أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - زمن الخراب (رواية)















المزيد.....



زمن الخراب (رواية)


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 6453 - 2020 / 1 / 2 - 02:50
المحور: الادب والفن
    


زمن الخراب
"رواية فكريّة تاريخية اجتماعية "












(1) ما قبل كابوس الانتحار!
وهو يتأمل المسدس الذي ابتاعه لينتحر به، إذا ما ضاقت الدنيا أكثر في وجهه، مثلت في مخيلة الأديب محمود أبو الجدايل ، صورته وهو ينحشرفي قبو مطاردمشق مع مئات الفارين من جحيم الحرب المستعرة في سوريا منذ أكثر من عام .
لم يتصور يوما أنه سيجد نفسه في هذا الوضع المزري مع مئات النساء والرجال والأطفال، وسط لهيب حر خانق ، وازدحام شديد.
حين استيقظ من النوم متأخرا ذلك اليوم ، الثامن عشر من تموز، 2012 تناهى إلى مسمعه قصف مدفعي عنيف ناحية الميدان والتضامن. ألقى نظرة عبر باب الصالون . شاهد نسقا منتظما من دخان القذائف يزداد طولا كلما سقطت قذيفة جديدة . لم يسمع أو يرى مثل هذا القصف طوال ستة عشر شهراً على بدء الاحداث في سوريا .
سارع إلى عمل الشاي الذي اعتاد أن يبدأ نهاره به ، وفيما هو يحتسيه جاءه هاتف من ابنه في عمان يطلب إليه مغادرة دمشق فورا. ولم تمر سوى دقائق حتى جاءه هاتف من ابنته في الكويت تحثه على المغادرة وجواً لأن طريق البر ليست آمنة . وأخبرته أنها ستحجز له على الأردنية .
" لم يفكر حتى حينه في ترك بيته مهما حدث . كان يفضل الموت فيه على مغادرته . ففيه يكمن نسيج روحه ودفق مشاعره وأحلامه وعقله ، ذاكرته وذكرياته ، مؤلفاته ومخطوطاته ، لوحاته ومنحوتاته ، ،تحفه ومقتنياته . مكتبته الهائلة الزاخرة بأهم الكتب التي يحتاج إليها ، وخاصة تلك المتعلقة بالفلسفة وبأبحاثه في المعتقدات الدينية والأساطير لدى الشعوب . كان يفضل الموت مع عالمه هذا على أن يغادره عارياً من كل شيء ، إلا من دماغ يحتاج إلى دهر لاستعادة بعض ما يختزنه من معرفة وذكريات إلى النور . وماذا عن دمشق ، دمشق المدينة التي فضل العيش فيها على أجمل مدن العالم، هل سيترك دمشق ؟ محال ! بل مستحيل ! "
" لكن مكالمة ابنه جعلته يدرك أكثر من أي وقت آخر أن ينجو بنفسه ، فما الذي سيجنيه من الموت مع أعماله ؟ ليكسب نفسه على الأقل ، وإن كانت بلا ذاكرة ، وبلا روح ، وبلا حبيبة ، دمشق ! وبلا أم ، دمشق ! وبلا حضن ، دمشق ! مجرد هيكل جسدي آيل إلى السقوط .."
ولم يجد نفسه إلا وهو يهتف بلوعة من أعماق دخيلته ودمعتان تتدحرجان على وجنتيه "آه يا دمشق ! آه ياحزني الكبير"
كانت دمشق بالنسبة إليه أمه بالرضاعة ، كما كان يقول في بعض حواراته الصحفية ، أما القدس فلم تكن إلا أمه بالولادة ، لكنها لم ترضعه قطرة من حليبها ، ولم يعرف طعمه ، رغم محبته لها.
دمشق هي من ألقمته ثديها منذ أن لجأ إليها ، ومنحته كل حنان الأمومة ، وأغدقت عليه معرفتها الشاملة ، حتى كونت شخصيته .
( 2) الهروب !
اعتاد العيش وحيدا منذ أكثرمن عقدين من الزمن . ألف الوحده إلى حد لا يوصف . وشك في أنه سيكون قادرا على العيش مع ابنه وزوجته . زفر نفساً عميقاً وهو يحتسي آخر جرعة من الشاي ، ونهض .غسل وجهه وارتدى ملابسه . لا بد من تحويل بعض النقود إلى عمان . له نقود على ابنه منذ أكثر من عقد من الزمن ، لكنه قد لا يعطيه إياها . سبق له أن احتاج إلى نقود وطلب منه . ادعى أنه لا يملك نقودا .. ومنذ ذلك اليوم قررأن يبقي نقوده تحت تصرفه . شرع في سحب بعض نقوده من البنك على دفعات ، حين أدرك أن البنك لن يعطيه كامل نقوده دفعة واحدة ، وهي لم تكن تتجاوزالخمسين ألف دولار جمعها من ريع لوحاته ، التي كان يعرضها في محلين في دمشق القديمة ، أغلقهما منذ بدء الأزمة . كما أنه أقام بعض المعارض في باريس وبرلين وبلدان أخرى .. كانت نقوده موضوعة بالدولار واليورو .. سحب معظمها ولم يبق إلا على خمسة آلاف يورو وبعض الدولارات.
حين ذهب أول مرة لسحب جزء من النقود استدعته مديرة البنك لتقول له " المواطن الشريف لا يسحب نقوده في هذه الظروف التي تمر بها البلد "
اضطر أن يخبرها أن دخله توقف وأنه لن يسحب إلا ما يكفيه لمصروفه !
كان يحتفظ بالنقود داخل كتب ويركنها إلى المكتبة . شرع في تناول بعض الكتب وأخذ المغلفات منها . ثمة نقود لم يضعها في البنك ، من الريال السعودي والدرهم الإماراتي والجنيه الإسترليني وغيرها من النقود . معظم زبائنه كانوا يدفعون له بعملاتهم . ووجود نبذة عنه في أشهر الكتب السياحية العالمية عن سورية ولبنان، وتحديد موقعه على خارطة دمشق القديمة ، جعل معرضية محطة لبعض الزائرين لا بد منها . وكان يقوم بتصوير بعض قصصه ورواياته المترجمة إلى لغات مختلفة ويبيعها لمن يريد من السياح . ونظرا لأن النبذة عنه في كتاب ( لونلي بلانت ) السياحي العالمي ، كانت بعنوان " الفيلسوف ، الشاعر ، الرسام " إضافة إلى عشرات الحوارات والكتابات بلغات مختلفة التي كان يعلقها على جدران المحل ، فإن معظم الزائرين كانوا يرغبون في التعرف على فلسفته ، وهذا ما دفع راهباً دنمركياً يعمل مسؤولا لكنيسة في الكويت أن يحاوره على مدار يومين ليتعرف على فكرمختلف لم يعرفه أو يسمع به من قبل . وليتمنى لو أنه في مقدوره أن يبوح بهذا الفكر لرواد الكنيسة .
وهو يقترب من اوتوستراد الزاهرة الجديدة المؤدي إلى الصناعة وهدير المدافع يتناهى إلى مسامعه من ناحية الميدان والزاهرة والتضامن ، سمع صراخا قادما من ناحية الجسر المحلق .
أسرع الخُطا ليطل على الشارع . هاله ما رأى ، كان بحراً بشرياً يفر مذعوراً من مناطق القتال عبر الاوتوستراد . أطفال . فتيات. شباب . رجال. نساء. شيوخ . يجرون أو يسيرون بسرعة هاربين من جحيم الحرب .رجال ونساء يحملون أطفالا صغارا ويعدون . بعضهم يقودون أطفالا ويحملون أطفالا آخرين . بعضهم يصرخون ، وبعضهم يتأوهون أو يتحسرون وبعضهم يفرون بصمت . وجوههم تعكس رعبا فظيعا ، ألما ، حزنا ، غضبا ، جنونا . وثمة حافلات تطلق أبواقها بين الجموع لعل فسحة تفتح لها لتمر .
أطبق بيديه على أنفه وفمه ومقدمة الهلع تقترب منه وبعض الفارين من الشباب والكهول يتجاوزونه .
أين سيجد حافلة تقله إلى السوق في هذا الجحيم ؟ وهؤلاء الناس إلى أين سيهربون ؟ هل لهم أقارب في وسط المدينة ؟ أم سيلجأون إلى المدارس والحدائق والطرقات ؟
تأوه من أعماقه وأطلق العنان لساقيه ، حين أدرك أنه سيذهب إلى السوق سيرا على الأقدام ، فيما كانت دخيلته تصطرع بالغضب والجنون والألم والرعب .
















(3) الحشر!
لم تكن تلك المرة الأولى التي يشعر فيها الأديب محمود أبو الجدايل بالرعب . ونظراَ لأن بيته في المنطقة المحاذية للمحلق الجنوبي في الزاهرة الجديدة ، فقد عايش كل الإنفجارات التي حدثت على المحلق .
يوم الإنفجارين الأخيرين كان قد نام متأخراَ بعد أن أخذ حبة منوم تساعده على النوم ، وحين هز الإنفجار الأول البناء وجد نفسه يقفز عن السرير ويهرع إلى النافذة ، وما أن فتحها حتى دوى الإنفجار الثاني ليتعفر وجهه بالتراب والهواء الساخن ! سارع إلى الإبتعاد عن النافذة والهروع إلى الحمام ، لم يكن هناك جروح في وجهه مجرد تراب خفيف . غسل وجهه . دخل المطبخ ليجد أن بابه قد فتح من جراء الإنفجار ، فيما تناثرت شظايا صغيرة من قطع خشبية على الأرضية . لم تكن الشظايا من باب بيته ، لكن كيف دخلت حين ارتطمت بالباب ليفتح ؟ لا شك أن قوة ضغط الانفجارسبقت الشظايا ، ففتحت الباب لها ! جيد أنك لم تكن في المطبخ يا محمود . كان باب المطبخ هو الوحيد من نوافذ وأبواب البيت المواجه لمكان الإنفجار .
خرج إلى الشرفة رأى بشرا يهرعون ناحية مكان الإنفجار . وثمة هرج بين الناس . أحدهم يقول زجاج نوافذ البنايات المواجهة للإنفجار تحطم .هناك بعض الجرحى من الأطفال والنساء اللواتي كن في المطابخ !
**********
بعد قرابة أربعين دقيقة من الخطو السريع بلغ الصراف الذي يقصده في الحريقة، ليحول له نقودا إلى عمان . راح يخرج عملات مختلفة من مغلفات أخرجها من حقيبة كتفه ، فيما الصراف يقوم بتحويلها إلى دولار.
- تسعة عشر ألفا وخمسمائة دولار. قال الصراف .
- كنت أظن أنني حملت أكثر . قال محمود ، وتابع :
"خذ حقوقك من الخمسمائة وحول لي على اسمي تسعة عشر ألفا ".
أخذ الصراف أجرة ليرة واحدة مقابل كل دولار. أي تسعة عشر ألفا .
خرج من عند الصراف ليعود إلى البيت . ولم يعرف كيف وجد نفسه يسير في اتجاه المسجد الأموي ، مع أنه كان يجب أن يسير في الإتجاه المعاكس ، حتى أنه لم يدر وهو يجتاز الحريقة ويدخل البزورية مارا بقصر العظم ، أنه يودع الأماكن التي عاش فيها وألفها ، وربما يودعها لآخر مرة . كان عقله منشغلا بإمكانية السفر . وحين أصبح في مواجهة الباب الجنوبي للأموي لم ينحرف يمينا في شارع القباقبية كما يجب أن يفعل ، بل ذهب يسارا ليلج إلى ساحة الأموي ومدخل الحميدية الشرقي . اجتازأسرابا من الحمام كانت تحط في الساحة باحثة عما تأكله . توقف إلى جانب الأعمدة الأثرية على مدخل الحميدية واستدار ليواجه جدارالمسجد الغربي . سار في اتجاه قبر صلاح الدين ، وحين بلغ الباب المؤدي إلى الضريح أدرك أنه يسير في الإتجاه الخطأ ويضيع الوقت .
عاد أدراجه ليجتاز القبابية فالنوفرة . أبطأ قليلا وهو ينزل الدرجات الصاعدة إلى باب المسجد الشرقي والنازلة إلى النوفرة . طوال ستة أعوام كان يعرض لوحاته على جدران هذا المقهى الذي يستحيل أن يأتي سائح إلى دمشق دون أن يمر فيه . من هنا عرف في معظم أنحاء العالم . وباع آلاف اللوحات .
لم يكن هناك إلا القليل من الرواد يجلسون في الخارج يدخنون الأراجيل . حيا بحركة من يده وهو يجتاز الشارع في اتجاه القيمرية . وبدلا من عبورالقيمرية في اتجاه باب توما كما كان يفعل كثيرا ، صعد إلىى اليمين حيث حي مكتب عنبر . تمهل قليلا وهو يمر من أمام محله المغلق . كم من الذكريات له خلف هذا الباب. تنفس بعمق وتأوه ..تذكر آخر من التقاهم في هذا المعرض من الأصدقاء :الراحل عمر أميرلاي ، المخرج السينمائي ، سمير ذكرى المخرج أيضا ، ميشيل كيلو السياسي صديق العمر ، أول من اطلع على أول مخطوط روائي له ،كتبه عام 1975 ولم ينشر حتى حينه. منى أتاسي صاحبة جالري أتاسي ، نبيل المالح المخرج السينمائي أيضا ، الفنانة منى واصف ، الفنان عبد الحكيم قطيفان ، الفنان الموسيقارصفوان بهلوان ، الفنان التشكيلي يوسف عبد لكي ، الفنان التشكيلي موفق قات ، الأديب وكاتب السيناريو حسن سامي يوسف ، الأديب خليل صويلح ،الفنان أيمن زيدان ، الفنان جهاد سعد ، الفنان ماهر صليبي ، الفنانة ندى حمصي ،الفنانة سحر فوزي ، الفنان أيمن رضا الذي كان بيته يجاور محله ، حيث أهدى معظمهم نسخا من آخر روايتين له : الملك لقمان ، وغوايات شيطانية . كما أهدى بعضهم لوحات ..
وهو يجتاز سوق مدحت باشا مر من أمام محله الثاني ليجد أنه تحول إلى صالون حلاقة لأبو فادي الذي كان يشغل محلا يواجه محله الآخر. سلم على أبو فادي وتابع طريقه . لم يدخل إلى حي الأمين من شارعه الرئيسي . تابع طريقه في اتجاه الكنيسة المريمية ثم انعطف يمينا ليلج إلى حارة اليهود .
حاول أن يأخذ تاكسي من حي الأمين دون جدوى . لم يقبل أي سائق التوجه جنوبا حيث يحتدم القتال الضاري. حث خطاه ليعود سيرا .. اجتاز شارع ابن عساكر إلى الصناعة . مرمن بستان الدور على عجل . أخذ صوت القصف يتناهى إليه . كان قد ازداد فظاعة . الهاتف يرن . هلو بابا حجزت لك على الأردنية في الثامنة صباح الغد ، افتح الإيميل لتأخذ رقم التذكرة ورقم الرحلة " " تشكري بابا "



(4) الفراق !
وصل إلى حارته في حي الزاهرة الجديدة التي تبعد عن المتحلق الجنوبي قرابة ثلاثمائة متر . كان ثمة مدافع تقصف من حديقة في المتحلق مواجهة لبيته في اتجاه الجنوب .أمام البناء الذي يقطن فيه شاهد جاره أبو محمد . أخبره أن يحضر حاله ليقله إلى المطار . وافق أبو محمد دون أي نقاش .
دخل بيته . سارع إلى الكومبيوتر .شكر الله حين وجد أن النت غير معطل . طبع رقم الرحلة ورقم التذكرة على ورقة . نهض يجمع أشياءه . كان قد حضر من قبل ثلاث حقائب للوحات كبيرة ومتوسطة وصغيرة غير مبروزة . لم تكن الملابس تعنيه كثيرا . وضع القليل منها في حقيبة . كان قد أنزل من قبل اللوحات المهمة عن الجدران ووضعها تحت الأسرة لعلها تسلم من الدمارإذا ما سقطت قذيفة على البيت ، لوحات زيتية كبيرة مشغولة بالرسم والحفر والزخرفة . علق بدلا منها لوحات أقل أهمية .
دخل إلى المكتبة وراح يبحث عن الكتب التي تحوي نقودا . أخبره ابنه أن لا يحمل معه نقودا كثيرة فقد يأخذونها منه في المطار . اكتفى بخمسة آلاف دولار . وضعها في مغلف ، وضعه في جيب داخلي لسترته . وكان لديه قرابة عشرين ألف سوري . هناك كتب ما تزال تحوي نقودا . عدها . ثمانية آلاف دولار. سيبقيها في البيت . سجل عناوين الكتب التي وضعها فيها ، والرف الذي وضعها فيه في المكتبة . دس الورقة في جيبه . القصف يزداد حدة . الأبنية تكاد تهتز . لم يسمع أخبارا طوال اليوم ولم يعرف ماذا يجري غير القتال الشرس الذي ينبئ به القصف .
سمع صراخا وضجيجا وهتافات . ألقى نظرة من باب الصالون . شاهد إطارات مشتعلة تقطع الشارع الداخل إلى الحي من الجنوب ، ومجموعة من الشباب ينطلقون مسرعين بسيارة سوزوكي مكشوفة وهم يهتفون ويجوبون الحي . لم يعرف بماذا يهتفون .لكنه أدرك أنهم من المعارضة .
لم يكن قد أكل شيئا حتى حينه . ولا نفس له في تناول الطعام . لكنه شعر بحاجته إلى جرعة ماء.
عرف الجيران أنه سيغادر فقرعوا الباب يسألون . أطفال ونساء وفتيات لم يكن يراهن إلا محجبات وباللباس الشرعي ، وهاهن الآن سافرات وبملابس النوم أو ملابس البيت . وجوه كئيبة . عيون تغرورق بالدموع . اندفعت أم محمد إلى داخل البيت حاملة كأس لبن ، ليندفع معها قرابة عشرة أطفال من أحفادها . اعتذر من أم محمد لأنه لا يستطيع أن يشرب شيئا وطلب إليها أن تخرج الأطفال ليتمكن من ترتيب أغراضه التي سيأخذها . طبق الباب قليلا دون أن يغلقه .أخذ يقرب الحقائب من الباب . هذه حقيبة ثقيلة جدا . فتحها . تناول رزمة من اللوحات الصغيرة موضوعة في كيس وقذف بها إلى داخل البيت . لم يعرف أنه قذف أجمل رزمة من اللوحات الصغيرة . قياس 25*17 سم.
تفقد أشياءه . جواز السفر الأردني .معجون الأسنان والفرشاة . الكاميرا . صابون . ألة الحلاقة . مقص الشعر . لم يأخذ زجاجة العطور . وثمة زجاجة هدية من ابنته لم يفتحها بعد . لم يأخذها أيضا . توقف قليلا ليتفقد كل شيء . كل شيء جاهز . ثلاث حقائب لوحات . حقيبة صغيرة ملابس ومناشف، حقيبة كتف . لم يخطر بباله أن يحمل أيا من مؤلفاته ومخطوطاته.
فتح الباب . كان الجيران يتجمهرون خلف الباب . اقترب من أم محمد . أعطاها رزمة نقود قدّر أنها اثنا عشر ألفا، لتدفع فواتير الكهرباء والهاتف والماء في غيابه . أخرج الحقائب أمام البيت . أقفل الباب . أعطى المفتاح لأم محمد ، واضعا البيت في أمانتها . مشيرا إليها أن تأخذ كل ما في البيت من خضار وفواكه ولحوم وحبوب ومعلبات.
عدّت أم محمد النقود على عجل :
- هذه النقود أكثر من 12 ألف . هتفت أم محمد .
- معلش ! قال .
كان أبو محمد قد شرع في انزال الحقائب من الطابق الثالث .
ألقى نظرة خاطفة على جمهور الجيران وهو يحمل آخر حقيبة لوحات ويهم بالنزول . حياهم بحركة من يده دون أن يتفوه بكلمة متحاشيا النظر إلى وجوه الفتيات اللواتي شرعن في النحيب خوفا مما تحمله الأيام القادمة .
********









(5) الرحيل !

غادرا الحي من حارات جانبية خلفية لأن الإطارات المشتعلة كانت تغلق مداخله الرئيسية ومظاهرة صاخبة يمتطي كتفي أحد شبابها أبو عبده بواب البناية - المعروف له كمتعصب اسلامي ، مع أنّه ينتمي إلى حزب البعث أيضا- تجوب أحياءه داعية إلى سقوط النظام !
وصلا المطار بسلام قبل الغروب . ودع أبو محمد وأوصاه بالبيت . كان آلاف البشر يتكدسون في ردهات المطار. جلس في مطعم وطلب طعاما وشرابا ، فهو لم يأكل شيئا طوال النهار . لم يكن هناك بيرة . أحضر له النادل كأسا صغيرا من الجن بالكاد يكفي لبل شفتيه ! كان ما يزال مضطربا من جراء السرعة التي أنهى بها اجراءات السفر، وحين همّ لأخذ كأس الجن اصدمت به أصابعه فانقلب ليسفح ما فيه .
في حوالي التاسعة ليلا اهتز زجاج الجدار الأمامي للمطار جراء ثلاثة انفجارات حدثت فجأة أمامه .هرب الناس إلى عمق الردهات ، فيما راح رجال أمن يفتحون أبواب المصاعد ويصرخون بالناس أن ينزلوا إلى الأقبية السفلية . ساق عربة حقائبه ونزل بصعوبة مع النازلين على الأدراج . حُشر المئات في قبو . انزوى في قرنة وقرفص إلى جانب حقائبه وهو يتأوه من أعماقه ويردد " لا حول الله " وشاب تبين له أنه عنصرأمن يلقي نحوه نظرات مرتابة بين فترة وأخرى ..
بعد قرابة ساعتين تعالت أصوات تطلب الخروج من الأقبية . هتف الشاب للناس بالخروج . وما أن صعدوا حتى طُلب إليهم الخروج من المطار والدخول ثانية لتفتيش الحقائب من جديد . خرجوا واصطفوا في رتل طويل .. تأمل المكان من حوله ، لم يكن هناك أية آثار لقصف أو انفجارات . كل شيء كان كما هو .. سأل أحد عناصر الأمن الواقفين : ماذا كان القصف ؟ قال : قصف هاون من بعيد ! هاون ولا يترك أي أثر ؟ تساءل في نفسه ! أدرك أن الأمر ليس أكثر من تمرين تدريبي يختبر فيه رجال الأمن قدرتهم على التصرف في حال حدوث هجوم على المطار ، والإنفجارات لم تكن إلا مفرقعات قوية الصوت .
بعد منتصف الليل بقليل ألقى نظرة على لوحة الرحلات في المطار ليكتشف أن الأردنية ألغت رحلتها إلى عمان ، ولن تحضر . مادت الدنيا في عينيه وأحسس أن قلبه هبط إلى ركبتيه لينشق إلى نصفين ، نصف يستقر في الركبة اليمنى ونصف في اليسرى !! ألقى نفسه على البلاط وراح يردد في دخيلته :
" آه يا تعبي ! آه يا أمي التي لم أرها منذ تهويد القدس ! آه يا أمي التي رحلت دون أن أراها ، دون أن تراني ! ماذا سأفعل بحق السماء ؟ "
راح يبحث عن طائرة مصرية أوسورية متجهة إلى مصرأوعمان دون جدوى . الطائرات محجوزة ولا يوجد محلات . هذا ما يقوله موظفو المكاتب في المطار .
مر أول يوم . نام لليوم الثاني في المطار . ولا يمكن لأحد أن يحسده على الحال التي هو فيها . طعام رديء ناشف . كل شيء نار بأسعاره . لا نوم على الإطلاق . شكرجسمه الذي تكيف مع الوضع تماما ، ولم يطلب إليه الذهاب إلى التواليت إلا ما ندر وللتبول فقط .
جاء إلى المطار مساء الأربعاء وبقي حتى مساء الجمعة . ظهيرة الجمعة اصطحب لوحة بحجم 35 ب 50 سم وصعد إلى مكتب المصرية . قال لمديرالمكتب وهو يعرض اللوحة أمامه " هذه اللوحة هدية لك إذا ما دبرت لي مكانا على الطائرة إلى القاهرة " بدا واضحا أن اللوحة أعجبته . قال : ألن تهديني إياها الآن ؟ قال : لا . حين تكون التذكرة بين يدي .
وعد المدير بأن يجد له مكانا على طائرة الخامسة مساء .
صعد إلى المكتب حين جاءت الطائرة . لم يجد المدير وجد نائبه . وعده بلوحة هو الآخر .
طلب إليه أن يصطف مع الداخلين ، وإذا ما سئل عن التذكرة يقول أنها عنده . وأعطاه اسمه .
تم الأمر بنجاح . حصل على التذكرة بثمن باهظ دفعه بالدولار . وأبقى اللوحتين مع المدير لأن نائبه لم يكن موجودا عند وزن الحقائب . نادى المدير وهمس له بضع كلمات " إياك أن تبيع اللوحة ببضعة جنيهات أو دولارات ، لا تبعها حتى لو دفع لك مليون " ولا يعرف إذا استند إلى ثقة عمياء بمستقبل فنه أو ماذا حين قال له ذلك ، والمديربدوره لم يدرك أن تكون اللوحة ثمينة إلى هذا الحد وهو يفرط بها مقابل تذكرة طائرة مدفوعة الثمن ! فبدا مندهشا للحظات !
شرطي الجوازات اعترض على سفره دون تأشيرة خروج من إدارة الجوازات، وراح يمطمط ويماطل . تساءل في نفسه " لا أعرف لماذا تأشيرة خروج وأنا أحمل جوازا أردنيا ، هل أحتاج إلى إذن مسبق لأسافر ؟ "طالت المطمطة إلى أن أنهاها بخمسة دولارات ألقاها أمام الشرطي.
تنفس الصعداء وهو يصعد إلى الطائرة مع حقيبتي لوحاته دون أية مشكلة ، إلا مع شرطي آخر ادعى أن اللوحات أثرية ، تخلص منه دون خمسة دولارات . أشارت إليه المضيفة بوضع الحقيبتين خلف أخر المقاعد في الطائرة .
******





