ،وعلى جانبي كتفيها قطوف كرمة "
لقد تم العثور على المخطوط بإلهام من الربة عناة التي ظهرت له " سأقدم لك يا عمر مخطوطات كنت قد دفنتها تحت الصخر ، مثبتتة تحت هذا الضريح الأيمن داخل عتمة المغارة
ويشرع عمر في الحفر إلى أن يعثر على بلاطة يستعين بعتلة لرفعها ، ليجد أسفلها جرارا تحتوي على مخطوطات كتبت على قماش الكتان . وما مخطوط الرواية إلا أحدها . حيث يشرع في قراءته لتعلمه في الجامعة اللغة التي كتب بها وهي أقرب إلى العربية .
أول ما قرأه عمر في المخطوط هو قصة الخلق التي تطرقنا إليها في بداية المقال .. يليه فصل ملحمي آخر عن الإله بعل وهيام الربة عشتار به " رأت الوحش المتحفز في بعل / أبصرت القوي الآتي من قلب الغابات / أعجبت به البغي المقدسة / فقعدت له على الشاطىء / تتمنى ان يخصبها / فشقت ثوبها نصفين / وألبسته واحدا منهما/ لتكسي عريه / فكشفت عن فتنتها وأبانت أسرار الجسد فرآها بعل وانجذب إليها /فألهبت مشاعره / ثم راودته عن نفسه / وقامت بدور المرأة اللعوب البغي المقدسة / فانقض عليها/ وبالقبلات دغدغ مفاتن جسدها / نام بعل مع عشتار/ سبع ليال متواصلات /
وكي يعطي الكاتب مصداقية تاريخية لنصوص المخطوط ، كتب ملاحظة هامشية في نهاية الفصل الأول على لسان عمر ، تشير إلى أن (دائرة الآثار الكنعانية الفنيقية الفلسطينية ) "تمعنت في المخطوطات وتأكدت من صحة الوثائق التي اكتشفها ، فقامت بطباعتها في كتاب تاركة بعض سطور وخرابيش كتبتها على هامش المخطوطات . ولكنها عدلت بعض الكلمات ، فصارت مثلا كلمة ( إل علي ) تكتب ( العلي ) و( إل قدير تكتب القدير) مع العلم أن إل هو إله الكنعانيين الأوحد آن ذاك ،والذي اتضح فيما بعد ليصبح ألل ، ثم اكتمل بكلمة الله "
هذه الهوامش التي تشير إلى دائرة الآثار وردت في أكثر من صفحة في الرواية كالإشارة إلى أسطر ممحية من المخطوط لتقادمه ، رغم أن الواقع قد لا يحوي دائرة آثار تحت الإسم الذي أوردناه . ثم إن ذلك قد لا يتفق فنيا مع متابعة القاريء لمخطوط يقرأه عمر حسب ما عثر عليه . فالهوامش تشير إلى أزمان لا حقة وليس إلى زمن قراءة المخطوط ، عكس التعليقات التي يضيفها عمر في نهاية كل فصل والتي تتفق مع زمن القراءة .
******
لا شك أن صبحي كان يبحث عن فضاء تاريخي للإنسان الفلسطيني وقضيته بعد أن جهدت الحركة الصهيونية لطمس تاريخه وهويته حين ادعت أن هذه الأرض التي منحها يهوة لليهود
من قبل هي أرض بلا شعب متجاهلة الحروب التي خاضتها اسرائيل مع الفلسطينيين والعرب في التاريخ الحديث ومتجاهلة الكثير من الحروب التي خاضها بنو اسرائيل مع الفلسطينيين والكنعانيين من شعوب المنطقة في التاريخ القديم ، حيث أباد يوشع بن نون قرابة ثلاثين مملكة كنعانية حسب ما تذكر التوراة ، بما فيها أريحا التي أباد جميع سكانها ودوابها ومواشيها عدا العاهرة راحاب .
يورد صبحي في مقدمة روايته عبارة لكيث وايتلام مؤلف كتاب ( اختلاق اسرائيل ) يقول فيها : " يحتاج التاريخ الفلسطيني أيضا إلى أن يخلق لنفسه فضاء حتى يتمكن من انتاج روايته الخاصة للماضي ، وبهذا يساعد في استعادة اصوات السكان الأصليين التي تم اسكاتها في خضم اختلاق اسرائيل القديمة " وهي ( العبارة ) ما يختتم بها عمر تعقيبه في نهاية الرواية
وهذا ما جهد صبحي للقيام به ، باذلا كل طاقته لإحياء هذا التراث العظيم وإعادته إلى النور ، ليقف في مواجهة الزيف الآخر الذي صار فضاء لعالم لم يكن .
لقد قدم صبحي عملا ملحميا ممتعا ، لم يسبقه إليه أحد ، القى فيه الضوء على عوالم كانت شبه مجهولة في تراثنا ، وما أحوجنا إلى ترجمة هذا العمل لأكثر من لغة ، للتعريف بحضارتنا القديمة التي طمست , ولم يعد أحد يتذكرها .
م. ش.
( 1) تثنية 11/24 و25 و 12/2و3 و صموئيل أول 17/ 44
(2) مجلة الموقف الادبي العدد 292 آب 1995








(23)
التقدم في مواجهة التخلف في
" زمن وضحة"
بعد سبع روايات هي : ظلام النهار . جنة الجحيم . هوان النعيم . برد الصيف . أميرة . عش الدبابير . وأربع مجموعات قصصية والعديد من النشاطات الثقافية، يطل علينا الأديب المقدسي جميل السلحوت بروايته الجديدة " زمن وضحة " الصادرة عن " مكتبة كل شيء . حيفا . 2015" بغلاف للفنان شربل إلياس .
" زمن وضحة " تضعنا من سطورها الأولى أمام واقع متخلف لقرية فلسطينية في الضفة الغربية بعد نكبة 1948 ، حيث اضطهاد النساء ، وسيادة الرجال ، والتقيد بالعادات والتقاليد البالية ،والتدين دون فهم للدين ، والإيمان بالجن والشياطين . وزواج الفتيات الصغار وعدم تعليمهن،وتعدد الزوجات ، والمشاجرات العائلية والعشائرية،والعلاج بالكي بالمسامير والقضبان ومناجل الحصاد، وشرب الماء من بسطار الزوج ! ووضع الرماد على الجروح ،والولادة على أيدي دايات حمقاوات تؤدي إلى وفاة الأم . والحسد والغيرة والبغضاء والكره والحقد وغير ذلك من سلبيات المجتمع . يرصدها قلم جميل بلغة مقتضبة لا تخلو من سخرية توظف مفردات الموروث الشعبي في شخصيات نسائية ورجالية أبرزها المختار "فرج أبو العليص " و"أم حمدان " والطبيب الشعبي" أبو فالح " وزوجته" أم فالح "
في مواجهة هؤلاء يقدم جميل شخصيات أيجابية أبرزها "الدكتور ممدوح " وزوجته "ريتا" ، و"نسرين " والمختار "أمين " و"وضحة " و"بهية" و"حمدان "
يسعى الطرف الإيجابي بقيادة الدكتور ممدوح إلى القضاء على العادات البالية بالمعالجة والولادة في المستشفيات وشق الطرق في البلدة وبناء المدارس وتعليم الفتيات وجلب المياه والكهرباء إلى البلدة وفتح العيادات الصحية . فيما يعارض الطرف الآخر بقيادة المختار فرج أبو العليص مطالبا ببناء مسجد أكبر رغم وجود مسجد في القرية يتسع لمئتي مصل ،ولا يرتاده خلال أوقات الصلاة أكثر من عشرة أشخاص حسب قول الدكتور ممدوح .
ينتصر الطرف الإيجابي الذي يقوده الدكتور ممدوح بإنشاء صندوق تعاوني في البلدة لشق الطرق وإنشاء شركة باصات تربط البلدة بالمدينة . ويهزم الطرف السلبي الذي تنتهي الرواية بالإعلان عن موت أبرز ممثليه " المختار فرج أبو العليص "

" ... ونادى المنادي من أعلى مئذنة الجامع بأن المختار فرج أبو العليص قد مات "
هذا هو العالم الذي تناوله جميل السلحوت في خطابه الروائي المقتضب جد ا .. حيث صور هذا العالم الثري بوقائعه والغني بشخصياته التي قاربت الستين شخصية في حجم لا يتجاوز (220 ) صفحة من القطع الوسط .