(6) القاهرة
السائق الذي أقله من مطار القاهرة أخذه إلى فندق في مصر الجديدة مع أنه قال له أن يأخذه إلى فندق في وسط القاهرة .
لم يعرف أنه سيآتي إلى القاهرة وإلا لأحضر معه هواتف وعناوين أصدقاء . فقد فكر في أن يبقى في القاهرة لبعض الوقت إذا ما تمكن من إقامة معرض . وله في القاهرة قرابة مائتي لوحة ما بين مباع ومهدى لأدباء وفنانين وأصدقاء . وله فيها ذكريات حين التحق فيها بدورات في الصحافة والإعلام عامي 72 و75 من القرن الماضي .. أيام الراحل كامل زهيري.. صبيحة السبت أخذ تكسي إلى شارع الصحافة . دخل إلى إدارة صحيفة الأخبار . سأل موظفا كان يجلس في الاستقبال عن جمال الغيطاني . قال إن اليوم عطلة .. سأله عن هاتفه قال أنه لا يعرفه . سأله عما إذا كان يعرف هاتف أحمد فؤاد نجم . ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشته حين تساءل الموظف" هوه مين نجم دا" ؟! صُدم . كان سيسأله عن هاتف صنع الله ابراهيم أو محمد كامل القليوبي ، فأحجم ..
خرج يجوب شارع الصحافة سائلا في المكاتب والإدارات عن رقم هاتف لأديب أو فنان دون جدوى . لم يعرف كيف قادته خطاه إلى فندق شبرد . وجدها فرصة ليتغدى ويحتسي زجاجتي بيرة على الأقل ، ليطرح عن كاهله ثقل الأيام السابقة كلها . دخل إلى مطعم ضمن صالون الفندق وجلس إلى جوار نافذة مطلة على النيل . جاء النادل . طلب بيرة باردة . ذهب النادل ليعود شاب آخر يسأله عما إذا كان أجنبيا . فوجئ بالسؤال . قال أنه أردني . طلب الشاب أن يرى جواز سفره . تساءل بدهشة" هوه فيه أيه " وكان يظن أنه رجل اشتُبه به . قال النادل: " الخمر ممنوع على المصريين في رمضان يا فندم " ولم يعرف ، أو أنه نسي أنه في رمضان إلا حينها . قال وهو يخرج جواز سفره ويمده نحوه " هوه مرسي أمر بدا " ؟! لم يجب النادل ، وما أن رأى الجواز من الخارج حتى أعاده إليه دون أن يفتحه .
ابتسم وهو يجد نفسه يتحدث المصرية مع النادل . حين يأتي العربي إلى مصر يجد نفسه يتحدث المصرية ، وخاصة أبناء بلاد الشام ، أما حين يذهب المصري إلى أرض العرب لا يستطيع تقليد لهجاتهم فيظل يتحدث المصرية . تذكر ما عاناه حين عمل في فلم مصري رديء عن الإنتفاضة الفلسطينية ، رممه وحول لهجته إلى فلسطينية ، درب الممثلين عليها . وحين وقفت أمينة رزق أمام الكاميرا راحت تتحدث صعيدية قح ! أيقن أنه من المحال ان يتقن الممثلون الفلسطينية ، فتخلى عن التدريب وترك العمل . وفي فيلم آخر عن ناجي العلي رفض المشاركة فيه رغم المبلغ الجزيل الذي وعد به . كانت اللهجة مضحكة !
للبيرة نكهة مختلفة . قد تكون ألذ نكهة بيرة شربها في حياته . ليس لأنها مختلفة أو أطيب من غيرها ، بل لأن من يشربها هو أشبه بإنسان نجح في الهروب من الموت ، أو في الخروج من قبر . ولو كان يعرف أنه سيودع شرب البيرة بالزجاجتين اللتين شربهما لاستلذ بهما أكثر ، لغلاء البيرة والخمور بشكل عام في عمان .
طلب أرخص طبق شاهده في قائمة الطعام وهو سباجيتي !
أمضى صبيحة اليوم التالي وهو يجري اتصالات مع الصحف لعله يعثرعلى هاتف صديق دون جدوى . ولم يجد نفسه إلا هو يحزم حقائبه ويذهب إلى المطار .
وجد مكانا على المصرية إلى عمان مساء . حدثت مشكلة قبل الصعود إلى الطائرة فهناك من يريد تفتيش حقيبتي اللوحات وهناك من يرفض نقلهما على الطائرة ويريد وضعهما مع الحقائب . كان قد رزم الحقيبتين ببلاستك بعد تفتيشهما عند دخوله إلى المطار . وفتحهما ليس سهلا .
أرى الشرطة هوية اتحاد الكتاب العرب ليثبت لهم أن لا علاقة له بالمهربات والمخدرات . لم يقبلوا عذره . وحين انفعل وأشار إليهم أن يفتحوهما ، مهددا بأنه سيفضحهم ، تخلوا عن الأمر !!!
رافقه أحد الموظفين إلى باب الطائرة لإصراره على وضع اللوحات مع الحقائب . تبادل مع الموظف الهرج على مقربة من الباب ، هو يرفض والموظف يصر، إلى أن تنبهت المضيفة المسؤولة عن الطائرة للأمر . تساءلت فأجاب . أشارت بيدها وهي تهتف : هاتهم ؟ ولم تعر أي اهتمام لذاك الموظف ، الذي انصرف منكسا رأسه مدليّاً أذنيه . يبدو أنه كان يطمح في دولار ما ، فتحامق ولم يعطه .
كان مقعده إلى جانب طالبة أمريكية فاتنة تدرس العربية في عمان . لم يعرف كيف مرت الرحلة إلى عمان وهو يتحدث إليها عن فلسفته في فهم الخلق والخالق ، بحيث أبدت إعجابها بها .
كانت الفتاة قد تنبهت إلى مشادته مع الموظف أمام باب الطائرة ورأت كيف أدخلته المضيفة بيسر وأشارت إلي أين يضع الحقيبتين ، فسألها عما إذا كان من اللائق أن يكرم المضيفة بقليل من النقود لقاء لطفها معه. أشارت بالإيجاب . وهو يهم بالنزول وضع في يده اليمنى بضعة دولارات، وحين مدت المضيفة يدها لمصافحته، مد يده ليضع النقود في راحة يدها أولا ومن ثم يطبق على يدها مصافحا. فوجئت المضيفة وهي تعيد النقود إليه مرددة مستحيل مستحيل !
شكرها من قلبه ، وتابع نزوله .
كان متخوفا من استدعائه في مطارعمان والطلب إليه مراجعة المخابرات . لم يحدث أي شيء
على الإطلاق . قرابة دقيقة لا أكثر ختم الموظف جوازه وأعاده إليه دون أن يتفوه بكلمة .
لم يصدق نفسه . يبدو أن كل شيء قد تغير هنا . ورغم أنه طوال عمره يحس ويعيش الحياة كفلسطيني ، إلا أنه ولأول مرة راح يشعر بأردنيته . في مقابلات صحفية معه كما سبق ، كان يذكر دمشق أكثر مما يذكر عمان " إذا كانت القدس أمي بالولادة فدمشق أمي بالرضاعة ، فقد عشت فيها أكثر من أربعين عاما كونت فيها ثقافتي وشخصيتي وكتبت مؤلفاتي ورسمت قرابة عشرة آلاف لوحة ، ولم أعش في القدس إلا قرابة عشرين عاما في بداية عمري، أما عمان فلم أعش فيها إلا أقل من ثلاثة أعوام "
استقبله ابنه " رجب " في المطار وأقله بسيارته إلى البيت .
*********















(7) عمّان .
ها هي عمان بجبالها السبعة تفرد أحضانها له . وها هويشحذ خطاه في شوارعها جارا خلفه أثقال سبعة وستين عاما من التشرد والقلق والمعاناة وتعب السنين وهاجس الثقافة ، بحثاً عمّا يغني روحه ويرمم جراحها . في هذه المكتبة يجد روايتين ليحيى يخلف : جنة ونار ، وماء السماء . يحيى صديق عمر ولا بد أن يقرأ إلى أين وصل .. وهذه رواية لرشاد ابو شاور في مكتبة أخرى " سأرى بعينيك يا حبيبي " رشاد صديق عمرأيضا وأول من استقبله في عمان ودعاه على الغداء . وهذه مكتبة يجد فيها كتابا واحدا أحب أن يشتريه مع أنه قرأه " النبي ابراهيم والتاريخ المجهول " سيد محمود القمني . "أعذرني يا سيد تركت كل كتبك القيمة هناك في دمشق ." أوه ! وفي هذه المكتبة يجد كتب من أحبهم كثيرا في حياته . نصر حامد ابو زيد . آه يا عزيزي ، يا جرحا غائراً في قلبي وفي أحشاء هذه الامة الحمقاء التي لم تقدرك حق قدرك . سيبقى مكانك في القلب يا عزيزي ، ويبقى فكرك في العقل . نادم يا عزيزي لأنني لم أهدك لوحة حين التقيتكما أنت وفيصل دراج في المقهى الذي كنت أعرض فيه لوحاتي في دمشق القديمة . لم أعرف أنك سترحل بهذه السرعة يا نصر وإلا لأهديتك قلبي . تحدثت مساء أمس مع فيصل الذي يشاركني قلقي ، بعد أن جار الزمان علي يا نصر وأصبحت مشردا .. أنا متعب يا عزيزي نصر ، متعب .. كتبك كلها ظلت هناك في دمشق .. وسأكتفي الآن بشراء " هكذا تكلم ابن عربي " و" الإتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة " هل تعرف يا عزيزي أنني لم أفهم ابن عربي جيدا إلا بعد أن قرأت كتبك . لكن ما يزعجني يا عزيزي هو أنني أجد معظم ما فكرت وأفكر فيه ، قد سبقني ابن عربي إليه قبل قرابة 800 عام .صحيح أنني أتيت ببعض ما هو جديد وبما يختلف معه ، لكنه يظل في نظري شخصية فذة لم ينجب العقل الإسلامي قبلها ولا بعدها من هو بمستواها في فهم ليس الإسلام وحده بل الفكر الإنساني كله حتى حينه . "
"لقد جرد ابن عربي مفهوم الحقيقة الإلهية إلى أبعد حدود المطلق ، بحيث جعلها القدرة أو الطاقة السارية في الكون والكائنات والمتجلية فيهما، ولا يمكن لشيء مهما كان ، حتى لو كان رمشة جفن ، أن يتم دونها . بهذا الفهم وضع البشرية كلها ضمن حدود الإيمان ، أياً كان الخالق الذي تتوجه إليه وشكل تقربها إليه ، وأياً كان الفكر الذي تؤمن به حتى لو كان إلحادا !! أي عقل هذا يا نصر ؟"
" لا تعلم يا نصر أنني لم أضم في حياتي إلا كتابا واحدا إلى صدري حين فرغت منه . إنه " "المسيح يصلب من جديد " لنيكوس كازنتزاكي . وكتبك يا عزيزي نصر هي نفائس ثمينة ليست جديرة بالضم إلى الصدور فحسب ، بل بالحفظ في القلوب ."
"هذه مكتبة أخرى يا نصر ثمة كتب يمكن أن يكون فيها بعض ما هو مفيد ، لكن ما أحمله من نقود أوشك على النفاد "
تنبه إلى نفسه تهذي مع نصرحامد أبو زيد . قرر أن يتوقف عن الهذيان ويعود إلى البيت، ويتصل بمن عرف هواتفهم من الكتاب ليمدوه بآخر نتاجاتهم .
. ابراهيم نصر الله . لم يمده بعملين له فحسب ، بل دعاه على العشاء مع بعض الأصدقاء..ودعاه في مرة أخرى على العشاء مع محمود شقير وآخرين . الكتابان : " قناديل ملك الجليل " و" زمن الخيول البيضاء " كان لقاءً جميلا وعشاء لذيذا .. وكان ابراهيم نصر الله أهم مفاجأة له بين كل ما قرأ. راح ابراهيم يوغل في الزمن ليعود إلى شخصية تاريخية عاشت بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر ( ظاهر العمر الزيداني ) الذي ثارعلى السلطة العثمانية ، لينشئ أول كيان سياسي عربي شمل " عكا ويافا وحيفا والجليل وبلاد اربد وعجلون وأجزاء من سورية وحوران وصيدا وسواها، في حين أن صور كانت في يد حلفائه المتاولة ، وبيروت في يد حلفائه الشهابيين "
رجل رحلت أمه عند ولادته فأرضعته فرس ( حليمة) فكانت أمه بالرضاعة ، وربته زوجة أبيه (نجمة) فكانت أمه بالتربية . تعلم الفروسية منذ صغرة وشارك في أول حرب وهو لم يتجاوز سن الطفولة .
رجل لم ينته من معركة إلا ليشرع في أخرى ، ولم يطو أوجاع حرب إلا لتنزل عليه حرب أخرى فظائعها ، ليمضي عمره محاربا حتى سن الخامسة والثمانين .
ليقتل في النهاية على يد أحد قادته الذي خانه ( أحمد الدنكزلي ).
لقد قدم ابراهيم نصرالله عملا أدبيا تاريخيا لم يكتب مثله أو بمستواه وعلى الإطلاق في الأدب الفلسطيني كله ، إن لم يكن في الأدب العربي . ورسم لنا بنجاح باهر شخصية البطل الفلسطيني كما لم يرسمها كاتب من قبل .
البطل الفارس ، الذي يحارب بشجاعة ويحقق انتصارات ، لكنه يهزم ويستشهد في النهاية ، وكأن القدر قد رسم له مسبقا هذه النهاية التراجيدية . وهذه هي حال البطل الفلسطيني بدءا بجليات التوراتي وانتهاء بياسر عرفات .
والأمر نفسه ينطبق إلى حد كبير على " زمن الخيول البيضاء" فهي ملحمة روائية تبحر في النضال الفلسطيني ضد الانكليز والصهاينة و ضياع فلسطين لم يكتب مثيلا لها في الأدب العربي.
كتب محمود أبو الجدايل مقالين مطولين عن الروايتين وعن أعمال أخرى لابراهيم .
المفاجأة الثانية له كان محمود شقير الذي أهداه روايته أيضا " فرس العائلة " عمل متعه وأفرحه وأضحكه ، خاصة وأنه ومحمود ينتميان إلى العشيرة التي استوحى منها محمود روايته ( عرب السواحرة ).
كتب عن الرواية الكثير وكتب هو عنها أيضا . رواية مكتوبة بخفة دم ، وصفاء روح ، ومحبة " في أكثر من ثلاثمائة صفحة. يحدثنا محمود شقير عن رحلة عشيرة ( العبد اللات ) من البرية إلى مشارف مدينة القدس ، يحدثنا عن التحول من البداوة والدخول في المدنية ، عن هجر مضارب بيوت الشعر إلى البيت الحجري الحديث، عن ترك الرعي والزراعة ولو جزئيا للعمل في مرافق المدينة المختلفة . عن هجرالدراسة عند الشيوخ ببيضة ورغيف إلى المدرسة الحديثة ، عن ترك الثوب البدوي إلى الفستان ، عن اشعال النار بالحطب إلى موقد الكاز ( البابور ) عن التحول من الحكم التركي إلى الحكم الإنكليزي . عن رجال أرغموا على خوض الحرب إلى جانب الأتراك ليعودوا جثثا أو يختفون ، وعن رجال حاربوا مع الإنكليز ليعودوا محملين قتلى على ظهور البغال "
" يحدثنا محمود عن رجال مزواجين يعشقون النساء والأبناء ، ويحبون الحكايات الشعبية والخرافات والبطولات والفروسية . يحدثنا عن نساء يعشقن وينجبن ويحببن دون حدود ، ويحلمن بالجن والشياطين ، أو يهرب بعضهن مع عشاقهن . عن الشحادين والباعة المتجولين عن الجبليين وقرودهم التي ترقص للنساء ، عن الغجر وهجراتهم وفنونهم ،عن ثورات مجهضة وبطولات فردية .عن عادات وتقاليد وطقوس ومشاعر وأحاسيس وصلوات وأغان ترسم نسيج أرواح هؤلاء الناس ، وتسبر خفايا نفوسهم "
"يحدثنا محمود بمحبة لا تخلومن طرافة عن طقوس الخصب عند هؤلاء الناس ، ليوحد بين خصب الأرض وخصب الأنثى . المواقعة الجنسية مع المرأة قد تتم في حقل الحراثة ،على ظهر البغل أو استلقاء على الأرض، ليبدو فعل الحرث مشتركا بين الأرض والمرأة . فكلاهما حرث ينتج عنه خصب ، لنجد أنفسنا وكأننا أمام طقس تموزي من طقوس ما قبل التاريخ "
المفاجأة الثالثة كانت مع جمال ناجي الذي أهداه آخر رواياته أيضا ( غريب النهر )
"يعود جمال إلى الشتات الفلسطيني ليرسم لنا واقع أسرة فلسطينية من بلدة العباسية قرب يافا وتشرد أبنائها من يافا إلى اسطنبول مرورا بالأردن وسوريا ولبنان .. ينقلنا جمال في فضاء جغرافي شاسع ليقص علينا بمهنية رفيعة سيرة عائلة ( أبو حلة ) الفلسطينية ، لزمن يمتد لقرابة قرن ، نبحر فيه مع آلام هذه الأسرة وآمالها ، مع أفراحها وأتراحها ، في تشردها وكدحها ، في حكاياتها وتحولاتها ، من اسرة مشردة ، إلى مالكة بيارة في أغوار الأردن "
"يوظف جمال خبرة في فن الروي دامت لقرابة أربعة عقود ، يحرك فيها أكثر من خمسين شخصية على أكثر من مائتي صفحة ، بنفس ملحمي يقارب فضاء الميثولوجيا دون أن يوغل فيه ، ليظل واقع حال الشخصيات هو الماثل في صفحات الرواية "
المفاجأة الرابعة له كانت مع رواية رشاد أبو شاور " سأرى بعينيك يا حبيبي " التي تناولت التطرف الديني في مواجهة التحرر والإعتدال .لينهزم التطرف وتستمر الحياة في تقدمها وتطورها رغم كل المعيقات .
ثمة صديق شاعر وناقد فأجأه بنبله وطيبته وعده بمجموعة كتب ، هو عبد الله رضوان ، الذي يدير منتدى الرواد الكبار ، أقام حفل غداء على شرفه في المنتدى دعا إليه بعض كبار الأدباء والفنانين في عمان وأقام له معرضا ، جهد عبدالله لأن يبيع ، فباع بألفي دينار، مما أشعره ببعض الطمأنينة رغم كل ما يعيشه من تشرد وقلق شديد على دمشق وسورية وبيته ومقتنياته وأعماله . الأمر الذي صدمه وأبكاه كان رحيل عبد الله المفاجئ.. لم يحزن على راحل من أصدقائه بقدر ما حزن على عبد الله رضوان ، ولم يبك ميتا بعد أمّه إلا عبد الله رضوان " ألف سلام لروحك يا صديقي"
رغم جمال ما قرأه من روايات فلسطينية حتى حينه ، أشعره بتطور الرواية الفلسطينية ، غير أنه ظل يطمح في رؤية الرواية الفلسطينية القادرة على الخروج من عبء التاريخ ، والواقع الإجتماعي السياسي ، لتدخل أعماق النفس الإنسانية ، وتنتج المعادل للمأساة ، وما أثمرته من فكر وفلسفة ، وليس ما سارت عليه ، ولا شك أنه لمس البوادر الأولى في ما قرأ لولوج هذا الإتجاه .
*******
من الأدب العربي والعالمي ابتاع فيما بعد روايات كثيرة قرأها كلها وكتب عن بعضها . قرأ لواسيني الأعرج روايتين . واسيني صديق من أيام دراسته العليا في دمشق هو والزاوي أمين وغيرهما من الأدباء الجزائريين. لديه شاعرية مدهشة وإن كان يسهب في السرد .. كتب عن روايتين له " مملكة الفراشة " و" أصابع لوليتا "
ثمة رواية سحرته بجمالها وهي " ساق البامبو" للكويتي سعود السنعوسي. كتب عنها مع مجموعة من الروايات ..
"عزازيل" يوسف زيدان .. من الروايات التي أحبها وكتب عنها أيضا . وقارن بينها وبين رواية الكاتب الايطالي امبرتو إيكو ( اسم الوردة ) حيث اتبع يوسف منهج امبرتو في كتابة روايته.
******