حفلت الرواية بالعديد من المشاهد المؤثرة التي تدعو للسخط كمشهد ولادة رمانة :
" غفت وضحة بعد منتصف الليل . مع ساعات الفجر الأولى استيقظت مفزوعة على صراخ رمانة زوجة حمدان شقيقها . ركضت إلى غرفتها تستطلع سبب صراخها . وجدتها في حالة مخاض تجلس القرفصاء بمساعدة والدتها وحماتها اللتين تحاولان رفعها من تحت إبطيها كي لا تسقط . يصحن بها :
"أضغطي لا تخافي سينزل المولود . شدي حيلك ألله يعينك "
وتطلب الداية الحاجة صبحة إحضار بسطار زوج رمانة لتشرب منه كأس ماء لينزل المولود !! تهرع وضحة إلى حمدان لينزع فردة بسطار من رجله بعد إلحاح أبيه عليه ! فهو غير مقتنع بسقي الماء من البسطار . تحضر وضحة بالبسطارالذي تفوح منه رائحة كريهة . تضع الداية فيه كأس ماء وتدع رمانة تشربه فيما وضحة تبكي . وتضرعات النساء تعلو والزبد يخرج من شدقي رمانة يرافقه صراخ مؤلم ثم أنين" يقطع نياط القلوب "
المشهد طويل . النتيجة : ينزل الجنين وينزل معه رحم رمانة . تعيد الداية الرحم إلى داخل البطن لكن رمانة تموت .
مشهد يثير الرعب والسخط . وثمة مشاهد أخرى كالمرأة التي تموت بعد أن ضربها زوجها بالبسطار . ومشهد الكي بالمنجل . وغيرها ..
وثمة مشاهد تثير الضحك أيضا كمشهد تساؤل أبو فالح ( الطبيب الشعبي ) عن رجله التي قطعت في المستشفى بعد أن عالجها بالكي ، عما إذا صلى أبناؤه عليها ودفنوها ! وهم دفنوها فعلا لكن دون صلاة ، لكنهم صلوا على " أبو فالح" نفسه حين مات ودفن إلى جانب رجله .
وثمة مشاهد أخرى لا تخلو مما يثير الضحك .. وقد أصبغ جميل على شخصياته السلبية أسماء مضحكة كالأسماء التي نسبت إلى البسطار . أو إلى الجحش . أو العليص. أو أسماء مثل : زميتان ، أو جحيش الضبع ، أو جعبورة ،وغيرها .
وحفلت الرواية بمشاهد عاطفية كولادة بهية التي كان يظن أنها عاقر . ومشاهد أفراح وأعراس وغناء وقصص تراثية .. وتعابير شعبية مضحكة .. ومشاهد الشاب عارف اليتيم الذي جننه الناس وهو غير مجنون ، كان يعاني من الشعور بالإضطهاد فعالجه الدكتور ممدوح وعلمه وشغله وزوجه وجمعه بأخته "نعمة " فكان لقاء مؤثرا .

اتبع جميل أسلوبا بسيطا ولغة بسيطة في بناء خطابه الروائي ودون أي إسهاب على الإطلاق . حتى أنه لجأ إلى ما يشبه الحوار المسرحي حين كان ينتقل من شخصية إلى أخرى خلال حوار يحضره أكثر من شخص أو جماعة ، كأن يكتب اسم المتحدث ثم قوله بعد نقطتي القول . والوقائع تجري صعودا إلى النهاية .
تعمد جميل أيضا أن يغيب القضايا الوطنية والسياسية في تلك المرحلة التي تلت النكبة خاصة وأن القضية الوطنية شبه مشبعة نثرا وشعرا ولمدة طويلة . ولم تأت القضية إلا كذكرى ولحظات حنين إلى المدن المستلبة كتذكر نسرين ليافا وبيارات البرتقال .
إنها رواية التقدم في مواجهة التخلف وقد نجح جميل في تقديمها لنا بسلاسة ويسر.

****

* عارف الحسيني " كافر سبت " جميل !!
يدخل عارف الحسيني عالم الرواية المقدسية بثبات وبنفس جديد يضاف إلى الرواية الفلسطينية لا يخلو من كوميديا سوداء . في روايته الواقعية جدا ( كافر سبت ) الصادرة عن دار الشروق 2014، يتناول عارف حياة اسرة مقدسية من اواسط القرن الثامن عشر حتى الزمن الحالي عبر وقائع ومذكرات في حياة حفيد يعيش في الحاضر .
*من الرواية : العانسات العذراوات :
" بقيت عماتي معتزات وفخورات بعذريتهن وعنوستهن حتى آخر يوم في حياتهن ، وفي كل نقاش نسوة حول ما هو بين الفخذين ،كانت تقوم إحداهن وتقول باللهجة المقدسية :
" يوه أنا شو بعرفني بالبكارة شيت البنات ، شو انسيتوا ؟ إحنا غشمى " !
كان الموضوع مدعاة للفخر عندهن ،وعندما كانت عمتي الوسطى تحتضر في المستشفى وهي في عقدها الثامن من العمر ومصابة بمرض السرطان في النخاع ، ذهبت لزيارتها في يومها الثاني هناك ، فسألتها عن حالتها ووجدتها مستعدة ومجهزة أغراضها لمغادرة المستشفى ،وبكل عصبية ألحت وطلبت :
- خذني يا عمتي من هون ، بدي أروح معك هلأ .
استغربي طلبها وسألت عن السبب فقالت :
- صار لي سبعين سنة ما شاف أي رجال غريب إشي مني ،وعلى آخر العمر واحد داخل وواحد طالع بدهم يكشفوا علي .
اقتربت مني وهمست في أذني :
- أنا لسا بنت بنوت11 ياعمتي !"( ص 39 /40 )
تقصد أنها ما تزال عذراء .
ويتابع عارف أو نبيه حسب الرواية :
" أنجب جدي أبناءه جميعهم في ست ليال موزعة على عشرين عاما ، لكنه لم يتحمل مسؤولية أي شيء يتعلق بالاسرة والأولاد . ولكن أهل زمان على حد قول عمتي الشريفة ، كانوا مخلصين لأبيهم الأمريكي ، الذي لم يورثهم إلا بعض الدولارات التي جاء بها بعد غربته الطويلة ، فاشتروا بها بعض الأسهم في سينما القدس ، الكائنة في شارع الزهراء ، وسط البلدة الجديدة أي خارج السور . أعتقد أنهم فعلوا ذلك لإدمان عماتي على مشاهدة الأفلام العاطفية بالأبيض والأسود ، فقد كن يعشقن عماد حمدي وكمال الشناوي ، الممثلين المتألقين أيامها .ولأن من يشتري أسهما يحصل على أولوية في الجلوس في مقاعد الدرجة الأولى بسعر جيد . وبقية الدولارات وضعوها في شركة الكهرباء، ولكنهم لم يعلموا أن هذه الأسهم لن تبقى لها قيمة بعد نكسة العام 1967، فسينما القدس أغلقت ابوابها وتحولت إلى خرابة بعد الحرب . أما شركة الكهرباء فقد منعت بعد مرور سنوات قليلة على الإحتلال من توليد الطاقة ،وفرض عليها شراؤها من شركة الكهرباء الإسرائيلية القطرية وتوزيعها على المشتركين فقط ! أما بقية الأعمال فقد بدأت تعاني بسبب القوانين والإجراءات الإحتلالية التي تعمل بشكل منهجي وطويل الأمد من أجل الترحيل البطيء وإفراغ الأرض من سكانها ، لتتحقق مقولتهم الشهيرة :
-أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
ولكنهم لم يدركوا أن الفلسطيني باق في بيته وأرضه مهما فعلوا ، فمفهومنا عن الأرض والوطن وارتباطنا ببيوتناوقبورنا ، يختلف تماما عن مفهومهم عنها . ( 40/41)
أما عن عنوان الرواية الطريف ( كافر سبت ) فقد جاء من عمل العربي في بيوت اليهود يوم السبت ، الذي يحرم على اليهود القيام بأي عمل فيه . فيستدعون كافرا عربيا ( غير يهودي )
للقيام بأي عمل يحتاجون إليه . وقد اشتغل بطل الرواية لبعض الوقت في هذه المهنة ، وخاصة في الأعمال الكهربائية والمنزلية.




