(8)أكعاب أحذية!
لم يكن محمود أبو الجدايل يوما عدوانياً ، كان مسا لماً ومتواضعاً ومحباً للناس إلى أبعد الحدود ، لكن حين كانت كرامته تمس بما يتجاوز قدرته على التسامح، وبما يجرح كبرياءه، نتيجة لحسه المفرط وشعوره المرهف ، كان يبدي انفعالا يوحي بقدرما من العدوانية السلبية، فيضطر إلى الدفاع عن كرامته بما يعيد لها هيبتها واحترامها ، فذات يوم حين تعرض لإهانة من قبل أحدهم في مقهى النوفرة الذي كان يعرض فيه لوحاته ، وجد نفسه يرفع رجله أمام الناس ويشير بسبابته إلى كعب حذائه مخاطباً من أهانه بانفعال شديد: أترى كعب حذائي هذا، لو أنك عشت مائة عام لن تستطيع بلوغ مستواه . فما كان من الآخر إلا الهرب إلى داخل المقهى والإختفاء . وكان يصنف بعض المترددين على المقهى وغير المترددين من الزعران والبلطجية وعديمي الأخلاق تحت هذا التصنيف " أكعاب أحذية " وأفضلهم كان يحصل على لقب حذاء كترقية له عن الكعب !
وذات مرة استفزه أحدهم على شبكة النت بأن فتح شريطاّ مضاداّ على الشبكة يسخر من فكره الفلسفي الذي كان ينشره في مقالات وفي جمل وفقرات مختصرة. كان ذاك يرد في شريطه على كل جملة بلغة بذيئة وغير أخلاقية وتتنافى مع أبسط حدود المنطق والعقلانية . كان يتجاهله ولم يرد عليه، إلى أن شعر أنه تجاوز الحدود كلها ، فرد عليه قائلا:
" ثمة حمقى يحاولون الإلتصاق بكعبي حذائي بأن يفتحوا أشرطة على شبكة النت مستغلين قامتي السامقة ليستدرجوني وأصدقاء إلى حوار مغلق معهم ، حول حقهم في أن يكونوا غبارا يحط على كعبي حذائي ليبنوا لهم مجدا افتراضيا من خلالهما !! هنيئا لهم بكعبي حذائي ، فقد أتحتهما لهم إلى الأبد ، وإن كنت مضطرا في بعض الأحيان إلى أن أنفض كعبي حذائي من غبارهم بدواعي النظافة "
ومرة أخرى استفزه أحدهم على النت بأن شتمه كثيرا ، رغم أنه عامله بمنتهى التهذيب والأدب ونصحه بأن ينقد دون شتائم .. غيرأنه لم يتراجع عن الشتائم . حذره ثانية بأنه إن استمر في شتائمه سيدفعه إلى مالم ينسه في حياته . لم ينتصح. قال فيه :
خرج الصرصار من المخرأة
مزهوا بعقل في مبعرة
ضراط وبول وبراز لواط
تجلى في أست مشعّرة
وضيع خليع رقيع حقير زنيم
يرى في فظيع الحماقة مفخرة
ثرثر، هرطق ، سفسط ، جدّف ، نبح
ككلب على جيفة في وادي زنبرة
أفرغ فيض الهراء من جعبة
لم تحو يوما إلا الزعبرة
تفطس الجرذان على المزابل
وتقضي الصراصير في المخرأة
لم يتصور يوما أنه سيصنّف بشكل أو آخر أقرب الناس إليه غير بعيد عن هذا النوع من البشر .
منذ اللحظات الأولى له في بيت ابنه ( رجب ) - الذي ساهم معه بقرابة ربع ثمنه - فوجئ بمنعه من التدخين . طبق الأمر وراح يدخن في الشرفة أو إلى جانب النافذة في أفضل الأحوال ! واحتمل كل ملاحظات ابنه حول مضار التدخين وإرشاداته بأن في البيت طفلة صغيرة سيضرها التدخين، وشكواه من أنه ما زال يعاني من جراء استنشاقه للدخان الذي كان ينفثه أصدقاء أبيه في البيت الذي كانوا يقيمون فيه وهو صغير.احتمل كل هذه المسائل رغم أنه يدرك تماما مضارالتدخين، لكنه يدرك بالمقابل أنه الان في السابعة والستين من عمره ويدخن منذ كان عمره اثنتي عشرة سنة وحتى الآن لم يصب بأي مرض داخلي.
بعد ثلاثة أيام على وجوده في بيت ابنه ، بدأت تحرشات ابنه به تزداد " أنت اليوم قليت شيئا على الغداء ولم تنظف الغاز جيدا " قال رجب ." أجل قليت بطاطا وسمكا لكني نظفت الغاز كما لم أنظفه في بيتي " "لا يا أبي هنا ليس بيتك ، والتنظيف هنا مختلف تماما ، تعال لأريك " كان ثمة بضع نقط على أطراف الغازلا يتجاوز حجم الواحدة رأس الشعرة بالكاد ترى بالعين المجردة " في المرة القادمة تغطي الوعاء الذي ستقلي به جيداً ، وتنظف الغاز بشكل جيد "
هز محمود أبو الجدايل رأسه بحركات خفيفة أعلى وأسفل معبراً عن موافقته .
حين هاتفه ابنه من عمان وهو في دمشق طالبا إليه أن يغادر دمشق فورا ، قال له أنه لن يتكلف شيئا ، سيأكل مما يأكلون ، وغرفة نومه جاهزه ، وكومبيوتر متوفر، ونت سريع ، وكل ما يلزمه موجود . اطمأن حينها إلى كلمات ابنه كأب ، فعاطفة الأبوة تجعل الآباء ينسون كما هي الحال مع عاطفة الأمومة . فقد سبق لابنه أن طلب إليه عدم التدخل في شؤونه ، وحين سأله عن الشؤون التي تدخل فيها ، قال له أنه أخبرابن أخيه أنه ابتاع بيتا في عمان . وابن الأخ هذا هو ابن خالة لرجب وليس ابن عم فقط ، وجاء ذكر بيت رجب في سياق الحديث عن رجب ، دون أن يعرف محمود أن شراء البيت مسألة سريّة ، ودون أن يقصد إخبار ابن الأخ بشراء البيت ، فقد كان يظن أنه يعرف بالأمر. لم يتساءل محمود عن السّر في أمر الشراء ، لكنه أدرك أنّ في الأمر مسألة ما ، خاصة وأنه ابتاع البيت خلال زمن غير مديد نسبيا لموظف خدمات عامة في سفارة حينذاك ، وفره له أحد أصدقاء محمود. قال له على أثرمشادة بعد أن طلب منه أن يسده بعض ما عليه لحاجته إلى نقود ، فادعى أنه لا يملك: آمل أن لا تتبول على قبري حين أموت !
ابنته (رجاء) لم تكن كذلك فما أن شكا إليها حاله حتى سارعت إلى ارسال قرابة ستة آلاف دولار له ، لكنه أعادها إليها حين لم يتمكن من جمع نقود تكفي لشراء محل يعرض فيه لوحاته . وهو يرى أن ابنته كانت تكفر عن ذنب ارتكبته تجاهه حين كانت تحادث خطيبها في الكويت على الهاتف ما لا يقل عن ست ساعات يوميا ، كما أنها كانت تنتقم منه بعد أن طلق أمها .
قال حينذاك عن ابنته في رواية كان يكتبها وضمن قصيدة يتطهر فيها من عذابات الحياة ليهرب إلى عالم آخر :
" لا أريد العودة إلى ظبية رعيتها ثلاثة وعشرين عاما بأهداب الجفون وحين احتجت إلى حنانها مزقت قلبي بطعن المرهفات "
حين جاءته أول فاتورة هاتف بعد زواجها كانت بحوالي 300 دولار .. اضطر إلى بيع لوحة بربع ثمنها لتاجر يهودي ليدفع الفاتورة . كانت فواتير الهاتف تتأخر لأكثر من عام حتى يتم تحصيلها ، وكانت إدارة الهاتف لا تضع حدا أعلى للمكالمات لتقطع الخط إذا لم يتم التسديد ، فتترك الخط مفتوحا وكأن الناس يملكون بنوكا .. أوجس محمود من مكالمات ابنته ذلك الحين وقدم طلبا بإلغاء الخط الدولي ، واطمأن على ذلك .
جاءته الفاتورة الثانية وكانت باهظة جدا فلم يدفعها وُقطع الهاتف . وجاءته الثالثة والرابعة وكانتا أرقاما خيالية كمكالمات هاتفية .. وبقي دون هاتف وهو في أمس الحاجة إليه ، لبداية تحوله بالرسم من الهواية إلى التسويق والبيع . أحست ابنته بذنبها وحاولت أن تصلح الأمر مع أبيها وتتتذكره بين حين وآخر وترسل له الهدايا ، وخاصة حين وجدت أنه لا يوجد انسان في الدنيا لها غيره ، وحين اكتشفت أن الحبيب الذي اختارته زوجا هو أسوأ انسان يمكن أن تتزوجه ، فطلقته . لم تقتنع بنصيحة أبيها حينذاك وأصرت على الزواج منه ، كما أصرت على خطبة آخر قبله لم يكن أقل سوءا من الثاني ..
بعد قرابة خمسة عشر عاما بلغ محمود بحكم قضائي بحق صاحب خط الهاتف الأصلي الذي كان صديقا له وعضوا في مجلس الشعب ، ساعده في الحصول على خط الهاتف ، وكان قد رحل عن الدنيا وظل الهاتف باسمه . كان في مقدور محمود أن يتجاهل الحكم حسب رأي المحامي ، غير أن ضميره لم يطاوعه ، رغم ادراكه الكامل بخطأ إدارة الهاتف في ترك الخط مفتوحا وعدم فصلها الخط الدولي بناء على طلبه كوكيل له . طالب بتقسيط المبلغ وأوعز إلى ابنته أن تدفع الأقساط . . وظل يدفع إلى أن غادر سوريا على أثر الحرب .
صباح اليوم التالي لوجوده في بيت ابنه نزل إلى سوبر ماركت قريب وابتاع كل شيء : لحوم منوعة . فواكه، خضار . حبوب . سكر. شاي. بن . وراح يطبخ لنفسه ويعمل كل شيء بنفسه ويجلي جليه . لم تتدخل زوجة ابنه في شؤونه على الإطلاق ، وبدا له أنها سيدة طيبة ، كانت تسأله بين يوم وآخر إن كان يحتاج شيئا . ولم يجر غير هذا بينها وبينه .
لاحظ أن ابنه يراقب حركاته ويتفقد كل أرجاء البيت حين يعود من عمله ، كان أحد أصدقائه قد وفره له . يتفقد المطبخ. الحمام . التواليت .الماكرويف . التلفاز . الكنبات . وبالتأكيد غرف النوم التي لا يدخلها. أسوأ التفقدات كانت على النت فقد تبين لابنه أنه يدخل على مواقع مشبوهة حسب رأيه ، فحرمه من الكومبيوتر وطلب إليه أن يذهب إلى مقهى نت .
لم يبال كثيرا بقطع النت ، فقد وجدها فرصة لأن يتمشى قليلا ويغير جو ، ويكتشف أحياء عمان . المشكلة التالية كانت مع الجلي فقد ادعى ابنه أنه لا يجلي الملاعق والشوك والصحون بشكل جيد، احتمل الأمر . بعد يوم ادعى ابنه انه لم ينظف المكروويف ، إلى أن جاءت الشعرة ما قبل الأخيرة التي "قصمت ظهر البعير" ، فقد ادعى ابنه أن ثمة شعرة من شعرات ذقن أبيه على حوض المغسلة !!
وحين أبلغ أباه بالأمر، انفعل ، لكنه كتم غيظة وراح يعبر عن انفعاله بسخرية مرة. لم يكن محمود أبو الجدايل يرغب الذقون الطويلة ، فأطول شعرة في ذقنه لا يتجاوز طولها سنتمترا واحدا ، ولنفترض أن شعرة طارت ووقعت على حافة حوض المغسلة وهو يقصقص ذقنه ، فهل تحتاج إلى تنبيه من ابنه لكي لا يكررها ثانية ؟ ابنه الذي كان يمسح برازه في بعض الأحيان ويركبه على كتفيه ويدور به الشوارع والحارات والحدائق لينزهه ، ويركبه على ظهره ليعمل له حمارا يمتطيه ليضفي البهجة على نفسه. كان يحبه من أعماق قلبه ويرعاه بجفون عينيه ، ولا يترك عيد ميلاد له أو لأخته يمر دون أن يملأ البيت بالفرح وهدايا الأصدقاء . ابنه هذا يحاسبه الآن على شعرة من ذقنه وقعت على برطاشة المغسلة . هتف له وهو يتذكر قصة يابانية يقود الإبن فيها الأب إلى شرفة المنزل، وعند دخول الشرفة يهتف الأب لابنه قائلا : توقف فقد ألقيت جدك من هنا :
" شعرة ؟ شعرة يا رجل وتحتملني حتى الآن ، كم أنت انساني ونبيل يا بني ، لو كان أحد غيرك لألقى بي من شرفة بيته ، لمسح بي البلاط ، لألقى بي في حاوية قمامة ، لأوقفني رأسا على عقب وأبقاني على الحائط لثلاثة أيام . لحرمني من الطعام والشراب لشهر ، وفي أحسن الأحوال لطردني من البيت لثلاثة أشهر "
أدرك ابنه أنه سيجن عليه إن بقي واقفا أمامه فغاب عن وجهه .
دخل محمود ابو الجدايل إلى غرفته حزينا كئيبا غاضبا مدمرا أمام فظاعة ابنه . تمنى لو أن في مقدوره مغادرة البيت فورا ولو إلى الجحيم . وندم كثيرا على الإذعان لابنه وابنته بمغادرة دمشق . كان لم يمض على وجوده في بيت ابنه أكثر من ثلاثة أسابيع ، وقد طرح فكرة أن يستأجر بيتا لأنه يعشق الوحدة ، ويريد أن يكتب ويرسم ويقرأ دون أن يزعجه أحد ودون أن يزعج هو أحدا . فما كان من ابنه - الذي ابتاع بيتا ثانيا بعد أن أخذ قرضا من شركة تتبع للسفارة ستين ألف دينار مدعياً أنه لا يملك بيتا - إلا أن استغل الفرصة واقترح عليه أن يستأجر بيته الحالي بخمسة آلاف دينار في العام بدلا من أن يستأجر عند آخرين وتذهب نقوده إليهم !!
أدرك محمود ابو الجدايل أن ابنه يخطط لابتلاع خمسة آلاف دينار أخرى منه ، فلم تكفه الخمسة الأولى التي دفعها له من ثمن البيت . ولم تكفه الخمسمائة دينار التي دفعها له هدية لزواجه . لم يكفه كل هذا ويريد أن يستولي على ما لدى أبيه من نقود تقيه في تشرده . وما كل تحرشاته إلا لدفعه إلى القبول .
. " آه آه .. آه يا حزني . آه يا دمشق ، خيبتي في ابني كبيرة ، تكاد تكون بحجم مأساتي فيك يا دمشق .آه من ظلم ذوي القربى يا دمشق ، حقا إنه أثقل من وقع الحسام على النفس ، مؤلم أكثر من طعن الخناجر .. آه يا قدري الذي طالما انتصرت عليه ، هل ستنتصر علي هذه المرة ؟! "
لم يمر أكثر من ثلاثة أيام حين جاءت "الشعرة التي قصمت ظهر البعير" . فقد كان ابنه متعجلا لقبض الخمسة آلاف دينار ليفرش البيت الجديد ويترك هذا البيت ليؤجره لأبيه .
جاء إلى البيت ضيوف، وحين عرفوا أن محمود رسام أحبوا أن يطلعوا على بعض لوحاته .
جاء بلوحة كبيرة أوقفها على حافة كنبة وظل ممسكا بها إلى أن تفرجوا عليها لدقائق . أعادها إلى مكانها في حقيبة اللوحات .
حوالي منتصف الليل انصرف الضيوف . فوجىء بابنه يدخل عليه غرفته ليقول له " لقد نزعت الكنبة " فوجىء محمود فتساءل " أي كنبة وكيف ؟" الكنبة التي وضعت عليها اللوحة " !
" كيف " " لقد شققتها " " أف اللوحة شقتها ؟ هل هي سكين " ؟!
راح يظن أن ابنه شق الكنبة ليبتليه . نهض وهرع إلى الصالون حيث الكنبة . لم يكن فيها شيء . نظر جيدا حيث أوقف اللوحة لم ير شيئا . عاد إلى الغرفة وأحضر نظاراته . تأمل مكان اللوحة جيدا ، لم يكن هناك ما يشير إلى شق ! سأل ابنه ، فأشار إلى خدش أقل من سمك شعرة وبطول لا يتجاوز نصف سم. أدرك أن الخدش قديم خاصة وأنه يدرك نوايا ابنه جيدا .شعر بالدماء تغلي في عروقه . في رأسه ، في قلبه ، في كبده ، في رئتيه في كل جزء من جسده ، وكتم في دخيلته صرخة بحجم زلزال ، ولم يتنبه لنفسه إلا وهو يرتجف من قمة رأسه إلى أخمصي قدميه . سارع إلى غرفته وهو يرتجف . وشرع في وضع أغراضه في حقيبته . دخل ابنه عليه وسأله عما يفعله . وقف ليجيبه متمالكا أعصابه قدرالإمكان " لن أهين طهارتي بأن تبقى في بيت نجسته قذارتك ، ولا رغبة لها في تطهيره من آثامك ، أغرب عن وجهي ولا ترني وجهك ما دمت حيا !
سارع إلى نقل أغراضه أمام الباب . اختفى ابنه داخل البيت وأرسل زوجته لتقنعه بالبقاء . هتف لها ." أشكرك عمو ، أنت سيدة طيبة ولا تستحقين أن يكون هذا القذر زوجك ، ألم يسبق له أن جعل أخته وأولادها يغادرون منزله في هذا الوقت متذرعاً بإمكانية أن يخرب أولادها أثاث البيت ، نسي كم خرب في بيتي من أسرة وأبواب وشبابيك وهواتف وأجهزة تلفاز وأشياء لا تحصى دون أن يحاسبه أحد "
وحين أدركت الكنّة أنه لن يتراجع عن قراره سارعت إلى مساعدته في إنزال الحقائب من الطابق الرابع إلى الأول ، حيث لم يكن هناك مصعد . كانت الكنة بملابس النوم . أشارت عليه أن ينتظرها إلى أن تلبس وتعود لتأخذه في السيارة إلى حيث يريد . رفض لأن السيارة لابنه وليست لها .
بقي واقفا لبضع دقائق . لم تمر ولا سيارة . كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا . راح يحمل حقيبتين إلى مسافة عشرين أو ثلاثين مترا ثم يضعهما ويعود إلى الحقيبتين الباقيتين .متخوفا من أن يتنبه له لص ما ويهرب بالحقيبتين اللتين يتركهما خلفه ، فكان يلتفت كل بضعة أمتار ، تماما كما حدث معه في مطار القاهرة حين لم يجد عربة مطار لكثرة القادمين من دمشق .
ظل يتنقل بحقائبه لأكثر من ساعة . حين جاء تكسي وتوقف له .
- إلى أين ؟ هتف السائق .
- إلى فندق في اللويبدة يكون قريبا من دوار باريس .
- خمسة دنانير لأن الوقت متأخر وأنا آخذ ضعف العداد في هذا الوقت .
- ماشي الحال .
حاول السائق كعادة أمثاله أن يعرف أسرار هذا الرجل في هذا الوقت المتأخر من الليل ، غير أنه قطع عليه الطريق حين قال " أنا متعب جدا ولا أريد أن أتكلم أرجوك لا تسألني شيئا "
لحسن الحظ وجد غرفة في الفندق . وما أن أدخل حقائبه إلى الغرفة بمساعدة عامل في الفندق . حتى ألقى نفسه بطنا على السرير ، وهو يدرك إلى حد لم يبلغه من قبل إلى أي مدى يعني فقدانه
وتركه لبيته ودمشق . تمنى من الله شيئا واحدا فقط أن يتيح له أن يبكي ، ولم يكد ينهي تخاطره مع الله إلا والدموع تنزل من عينيه مدرارا .. وراح يبكي ويبكي ويبكي .. يبكي حاله ، ويبكي دمشق ، ويبكي بيته ، ويبكي الحياة برمتها .