الروائي والفنان محمود شاهين في سطور
من مواليد القدس 1946
درس الصحافة في القاهرة ( في معاهد إعلامية وصحفية )
ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية والفلسفة دراسة خاصة .
روائي . قاص . فنان تشكيلي . باحث . ناقد .مفكر. ويكتب الشعر كهواية .
*أعمال أدبية :
1- نار البراءة – قصص – دار ابن رشد – 79
2- الخطار – قصص – دار القدس – بيروت – 79
3- الأرض الحرام – رواية – وزارة الثقافة – دمشق – 83 ( ترجمت إلى التركية عام 2002 )
4- الهجرة إلى الجحيم – رواية – المؤسسة الجامعة – بيروت – 84
5- الأرض المغتصبة – رواية – دار الشيخ – دمشق – 89
6- غوايات شيطانية – رواية ملحمية - نثر وشعر (ترجمت إلى الألمانية عام 99 ) ( نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت) وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008)
7- موتى وقط لوسيان – قصص – وزارة الثقافة الفلسطينية – رام الله – 98
8- رسائل حب إلى ميلينا . دار البيروني -عمان . بدعم من وزارة الثقافة الأردنية
9- ألملك لقمان . ملحمة روائية .جزءان.نشرت على شبكة الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009)
10- أبناء الشيطان – رواية قصيرة دار البيروني . عمان 2014
11- أديب في الجنة . ملحمة روائية فلسفية تكمل ملحمة الملك لقمان . قيد النشر .
12- رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي . فصول من رواية لم تكتمل. نشرت على النت.
منشورات على النت:
- الخالق . الخلق . الغاية . دراسات في العقائد والأساطير الشرقية .وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهر الخالق،والغاية من الخلق.تخلص إلى أن الخالق محبة مطلقة وطاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه ، وأن الغاية من خلق البشرهي أن يكونوا خالقين ، لمساعدة الخالق في عملية الخلق ، فعملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق عند محمود شاهين ، وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية التي لن تكتمل عملية الخلق إلا بها .
- شاهينيات : مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة والخلق والخالق ،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق والغاية من الخلق : 1312 مقولة ومقالة منشورة حتى 25آذار 2017. نشرت على النت في سبعة أجزاء في موقع شاهين في الحوار المتمدن.
- أيوب التوراتي وفاوست غوتة ( دراسة مقارنة في عدة فصول)
- ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة . ( بحث تاريخي نقدي في عشرة فصول يتطرق إلى تاريخية شخصية المسيح ونشأته ومن ثم رسالته ومن ثم إلى فلسفة الألوهة ومن ثم النظرفي شخصية المسيح من وجهة نظر صوفية )
- قراءة نقدية لسفر التكوين التوراتي .
- قراءة نقدية لطوفان نوح .
قراءة نقدية لأسفار التوراة كلها . عشرة أجزاء . منشورة في موقع الكاتب في الحوار المتمدن . وفي موقع كتابات جديدة للنشر الألكتروني ، إضافة إلى مؤلفات أخرى.
- دفاعا عن محمد ( رد على كتاب العفيف الأخضر " من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ ")
- السلام على محمود درويش . ( أشعار عن ديوان محمود درويش ، لماذا تركت الحصان وحيدا )
- مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها :
تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
التحالف بين يهوة والشيطان
- فصول من روايات
- قصص قصيرة وأشعار.

*أعمال صحفية :

فلسطين أرض وحضارة – الدار الجماهرية – طرابلس – 85
حرب المواجهة في لبنان – الاعلام الموحد – دمشق – 83

*- دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية وفصلية أهمها :

- التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
- الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية سميرة عزام
- مقالات في الرواية الفلسطينية
- مقالات في الرواية العربية
- مقالات في الرواية العالمية
- مقالات في القصة الفلسطينية

مخطوطات لم تنشر :

- الأرض المغتصبة – جبل المنطار, رواية
- الأحزان المتعانقة – رواية
كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها, وبيعت بعض قصصه إلى السينما والتلفزيون .
- حولت قصته "نارة البراءة" إلى المسرح وعرضت في عمان عام 1991

*أقام محمود شاهين خلال سني حياته الفنية ما لا يقل عن ثلاثين معرضا شخصيا في العديد من مدن العالم منها باريس وبرلين وفينا والقاهرة ودمشق والناصرة والشارقة وعمان ووارسو ،عدا معرضه الدائم في دمشق لقرابة خمسة عشر عاما ، بحيث أصبح له ما لا يقل عن سبعة آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . و أقام معرضه الشخصي االرابع في عمان منذ أن عاد إليها منذ تموز 2012 ، في منتدى الرواد الكبار خلال شهري تموز وآب 2016

*مر شاهين بأكثر من مدرسة فنية خلال مشواره الفني إلى أن انتهى إلى أساليبه التي تنتمي إليه وحده . وأصبحت تقنيته في الرسم الجداري مميزة جدا ، فهو يمارس الرسم والحفر والزخرفة في معظم أعماله المستوحاة من الأساطير والتراث القديم والشعبي الحديث. وتزخر بعض لوحاته الكبيرة بما لا يقل عن أربعة وعشرين تشكيلا مختلفا ‘ فيما يزخر بعضها بقرابة أربعين .
لجأ شاهين إلى الرسم الذي كان هوايته ،حين تعثر نشر بعض أعماله الروائية لجرأتها وصداميتها مع الواقع . وقد نشر بعض أعماله التي كانت ممنوعة فيما بعد ، ك" غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس "و ملحمة ( الملك لقمان ) عن دار نينوى في دمشق .
* كرمته وزارة الثقافة الفلسطينية في جناح فلسطين في معرض الكتاب 2016 وأقامت معرضا لبعض أعماله التشكيلية في بيت لحم آذار 2017

*مقتنيات عامة لبعض الأعمال الفنية :
المتحف الوطني بدمشق – لوحتان (70*100 )
وزارة الثقافة الفلسطينية
صحيفة الأخبار – مصر
مكتب م.ت.ف – دمشق

المركز الثقافي السوري - باريس
متحف القدس
المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة – عمان
******
موقعي الشخصي في الحوار المتمدن
http://www.ahewar.org/m.asp?i=7683


الفهرس:.................................................................الصفحة
مقدمة : للنكبات محاسنها أيضا........................................... (2)
1- البطولة الجماعية في " فرس العائلة " ............................(5)
2- عناق الشكل والمضمون في " مديح لنساء العائلة " ..............(13)
3- ملحمتا محمود شقير بين خصوصية الخطاب الروائي
والإستلهام المقصود ....................................... ...... (19)
4- " أصابع لوليتا " حب وألم وفهم تقليدي لسفر أيّوب .......,..,.... (21)
5- تألق الخطاب الملحمي في " زمن الخيول البيضاء " ........,.,.,.,(24)
6- " قناديل ملك الجليل " ملحمة الفارس الأسطورة .................. (33)
7- جنى الحسن " أجيال الحب والتصالح في " طابق 99 " ......... (45)
8- " شرفة الفردوس " لواعج النفس الإنسانية بين قدرين ...............(48)
9- " ترانيم الغواية" في مدينة السماء : موطن الآلهة ومقام الأمم
والأنبياء ....................................................................(50)
10- " عزازيل " صراع الكنائس حول طبيعة المسيح وتمرد
الجسد على قيود الشريعة ................................................(65)
11- ماذا فعلت بعلاء الأسواني في " نادي السيارات " ........... (68)
12- " مملكة الفراشة " ومملكة مارك زوكير بيرج !....... ( 71)
13- المحطات الضائعة من زمن جون بوسمان ................ (73)
14- القصة الواقعية في أدب عادل بشتاوي..................... (75)
15- رشاد أبو شاور . القامة الشامخة في الثقافة الفلسطينية ....(82)
16- " سأرى بعينيك يا حبيبي" والتحوّل من البداوة إلى المدنية ..(86)
17- " وداعا يا زكرين " سيرة بلدة فلسطينية .................... (95)
18- سعود السنعوسي يحلّق عاليا في " ساق البامبو ".......,..,(98)
19 - أقل الكلام في خير ما سطرته الأقلام ................ (102) 20- نخز وأدب ونقد وعرض عمل فوقي جدّاً.......... (104)
21- جمال ناجي : " غريب النهر سفر الشتات الفلسطيني "...... (106)
22- كنعان تنهض من أعماق التاريخ في" قصة عشق كنعانية " .... (112)
23- التقدم في مواجهة التخلف في " زمن وضحة "........... (122)
24- عارف الحسيني " كافر سبت " جميل !......................(124)
25- محمود شاهين في سطور ........................................ (126)
26- الفهرس ............................................ (130)



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انقذوا أنفسكم وأطفالكم من كورونا!
- نقد التوراة في رواية - عديقي اليهودي- لمحمود شاهين
- إيمان محمود أبو الجدايل
- لماذا أراد الخالق أن يتجسد في الوجود وفي الانسان ؟
- اليهود لا يشكلون أمة أو شعبا . رائد الحواري
- عديقي اليهودي رواية فكرية تاريخية سياسية لمحمود شاهين
- الخلق بين الطاقة العقلية والطاقة الخالقة والقوى الطاقوية الن ...
- شطحات ابن عربي في وحدة الوجود!
- لماذا وجودنا افتراضي ؟
- - مهزلة العقل البشري-
- الله لن يحرر فلسطين !
- مادة وطاقة جسم الانسان من مادة وطاقة الخالق.
- قصة الله .العقل الخالق في وجوده الذاتي!
- من أين جاء الوجود؟
- هل جاء الوجود من العدم ؟
- في البدء كان العقل الطاقوي الكوني ( الله ) إن شئتم!
- زمن الخراب (رواية)
- لا يعقل أن يدمر الخالق ذاته!
- رواية زمن الخراب لمحمود شاهين
- - رعب - المشهد الثاني من رواية - قصة الله -


المزيد.....




- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...
- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - مقالات في الرواية والقصة