(9) أبو الجدايل الملك !!
في طفولته ، وحين أخرجه ابو الجدايل الأب من المدرسة ليرعى قطيع المعز والنعاج الذي يملكه ، لم يمانع محمود أبو الجدايل على الإطلاق ، فقد كان معقدا من الرياضيات ، عقدة أوجدها معلم سادي للرياضيات في السنين الثلاث الثانية للدراسة ، كانت حزمة العصي تسبقه إلى درس الرياضيات ، ليكسرها على ظهور الأطفال ومؤخراتهم ، فكان محمود أبو الجدايل يستأذن استاذ الدرس السابق لدرس الرياضيات ليخرج لقضاء حاجته ، ولا يعود إلا بعد انتهاء الدرس ، وهكذا أنهى المرحلة الإبتدائية دون أن يفهم من الرياضيات إلا جدول الضرب الذي ظل يحفظه طوال حياته دون أن ينساه ، وبالكاد حتى يتذكر الزائد والناقص والقسمة . ولم يتخلص من هذه العقدة إلا بعد قرابة عشرين عاما حين تعلم لعبة الشطرنج وأدمنها لبضعة أعوام، ولم يكن يهزم إلا نادرا ومن قبل بعض اللاعبين الجيدين . قبل محمود أبو الجدايل مهنة الرعي مع أنه لم يحلم ولو للحظة أن يكون راعيا . كان يحلم بأن يكون ملكا بعد أن تجاوز أحلام الطفولة الأولى بأن يكون معلما لتأثره ببعض المعلمين .. ورغم أنه كان يسترسل في أحلام اليقظة هذه ويقيم مملكته وينصب نفسه ملكا عليها ويركب أفراسا تطير ويتزوج من أجمل بنات البلدة : ( ثريا ) الراعية الصغيرة التي تحولت إلى ملكة في خياله ، إلا أنه كان يعي تماما أنه يحلم ، فيعود إلى واقعه مع القطيع حين يتطلب الأمر التوقف عن الأحلام والعودة إلى عالم الرعاة ، حتى لا يحدث له ما حدث لحسن الملك وأسعد حمدان ، وهما اثنان من رعاة البلدة جنّا بالملكية وحاولا ممارستها في الواقع ، فالأول راح يدعي أمام الناس أنه ملك ، وإذا ما خاطبه أحدهم بغير لقب الملكية كان يأخذ حجرا ويقذفه به ، إلى أن اعتاد الناس مخاطبته بالملك . لكن ، وبين فترة وأخرى كان يظهر من يهين الملك فيقذفه الملك بحجر فيرد الآخر بحجر أيضا أو يشكوالملك إلى أهله ، لينتهي مقيدا بالحبال وملقى في خرابة بئر لبضعة أيام ، يعود بعدها مرغما لممارسة حياة طبيعية إلى أن تأتيه النوبة ثانية لينتهي إلى الخرابة نفسها ، وهكذا دواليك .
المجنون الثاني كان نادرا ما يؤذي أحدا ، غير أنه كان كثيرا ما يترك القطيع فجأة ويعدو على غير هدى رافعا رأسه نحو السماء ، وعلى ذمة الطفل الملك أيضا حينذاك محمود أبو الجدايل
أن الملك أسعد حمدان كان يعدو ليلحق بفرج محبوبته حليمه المحلق في السماء ، وما أن يلحق به ويتملكه حتى يتوقف عن العدو ويعود إلى القطيع . لكن في إحدى المرات جاء الملك ضيوف كثر فنهض مستلا خنجره وشرع في ذبح كبش ليغدي ضيوفه . كان الضيوف في خياله أما ذبح الكبش فقد تم في الواقع . انتهى به الامر إلى الخرابة نفسها التي كان يتناوبها مع حسن الملك .
الأعوام الثمانية التي أمضاها محمود أبو الجدايل في المدرسة خلفت عنده أمرا جميلا وهو عشق القراءة مع القطيع . لم تكن عزبة أبو الجدايل الأب تحوي إلا القليل جدا من الكتب الصفراء القديمة التي احتواها في طفولته بعد أن تعلم القراءة عند شيخ بقرص جبنة وبيضتين وثلاثة أرغفة من خبز الطابون ، وهذا أغلى ثمن كان يدفع للشيخ مقابل قضاء وقت أطول في التدريس . وكان أبو الجدايل الجد يدفع هذا الثمن عن طيب خاطر لتدريس أبو الجدايل الإبن . كانت هذه الكتب (ملحوشة) في سحّارة قديمة مشلّخة . من ضمن هذه الكتب : تغريبة بني هلال . الزير سالم . سيف بن ذي يزن . محمد الغريب . ديوان أبو النواس . عبرات المنفلوطي . هضم محمود أبو الجدايل (الحفيد )هذه الكتب في بضعة أيام . وكاد ينسى الحلم بالملكية وهو يتمثل شخصية أبو زيد الهلالي . والحق أنه كان محيرا بين شخصية أبو زيد الهلالي وذياب بن غانم ، فتارة يكون هذا وتارة يكون ذاك . كما أن عشق عزيزة بنت الوهيدي ( أحد أمراء تونس ) ليونس ابن السلطان حسن الهلالي ، جعله يكون يونس لبضعة أيام ليغرق في هذا الجمال الخارق الذي تصوره عزيزة على لسانها:
أول كلامي من مديح المصطفى / الهاشمي سيد ولد عدناني
تقول عزيزة بنت الوهيدي / أبيات شعر نظمتها بمعاني
يونس لا تبكي بكاك ضرني/ غطّى على قلبي وعاق لساني
انظرصبيّة أصبحت بحظرتك / عرجون ثريّا حولة العشيراني
الراس منها مثل راس يمامة / والشعرمسبول على القمصانِ
والحاجبين كما قوس الرجا / سبحان ربّي كحل العينانِ
والأنف منها كالحسام مجرد / في يد فارس نازل الميدانِ
والثم منها خاتم من ذهب/ واسنانها لولو والشفف مرجانِ
والعنق عنق غزال جل الذي صنع يراعي الخُدّام في البروالوديانِ
والصدر صادر من تخت عنبر/ ونهودها رمّان على لغصانِ!
والسرّة منها كما فسقية / بالمسك والزبذ انحشت ألوانِ
من تحتها تلتقي جنينة هاوية / مفتاحها من داخل القمصانِ
يا بخت من كان ينفتح له بابها/ يقضي زمانه بالصفا غرقانِ
وكان محمود / يونس يفتح باب هذه الجنينة ليغرق في الصفا متمتعا بجمال عزيزة ليبلغ النشوة وهو يداعب ذكره إلى جانب صخرة والقطيع ينتشر من حوله. والحق إنّ أحدا من الرعاة أو الأولاد في بريّة القدس لم يكن قادرا على تخيّل نساء أو فتيات أجمل من النساء والفتيات اللواتي يتخيلهن محمود أبوالجدايل .. فقد كان معظمهم يتخيلون بعض بنات البلدة أوبعض نسائها ، ولم يكن هناك ما يثري مخيلاتهم سوى رؤية فتاة ترفع ثوبها عن ساقها ، خلال السير، أورؤية ركبتين وربما جزء من فخذ لامرأة تغسل ملابس إلى جانب البئر وقد حسرت ثوبها إلى ما فوق ركبتيها !
سعدة بنت الزناتي خليفه لم تدفعه لأن يكون مرعي ولم يتخيلها في أحلامه الجنسيّة وغير الجنسيّة . وحين قرأ سيف بن ذي يزن وجد فيه شخصية مؤثرة أكثر بأفعالها الخارقة فتقمصها لبضعة أيام إلى أن طردتها شخصية الزيرأبو ليلى المهلهل . غير أن اكتشافه لألف ليلة وليلة والغرق في قراءتها رسخ أحلامه بالملكيّة ولم يعد في الإمكان إزالتها من دماغه ، حتى بعد أن هجر القطيع على أثر ضربة بهراوة فأس من أبو الجدايل الأب ، وعمل في أعمال شتى : عتال . حفار . مساعد طاه . جرسون . فدائي . طالب حر من جديد ، ليدرس : الصحافة . اللغة الألمانية . اللغة الفرنسية . اللغة الإنكليزية (التي كان يعشقها وكان الأول فيها في المدرسة .) اللغة العربية . السكرتاريا وإدارة الأعمال . التصوير . السيناريو السينمائي .الرسم ، إضافة إلى مطالعاته الخاصة في الأدب والشعر والفلسفة والعقائد والأساطير وعلم النفس والتاريخ ، والسياسة والفكر ، وتحوله إلى كاتب ، ونشر العديد من المؤلفات ، رغم كل ذلك ، ظلّت أحلامه بالملكية التي رسخها ملوك وجن وعفاريت ألف ليلة وليلة ، راسخة في لا وعية ، وحين شرع في كتابة ملحمة ( الملك لقمان ) ، وجد نفسه يستنهض أحلام الطفولة ثانية دون أن يدري ..أدرك ذلك بعد أن قطع شوطا طويلا في كتابتها . ليجد نفسه ملكا وأي ملك ؟ الملك القادرعلى زلزلة الكون !! والحق أن الزلزلة لم تكن غايته ، كان يبحث عن الله ، ليضع نفسه بقربه ، أقصى حلم يمكن أن يتخيله إنسان أو يحلم به . والحق إنّ تأثره فيما بعد بشخصية النبي محمد على أثر قراءة سيرة ابن هشام ، وتأثره بالفكر الصوفي الإسلامي وخاصة كما هو في فهم ابن عربي ، قد دفعاه في هذا الإتجاه ، غير أن قراءته للفلسفة والعقائد والأساطيرالبشرية ومواكبته لتطورالعلوم ، ساهمت في عدم تحوله إلى متصوف وفيلسوف تقليدي ، فقد شكل فلسفته وتصوفه الخاصين به ، متخذا من مذهب وحدة الوجود لابن عربي مبدءأً لتصوفه ، دون أن يتجاهل العلم والدين ، أو المادة والروح ، لذلك كان يفضل أن يقال عن فلسفته أنها مادية روحية .وهذا ما دفعه إلى تجاوز الكثير من اطروحات ابن عربي التي لم ترق له أو لم يقتنع بها كمسائل الحساب والعقاب والجنة والنار ، فقد نزه الخالق عن العذاب وجعله محبة مطلقة .غير أن ابن عربي والنبي محمد ظلا يحتلان في نفسه مكانة سامية لم يبلغها أحد قط ، حتى ما بعد العقد الخامس من عمره ..
******
قرابة ثلاثة أعوام في الرعي استثمرها محمود أبو الجدايل أيضا في تعلم العزف على الناي والشبابة والمجوز والأرغول ، أتقن العزف إلى حد أنه كان يطوع الاغنام على عزفه ، فما أن تسمع رجع صدى أرغوله يتردد من أعماق الأودية حتى تتخلى عن اضطرابها وتستكين إلى الهدوء وتنتشر على السفوح بحثا عن الكلأ دون أن تبتعد عنه . وكان أخوه الأكبر منه (محمد ) يعجب بعزفه ويستمع إليه بين فترة وأخرى ، وحين عرف شغفه بالقراءة راح يستعير له كتبا من مكتبة المدرسة الرشيدية في القدس التي كان يدرس فيها . ، وكان أول كتاب أحضره له ، هو ألف ليلة وليلة . الذي جعله يحلق بعيدا في عالم الخيال ، ليفتح له آفاقا جديدة لم يكن خياله قادرا على تصورها قبل ذلك ، وهو ما رسخ أحلامه بالملكيّة. غير أنه لم يحلم بأن يكون شهريار أو هارون الرشيد أو أيا من ملوك الف ليلة الآخرين . لم يكن يعرف حينها في الواقع إلا ملكا واحدا ، فراح يتمثله ، ويتقمص شخصيته أحيانا ، أو يتقمص شخصية خارقة أحبها الملك . وكثيرا ما كان الملك يتنازل له عن العرش ، غير أن شهامته كانت تأبى ذلك ، فيضع نفسه في مكانة مقربة جدا منه..
حين شرع في كتابة الملك لقمان كان في الثامنة وأربعين من عمره ، وكان قد أصدر قبلها ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية عدا كتبه الأخرى في الصحافة إضافة إلى العديد من المقالات والدراسات في النقد الأدبي والمخطوطات الأدبية التي منعت من النشر .. كان في حالة يأس عادية لا تشكل شيئا أمام الحال التي هو فيها الآن بعد اندلاع الثورة السورية . وكانت أوضاعه المادية البائسة قد دفعته إلى بيع البالة لأكثر من عامين . وحين وجد أن حياته تحولت إلى مجرد باحث عن لقمة العيش ، أشعل عود ثقاب وألقاه على مجموعة من فساتين النساء وراح يرقب احتراقها إلى أن أتت النارعليها كلها . فأشعل النار في دفعة أخرى من التنانير .. وهكذا راح يحرق الملابس دفعة دفعة ، إلى أن أجهز عليها كلها . أغلق المحل وعاد إلى البيت . أغلق الباب على نفسه في غرفة النوم واستلقى بطنا على السرير . ارتاح لدقائق ، ثم تناول من جانبه دفترا وقلما وشرع في الكتابة .
كان يفكر في عالم يريح نفسه، وبطل يعبرعمّا يدور في خياله، لا يريد أن يكتب انشاء، يريد بطلا يعشقه ويرى ذاته فيه . تخيل نفسه في شخصية أديب وفيلسوف أطلق عليه اسم لقمان ، ينوي الإنتحار قبل أن يغدو ملكا ، وهذه ( أل يغدو ) ربما تشير إلى أنه لم ينتحر ، ونأمل أن لا ينتحر محمود أبو الجدايل في زمن الثورة السورية المنكوبة، بهذا المسدس الذي ابتاعه فيما بعد لينتحر به . والحق إنّ قصصه مع الإنتحارالمتخيل وحالات اليأس كثيرة ، بعضها لا يمت له بصلة ، كإحدى رواياته التي أطلق عليها عنوان ( الهجرة إلى الجحيم ) وهي تسرد قصة يهودي بولندي هاجر مع طفليه إلى اسرائيل لينتهوا قتلى في حقل ألغام مع مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين في جنوب لبنان . أما ما يمت له بصلة ، والمقصود أن يتخيل نفسه في البطل الذي يختاره ! فكان يأسه في إحدى ليالي رأس السنة من أواخر القرن الماضي ، حين لم يجد من يتذكره فيها ، ولم يكن معه ما يكفي من نقود حتى للإنتحار، فظهر له الشيطان ودعاه إلى حفل رأس السنة في بحر معلق في السماء !! أطلق على كتابه هذا ( غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس ) اعتبره الألمان حين ترجموه تأترا بفاوست غوته ! وهو في الحقيقة لم يكن كذلك ، وفي مرة أخرى حاول أن ينتحر بأن ألقى نفسه من سطح أعلى بناية في دمشق ، غير أنه وقبل أن يرتطم بالأرض فوجىء بيدين طريتين ناعمتين تتلقفانه ، لم تكونا إلا يدي ملاك الموت عزرائيل الذي أبلغه أن ساعته لم تحن بعد ، واصطحبة في رحلة ترفيهية إلى الجنة ليقنعه أنه لن يحظى بنعيمها إذا ما انتحر !
في روايته أو ملحمته هذه بتعبير أدق ( الملك لقمان ) لم يخطر بباله أنه سيغدو ملكا ، بعد أن قاد أديبه اليائس المحظورمن أبسط الحقوق الإنسانية حتى حقه في أن يفكر بحرية ، إلى الصحراء لينتحر فيها ، وفيما كان يحفر قبرا لنفسه عثر على قمقم من عهد الملك سليمان ، قشط التراب عنه وفتحه ليخرج له عمود من الدخان تجلى عن جني عملاق ليس إلا ملك ملوك ، سجنه الملك سليمان بعد أن وجده في وضع نكاحي مع إحدي نسائه الفلسطينيات ، قطع سليمان رأسها ودفنها إلى جواره :
( أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان ، عبدك المطيع ودرعك المنيع شمنهور الجبارملك ملوك الجن الحمر في سائر الاكوان والأمصار )
لم يصدق لقمان نفسه فهو وحتى حينه لم يكن مؤمنا إلى هذا الحد بوجود إله وجن وشياطين ، وإن كان مؤمنا بوجود خالق وخلق . وبعد حوار شبه عقلاني مع ملك الملوك ، عدل عن الإنتحار ، شريطة أن يصحبه الجني إلى السماء في رحلة بحث مضنية عن الله .
أعد له ملك الملوك مائدة طعام ملكية تحف بها حور العين الجنيات وسط حدائق خلابة ، وقدم له الحورية الملكة نورالسماء التي تزوج منها لقمان فيما بعد ، وتوج ملكا على ممالك الجن والشياطين قاطبة ، وبايعه هؤلاء جميعا حتى الشيطان ابليس نفسه الذي راح يشكو همومه مع الله له .
وكان اول طلب له من الجني ملك الملوك أن ينزع الاسلحة من كوكب الأرض دون أن يؤذي
أحدا .أقام ملك الملوك الدنيا وأقعدها وأرسل مليار جني إلى كافة جهات الارض ، لم يتركوا سلاحا إلا وقذفوا به على سطح القمر ، بحيث لم يعد القمر قادرا على تحمل هذا الثقل الهائل للأسلحة التي قذفت عليه . وضجت دول الأرض بالتساؤل عما يجري ، إلى أن وجه الملك لقمان من الفضاء رسالة سلمية إلى البشرية يدعوها فيها إلى السلم والسلام والمحبة والتعاون !!
طاف ملك الملوك بالملك لقمان على متن مركبة فضائية جنية ، أكوانا وكواكب كثيرة ،
رأى فيها لقمان عوالم عجيبة مختلفة ، وأسقط نظما دكتاتورية وأقام نظما علمانية ديمقراطية ، لكنه لم يعثر على الله ! إلى أن جاء إلى كوكب يحكمه طاغية يدعي الألوهة يسمى داجون . كانت مركبته تحلق فوق محيط من الحمم البركانية الملتهبة ، تجمعت في منخفض شاسع من جراء الأنهار البركانية التي كانت تنبعث من جبال وهضاب بعيدة مختلفة وتصب في هذا المنخفض لتجعل منه محيطا ملتهبا . وليجعل منه الطاغية جهنما يحرق فيها معارضيه والثائرين على طغيانه .
كانت مئات الأرتال والطوابير من المعذبين تصطف أعالي جروف صخرية ، وكان أعوان الطاغية يقطعون رؤوس بعضهم بالسيوف ويلقون بالأجساد في جهنم فيما يبعثون بالرؤوس إلى جبال الجماجم التي كانت مقامة على مسافة بضعة أميال من المحرقة . وكان هؤلاء محكومين بقطع الرؤوس، أما من حكموا بالإلقاء في المحرقة الجهنمية فلم تكن تقطع رؤوسهم ، كانوا يلقون أحياء .
أوقف الملك لقمان بمساعدة الجن أعمال القتل والتعذيب ، ونزل إلى الأرض برفقة الملكة نور السماء ، وراح يستعرض أرتال المعذبين والمعذبات ويسألهم عما ارتكبوه من أفعال حتى كان مصيرهم جهنم . كان معظمهم من الثائرين على الطاغية الإله أو من المتمردين على عبادته ،
أو الذين كانوا يطالبون بتخفيف طقوس العبادة ، كجعل الصلاة مرة واحدة في الأسبوع بدلا من ثلاث صلوات في اليوم .
أعاد الملك لقمان لهم صحتهم وعافيتهم وحممهم وألبسهم أجمل الملابس .
ما حير الملك لقمان وجود رتل لأطفال، فلا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا شيئا ، فبعضهم كانوا رضعا ، فماذا ارتكبوا ليحرقوا ؟ توقف الملك أمام الرتل وراح يتأمله ، لم يستطع أن يرى آخر الرتل الذي امتد لآلاف الأمتار . تقدم من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عمرها كانت أختها الأكبر منها تحملها في حضنها وتنوء بثقلها . أخذها الملك لقمان وحملها عنها . ضمها إلى صدره وقبلها ، وراح يربت على ظهرها ليهدئ من روعها ويوقف نشيجها وتنشغها.
"خلص حبيبتي خلص ، يلعن أبوه داجون كان بده يحرقك في النار ؟"
أجابت الطفلة وهي تنشج وتنشغ :
" آه. آه .آه "
" خلص لا تبكِ . لن أدعه يحرقك حبيبتي "
أحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوقت عنق الملك لقمان بيديها ، وأخذت تخفف من نشيجها . تساءل الملك لقمان :
" أين بابا وماما يا حبيبتي "
أجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة :
" رماهم داجون في النار "
كبت الملك لقمان انفعالاته بقوة خارقة :
" يلعن أبوه يا حبيبتي ليش رماهم في النار "
" لأنهم ما بحبوه " !!
هتف أحد السفاحين الموكلين بحرق الناس :
" هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله داجون ، الذين أحرقوا ، يحرقهم داجون حتى لا يثأروا لآبائهم حين يكبرون "
نزلت كلمات السفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين . كبت انفعالاته وطار محلّقا بالطفلة فوق الملايين من البشر والجن والمحيط الجهنمي ، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت
إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى :
" ماذا تريدين يا حبيبتي أن أحضر لك ، فأنا عندي هدايا كثيرة ، عندي خيول وحصن وحوريات وعرائس وغزلان وقطط وكلاب وخراف وسخال وقصور وكل شيء ، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك "
راحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيلتها وهي تستكين إلى كتفه وتسهم بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها والبخار المتصاعد منها دون أن تجيب . تساءل الملك لقمان :
" لماذا لا تجيبين يا حبيبتي ؟ "
وما لبثت الطفلة " نسمة " ان هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق ، وكأنها تعوض بهما عن كل الهدايا "
" ما بدي هدايا ، بدي بابا وماما "
احتواها الملك لقمان إلى حضنه وكأنه يريد أن يدخلها بين ضلوعه أو في قلبه ، وانفجر بالبكاء وهو يحلق بها عاليا ، وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانية وأنهار وينابيع الحمم المتدفقة منها ، ثم المصبات الهادرة في المحيط الجهنمي ، وما لبث أن هتف صارخا في أعماقه مستنجدا بالله ، مستعينا بكل أصوات البشر والقوى الجنية التي لديه والتي يعرفها :
" إلهي ! ما قطعت ملايين السنين الضوئية بحثا عنك ، إلا ويحدوني أمل أنك موجود ، وأنك قادر ، فإن كنت موجودا وقادرا ، أتوسل إليك أن تعيد الحياة إلى كل من أحرق في جهنم هذه "
سمعت الملكة نور السماء . وسمع ملك الملوك . وسمع جميع الجن والشياطين صرخة الملك لقمان ، فصرخوا معه وتوسلوا إلى الله معه ، وهم يحتشدون في السماء من حول الملك لقمان والطفلة نسمة وأختها والملكة نورالسماء . ولم تمرإلا لحظات لتقوم القيامة . راحت البراكين والينابيع البركانية تقذف ماء باردا شكل أنهاراً تصب في المحيط ، وتفجرت من بعض الجبال أنهار تقذف ماء فراتا ، وزلزلت الأرض في كوكب داجون وهي تتفجر بالأنهارالعذبة التي راحت تطارد الحمم البركانية لتصب في جحيم داجون . ارتفع الدخان وعلا من جراء إطفاء الحمم الملتهبة ، واختلط بالضباب والسحب المنخفضة وتعالت أصوات الجن والبشر في كوكب داجون بالصراخ ، فيما الملك لقمان يحلق بالطفلة عاليا ، تتبعه الملكة نور السماء ضامة أختها إلى حضنها .هتفت نسمة :
" إلى اين تأخذني يا عماه "
رد عليها الملك لقمان بثقة عالية ومن خلال دموعه :
" إلى بابا وماما يا حبيبتي "
أخذ الدخان يتبدد ، والضباب يتلاشى وراح الماء العذب يتجمع في المحيط بعد أن أطفأ وجرف الحمم البركانية بعيدا ، ليرتفع إلى أعالي الجروف العالية المحيطة به . وشرع الملك لقمان في الهبوط محلقا فوق مياه المحيط ، وهو ما زال يتوسل في نفسه إلى الله .
وفيما كان يهتف ويحدق عبر دموعه إلى مياه المحيط الفسيح ، لمح بعض الأيدي البشرية تتخبط في الماء ، وما لبث أن شاهد بعض الرؤوس ، ثم مئات الأيدي ثم مئات الرؤوس ، ثم آلاف الأيدي ثم آلاف الرؤوس ، وأخذ المحيط يمتلئ بأيدي ورؤوس البشر ، والأجساد مقطوعة الرؤوس . آلاف آلاف الأجساد مقطوعة الرؤوس ، كانت تظهر للحظات ثم تختفي لتظهر ثانية . صرخ الملك لقمان بالجن أن يقفوا مع الله ويلقوا بجبال الجماجم إلى مياه المحيط .
هرع ملايين الجن وحملوا جبال الجماجم وألقوا بها ..أخذت أجسام بشرية كاملة تندفع عموديا من الماء وترتفع إلى أعلى وما تلبث أن تسقط لتحاول الصعود ثانية وهي تتخبط في الماء مقاومة الغرق . صرخ الملك لقمان بالجن لينقذوا البشر ويرفعوهم إلى الفضاء . اندفع ملايين الجن إلى مياه المحيط وهم يرددون اسم الله . وانطلقت أصوات الملايين من البشر تردد اسم الله ، لتعم الأصوات كوكب داجون كله .
أخذت ملايين الاجسام البشرية العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى لتصعد إلى فضاء المحيط وتحلق فيه . أجسام أطفال ونساء ورجال وشباب وشابات وكهول اندفعت لتحلق في الفضاء . ملايين الأجساد اندفعت . وراحت تردد اسم الله . فيما الملكة نور السماء تخلع عليها أجمل الملابس .
هتف الملك لقمان لنسمة :
" الآن سنعثر على ماما وبابا يا حبيبتي ، ابحثي معي عنهما بين الناس "
رفعت نسمة رأسها عن كتفه وراحت تجوب بنظراتها بين الناس المحلقين ، وما لبثت أن اعتدلت وراحت تبحث بين المحلقين من أمام الملك وليس من خلفه . وشاءت الإرادة الإلهية ان لا يبحثا طويلا بين الناس ، فما لبثت نسمة أن شاهدت أمها فصرخت : ماما ، ثم شاهدت أباها ، فصرخت : بابا .
هرعت الأم متقدمة الأب ، ألقى الملك لقمان نسمة بين أحضانها ، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها إلى أحضان الأب .
هبط الملك لقمان على الفورإلى الأرض ، وجثا على ركبتيه لأول مرة في رحلته السماوية ،
واضعا يديه فوقهما ، شاخصا بعينيه إلى السماء ، فهبط خلفه الملايين من البشر والجن , على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ، وجثوا مثله من حوله. وحين خفض بصره ، خفض الملايين أبصارهم ، وراحت العيون، كل العيون ، عيون الإنس والجن ، تنظر إليه آملة كلمة منه ، فهتف وعيناه تغرورقان بالدموع ، بجملة صعب على الكثيرين فهمها :
" حين لا يكون هناك إله فليس ثمة إلا الله " !!
******















(10 ) الملك لقمان أبو الجدايل !!
وهو يرقب آلاف النسور الضخمة تحمل الطاغية داجون وأعوأنه وتحلق بهم في سماء مدينة العرش الداجوني لينالوا بعض ما يستحقون من عقاب جراء ما اقترفوه من آثام ، تذكرالأديب الملك لقمان أبو الجدايل يوم مولده في حقل الحصاد كما روته له أمه ، وتذكر نبوءات الأفعى لأمه بأن وليدها سيكون ملكا عظيما يحكم الكون ! وهاهي النبوءة تتحقق ، فها هو يجلس على منصة العرش الداجوني ونسمة تستكين إلى حضنه وتعبث بشعر ذقنه فيما تجلس الملكة نور السماء وملك الملوك شمنهور الجبار إلى جانبيه ومن حولهم الملك ابليس ومئات ملوك وملكات الجن والشياطين وبعض أبناء الكوكب الداجوني . وهو الآن يملك من القدرات ما يمكنه من أن يتبوأ عرش الأكوان كلها .
كانت أمه تحصد في حقل القمح برفقة أبو الجدايل الأب وآخرين ، حين دهمها المخاض . وضعت يدها على بطنها وتأوهت وما لبثت أن انطرحت أرضا وراحت تزحر وموجات الطلق تدهمها واحدة إثر أخرى . اندفع الوليد من فرجها وراح يصرخ باكيا حين اصطدم رأسه بالأرض . أخذته أمه ومسحته وأرضعته من ثديها ولفعته . مددته على حذل بين غمور الحصاد ، وظللته بمنديل فرشته على عيدان نصبتها من القصب لتعمل له خصا يقيه حر القيظ ، ونهضت لمتابعة الحصاد .
حين هرعت لتطمئن عليه بعد فترة وجيزة ، وجدت أفعى في حذله . كانت الأفعى تلتف فوق رجليه وتتمدد لتلقي رأسها على صدره . لم تقدر على الصراخ أوعلى فعل أي شيء ، راحت تدور حول الخص حانية ظهرها والرعب يجتاح كيانها والصرخات تكبت في دخيلتها ، وما لبثت أن مدت يديها نحو الوليد وهي تتوسل إلى الأفعى مناشدة إياها " أستحلفك بالله القدير ، بالعذراء وإبراهيم الخليل ، بمحمد وموسى وابن الجليل ، ألا تفجعيني بمن في المهد صغير "
شرعت الأفعى في فك طيات جسدها وترك جسد الوليد ، لتنساب بين غمور الحصاد . أخذت الأم الوليد إلى حضنها ودارت به حول نفسها وهي تضمه إلى صدرها وتعانقه .
أقبل الحصادون في قيلولة الغداء .. لمحوا الأفعى تزحف متلوية بين غمور الحصاد ، شرعوا يطاردونها بالحجارة . لجأت الأفعى إلى غمر حصاد ودخلت تحته . ألقت الأم بالوليد وهرعت نحو الأفعى . ألقت نفسها فوق الغمر حيث الأفعى وهي تصرخ : لا تقتلوها ، لا تقتلوها ! وهيأ لها أن الأفعى تستجير بها هاتفة أجيريني أجيريني . أصابت الأم بعض الحجارة . لم تكترث لألمها . أخذت الأفعى بيديها ،وضمتها إلى حضنها وانطلقت بها إلى أطراف ألحقل ، وسط صراخ الحصادين وأبو الجدايل الأب ، الذين راحوا ينهالون عليها بالشتائم .
أطلقت الأم الأفعى لتذهب في حال سبيلها . انتصبت الأفعى واقفة على ذيلها وأطلقت نبوءتها
التي استعرضت فيها أهم محطات حياة محمود أبي الجدايل ، إلى أن أنهتها بأنه سيكون ملكا عظيما يحكم الأكوان كلها !!
تنبهت الملكة نور السماء إلى أن الملك لقمان قد سرح لبعض الوقت وهو يتأمل آلاف النسور المحلقة بانتظام مدهش في سماء مدينة العرش الداجوني ، حاملة بمخالبها الطاغية داجون والآلاف من أعوانه .
" هل سرحت يا حبيبي ؟ "
" قليلا حبيبتي .. تذكرت طفولتي ، وجبال القدس وتنبؤات الأفعى لأمي "
" هل ستترك النسور محلقة بداجون وأعوانه ؟ "
" سأجعل النسور تطوف بهم الكوكب ومن ثم تلقي بهم في جزيرة نائية غير مسكونة ، ليبدأوا الحياة من الصفر "
" لن تعدمهم ؟ "
" لا ! لن أعدمهم ، يكفيهم ما سيكابدونه من شظف العيش في الجزيرة "
" كم أنت رحيم يا حبيبي "
" رسالتي لا تحمل إلا الرحمة للبشرية "
" وهل ستخفف عنهم شظف العيش في المستقبل ؟ "
" سأترك الأمر لأبناء الكوكب وآمل أن يرأفوا بهم فيما بعد "
" هل أنت سعيد بما حققته حتى الآن ؟ "
" قليلا ، لكن سعادتي لن تكتمل إلا بلقاء الله "
" وإن لم تتمكن من لقائه ؟ "
" سألتقيه يا حبيبتي سألتقيه "
قبل الملك لقمان نسمه . وأنزلها إلى أرض المنصة وشرع في مصافحة الملوك والملكات وأبناء الكوكب مودعا ليتابع رحلته السماوية .
*******
أكثر من عام مر على إقامته في عمان قبل أن يبتاع المسدس الذي فكر بأن ينتحر به !. كان يخرج من شخصية الملك لقمان ويجوب شوارع اللويبده وجبل عمان بشخصية محمود أبو الجدايل الواقعية ، بحثا عمن يشتري لوحة منه . باع بعض اللوحات بأسعار بخسة ، وأقامت رابطة التشكيليين الأردنيين معرضا له باع لوحتين بمبلغ زهيد جدا .إحداهما أخذتها وزارة الثقافة . لم تقبل أي صالة تجارية أخرى أن تقيم معرضا له . تفاءل خيرا حين أجرى التلفزيون الأردني لقاء معه ، فقد يشهر وجوده في عمان مما قد يدفع بعض الناس الذين كانوا يبتاعون لوحاته من دمشق أن يبحثوا عنه ، ويدفع آخرين لابتياع لوحاته ، لكن التلفزيون حذف معظم ما جاء في المقابلة . الصحافة التي كانت تبحث عنه في دمشق لتجري حوارات معه لم تتعرف عليه هنا . لم يصدق ما يجري معه . أدرك أن نقوده ستنفد خلال عام أو أكثر قليلا، وإن لم يتدبرأمره سيواجه مصيرا سيئا .. خابر أم محمد في دمشق لتبعث له ما بقي من نقوده في البيت .أخبرها عن مكانها في الكتب على رفوف المكتبة . وتمكنت بمساعدة فريال من العثور عليها بسهولة . وفريال هذه فتاة كانت تعمل معه في معرضه بين فترة وأخرى . كانت تقيم مع اسرتها في الميدان ، وكان الميدان يتعرض لقصف شديد في اليوم الذي غادر فيه دمشق . وبعد أربعة أيام من وصوله إلى عمان ، اتصل بها ليطمئن عليهم . أجابته قائلة أن بيتهم قد طالته القذائف وأنهم يقفون على رصيف لا يعرفون أين يذهبون . أجابها على الفور بأن تذهب إلى أم محمد وأن تأخذ مفتاح بيته منها وتقيم مع اسرتها فيه إلى أن تفرج . واتصل بأم محمد لتعطيها المفتاح.
أرسلت أم محمد النقود له .حاول أن يستأجر محلا يعرض فيه لوحاته . كانت الأجرة باهظة والبيع غير مضمون فتخلى عن الفكرة . نصحه قريب له يعمل سفيرا للسلطة الفلسطينية أن يكتب رسالة للرئيس الفلسطيني ليخصص له تقاعدا بصفته خدم في حركة فتح أكثر من ربع قرن بين أعوام 68 و95 من القرن الماضي ، منها خمسة أعوام في مكتب الدراسات الذي كان الرئيس أبو مازن نفسه .
لم ترق الفكرة له ، شعر أنه يتسول ، غير أن "نمر" لم يوافقه مؤكدا أن هذا من حقه . وأصر على الموضوع . كتب رسالة على عجل موجهة إلى الرئيس الفلسطيني وأرسلها معه . بعد قرابة شهر فوجىء باتصال هاتفي من صديقه الروائي يحيى يخلف يسأله عن ماضيه في حركة فتح .
تفاءل خيرا بعد اتصال يحيى به وقرر أن يبتاع كل ما ينقص بيته الذي استأجره بعد أن ترك بيت ابنه، فابتاع تلفازا وكومبيوتر وخزانة وكنبات ومكتبة وأدوات مطبخ كاملة وكل ما يحتاجه بيت . واشترك في خدمة الإنترنت واستعاد صفحته على الفيس بوك التي فقدها بعد خروجه من دمشق .وراح يمضي أيامه ولياليه مع الألوان دون أن تفارق شخصية الملك لقمان مخيلته وهو يرسم ، محاولا قدر الإمكان أن يطرد من مخيلته الفظائع التي تجري في سورية ، غير أنه لم يعد قادرا على النوم إلا بالحبوب المنومة أو المهدئة. يتذكر أفعال ابنه معه "من أي طينة قد هذا الإبن ، من أين اكتسب كل هذا اللؤم والبخل والطمع ؟" يهرب من صورة ابنه لتمثل صورة بيته في مخيلته . يستعرض مئات اللوحات والمنحوتات ،غرفة المكتبة ، مؤلفاته ، مخطوطاته ،غرفة الكومبيوتر والملابس ، المطبخ ، التحف .. المتناثرة هنا وهناك . لا يصدق أنه سيعود إلى عالمه ذاك . يا ليته تمكن من إحضار مؤلفاته ومخطوطاته، وأرشيفه الفني . يقض القلق مضجعه ، ولا يجدي استحضار شخصية الملك لقمان ، ولا حتى النوم بين أحضان فاتنة، ولا العد من الواحد للمائة أو العكس ، أو الإستغراق في الشهيق والزفير دون جدوى ، أوتخيل مواقعة خرافية مع أحلى حورية مراهقة ! فيلجأ إلى أخذ حبتين من الحبوب المهدئة ، ومع ذلك لا ينام بسهولة . فهذه الحبوب التي يصرفونها له بمبلغ زهيد من مستوصف الدولة بعد أن اشترك في التأمين الصحي ، لا تنوم دجاجة ، فكيف بمن يحمل كل هذا القلق . حاول أن يبتاع حبوبا منومة من صيدليات السوق . لم تقبل أي صيدلية أن تبيعة فاستعان بصديق له وحصل عليها.
ازداد قلقه حين عرف أن أسراً أخرى من أقارب فريال لجأت إلى البيت . أحس أن كل شيء سيتكسرأو يسرق . كما أن أكثر من عشرة أشهر على مكالمة يحيى قد مرت دون أن يحدث شيء ، وحاول الأديب محمود شقير وبعض أدباء القدس وخاصة جميل السلحوت وابراهيم جوهر وبعض كتاب فلسطين والأردن السعي لدى أكثر من جهة مسؤولة في البلدين دون جدوى . في عمان قلبت الشاعرة زليخة أبو ريشة الدنيا وأقعدتها على صفحتها في الفيس بوك بعد أن عرض محمود أبو الجدايل لوحاته على رصيف أمام رابطة الكتاب الأردنيين.
أعاد محمود كتابة رسالة ثانية إلى الرئيس الفلسطيني يعرفه بنفسه ويذكره بها ، متطرقا إلى بعض المهام التي كلف بها من قبله ، ومقابلات صحفية أجراها معه ، ومؤلفات كتبها بتكليف من مكتب الدراسات . عدا عمله في أجهزة أخرى في فتح بدءا من انتمائه كمقاتل وانتهاء بعمله الصحفي والأدبي ، أرسل الرسالة إلى أكثر من شخص ، وحملها لأكثر من شخص ، على أمل أن تصل إلى أبو مازن . أرسلها إلى الأديب محمود شقير. وإلى الاديب يحيى وأصدقاء آخرين معظمهم أدباء . وحاول مقابلة السفير الفلسطيني في عمان ليترك نسخة معه للرئيس لكنه لم يفلح رغم محاولاته المتكررة .فمن هو ليتاح له مقابلة السفير ؟! بحث عن الرئيس على شبكة النت . وجد له صفحة على الفيس بوك . كتب له رسالة مقتضبة . وظل يترقب أن يراها الرئيس ، ومر أكثر من ثلاثة أشهر ومؤشر الفيس بوك يشير إلى عدم إطلاع الرئيس على الرسالة . فقرر أن ينساها .
توقف محمود أبو الجدايل عن الرسم ، حين أدرك أنه لن يبيع شيئا مما رسمه ، وشرع في كتابة مقالات نقدية عن الروايات التي قرأها ومعارض الرسم التي شاهدها . راسل العديد من الصحف الخليجية ولم تجبه أي صحيفة . اتصل بصديقه الكاتب ماجد كيالي الذي أرسل له مجموعة أسماء للاتصال بها بتوصية منه . أرسل مقالات لأكثر من جهة . منها ثلاثة مقالات إلى مجلة خليجية يكتب فيها بعض أشهر الكتاب العرب ، أحدها عن رواية لمحمود شقير " فرس العائلة " بعد بضعة أسابيع فوجىء بالشاعر نوري الجراح يتصل به من لندن ويسأله عما إذا أرسل له مقالا عن رواية فرس العائلة ، كما فوجيء بمحمود شقيرينشر رابط المقال نفسه في صفحته على الفيس بوك نقلا عن صحيفة تدعى البناء لم يسمع بها من قبل , وحين وضع عنوان المقال للبحث عنه في جوجل ، وجده منشورا أيضا في موقع على النت يدعى ميدل إيست أون لاين ! وموقع آخر يدعى صحفي . اتصل بمستلم البريد في المجلة فأجابه كاذبا بأن المجلة لا ترسل ما يصل إليها إلى أية جهة أخرى ! سأل نوري الجراح عن إيميل من أرسل له المقال ، وعد بالبحث ، لكن محمود لم يتلق منه أي شيء. اتصل بالجهات التي نشرت المقال ، لم ولن تجيب بالتأكيد .
المقالان الآخران عن الفن التشكيلي لم ينشرا ولا يعرف إن سرّبا لصحافة أخرى بتغيير عنوانيهما حتى لا يعثر عليهما بالبحث .
هناك مجلات رحبت بمقالاته لأنه يعرف بعض محرريها . أرسل لها . وبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر لم ير شيئا .مجلة خليجية أخرى مرموقة أرسل لها مقالا وفصلين من رواية . أرسلت له ايميلا تخبره عن حوالة له بالسوري ، وحين ذهب إلى البنك وأعطاهم رقم الحوالة ، لم يتم العثور عليه . أخبر إدارة المجلة فأرسلت له حوالة ثانية بالدولار إنما برقم خطأ أيضا . راسلها ثانية ، أجابت سيجري البحث عن الخطأ ، ويبدوأنه سيظل جاريا إلى يوم القيامة ، وقد لا يستبعد أن ترسل حوالة وهمية ثالثة برقم خطأ لا يعثرعليه في حواسب البنوك والصرافين .أكثر من خمسة عشر مقالا أرسلها للصحافة أو لأصدقاء لينشروها ، ولم ير شيئا بعد قرابة ثلاثة أشهر .
الطريف أن شاعرا سوريا صديقا معارضا كاتبه لإرسال المزيد من المقالات فأجابه متسائلا
" ألا تنشرون المقالات التي لديكم أولا " يبدو أن المقالات تذهب إلى حيث يريدون فور استلامها . أما الأطرف فكان اتصال على الفيس بوك من صديق آخر في دمشق يطلب إجراء حوار معه إلى صحيفة للدولة !
لم يتلق ثمنا إلا عن بعض المقالات من مجلات تحترم نفسها . ك " نزوى" العمانية ، "وشؤون فلسطينية" و" أفكار الأردنية " و" مشارف مقدسية " وبعض الصحف . توقف عن الكتابة حين عرف واقع الحال في المجلات البائسة . حمل لوحاته وعرض بعضها أمام المدرج الروماني لعله يبيع شيئا .
اقترب سائح منه ليلقي نظرة على اللوحات .. هتف مرحبا به بالإنكليزية كما اعتاد أن يرحب بالسياح في معرضه في دمشق : " أهلا بكم في دمشق"!
فوجىء بالسائح يتوقف ويحدجه بدهشة ، ثم ينصرف متابعا طريقه بسرعة .
شعر أن السائح ارتاب منه فهرب . " لكن لماذا ؟"
جاءت سائحة أخرى . رحب بها " ولكم إن دمسكس" !
فوجيء أيضاً بالسائحة تفتح فمها وتهتف بدهشة وهي تبتعد متسائلة ( إن دمسكس ) ؟
" أوه " وأدرك السر في دهشة السياح .
أمضى قرابة ساعتين دون أن يبيع شيئا .. أعاد اللوحات إلى حقيبتها . وانصرف يجر شيخوخته وثقل أحزانه ولوحاته ، بخطى متهالكة ، وصوت يصرخ في دخيلته
"متى تدرك أنك مشرد في عمان ولم تعد في دمشق ، متى" ؟
******
صرخات بعض أدباء القدس وعمّان بل فلسطين والأردن حول الوضع الذي يتهدد محمود أبو الجدايل في تشرده من دمشق، وصلت أخيرا إلى بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية الذين يعنيهم الأمر ، فحاول الشاعر مراد السوداني أن يحصل له ولبعض المشردين من دمشق وغيرها على راتب من الصندوق القومي الفلسطيني ، غير أنّه لم ينجح سوى في تحصيل مبلغ 300 دولار شهرياً، ابتداء من عام 2015، ولم ينس مراد الأمر وظل يلح على المسؤولين ويتحدث عن دور الأدباء في الثقافة العربية ، إلى أن تم زيادة المبلغ إلى 500 دولار بداية عام 2018.. ومع ذلك لم تحل المشكلة ، فالحياة المقبولة في عمان تحتاج إلى ما لا يقل عن ألف دولار شهريا لشخص واحد وليس لأسرة . لأن أجرة البيت في عمان تبتلع نصف هذا المبلغ .. أي500 دولار تعادل 350 دينار .. ورغم أن أجرة بيت محمود أقل من هذا المبلغ ، إلّا أن أجرة البيت تبتلع ثلثيه.. وصاحب البيت يعد برفع الأجرة ..
الجهة الثانية التي وصلت إليها أصوات الصارخين. هي وزارة الثقافة الفلسطينية . فقد أقامت حفل تكريم شبه رسمي ( كونه غير موثق رسمياً) لمحمود في معرض الكتاب في عمان بحضور وزير الثقافة الدكتور إيهاب بسيسو ومندوب عن وزارة الثقافة الاردنية وبعض الكتاب والمثقفين . ابتاعت الوزارة 24 لوحة لمحمود بسعر لا يتجاوز (11) ألف دولار ، وهو أرخص سعر باع فيه محمود لوحاته لأن اللوحات ستذهب إلى فلسطين .. فهناك لوحتان قياس 50 ب 35 سم سعر الواحدة منهما ستة آلاف دولار في موقع الحوش على شبكة النت .. جعله ألف دولار فقط للوحة الواحدة. إحدى اللوحتين تحمل رسما لمسجد الصخرة بين امرأتين واقفتين ، والثانية لثلاث قديسات .. جميع اللوحات أل (24) مرسومة بتقنية الرسم والحفر والزخرفة ، وهي تقنية خاصة بمحمود .. دفع الوزير لمحمود مبلغ 3000 دولار كجزء من ثمن اللوحات ، ولم يتم دفع باقي الثمن بعد قرابة ثلاثة أعوام ، وتغير الوزير عام 2019 .. والأمل في الحصول على باقي المبلغ مفقود ، وحتى الأمل في استعادة باقي اللوحات مفقود أيضا .. وسبق للوزارة أن نشرت مجموعة قصص لمحمود قبل أكثر من عشرين عاما ، وما زال ينتظر حقوقه عنها !
مشكلة محمود إن كانت مشكلة ، هي كمشكلة كثيرين من الكتاب الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الأردنية ، فهم اردنيون وفلسطينيون في الوقت نفسه وأن لم يحملوا وثائق فلسطينية . وسبق لوزارة الثقافة الأردنية أن ساعدته في نشر أول كتاب له يصدر في عمان بعد قدومه من دمشق ، وهو " رسائل حب إلى ميلينا " كما ابتاعت لوحة بقيمة 500 دينار من أول معرض أقامه في رابطة التشكيليين الأردنيين . أمّا في هذه المرحلة فلم تفعل شيئا وإن وعدت بشراء لوحة له . قدّم محمود طلبا لشراء لوحة غير أن الموافقة لم تصدر. وتغيرت الوزيرة دون أن تصدر .. اكتفى وكيل الوزارة بالتذكير بأن الوزارة ابتاعت لوحة لمحمود من قبل وساعدته على نشر كتاب وتنشر مقالاته في مجلة أفكار الشهرية التي تصدر عن الوزارة !

الجهة الثالثة التي تحمست لتكريم محمود، هي رابطة الكتاب الأردنيين . ققد أقامت له حفل تكريم، إنما دون دفع أي نقود له ..

******











(11) أبو الجدايل الأول يكتشف النار المقدسة !!
لا يعترف الأديب محمود أبو الجدايل بأن البشرية ابتدأت بكائنين دعيا آدم وحواء! لذلك قد لا يعترف بكل الجدائليين الذين سبقوه من هذا النسل، رغم أنهم ينحدرون في أصولهم التاريخية من نسل قابيل بن آدم ، وأن تعدادهم يفوق الملايين ، وأن أفرادهم يتوزعون في كافة أرجاء الأرض ، ولا تكاد تخلو دولة في العالم من أسرة لا تعود في جذورها لهذه العائلة الجدائلية، فنوح نفسه وأولاده سام وحام ويافث ينتمون ، لهذه العائلة ، التي جاءت منها البشرية بعد الطوفان المهول الذي أغرق وأفنى البشر والحيوانات ولم ينج منها إلا اسرة نوح وما حملته السفينة العظيمة ! المؤسف أن محمود ابو الجدايل لا يعترف بنوح وأولاده ولا حتى بالطوفان المزعوم ، ويصر على أن هذا الأمر مجرد أساطير لا تستند إلى تاريخ موثق خارج النص التوراتي الاسطوري.
أبوالجدايل الأول الذي سبق نوح ببضعة أجداد ينتمي إلى الجيل الثالث والعشرين لأحفاد قابيل ، وهو أول آدمي ضفر شعره في جدائل دون أن يعرف اسم الجدائل حينذاك كونه لا يعرف لغة ، غير أنه وفيما كان جالسا في ظل صخرة على شاطيء الأردن ويعبث بشعره الطويل وجد نفسه يضفرخصلة من شعره في جديلة راقت له فراح يضفرشعره كله ، وحين شاهدته أم الجدايل الأولى بشعره المضفور، لولوت (لأنها لم تكن تعرف الزغردة ) ونزعت ورقة التين عن فرجها ودنت من أبي الجدايل حاثة إياه على مواقعتها لتكتمل البهجة . حناها أبوالجدايل في ظل الصخرة وواقعها وقوفا وهي تتفوه صارخة بأصوات عجيبة قاصدة أن ينكحها بعنف أشد !
تعلم أبناء القبيلة ضفر الشعر الذي انتشر في بلاد الشام كلها قبل أن ينتقل إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا في أوقات متقاربه .
غير أن الإكتشاف الأهم لأبو الجدايل الأول لم يكن ضفر الشعر بل اكتشاف النار ! فبينما كان يطارد ظبيا بالحجارة الصوانية في منحدرات هضاب البحر الميت ، لمح دخانا ينبعث من كومة أعشاب جافة على أثر قذفه لحجر صوان أخطأ الظبي . توقف عن مطاردة الظبي واقترب من الدخان وراح يتأمله متفكرا . بدت له شعلة نار خفيفة راحت تنتشر في كومة العشب ، شعر بحرارتها فمد يده نحوها ليحس بالحرارة أكثر . أخذ من جانبه قليلا من العشب الجاف وألقاه فوق النار .انتابه فرح لا يعرف كنهه . " كيف حدث هذا ؟"
رأى الحجر الذي قذفة إلى جانب حجر آخر . راح يفكر ، لم يجد سببا إلا اصطدام الحجرين . وما لبث أن أخذ الحجر وضربه بالحجر الآخر. لم يحدث شيء، فالضربة لم تكن قوية بما يكفي لتحدث شررا . حمل الحجر المضروب بيسراه وحمل الآخر بيمناه وراح يضرب الآخر به . أحس بشرر خفيف ينبعث .وضع الحجر المضروب بين كومه من الأعشاب وراح يضربه بالآخر . رأى شررا خفيفا يصطدم بالعشب ويحدث شعلة دخانية صغيرة لا تلبث أن تنطفىء. أدرك أن طريقته في إحداث شرر من الحجرخطأ . راح يفكر في الطريقة التي قذف بها الحجر وكيفية اصطدامه بالحجر الآخر التي أحدثت شررا أشعل هذا الشيء . لم يكن ضوء النهار يساعده على مشاهدة الشرر . أخذ الحجر المضروب بيسراه وأخذ الآخر بيمناه وضرب به الآخر بطريقة قدحية وهو يقربه من كومة الأعشاب بحيث يخرج الشرر في اتجاهها. قدح مرة وثانية وثالثة وظل يقدح بكل ما اوتي من قوة إلى أن رأى النار تهب في كومة الأعشاب . تنفس للحظات جراء التعب الذي بذله في القدح وشرع في الضحك . ونهض وراح ينط ويقفز وهو يضحك بصوت مجلجل ويؤتي أصواتا عجيبة . سمعه أبناء القبيلة الذين كانو يتفرقون في الأخاديد والسفوح يطاردون الحيوانات . أدركوا أن في الأمر شيئا . وأقبلت أم الجدايل تركض منحدرة من سفح هضبة وضفائرها تلوح على كتفيها وظهرها ، فقد راحت تضفر شعرها بعد أن علمها أبو الجدايل ضفر الشعر ، فكانت أول امرأة في التاريخ تضفر شعرها .. وحين بلغت أبو الجدايل قبل أن يبلغه الآخرون انتابتها دهشة عجيبة وهي تنط وتتقافز حول النار، التي راح أبو الجدايل يغذيها ببعض الأغصان والجذوع الجافة . وحين وصل بعض أفراد القبيلة راحوا ينطون ويقفزون بدورهم سائلين بحركات انفعالية وأصوات جعجعية أبو الجدايل عن الطريقة التي أحدث بها هذا اللغز المحير . راح أبو الجدايل يزهو باكتشافه العظيم ويشير بيديه ويصوت من حنجرته طالبا إليهم أن يجمعوا أعشابا وحطبا ، وما لبث أن جثا على ركبتيه وراح يقدح الحجرين ببعضهما في قدحات سريعة متتالية نحو كومة العشب والحطب . هبت النار في العشب وراحت تتأجج .. تعالت صرخات أبناء وبنات الجدائليين وراحوا يتقافزون وينطون ، وتمايلت أم الجدايل في قفزها وحركاتها لتحدث نوعا من الرقص. راح الجدائليون يقلدونها.فتمايلت نهود الجدائليات واهتزت على صدورهن وسقطت أوراق التين والتوت عمن كن يضعنها . وتلوى الرجال بأجسادهم وهم يبتكرون حركات جديدة في تقافزهم ليغدو رقصا .
راح الجدائليون يبحثون عن حجارة تحدث شررا . ولم يكن الأمر سهلا ، فلم تكن الحجارة كلها
تحدث شررا يشعل نارا ، لكنهم تمكنوا في النهاية من العثور على الحجارة المطلوبة بحيث أصبح الجميع يملكونها .
أمضى أبو الجدايل الأيام الأولى لاكتشافه النار ، في الطريقة التي سيفيد بها من هذا الإكتشاف الهائل ، فكان هاجسه الأول أمنيا ، فكر بإشعال النار ليلا أمام الكهوف التي يلجأون إليها حتى لا تجرؤ الوحوش على مهاجمتهم وهم نيام . تعب بعض الشيء وهو يحاول افهام الجدائليين بأصوات خرساء وحركات إيحائية تمثيلية لا تخلو من تقليد لأصوات الوحوش حتى يفهمهم ما المقصود !
جمع الجدائليون أعشابا وأغصانا وحطبا وألقوها أمام كهوفهم وأشعلوها. ومارسوا الجنس فرادى وجماعات إلى جانب النار لأول مرة باطمئنان ، وخلدو إلى النوم باطمئنان ، غير أن أبو الجدايل الأول كان متكدرا بعض الشيء لأن أم الجدايل ضاجعت اثنين آخرين من أبناء القبيلة معه !
*********
أمضى أبو الجدايل الأول بضعة أسابيع يفكرفي كيفية استغلال النار في الصيد فاهتدى إلى فكرة رهيبة يقود بها عشرات وربما مئات الحيوانات إلى حتفها في النار .
جمع القبيلة وقادها إلى مكان يضيق فيه واد كبير ، وأشار ببناء جدارعال حول المضيق ، بحيث ينفرج مع اتساع المضيق ويضيق إلى حد الإغلاق في نهايته بحيث لا تستطيع الحيوانات تجاوزه .وأشاربجمع الحطب والأعشاب والأغصان وروث الحيوانات ووضعها في المضيق ليتم اشعالها عندما تتجمع الحيوانات فيه ، في حين يكون فيه أبناء القبيلة قد لاحقوا الحيوانات من كافة الإتجاهات ليحشروها في اتجاه الوادي فالمضيق لتقع في كمين النار. ولا تستطيع الخروج مهما حاولت ، فتحترق .
استغرق بناء الجدار بضعة أيام وشارك فيه قرابة خمسة آلاف من أبناء وبنات القبيلة . وفي اليوم الموعود جمعوا كمية هائلة من الحطب وكل ما هو جاف من الأغصان وروث الحيوانات والقوها في المضيق لتغطي مساحة كبيرة منه . وانتشر الالاف من أبناء القبيلة بعصيهم الطويلة والغليظة ، ليحيطوا بمنطقة شاسعة وراحوا يقتربون من كل الإتجاهات طاردين الحيوانات على مختلف أنواعها أمامهم .
وضع أبو الجدايل الأول بعض أبناء القبيلة في جوانب مختلفة من المضيق ليقوموا بإشعال النار من كل الإتجاهات حين تتوغل الحيوانات فيه . وشرعوا في اشعال نيران صغيرة خلف الجدران لتكون وقودا يشعل الأعشاب والحطب في المضيق .
رأى أبو الجدايل مجموعات من الظباء والوعول والتيوس والمعز والأرانب وغيرها من الحيوانات تهرع من أعالي الوادي ومن سفوحه .. تركها تقدم وتتوغل في عمق أكوام الحطب والأعشاب ، وهي تتقافزوتثب في محاولة لتجاوزها. جعر أبو الجدايل بأعلى صوته طالبا إلى رفاقه إلقاء أكوام من النارفوق الحطب ، وشرع بدوره في غرف كمية من الجمر الملتهب أمامه بيديه وألقاها بسرعة فائقة فوق الحطب خلف الجدار . أحس بيديه تحترقان . نفخ عليهما بضع نفخات ونفضهما وفركهما في محاولة لطرد الحرارة منهما ، وراح يكمل إلقاء النار في المضيق بأن أخذ حجرين مفلطحين كان قد حضرهما للغاية نفسها وراح يلقي بهما النار ، غير أنه في ذروة حماسه نسيهما وأخذ النار بيديه .
أحاطت النار بالحيوانات من كل الإتجاهات وراحت تتقدم نحوها فيما الحيوانات تتقوقع على نفسها وتنزوي في المنتصف مصوتة على طريقتها بأعلى أصواتها ، ليضج المضيق بصراخها ، وحين اجتاحتها النيران من كل الإتجاهات ، راحت تثب إلى أعلى وتقفز في محاولة لتخطي الجدران ، غير أنها كانت تصطدم بها وتقع في النار ، ومن أسعفته وثباته وقفزاته في العودة إلى الإتجاه المنفرج في المضيق واجهته عصي وحجارة الجدائليين الذين كانوا يملأون الوادي والسفوح بالآلاف .
تعالت صرخات الجدائليين وهم يرقبون احتراق الحيوانات في النار ومحاولاتها اليائسة للخروج منها دون جدوى ، فاختلطت صرخاتهم بصراخ الحيوانات ، التي راح بعضها يقع في النارمحركا قوائمه وهو يلفظ أنفاسه .
تمكن بعض الجدائليين من شحط الحيوانات التي كانت قريبة منهم بصعوبة ، بعد أن احتملوا الوطء فوق الجمر بأقدامهم الحافية .. وشرعوا في إطفاء النار التي كانت تشتعل بها ، غيرأن شحط الحيوانات التي كانت في عمق مساحة النار لم يكن سهلا ، فاضطروا إلى الوطء فوق الجمر مما أحرق أقدامهم .. صرخ بهم أبو الجدايل مجعجعا طالبا أن يستخدمو الحجارة والعصي في إزاحة النار من طريقهم للوصول إلى الحيوانات ..
شرعوا في استخدام الحجارة فيما جازف بعضهم بالقفز فوق الجمر ليختطف ظبيا تضطرم فيه
النار ليشحطه إلى خارج المحرقة وهو يصرخ ألما ..
نجح الجدائليون أخيرا في سحب الحيوانات من النار وشرعوا ينهشون لحمها محتملين الألم الذي أحدثته الحروق في أرجلهم وأيديهم .
فكر أبو الجدايل الأول في إيجاد حل لهذه المشكلة في المستقبل ، وفيما كان يلوك أول قضمة
من فخذ ظبي ، اكتشف طعما للحم لم يعرفه في اللحم النيء ، فراح يهئهئ ويجعجع للجدائليين
والجدائليات قاصدا أن الطعم لذيذ ، فهأهأوا وجعجعوا بدورهم .. وبذلك يكون أبو الجدايل الأول
قد اكتشف اكتشافا جديدا وهو الشواء . ولم تمر سوى أسابيع حتى راحت القبيلة تتفنن في الشواء ليكون مذاقه طيباً . وحين حل الشتاء راح الجدائليون يشعلون النار في كهوفهم ، فتمنحهم دفئا لم يعرفوه من قبل . ولم يكن مستغربا أن تحتل النار فيما بعد مكانة مقدسة لدى الجدائليين لما تركته من تأثير طيب في نفوسهم.
أما في يوم المحرقة هذا فما أن امتلأت البطون حتى دبت الشهوة في نفوس الجدات والأجداد ، فبادرت الجدات اللواتي لم يكن جميعهن جدات بل صبايا ، إلى ملاطفة الأجداد بأن هأهأن لهم وشرعن في تقبيلهم وملامسة أجسادهم والقبض على ما هو حساس فيها ، فهأهأوا لهن وقبلوهن وشرعو ا في ممارسة الجنس ، فكان أول حفل جنس جماعي في التاريخ ، ونكاية في أم الجدايل التي واقعت رجلين في حفل سابق مع أبي الجدايل ، واقع هومعها ثلاثا من أجمل الصبايا الجدائليات .
*****
أخذت النار تحتل مكانة قدسية في نفوس الجدائليين نظرا لما حققته لهم من فوائد في حياتهم
فراحوا يتعاملون معها باحترام شديد ، فكانوا حين يوقدونها للتدفئة يجلسون حولها بخشوع
ويتأملون وهجها ويتفكرون في الحرارة التي تبعثها وأثرها على كل شيء .
أما أبو الجدايل الأول فغدا ملكا غير متوج على القبيلة، تأتمر بأمره وتنفذ ما يطلبه ، فاحتل بذلك مكانة مرموقة لم يحتلها إلا النساء من قبل كونهن يقمن بفعل الحمل والإنجاب الذي لا يقدر عليه الرجال .
عاش أبو الجدايل بضعة أعوام بعد اكتشاف النار، حقق خلالها انجازات أخرى للقبيلة ، بأن راح يستخدم النارلصنع أوعية للطعام يصنعها من الطين ويحرقها في النار، قبل أن يموت متأثرا بعضات أسد ، فاجأه وهو يستلقي في ظلال جرف صخري ، ورغم أنه تمكن من مقاومة الأسد بل وقتله حين أولج عصاه الغليظة في جوفه وقلبه على ظهره وراح يضغظ بكل قوته على العصا حتى اختنق الأسد ولفظ أنفاسه ، غير أن ألجراح البليغة التي أحدثتها عضات الأسد في جسد أبو الجدايل ظلت تنزف بغزارة إلى أن أودت بحياته ..
بكت أم الجدايل بلوعة كونها أهم محظيات أبي الجدايل وشاركتها نساء القبيلة البكاء والعويل.
دفن أبو الجدايل في حفرة عميقة بعض الشيء في الجرف الذي مات فيه ، وأهيل التراب على جسده . ووضع على القبر بعض الحجارة بطريقة منتظمة ليعرف القبر في قادم الأيام والسنين . وثابرت أم الجدايل على زيارته باستمرار لتضيف بعض الحجارة إليه إلى أن علاه رجم كبير .
ليتحول إلى مزار للقبيلة تأتي إليه بين فترة وأخرى ، وتدفن موتاها حوله .











( 12 ) ابن الله !
يتأمل محمود أبو الجدايل اللوحات على الجدران من حوله ، لعله ينسى جحيم الأهوال الجارية في سوريا. قصف مدافع عشوائي، صواريخ تمطر المدن ، براميل متفجرة لا تفرق بين أحد إن كان طفلا أو امرأة أو مسلحا ، ولا بين مبنى إن كان سكناً أو مسجداً أوكنيسة أومدرسة أو مستشفى . قطع رؤوس ، أيدي ، أرجل ، جنون الجنون في حرب سريالية لم يرالتاريخ مثيلا لها . لايبدو الأمر ممتعاً له لكثرة ما تأمل لوحاته ، وأهوال القتل لا تغادر دماغه .وصورة الملك لقمان والملكة نور السماء لم ترغبا كما يبدو المثول في مخيلته. أعاد اللوحات منذ أيام من معرض أقامه في صالة عرض وعلقها على جدران بيته وأعلن على الفيس بوك عن افتتاح معرضه الدائم في مرسمه . لم يبع في الصالة إلا لوحة واحدة بثمن مقبول ، ابتاعتها الأديبة شهلا العجيلي . شعرأنه في حاجة لأن يمشي ، لعله ينسى أو يتناسى ما يحدث في سوريا ، لعله ينسى بيته الجميل في دمشق، البيت المتحف ، الأقرب إلى قلبه من كل بيوت العالم لما يحويه من فنون وتحف ومؤلفات ومكتبة زاخرة بالكتب القيمة .
ارتدى ملابسه وخرج .. صعد طلعة شارع الباعونية بخطى واثقة لا تنم عن كهولة ، هو في الحقيقة لا يحب السير المتمهل ، يسير دائما بسرعة ورشاقه حين يكون ذاهباً إلى عمل ما . نادرًا ما يسير بخطى متمهلة ، حين يكون في حال نفسية سيئة ، أو حين يعاني من مشكلة ما ، تمهل قليلاً في ساحة جامع الشريعة ، ليتبادل تواصله المعتاد مع صديقته الشمس . نظر نحوها رافعاً رأسه ، وما أن لامس شعاعها تجويفي أنفه حتى دهمه العطس . عطس مرتين ، ونظر نحو الشمس ثانية . عطس مرة ثالثة . ( شكرا أيتها الصديقة ) وأخرج منديلا ورقياً ناعماً وراح يمسح أنفه .
اتجه نحو حديقة المتحف الوطني للفنون الجميلة . صادفه طفل متسول يمد يده نحوه راجياً أن يساعده ، أخرج من محفظته نصف دينار أعطاه له .. راح الطفل يتمنى من الله أن يرزقه بعشرة أمثاله ..
ابتسم وتابع طريقة . هنا في المتحف شارك منذ أيام في معرض جماعي للفنانين الأردنيين ، بعد أن أقنع القائمين على المتحف بهويته الأردنية رغم ولادته المقدسية وإقامته الدمشقية ! شارك بلوحة صغيرة بعد أن رفض مدير المتحف عرض لوحتين له. في اللوحة ثلاث نساء بالزي التراثي المطرز، واحدة بحجاب عادي يكشف وجهها ، وواحدة بنقاب يكشف عينين ، وواحدة بنقاب يكشف عينا واحدة فقط ، وهو في العادة يضيف امرأة رابعة إلى النساء بنقاب لا يكشف من وجهها شيئاً .
افتتحت الملكة المعرض ليجد نفسه للمرة الأولى في حياته يصافح ملكة حقيقية وليست متخيلة
كالملكات اللواتي يستحضرهن في أدبه وفنه . لم يتحدث عن أحواله إلى الملكة بعد مصافحتها . اكتفى بالقول أنه هارب من جحيم سوريا وقد ترك كل شيء هناك ، واختصر شرحه للوحة حتى لا يطيل وقوف الملكة التي كانت مضطرة إلى مصافحة كل فنان والوقوف معه . قال إنها لوحة تراثية ، وأنه يتعامل في فنه مع التراث قديمه وحديثه ، والحق إن اللوحة تحمل ما هو أعمق من هذا التفسير ، فالمرأة ذات الوجه تشير إلى اسلام منفتح في بداياته ، وذات العينين تشير إلى إسلام بدأ ينغلق ، وذات العين الواحدة تشير إلى الإمعان في الإنغلاق ، أما المرأة الغائبة من اللوحة والتي لا يرى الناظر شيئا منها فهي تمثل حاضر المسلمين ! كان يقول هذا الشرح لمن يمكن أن يتقبله . وثمة شرح آخر هو رؤية كل امرأة للعالم من وجهة نظره هو ، كان يقوله لآخرين .. وهو في الغالب لم يكن يرغب في شرح لوحاته ، وللمشاهد أن يرى في اللوحة ما يشاء حسب رؤيته وفهمه .أكثر ما أثار دهشته في هذا المجال أن مشاهداً رأى في لوحة له يوم القيامة ، مع أنه لم يفكرفي ذلك حين رسمها ، لكنه كان منفعلاً وغاضباً على أثر مشاجرة له مع العائلة ، ورسم اللوحة تحت وطأة هذا الإحساس .
شكواه من وضعه البائس وصلت إلى وزير الثقافة ، غير أن الوزير تغير دون أن يقدم حلاً ناجعاً لوضعه ، سوى موافقة الوزارة على دعم نشر كتاب قصصي له .
فكر في أن يدخل إلى إدارة المتحف ليسلم على المديرالذي تعرف إليه في وقت سابق . غير أنه عدل عن الأمر ودخل إلى الحديقة .. انزوى في ركن من الحديقة وافترش العشب مستلقيا في ظلال شجرة كينا . خطرت السيجارة بباله ، كان قد قرر التخفيف من التدخين إلى خمس عشرة سيجارة في اليوم بدلا من قرابة أربعين ، في محاولة جادة لترك التدخين بعد أن أدمنه لما يقرب من خمسة وخمسين عاما . إنها المحاولة الأخيرة بعد عشرات المحاولات الفاشلة. أخرج سيجارة وأشعلها ، وهو يحاول أن يطلق العنان لخياله ، مستحضرا بعض ما يكتنزه عالمه الباطني .. هل يتابع رحلته في البحث عن الله مع الملك لقمان أم يطرق عالماً جديداً ؟
شعر أنه غير قادر على التوغل في أعماق فضائية مجهولة تتطلب خيالاً واسعاً ، فراح يستنهض رحلته مع الشيطان ليلة رأس السنة التي انتهت به إلى طفل في الثانية من عمره اختاره الله ليكون ابناً له!!
كان مفلساً تماماً وما يملكه من نقود لا يكفي حتى لمتطلبات انتحار يليق بأديب مثله ، كأن يشتري مسدساً ينتحر به حسب ما يفكر حالياً .. وليلة رأس السنة من عام 1995 أوشكت أن تبدأ دون أن يتذكره أحد ، ودون أن يدعوه أحد إلى سهرة ما . وفيما كان يستلقي في السرير ويقرأ كتاباً عن الجن ، فوجىء بشخص يشبهه تماماً يقف في مواجهته . سأله : من أنت ؟
ابتسم الرجل معتذراً عن تطفله عليه وأخبره أنه الشيطان وأنه رآه وحيداً حزيناً فحضر ليدعوه إلى حفل رأس السنة في قصره السماوي .
وافق الأديب محمود أبو الجدايل على الدعوة بعد حوارمطول مع الشيطان حول غايته من الدعوة وتعهده بأن لا يقوم بغوايته ويقوده في دروب الضلال .
أثبت له الشيطان أن لا غاية له سوى أن يشهد أمام الناس أنه محب لله ومخلص له ، إذا ما ثبت له ذلك خلال مرافقته له .
وهكذا صعد محمود أبو الجدايل إلى السماء برفقة الشيطان . تم الأمربلمح البصربعد أن حوله الشيطان إلى طاقة وهو يمني نفسه بالسهر مع كليوبترا وزنوبيا وهيلين الطروادية وحور العين الشيطانات ، غير أنه وجد نفسه في بحر معلق في السماء تمخره الحوريات الجميلات العاريات والدلافين والأسماك والظباء وأنواع كثيرة من الحيوانات . ووجد نفسه يتنفس تحت الماء وملابسه لا تبتل بالماء ، وموسيقى تصدح ، وأغان وتراتيل تنشد ، وسجاد أحمر يمد ، وملكات شيطانات خارقات الجمال بأجساد سباعية يصطففن لاستقبال الشيطان وضيفه الأديب ، بعد أن استعاد الشيطان هيئته الملائكية وارتدى زياً ملائكياً .
تعرف الأديب إلى ملكة سباعية الجسد ذات جمال أخاذ وقع أبو الجدايل في غرامها قبل النظرة المتمعنة الأولى ، قدمها الشيطان على أنها ملكة السماء وقد أصرت أن تستضيفهما في قصرها السماوي قبل أن يذهبا للحفل الذي أعده الشيطان .قادتهما إلى حفل أقيم في حدائق قصرها تحت الماء ، حضره الآلاف من الملكات الجنيات و الملوك الجن وبناتهم وأبنائهم .
كان كل شيء يجري تحت الماء دون أن يحس أحد بوجود الماء ، حتى شواء الظباء والخراف والأرانب والبط والدجاج والحمام والحجل والأسماك بأنواعها كان يتم تحت الماء ، وشرب الخمور تحت الماء ، وماء البحر لا يطفىء النار ولا يبلل الشواء ولا يدخل الكؤوس ، ففي عالم الشيطان تتآلف المتناقضات وتتعايش في علاقة لا يفهمها إلا الشيطان نفسه ، حتى الصحون والكؤوس والملاعق والسكاكين ، تتحرك وحدها ، دون أن يصطدم شيء بشىء ، فما أن يشتهي المرء شيئا ، ما عليه إلا أن ينظر إليه ، فحين اشتهى محمود أبو الجدايل قطعة من فخذ خروف كان يشوى على مقربة منه ، قطع الفخذ نفسه وطار ليتلقاه صحن كبير تحف به السكاكين والشوك والملاعق وقطع الخضار ، وحط نفسه أمام الأديب الذي كان جالسا بين الملكة والشيطان . وكانت الحال نفسها تتم مع الخمر .
كاد الأديب محمود أبو الجدايل أن يفقد عقله في عالم الشيطان ، وما أطار صوابه أكثر هو الجسد السباعي للملكة ، فهو لم يعد يعرف إن كان يجلس مع سبع ملكات أم مع ملكة واحدة .
وعبثا حاول أن يقنع نفسه أنه أمام ملكة واحدة بسبعة أجساد ، كل جسد يمكنه أن يطير عقول
مئات الرجال المؤمنين وغير المؤمنين ! وحين دعته الملكة إلى غرفة نومها أعلى قصرها الشاهق واعدة إياه بأن تنسيه همومه كلها ، راح يسألها عما إذا قبلها هل تحس الست الأخريات بالقبلة ؟ ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشته حين أخبرته الملكة بأنهن يحسسن بالقبلة لكن الأجمل أن تحيله إلى سبعة رجال كي يقبل السبع معاً !! رفض محمود أبو الجدايل مستنكرا هذا الجنون الشيطاني ، رغم توقه الشديد للهروب ونسيان العالم الأرضي الذي تركه خلفه ، وشعر أنه واقع في غواية شيطانية رهيبة خلاف ما وعده الشيطان ، فراح يتضرع إلى الله تذاهنا أن يقف معه وأن يقيه غواية الشيطان .
أحس الشيطان بتخوفه مما يجري معه فخاطبه تخاطرا من أعماق البحر مؤكداً له أن لا غواية في الأمر ، وأنه بإمكانه أن يعيده إلى الأرض إذا يشاء . أخبر الشيطان أن لا رغبة له في العودة إلى الأرض التي خلفها على بعد مئات السنين الضوئية ، غير أن الملكة تضعه أمام خيارات صعبة ليس في وسعه أن يرفضها وليس في وسعه أن يقبلها بسهولة ، وأخبر الملكة أنه يشعر بعطش فظيع ، فأشرعت نهدها وألقمته فمه وهي تهمس " اشرب يا حبيبي ارتوِ " راح يرضع سائلا لذيذاً لم يكن ماءً ولم يكن خمرًا ، سألها وهو يتوقف ليتنفس عما رضعه ، أخبرته أنه إكسير الحياة ، وراحت تهمس في أذنه مؤكدة أنه خمرغير مسكر من خمر الجنة ممزوج بالعسل وماء الورد من يتذوقه من نهودها السبع اليسرى يعيش مدى الحياة !
شهق محمود أبو الجدايل من أعماقه واحتوى نهدها بيده وراح يغب الإكسير غباً حتى ارتوى ،
وشرع يتنهد ملتذاً بما شرب ، معلناً عن سعادته التي لن تكتمل إلا بتحقيق كل رغبات الملكة حتى لو تطلب الأمر أن يحال إلى سبعة رجال !! ولم تمهله الملكة أكثر من ذلك فأشرعت نهدها الآخر وألقمته إياه . مج بضع مجات من سائل طعمه ألذ من الشهد ولا هو بالشهد أو الخمر أو الماء ، فهمس متسائلا " ما هذا يا حبيبتي ؟
ولا يمكن ولا بأي حال من الأحوال تصور مدى دهشته حين هامسته الملكة وهي تضم رأسه إلى نهدها " هذا ماء الكمال ، وهو ماء من ماء الجنة ، من تذوقه من نهودي السبع اليمنى بلغ الكمال المطلق " !!
تساءل بدهشة وهو يرفع نظره نحو وجهها " يا إلهي هل تقصدين أنني سأبلغ الكمال أل...!" ولم يجرؤ على لفظ الكلمة . ضمت الملكة شفتيها وأوقفت سبابتها عليهما وهي تهمس " هس "
وكأنها تريد أن تبقي الأمر سرأ بينهما ، ودفعت رأسه إلى مفرق نهديها لتقرب فمه منه ، لينبثق
منه حلمة جمالها أخاذ ، التهمها الأديب وراح يرضع ، وحين توقف بعض بضع مجات وهو يلعق شفتيه ملتذاً بما رضع ، لم تدعه الملكة يتساءل فهمست " هذا خمر الجنة من ارتوى منه من أجسادي السبعة ، فقد ذاكرته وغدا أسير حبي مدى الحياة ، ومن أدمن عليه ، فقد وعيه مدى الحياة إلا من حبي "
ونظراً لأنه كره كل أشكال الحياة الأرضية فقد غب الحلمة ثانية وراح يرضع دون أن يتساءل ، وحين توقف ،أخبرته أن ما يطمح إليه لن يتم ما لم يرضع من أجسادها السبعة .
همس بعد برهة صمت وهو يلقي رأسه بين أجمل نهدين أبدعهما الخلق " أحيليني إلى سبعة
رجال ، ودعيني أغرق في حبك وحده حتى الموت "
لم يكن يعرف أنه سيكون أمام مفاجأة جديدة حين قررت الملكة أن تستدرجه خطوة أخرى لتحيله إلى ما تطمح ، فقد همست :
" سأحيلك إلى سبعة رجال مختلفين "
كان حتى حينه يظن أنها ستحيله إلى سبعة رجال يشبهونه تماماً ، ولم يكن هيناً عليه أن يرى نفسه في سبعة رجال مختلفين ، والأهم أنها أخبرته ، أنه في مقدوره أن يغير هؤلاء السبعة
إلى سبعة آخرين إلى ما لا نهاية . وراحت توضح له ما هية الأشخاص الذين يمكن أن يتحول
إليهم .
مر في مخيلته صور بعض المشاهير في الأدب والفن والفلسفة يمكن أن يتحول إليهم : ثربانتس ، شكسبير ، دوستويفسكي ، جوته ، أفلاطون ، أرسطو ، سقراط ، بتهوفن ، فان كوخ ، دافنشي ! المتنبي !
راقت الفكرة كثيراً له.. سألها عما يمكنها أن تفعله من نفسها . لم يفاجأ حين قالت له أنه في مقدورها أن تحيل نفسها إلى أية امرأة يريدها حتى لو كانت كليوباترا ، أو زنوبيا ، أو هيلين الطروادية ، أو حتى لو كانت ربة مثل ، إنانا ، عناة ، أفروديت ، أو حتى لو لم تكن قد وجدت في ماضي الزمن أو حاضره ! وألقت ذلك شعراً عليه !

*********
راح محمود أبو الجداليل يمعن خياله في قدرات الملكة الخارقة ، وبعد اطراقة وجيزة بينه وبين نفسه جزم خلالها من وجود الله في قلبه ، قرر أن يغامر ويجعلها تحيله في البداية إلى سبعة مثلاء يشبهونه تماماً !
ضمته الملكة إلى حضنها وأ لقت رأسه ثانية عند منبع الخمر بين نهديها ، وفيما كان يتلذذ بنكهة الخمر همست له " انتهى يا حبيبي ، انظر إلى نفسك " !
لم يجرؤ على رفع رأسه من بين نهديها خوفاً مما سيراه ، لكنه أحس قبل أن يرفعه أنه أصبح انساناً بسبعة أجساد وسبعة عقول وسبعة أرواح ، وسرت رعشة منعشة في جسده . رفع رأسه
ليرى نفسه في سبعة مثلاء يعانقون الملكة في الوضع ذاته ، وقد تحلقت أجسادهما على السرير
الدائري لترسم دائرة انعكست في المرآة الماسية من سقف القبة القوسي لغرفة نوم الملكة !
بدا للأديب والفنان محمود أبو الجدايل أنه في عالم مدهش يفوق الخيال ، ابتسم كطفل يرى نفسه في المرآة للمرة الأولى ، فابتسم مثلاؤه الإبتسامة ذاتها !!
احتوى نهد إكسير الحياة ومج جرعة ، أحس بطعم ونكهة سبع جرعات ، وسرت نشوة لذيذة في جسده ، توسل إلى الله أن ينسيه كل ما في ذاكرته من ماض أرضي ليتوحد مع هذا العالم الرباني !
فوجىء بالملكة تهمس له مرشدة :
" يجب أن تفرّد أكثر مما توحد يا حبيبي "
لم يفهم ( الأحمق ) ما تقصده الملكة ، فتساءل فهمست له :
" أنت الآن جسد ليس له بداية وليس له نهاية وقد خرجت من سلطتي المباشرة "
ولم يفهم ( الأحمق أيضاً ) خاصة وأن الملكة عقدت الأمور أكثر حين قالت له :
" أنت الآن المطلق والعدم ، وما قبل العدم وما بعد المطلق ، إلى ما لا نهاية من الإيغال في ما قبل العدم وما بعد المطلق " !!
شعر أن الملكة تقوده إلى متاهات فلسفية بينما هو في حاجة إلى معرفة لغة واحدة فقط هي لغة الجسد ، فرجاها أن تخاطبه بها فهمست :
" يا حبيبي ، بدلا من أن تجعل مثلاءك يرضعون من نهد واحد من نهدي السباعيين ، وزع أفعالهم ،كأن يرضع أحدهم من نهد الكمال ، وآخر من نهد الحياة ، وآخر يجترع من خمر الجنة ، وآخر يرتشف من رحيق شفتي ، وآخر يداعب بطني وفخذي ، وآخر يلثم فرجي الصغير الجميل الذي لا يعرف البول والدم والإنجاب ، وآخر يقبل ردفي اللذين لم تفح من بينهما إلا رائحة المسك والعنبر " !!
صعق الأديب بما لم يكن يعرفه رغم أنه أدرك أبعاد إرشادات الملكة ، فتساءل عما إذا كانت الملكة لا تتبول ولا تتبرز ، فأجابته مؤكدة :
" لا يا حبيبي هل سمعت عن حورية تتبول وتتبرز مثل الإنسيات ؟"
أجاب بأنه حقا لم يسمع وحاول أن يفرّد كما أشارت الملكة ، غير أنها فاجأته من جديد حين همست :
" وكل هذا التفرّد ليس إلا البداية يا حبيبي "
" ماذا هناك أيضا يا حبيبتي "
" كمال التوحد في كمال التعدد ، وكمال الحقيقة في كمال التحول ، والجوهر هو الجوهر الواحد الذي لا يتغير ، في تحوله وتجليه وتعدده وصيرورته وتوحده ، إنه الحق إنه ألله " !!
ضاع محمود أبو الجدايل في فلسفة الملكة . رجاها أن تعيده إلى لغة الجسد لعله يعرف إلى أين تقوده ، وأعلن أنه غدا مهيئاً إلى التعدد مهما كان شكله ، همست :
" بالتأكيد يا حبيبي ليس من كمال التعدد أن تبقي نفسك في سبعة أشخاص يشبهونك ، ولهم نفس عضوك وكل أعضاء جسدك ، فالأجمل أن يكون لك سبعة أعضاء مختلفة الحجم ، أما الأكثر كمالاً أن لا تبقي على شكل هؤلاء الأشخاص ثابتاً ، بل متغيرا ، فتغيرهم إلى سبعة آخرين بأجسام وألوان وأشكال وأعضاء مختلفة ، وهكذا إلى ما لا نهاية "
وراح محمود أبو الجدايل يردد في سره ، مع أن الملكة تعرف ما يدور في سره :
" يا إلهي يا إلهي يا إلهي ، هل ما تزال في قلبي يا إلهي "
فوجئ بالملكة تهمس له "
" لقد حلت روح الله في قلبك يا حبيبي فاطمئن ولا تخف " !!
أقنع نفسه بأن روح الله لم تكن في قلبه من قبل ! فأسلم أمره له .
************
حين أدركت الملكة أن الأديب أصبح طوع يديها راحت تنشد مغنية :
" الآن الآن يا حبيبي طاب المرام ، فارتشف من طل شفاهي قطرا ،وتذوق من رحيق ألسني شهد السماء ، واجرع من خمر نهودي كؤوس الثمالة ،والثم عيونا هي السحر هامت بالغرام "
رد عليها من قلب أثقلته صروف الدهر وراح يغرق جاهدا ليهيم بجمالها :
" دعيني يا حبيبتي أطهر جسدي من أرجاس كوكبي، وأغتسل بماء سمائك ، قبل الشروع في تجرع شهد المدام "
وخلال لحظات وجد الأديب محمود أبو الجدايل نفسه يحمل على أكف سبع ملكات ليمددنه في حمام واسع من الألماس ،ويشرعن في غسل جسده بروح الند والنارنج والنردن ، ويدلكنه ، بشذا الفل والياسمين ، ويمسّجن أصابع يديه وقدميه بعطر الزنبق والقرنفل ، ويضمخنه ، بالمسك والعنبر والنسرين .
أحس الأديب بجسده يكاد يطير وروحه تهيم محلقة في مطلق المتعة ، فتساءل :
" يا حبيبتي هل أنا الآن بين أيد ملكية أم بين أيدي الله أم بين أيدي حور العين "
أجابت الملكة :
" كل الأيادي يا حبيبي التي تحاكي جسدك وتدب بأناملها على عنقك وظهرك وكتفيك ،وتدلك صدرك وبطنك وفخذيك ، وتسحب أصابع يديك ، وتطقطق أصابع قدميك ، وتناغي مسامات جلدك ، هي أيادي محبوبتك فاتنة السموات ومليكتها ومليكة حور العين "
" يا حبيبتي ، أستحلفك بمن أوجد الكائنات ، أأنا في حلم أم يقين ؟"
" يا حبيبي ، وهل يثمل من يرتشف من شهد شفاهي ويتجرع من خمر نهودي في المنام ؟ "
" يا حبيبتي ، أنا لا أصدق نفسي من هول فرحي ، وفرط سعادتي ، بكل هذا البهاء وطيب الغرام "
" صدق يا حبيبي لتحيا بجمال الخالق والخلق ، وتحلق كما النشيد ، وتسمو إلى العلا ، وتغرق بكليتك في لجة الهيام "
" أخاف يا حبيبتي أن لا أنسى أوجاعاً ، حملتها معي من كوكب الإنس، فلا يتاح لي أن أسمو بكمال التوحد وروعة الإنسجام "
" سأنسيك يا حبيبي أفراحك وأتراحك وكل صورة حوتها ذاكرتك منذ ما قبل خلق الأنام " !
" خذيني يا حبيبتي إلى سريرك الملكي ، ودعيني اغرق في بحور هواك "
" تعال يا حبيبي إلى صدور أشرعت لضم الرؤوس وأجساد تاقت إلى طيب الوصال "
احتوينه واحتواهن ليغرقوا كلهم مع كلهن في الإحتواء :
يرضع هو ( وهم ) من ماء الكمال ، ومن إكسير الحياة ، ويجترع من خمر الجنة ، ويرتشف من رحيق الألسن ، وقطر الشفاه الوردية ، ويقبل سحر العيون والوجنات ، والشعور الحريرية ، ويلثم السرر المضوعة بالمسك ، والبراعم الفستقية العابقة بالندّ، وأصابع الأحلام ، والركب الساحرات ، ويحبو على الأرداف الزبدية المفوّحة بالعنبر، والأفخاذ الديباجية ، والسيقان الماحقات ، فيما هي (وهن ) يفرّدن ويعددن أفعالهن ليداعبن أجساده من قمم رؤوسها حتى أخماص أقدامها .
شرعا في الهمس التذاهني وهما يحاولان الغرق في متعة الوصال السباعي المتعدد المتوحد . همس الأديب :
" ساعديني يا حبيبتي لأنسى ما في ذاكرتي لأتوحد بطيب وصالك "
" اجرع من خمر الجنة وابدأ بمحو الظواهر الخارجية من خيالك يا حبيبي " !
" هل أبدأ بمحو الوجود " ؟
" أجل يا حبيبي ، انس الوجود ، وكل ما في الوجود ، انس الشمس والقمر ، النجوم والكواكب ، الفضاء والغمام ، الرعود والبروق ، الأمطار والوان قوس قزح ، الزلازل والبراكين ، السديم والسراب والندى . انس القارات والبحار والمحيطات ، الأنهار والينابيع ،الجبال والهضاب ، الجزر والشلالات ، الصحاري والغابات ، الوحوش والحيوانات ، الحقول والكروم ، الثمار والفواكه ، الورود والحبوب . إنس الثلج والماء ، البر والربيع والسهوب . انس الدلافين والأسماك والحيتان ، انس البلاد ! انس المجازر والحروب ، المدافع والصواريخ والطائرات ، الدبابات والمصفحات . انس السيوف والرماح والدروع والسهام . انس الجيوش والشرطة والمخابرات ، البوارج والطوربيدات ! السفن والغواصات وحاملات الطائرات .. انس يا حبيبي المدن والعواصم . انس التاريخ ! انس الأدب . انس الفن .انس الشعر! انس الكتب ، وكل ما قرأته فيها "
" يا حبيبتي عقلي مثقل بألاف الأسماء وألاف الكتب وألاف الأبطال ،ومئات الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء والمتصوفين والحكماء والآلهة والأرباب والحكايات والأساطير "
" انس الأسماء .. إجرع من خمر الجنة وانس "
" أخاف أن لا ينسيني خمر نهودك ولا يسكرني "
" بل يسكر وينسي يا حبيبي ، لكني خائفة على عقلك أن يضيع "
" ليذهب عقلي إلى الجحيم إلا منك يا حبيبتي ، فدعيني أسكر بخمر نهودك حتى الثمالة "
" اجرع وانس يا حبيبي اجرع وانس "
" من هذه الملتهبة بين أحضاني يا حبيبتي ؟"
" أنا سارانيو يا سورياي وإندراي "
" آه يا حبيبتي ، أشم كل عبق الهند وجمال أشعار طاغور وروح الفيدا والأوبانيشاد من بين نهديك "
" انس يا حبيبي ! اجرع من خمر نهدي وانس "
راح الأديب يغرق في التحوّل والتعدد والنسيان ، وكلما ذكرت له الملكة اسماً نسيه ، وكلما تذكر هو شيئاّ نسيه ، إلا ما أرادا أن يتمتعا به ، فكانا يبقيانه إلى أن ينتهيا منه .
اختفت سارانيو من بين أحضانه ليجد نفسه يعانق هيلين الطروادية وليتحول خلال ومضة إلى باريس ويشرع في عناقها . ومع جسد ثان من أجساده السبعة ظهرت حورية راحت تلهب جسده بالقبل وهي تردد "يا حبيبي يا شمشوني " فأدرك أنها دليلة الفلسطينية ، فأبى أن يكون شمشوناً ، وهتف لها مصححا " بل أنا كنعان وجليات وعناق يادليلتي " وراح يغرق في بحر جسدها إلى أن رآها تنطفئ بين يديه لتظهر بعدها انثى خارقة الجمال راحت تصهل هائجة تحته كمهرة قطعت أعنتها . سألها من أنت ، فأجابت " أنا استير يا احشويروشي " فصرخ " آه آه يقتلني صهيلك تحتي ، دعيني اتروّض برضع فرات نهديك ورشف رضاب شفتيك "
راحا يغرقان في هذا التحوّل والتعدد غير المـتناهي ، فقد تحولت الملكة إلى كليوباترا ونفرتيـتي وإيزيس وزنوبيا ، وإنانا وعشتاروعناة ، وأفروديت ، وتحول هو إلى العديد من الملوك والقادة والآلهة الذين أنهاهم برع وأخناتون ، ليغرقا في لجة الغرام . وفيما كانا يتعانقان ويتقلبان على السرير الفسيح بأجسادهما المتعددة مرت في مخيلة الاديب شخصيته الأخرى الممثلة في الملك لقمان فاستحضرها في الحال بكل قدراتها الخارقة وخلال ومضة من الزمن كان ينهي تعدده وتعدد الملكة ليظهرها ليس في شخصية زوجته الملكة نور السماء ، بل في شخصية من بنات خياله ، هي ربة الجمال المخلوقة من مسك وعنبر وفل وقرنفل وزعفران وكافور ، والتي يبدو الماء من روحها وتبدو عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير ! همس لها :
" يا حبيبتي يا ربة الجمال ، أخاف على رقتك ، أخاف على شفافيتك ، أخاف على جمالك أن يخدشه وصالي " أجابته :
" لا تخف يا حبيبي فوصلك نسيم وجسدي الظلال "
" آه لجمالك وكمالك وطيب طيب وصالك "
*********
شعر أنه بدأ يتخفف من عبء ما تحويه ذاكرته ولم يبق فيها إلا بعض صور الموسيقى والغناء . فأخذ بضع جرعات من خمر الجنة .
همست الملكة له متسائلة عما بقي في ذاكرته، أجاب أنه لا يستطيع أن ينسى الحزن ووجه أمه، ألقمته الملكة نهداً وهي تهمس " انس كل الظواهر المحسوسة والمجردة ، المرئية والمدركة من وعيك يا حبيبيي ، وارتد بذهنك وشعورك وكل حواسك إلى ظلماء دخيلتك وإلى أغوار نفسك "
" لكني أخاف أن أنسى جسدك الجميل يا حبيبتي "
" لن تتوحد تمام التوحد بجمال جسدي إلا إذا نسيت كل الظواهريا حبيبي ، وتوحدت بكل أحاسيسك وإدراكك مع نفسك "
" أنا هارب من نفسي يا حبيبتي وأنت تريدين أن توحديني معها؟"
" انس الكلام ، انس اللغة ، لتدرك ما هي النفس يا حبيبيي" !!
" وكيف سأذاهنك يا حبيبتي إذا ما نسيت الكلام ؟! "
" التذاهن الأكمل يا حبيبي لا يتم بتصدير صور الكلام من العقل إلى العقل "
" كيف إذن يتم يا حبيبتي " ؟
" ألم تر إلى الأطباق في البحر كيف كانت تلبي رغباتنا من الطعام بمجرد إحساسها برغبتنا
دون أن نصدر لها أية صور كلامية ، فهي لا تعرف لغة "؟ ! " " هيا يا حبيبي حاول أن تتوحد مع نفسك لتتوحد معي "!!
" هل تقصدين أن ألغي حواسي وعقلي " ؟
" إذا استطعت ذلك يا حبيبي أصبحت مثل الله ، فهو الوحيد القادر على أن يكون فوق الحواس والعقول ، وأنا لا أريدك أن تفقد عقلك الإنسي تماماً يا حبيبي" !!
" ليذهب عقلي والإنس جميعا إلى الجحيم يا حبيبتي "
" جرعت كثيراً ورضعت كثيراً يا حبيبي . مهلا يا حبيبي "
" ما زلت أدرك وجودي وأعرف بعض الكلمات يا حبيبتي "
" اجرع من خمر الجنة وارضع من ماء الكمال وإكسير الحياة .. رضعك فيه حياة ، فيه ألم ، فيه عذاب ، فيه عشقُ عشقِ العشقِ، آه آه يا حبيبي "
********
لم يعد الأديب يحس بنفسه وحتى مجرد وجوده الذي شعر أنه أخف من الريشة ! وقد فقد كل شيء حوته ذاكرته ليغدو أقرب إلى اللا شيء . وحين ذاهنته الملكة سائلة "من أنت يا حبيبي " أجاب تذاهنا " أنا العدم يا حبيبتي " !!
شعرت الملكة أنه بلغ حالة من الإنطفاء في الذات الكلية ربما لم يبلغها إنس ولا جان من قبل . وكانت متخوفة عليه من خمر الجنة الذي رضع منه كثيرا ، والذي لا تدري ما هي عواقبه على من يشربه ، خاصة وأنه الإنسي الأول الذي يثمل من خمرنهودها . وتخوفت من أن يدخل الأديب في تحولات قد لا تكون قادرة على التكيف معها ومواجهتها . سألته بعد أن رضع بضع رضعات ورفعت رأسه عن صدرها : " والآن من أنت يا حبيبي " ؟!
أوحى لها تذاهناً ببضعة أحرف أفادت معنى " أنا الرب "
ضمت رأسه إلى صدرها جاهدة قدرالإمكان أن تخفي دهشتها .وراحت تقبّل جبينه وعينيه ، وهي تهتف " ما أجملك ، ما أكملك يا حبيبي "
سألته بعد أن اجترع بضع جرعات أخرى " والآن من أنت يا حبيبي ؟"
ذاهنها كما في السابق بما معناه " أنا الحق "!!
ضمت رأسه بشدة إلى صدرها وفرحة عارمة تجتاحها واغرورقت عيناها بدموع ما لبثت أن انزلقت على وجنتيها ، وهي تدرك تمام الإدراك أنه راح يتوغل عميقا في التوحد مع الذات الإلهية .
كان يرضع لاهيا عما حوله وهي تملس براحة يدها على رأسه وتتغنى بجماله . .وتنبهت إلى أن وجهه تحول إلى جمال أخاذ تحيط به هالة نورانية . همست له " والآن من أنت يا حبيبي ؟ "
ذاهنها بثقة مطلقة " أنا الله " !!
احتوته بكل محبتها ، بكل أنوثتها ، بكل أحاسيسها ، بكل خلجات نفسها ، ودموع الفرح تنزلق مدرارا على وجنتيها . ولم تجد نفسها إلا وهي تتغنى بالجمال الإلهي "
" يا لجمالك وكمالك وكمالِ كمالِ الله يا حبيبي
يا لجمالِ جمالك وجمالِ جمالِ الله يا حبيبي
يا لكمالِ كمالك وكمالِ كمالِ الله يا حبيبي
الآن الآن يا حبيبي يا حبيبي طاب المدامُ المدامُ
ومدامُ مدامُ المدامِ !
طاب الغرامُ الغرامُ وغرامُ غرامِ الغرامِ
طاب العشقُ العشقُ العشقُ وعشقُ عشقِ العشقِ
طاب الهيامُ الهيامُ وهيامُ هيامِ الهيامِ
طاب التوحّدُ باللهِ وبجمالِ كمالِ اللهِ
يا لجمالك وكمالك وجمالِ كمالِ اللهِ يا حبيبي
*********
غرقت الملكة في ما يشبه الغيبوبة وهي تتوحد مع الأديب في ذروة الغرام وتتغنى بالجمال الإلهي ، وحين حاولت أن تستعيد وعيها وتتمالك نفسها ، وجدت نفسها فجأة أمام طفل ملائكي لا يتجاوز الثانية من عمره يرفل بثياب من السندس والإستبرق ويحتضن نهدها بيديه ويرضع إكسير الحياة بكل براءة الأطفال ، راسما على شفتيه ابتسامة وادعة ساحرة وهالة نورانية تحيط برأسه ، مضفية نورا أخاذا على وجهه .ندت عنها صرخة خافتة وهي تحدق إليه ثم إلى الحجرة الماسية بدهشة بالغة . احتضنت رأسها بيديها وراحت تستجمع شتات ذهنها . أدركت أنها كانت تتوحد معه في شبه غيبوبة وهي تتغنى بجماله الإلهي وتغرق معه في لجة الهيام ولم تعرف ماذا جرى بعد ذلك . ماذا صارا ، ماذا كانا ، وماذا حدث ، لا تعرف ، وعبثا حاولت أن تعرف . أدركت أن الأمور خرجت عن يديها وعن طاقتها ، كما خرجت عن طاقة الملك ابليس نفسه . ، وأن الإرادة الإلهية تدخلت في الأمر . لم تعرف ما إذا كان عليها أن تضحك فرحة أم تصرخ باكية ، فمن كان حبيبها صار الآن ابنها . لم تجد إلا أن تحدق إلى الطفل وإلى جمال الطفل وإلى ابتسامته الربّانية ، وإلى الوداعة والبراءة اللتين يحتضن بهما نهدها ، وإلى فرحته بهذا النهد .
راحت تتأمل ابتسامته وقد عم شذاها أرجاء الحجرة الماسية ناثرا الإبتسامات على السقوف والجدران القوسية ، على الرسومات والمنحوتات والأيقونات والتحف ، على الورود والمقاعد والمناضد والنوافذ ، على الثريات المتدلية من سقف الحجرة .وشعرت بها تتسرب عبر النوافذ إلى الفضاء لتعم كل شيء ، حتى الأقمار والنجوم . وفجأة ظهرت مجموعة من النوارس محلقة حول القصر مقتربة من نوافذ الحجرة القابعة في الاعالي . تجرأت ملكة النوارس ودخلت الحجرة عبر النافذة وراحت ترفرف بجناحيها فوق رأس الطفل . ابتسم الطفل ومد يداً ملائكية إلى ملكة النوارس . حطت الملكة على كتفه . ملس بيده على رأسها وهو يرضع ويبتسم . ملست النورسة بطرف جناحها خد الطفل . أشار بيده لها أن " روحي يا نورسة " طارت ملكة النوارس لتخرج عبر النافذة وتنضم إلى أسراب النوارس المحلقة لتقود تحليقها حول العرش الملكي ، فيما كانت أسراب من كافة أنواع الطيور تهرع عبر الفضاء لتحلق بانتظام حول القصر ، تبعها أسراب من الخيول والظباء والدلافين والأسماك وكافة أنواع الحيوانات وراحت تحلق بانتظام حول القصر السامق في الأعالي . وأقبلت من الجهات أسراب من الورود والأشجار والنباتات ، وأسراب من العنب والبرتقال والتفاح ، وأسراب من الخضار ، وراحت تحلق بانتظام حول القصر وحول العرش .. وأقبلت أسراب من الحجارة والأطباق والصخور ، وأسراب من اللجين والزمرد والياقوت ،وأسراب من الشموع المتقدة وشعل النيران ، وأسراب من الندى والضباب والسحاب ، وأسراب من المنحوتات والأيقونات ، وأسراب من الألوان والإبتسامات ،وأسراب من الدموع والفراشات . وأسراب من اللغات والألحان . وأسراب من الرجع والظلال ، وأسراب من الصهيل والهديل والغناء ، وأسراب من الحروف والأشعار ، وأسراب من الرائحة والذوق والإحساس والشعور ، وأسراب من أضغاث الأحلام ، وأسراب من العدم والسراب والأماني ، وراحت كلها تحلق بانتظام حول القصر احتفالا بمن أختير ليكون ابنا للسماء !!!
**********
اندفعت ملكة اليمام حاملة بمنقارها نرجسة بيضاء وراحت ترفرف فوق الطفل والملكة الذاهلة الحائرة . ابتسم الطفل لملكة اليمام ومد لها يده الصغيرة . ألقت بالنرجسة على خده وحطت على كتف الملكة ومدت رأسها . ملس الطفل عليه بأنامله دون أن تفارق الإبتسامة شفتيه ، ودون أن يفلت حلمة النهد ، وروعة البراءة . رفرفت اليمامة ولامست بطرف جناحها جبين الطفل. أشار لها الطفل أن "روحي يا يمامة " رفرفت ملكة اليمام بجناحيها وطارت عبر النافذة لتحلق مع سربها ومع الكائنات حول العرش السامق في الأعالي .
اختلج الفرح في قلب الملكة وابتسمت ، فيما كانت ترقب من النوافذ فرح الكائنات المحلقة حول العرش ، ومدت يديها لتحضن الطفل ، وما لبثت أن دمعت ، ليمتزج فرحها بالحزن ، وليتساوى فرحها مع الحزن ، كما يتساوى في مملكتها السماوية الليل مع النهار ، والنور مع الظلام !!
أفلت الطفل النهد من فمه واندفع على صدر الملكة مشرعا يديه ليعانقها . احتوته بأن ضمته إلى روحها بكل الوله ، وكل الفرح الحزن ، وكل الحنان ، واحتواها بأن طوق عنقها بيديه ، بكل البراءة ، وكل المحبة ، وكل عشق الأمومة ، وكل فرح الطفولة ، وكل الألوهة ، وكل ما لن تعبر عنه الكلمات ولا الأغاني .
اندفعت كوكبة من الورود الجورية والياسمينية والندية والنردية عبر النافذة ، وراحت تحلق راقصة في فضاء المخدع الملكي . رفع الطفل رأسه عن عنق الملكة وابتسم للورود ، ومد يده ملوحا لها .هبطت نحوه باقة جورية حمراء ، مد الطفل أصابعه ليلامسها ، فلان الشوك الجوري وانثنى أمام أصابعه ، وأحنت الورود زهورها وذاهنته هاتفة " عليك يا ابن الله السلام "
لم تدرك الملكة تذاهن الورود مع الطفل ، غير أنها أحست من بهجة الكائنات أن من كان حبيبها وصار الآن ابنها ، غدا ابناً لله وحبيبا للسماء .
************
ذاهنها الملك ابليس من أعماق البحر غاضباً :
" ماذا فعلت بابن الإنس أيتها الملكة ؟ "
ذاهنته بكل الحزن الفرح :
" لا أعرف يا مليكي اقسم بإلهي الحبيب إنني لا أعرف ، فقد فقدت السيطرة على نفسي، وغبت عن الوعي حين بلغ ابن الإنس كمال كمال الكمال وصار الله دون إرادتي ، ليغرقني في بحر حبه ، ويوحدني مع بهاء كماله ، قبل أن يصيره الله طفلا ملائكياً "
أجاب الملك بلوعة :
" يا حسرتي ، فهل أفرح أنا أيضا أم أبكي ، جئت بابن الإنس ليشهد على براءتي من الغواية أمام الإنس ، فأغواه سحر جمالك ، وأعاده خمر الجنة المتدفق من صدرك إلى طفل لا يفقه ولا يدري "
" بل مشيئة الله يا مليكي من أعادته طفلا وليس خمر الجنة ولا ماء الكمال ولا إكسير الحياة ولا سحر جمالي ، فلا تقنط من مشيئة الله جل جلاله السامي "
" أستغفره وأتوب إليه ، سبحانه . أدرك ذلك أيتها الملكة ، لكنه لم يكن ليحدث ، لو لم آت بابن الإنس من الأرض ، ولم أعرفه عليك ، وأتيح لك أن تصحبيه إلى عرشك السامق في الأعالي "
" كانت رغبته يا مليكي ، اقسم أنها كانت رغبته في أن ينسى الأرض وينسى الإنس ، وينسى القتل ، وينسى الهموم والأحزان ، فمن الله عليه بأن أراه نفسه ،وصيره مثلها ، ثم أعاده إلى الطفولة ، ليحيا ثانية الفرح الطفولي وعشق الأمومة والأمان "
" يا حسرتي ! من سيشهد على براءتي عند الإنس ، لعلهم يكفون عن لعني وشتمي ورجمي ، هل أنتظر إلى أن يرأب ابن الإنس ثانية ويطوي سني الأرض أو أيام السماء "؟!
" لا يا مليكي . لا أظن أن ابن الإنس سيعود إلى وعيه الإنسي حين يكبر ، تكفيك محبة الله وكائناته فلا تنقصك محبة الإنس الذين أفسدوا في الأرض وعاثوا فسادا "
" بل تنقصني أيتها الملكة ، فأنا لا أحتمل أن يكرهني خلق من مخلوقات الله "
" يا مليكي لا تقنط من رحمة الله وانتظر أن يأتيك الله بآياته ، وانظر إلي وارأف بحالي ، فماذا تفعل من هي مثلي وقد فقدت تعددها وصار حبيبها ابنها ، وعليها أن ترضعه من ثدييها وتكون له أما رؤوما دون ان تفقد املها بالله أكبر الرؤومين والرؤفاء ؟"
غير أن الملك ابليس لم يحتمل وطأة الإنتظار ، وحاول أن يقنع نفسه بالفرح ،وأن يخلد إلى الطمأنينة ، فقد راح يشعر في قرارة نفسه أنه غرر بالأديب محمود أبو الجدايل حين صعد به من الأرض ليشهد على براءته من غواية الإنس ، فلم يجد إلا أن يشرع في البكاء ،ويلغي الإحتفال برأس السنة ، لتحزن له في ممالكه كلها ، الكائنات ، لكن دون أن تفقد فرحها ، فقد تساوى فيها الحزن والفرح . وحده ابليس كان حزيناً ، دون أن يجد الفرح إلى نفسه سبيلاً.
انتقل بلمح البصر من أعماق بحره المعلق في السماء ، إلى حجرة الملكة ، ليظهر إلى جانب السرير، ويمد يديه ليأخذ الطفل ،ويحدق إليه ملياً ، ويهتف بحزن وألم والدموع تنحدر على وجنتيه :
" معذرة أيها الأديب . اقسم لك بالله أن لا شأن لي في ما حدث ، فهل تصدقني القول ؟"
ابتسم الطفل ومد يده وشرع يمسح دموع الملك . تفجر الحزن في قلب الملك وخالج شفتيه طيف ابتسامة ارتسم عبر الدموع ،وضم الطفل إلى عنقه ،واحتواه بكل ما في قلبه من محبة لله ومخلوقاته .
همس إلى الملكة وهو يضم الطفل :
" لو أعرف أني أرضي وجه الله لحاولت بقدراتي أن أعيد الطفل إلى رجولته وحالته الإنسية "
هتفت الملكة بخشية من الله وريبة في النفس :
" لا يا مليكي أرجوك ، أتوسل إليك ، أن لا تقف ضد مشيئة الله رب الأنام "
" لن أقف أيتها الملكة ، لن أقف ضد مشيئة الله ، فصبر جميل والله المستعان "
ازدحم الفضاء حول القصر بآلاف النوارس واليمام والقطا ، وآلاف الكائنات المختلفة وراحت تحلق بانتظام حول القصر احتفاء بطفل السماء .
أشرع الطفل يديه نحو النافذة وهو يرقب جانبا من الطيور المحلقة .هتفت الملكة إلى الملك :
" أطلق يا مليكي الطفل إلى الكائنات لتزفه "
قبل الملك الطفل على خده وأطلقه في فضاء الحجرة الماسية .
طار الطفل محلقاً واجتاز النافذة .. أفسحت له النوارس واليمامات والطيور ممرًا بينها في الفضاء ، فاندفع عبره يحف به الكون والكائنات وراحت كلها تزغرد للطفل وتقيم له معراجاً لولبيا في السماء .
طارت الملكة عن السرير محلقة بثياب من السندس الأخضر الأبيض الموشى بالسواد ، واندفعت خلف الطفل ، فانفع معها الملك محلقاً بذات الثياب . وارتدى الملائكة والحوريات والجنيات ذات الثياب ، إيذانا ببدء الفرح الحداد ، ليتساوى في مملكة السماء الحزن مع الفرح كما يتساوى الليل مع النهار ، والنور مع الظلام .
دار الكون ، كل الكون ، في الفضاء ، حول القصر السامق في الأعالي ، محتفيا بابن السماء .
تتبعه الملكة والملك وتحف به ملكات حوريات الماء وحوريات السماء ,وملكات الكائنات .وسط صدح الموسيقى السديمية ورجع زغاريد السماء وشدو الكون بالأغاني وتموجات الألوان .
أفردت ملكة النوارس جناحيها للطفل فامتطاها .. وطوق عنقها بيديه وراح يضحك يضحك يضحك .. فضحك الكون والكائنات ..
مدت ملكة اليمام جناحين من حرير موشى بألوان الفرح الحداد وذاهنت ملكة النوارس راجية أن تتيح لها الإحتفاء بابن السماء .
انزلقت ملكة النوارس من تحت جسد الطفل ليحط على ظهر ملكة اليمام ويملس بيده على رأسها
المموج بريش من السندس الأخضر الأبيض الموشى بالسواد .
تشكلت ملكة الورد في جسد حورية لها أجنحة من قرنفل وزنبق وياسمين . ودع الطفل ملكة اليمام وألقى نفسه بين أحضان ملكة الورد ، ضمته إليها وقبلته على اليدِّ ،وذاهنته راجية قبلة منه ، فقبلها على شامة في الخدِّ .
استبقت ملكة الضفائر المعراج وأشرعت أجنحة من ذؤابات وخصل وضفائر ، وأشرعت أحضانها للطفل . ودع الطفل ملكة الورد واستكان إلى حنان الضفائر . لثمت الذؤابات جبينه فلثم أهداب الذؤابات .
هفهف النسيم محلقاً بأجنحة من الطلّ ليتمرغ الطفل بأحضان النسيم ، قبله النسيم على خده فقبل خد النسيم . غارت من النسيم الظلال فتشكلت في جسد حورية من ظلال ، وذاهنت ملكة النسيم أن تمنحها ابن السماء . أفلتت ملكة النسيم الطفل وتنحت ، لتحتضن الطفل الظلال ، وتغمره بقبلات من ظلال .
أفردت ملكة العشب جسدها بساطا ربيعيا مزهراً لموكب المعراح السماوي . تدحرج الطفل عليه محفوفا ببحور الشعر ، والقوافي ترف عليه ، والألحان تناغيه ، والأشعار تداريه ، وتمطر خديه بقبل القوافي ، فطفق هو يلثم حروف القوافي ، لتغرق ملكة الشعر في الفرح ،وترقص ملكة العشب ابتهاجا ، ولتحلق ملكة الألحان بالألحان لتلف الكون والمعراح.
ذاهنت ملكة الألوان الملك راجية أن يتيح لها نزع ألوان الحداد ، لتصبغ المعراج لبرهة بالألوان . أذن الملك لها بالبرهة كرمى لابن السماء ، أشارت بحركة من يدها وشمخت برأسها وارتعشت ، فأضفت على المعراج كل الألوان . تضرج الكون ، كل الكون ، وتلألأ بالألوان الألوان ، وراح يلثم عيني الطفل ، فلثم الطفل عيون الألوان .
أبرقت ملكة السراب من أفق عانقت فيه السماء كثبان الصحراء ، فبدت وكأنها بحر سطعت عليه أشعة وضاء ،حسرت الألوان ألوانها ليلف المعراج السراب بألوان الحداد ، قهقه الطفل ، والسراب يدغدغه ، فقهقه الكون والمعراج .
انتفضت ملكة السديم وذاهنت السديم .احتشد السديم مزغرداً من كل فج ، وشكل هودجا للطفل يقله براق ، وتحف به فراشات من سديم مهاق ، اعتلى الطفل الهودج باسما فانطلق البراق . ضحك الطفل ولوح للكائنات بيد مهراق !
طفح الكيل من السديم بالينابيع والشلالات والأنهار ، فصبت على جانبي طريق المعراج مطرا هراق . تمايل سنا أسراب شعل النيران وتراقصت حوريات الماء في ماء رقراق ، وحلقت في سماء المعراج أسراب القاق ، فضجت القلوب والحروف والقوافي والأطباق بالقافات ، فضج الكون والكائنات بالمرح والجنون والقيق والقاق ، وبين السديم وطفل السماء طاب في الهودج على أحنحة البراق العناق .
هاجت في الأكوان المحيطات ، وثارت الدلافين والأسماك ،وتلاطمت على الصخور الأمواج ،والتجت مياه البحار، ومخرت الحيتان العباب ،وفاضت على رمال الشطآن اللجاج ، ومارت في الأفلاك أقمار ، واضطربت في السموات كواكب ونجوم ، والتمعت بروق وقصفت رعود وناحت كلاب وعوت ذئاب وثغت معز وماءت قطط وحنًت نوق ورغت نعاج ، وتذاهنت وحوش مع طيور ونباتات مع خيول ، وماد في الكواكب أديم واصطخبت حول القصر أصوات عجعاج ، وأقبلت من المشارق أعاصير وهطل من المعصرات مطر ثجاج ، وسفت الريح في الصحاري الرمال ، فعلت في الفضاء عواصف وارتفع العجاج ، وتأججت في السماء شعل النيران ، فاضطرم الأجاج ، وهدلت حول العرش أسراب اليمام ونعق البوم ونعب الغراب ، وشدت النوارس والحداء ،وغضب العنب والبرتقال ، وانفجر العدم بالبكاء وتصدع في مرايا النفوس الزجاج . وهامت في كواكب الإنس أرواح وانتفض في الأجداث رميم العظام ، وأطل على الأكوان نور نبي وأشرق في السحاب وجه يسوع وخيم على السماء جلال العذراء ، وهتفت باسم دمشق الجراحات ، وأشرعت للطفل حضنها سيناء ، وأحنت لبوذا أغصانها الأشجار ، وكبر لاوتسه باسم التاو ،ولاح في الغيهب السحيق وجه براهمان ،وسبح باسم أهورا مازدا وإندرا ، مترا وأهرمان وزرادشت والنار ، وأّنّ في أعماق الأرض تراب الشيرازي والكندي وابن العربي وابن الفارض والجيلي والخيام ، وصرخ باسم الله رفات الحلاج . فالتعجت في جروح دمشق اللواعج واعتلج في قلوب الملحدين المؤمنين والمؤمنين الملحدين اللعاج ، وذرف جبريل والملائكة عدا اسرافيل في عرش الله الدموع وازدحمت في مملكة السحر الكائنات ، ليعم الكون الإحتجاج ، فتلجلج في طريق الموكب السماوي المعراج !!
تذاهنت الكائنات في كل ممالك الملك إذعاناً للمشيئة الإلهية آبية الفرح الحزن ، وثائرة على ألوان الحداد ، فتذاهنت مع الكائنات الأكوان ، ليطرق التذاهن الكوني أذهان الملكات . أسرت الملكات بالتذاهن إلى مليكة السماء وفاتنة السماوات . خاطرت الملكة الملك متوسلة :
" لب يا مليكي رغبة الكائنات في إلغاء الحداد إلى الأبد ، فهي لم تعتد الفرح الحزن ولم تعرف ألوان الفرح الحداد !وأوقف يا مليكي الزمن لثانيتين سماويتين والغ حدود الأمكنة ، وقارب بقدرة الله الممنوحة لك ما بين المسافات والمسافات ، لتشهد الفرح بابن السماء كل الأكوان السماوية والكائنات ..
اختلجت شفتا الملك بابتسامة واغرورقت عيناه بدمع وأوحى إلى الكون والكائنات ، من قلب لم يعرف الكره يوما ،ولم يخفق إلا بمحبة الله ومخلوقاته والآيات :
" بسم إلهي الحبيب ، الواحد الأحد ، الصامد الصمد ، الذي لم يولد ولم يلد ، ولن يكون له كفوا أحد : ليقف الزمن ! ولتلغ حدود الأمكنة ، ولتقرب المسافات ، ولتخفض الشموس حرارتها ، ولتهمد الزلازل ، ولتخمد البراكين ، ولتهدأ العواصف ، ولتسكن الريح إلى الظلال ، والنسيم إلى السراب ، وليعم الفرح وحده الكون والكائنات "
نهضت من أسافل الكون أراض ، ودنت كواكب من كواكب ،وفضاءات من فضاءات ، وشموس من شموس ، وأقمار من نجوم ، وشهب من مذنبات ، وهبطت السماوات ، سماء اثر سماء ، لتهبط السبع السماوات ! وارتفعت مياه البحار والمحيطات والأنهار ، ليلف الكون الماء ، وليختلط الفضاء باليابسة والبحار ، وليختلط الجن بالملائكة ، وحور العين بالجنيات ، ومخلوقات البر بمخلوقات البحر ، والطيور بالنباتات والورود بالقبرات ، وأديم الأعماق بسديم الفضاء ، لتختلط كل الكائنات بكل الكائنات ، وليقف الزمن ، وتقرب المسافات ، وتهدأ العواصف ، وتخمد البراكين ، وتخلد الريح إلى الظلال ،والنسيم إلى السراب ، والحروف إلى الكلام ، والنور إلى الظلام .. ليفرح الكون ، كل الكون ، والأحلام والإدراك ، والندى والضباب ، والبنات والشباب ، والآباء والامهات ، والأجداد والجدات ، والصغار والصغيرات ، وأبناء الأرضين وأبناء السماوات ، لتغرق كل الكائنات ، بكل الكائنات ! في مكان ليس مكاناً ، خارج الزمن ، وبلا حدود ،حول المعراج ، في السماء ، تحت الماء ، وبين قناديل من نجوم ، وأقمار سابحات ، وبصحبة النار ، والنور والظلام ، ترعاها عيون الله ، مبدع الخلق والمخلوقات .
*********



















(13) قط جائع!
نهض محمود ابو الجدايل من استلقائه جاهدا قدر الامكان لأن يستعيد واقعه من عالم الخيال، رغم كرهه الشديد لهذا الواقع . لم يشعر يرغبة في الذهاب إلى أي مكان غير البيت ، رغم أن رابطتي الكتاب والتشكيليين ليستا بعيدتين كثيرا عن الشقة التي استأجرها .
وهو ينزل درج البناية التي يقطن فيها واجهه قط يصعد الدرج .. أبطأ سيره وتنحى إلى جانب الدرج كي لا يخيف القط الذي بدا مذعورا منه، وراح يهتف للقط " لا تخف " . تجاوزه القط بما لا يزيد على ثلاث درجات وتوقف حين اطمأن إليه، وأطلق مواء ينم عن حزن.. خاطبه " ما بك ؟ " ماء القط ثانية " لعله جائع ؟" وتابع سيره نازلا الدرج . فوجىء بالقط يتبعه ويموء.: لك حبيبي ليش لحقتني ؟ روح " توقف القط مطلقا موأته االمشوبة بحزن ما . أشار له أن ينصرف . استدار القط ببطء وشرع في صعود الدرج بينما تابع محمود نزول الدرج إلى الطابق الأرضي حيث يقيم ، دون أن يلتفت خلفه . وهو يفتح الباب ويهم بالدخول فوجىء بالقط يتبعه دون أن يموء. دخل وأطبق الباب خلفه . ألقى جسده على أريكة في الصالون وهو يفكر في القط . أدرك أن القط جائع وأنه لم يجد أحدا يتوسل إليه غيره . لم يرغب في اطعامه خوفا من أن يألفه ويقيم عنده . هو يحب القطط والكلاب والأغنام كثيرا ، وله قصص أكثر من أن تحصى معها ، لكنه يمر في ظروف لا تتيح له أن يوفر لها العناية الممكنة ، كما أنه يريد أن يعمل .
جاءه مواء القط من خلف الباب وقد ازداد حزنا .. حاول أن يتجاهل الأمر .. وبعد دقائق لم يعد يسمع مواء. أدرك أن القط انصرف . جاهد لأن ينساه لكنه لم ينجح . شعر بضميره يؤنبه .. فكر في أن يبحث له عن طعام ويخرج يبحث عنه لعله يتخلص من الشعور بالذنب! . نهض إلى المطبخ . فتح البراد . ثمة بقايا طبخة فروج مع البطاطا .. وثمة جبن أصفر وبيض مسلوق ومرتديلا وزبدة . أحضر طبق كرتون . قشر بيضة وبعض قطع الجبن ووضعها في الطبق. وأضاف بعض قطع المرتديلا.. وأخرج فخذ دجاج من الطبخة . فكر فيما إذا كان هذا الطبق يكفي لقط جائع جدا " قد لا يكفي " وأخرج قطعة خبز ودهنها بالزبدة دون أن يفكر فيما إذا كانت القطط تأكل الخبز.. " الجائع قد يأكل أي شيء " أقنع نفسه بذلك . حمل الطبق وخرج يبحث عن القط .
اختفى القط . لم يره على الدرج . هل يخرج إلى الشارع يبحث عنه . وهل سيجده ؟ ولم يعرف كيف خطر بباله أن يناديه كإنسان . هتف بصوت عال " وينك ؟ وين رحت؟ " لم يصدق حين جاءه مواء القط من الطابق الرابع في البناية . لا شك أنه صعد يموء خلف الأبواب لعل أحدا يتصدق عليه . هتف " تعال " وسمع مواء القط وهو ينزل الدرج جريا إليه .. ابتسم وهو يدرك أن القط يفهم اللغة وقد عرف صوته مع أنه لم يتكلم معه إلا بضع كلمات . وضع له الطبق أمام باب شقته . هجم القط على الطبق وشرع يلتهم الطعام بشراهة .
دخل الشقة وأغلق الباب خلفه . كان متخوفا من أن يواظب القط على القدوم إليه . كما حدث مع قطة في دمشق عشقته إلى حد غير معقول لمجرد أنه داعبها ذات مرة ، غير أنه لم يرالقط بعد ذلك اليوم على الإطلاق .
كان هذا سلوك القط ، أمّا سلوك بعض الناس مع محمود أبو الجدايل فكان أمرا مختلفا .. فكثيرا ما تعرض لعمليات نصب واحتيال وابتزازحتى ممن كان يعتبرهم أصدقاء. عدا ما كان يتعرض له من الجيران. جيرانه في الطابق الذي يعلوه في دمشق .. كانوا يشطفون البلاط كثيرا .. وكانت المياه تدلف عليه من أكثرمن مكان في السقف ، فيضطر إلى وضع أوعية ليسقط الدلف فيها .. وينتظر إلى أن يفرغوا من الشطف..تقشر سقف البيت كله وبعض الجدران دون أن ينبه الجيران إلى ما جرى في بيته .
جاره الذي يسكن في طابق أسفل طابقه خرج إليه بصحبة بعض سكان البناية وهو يصرخ بغضب وانفعال شديدين لأن محمود أبو الجدايل خرًب بيته ، مهددا بطلب الشرطة إذا لم يقم محمود بإصلاح التمديدات الصحية في بيته . نزل محمود بصحبة المرافقين إلى البيت ، دخل مع الجار إلى الحمام .. أشار الجار إلى نقطة ماء جافة على الحائط أصغر من دمعة طفل، وشرع يصرخ " شايف شو عملت في الحمّام ؟ خربت بيتي ، هذا الدهان مكلف مصاري؟ " لم يكن في الحمام شيء غير هذه النقطة الصغيرة الجافة مما يدل على انها حدثت من زمان ولم يعد ينزل ماء غيرها ..وليس بالضرورة أن تكون قادمة من تمديدات بيت محمود ، فيمكن للماء أن يتسرّب من أي طابق وعبرأي منفذ ، كما أن محمود يكنس بيته ويمسح الأرض بمنشفة ولا يستخدم الشطف بالماء.. ومع ذلك وافق محمود على إعادة تركيب مجاري الحمام لديه . ودفع مبلغ خمسة عشر ألف لذلك . الجار نفسه كانت القطط تصعد من كوّة قرميد في سقف شرفته إلى بيت محمود وتدخل إلى المطبخ ، وطلب إليه محمود أن يغلقها، وعد أمام وفد البناية أن يغلقها في اليوم التالي ،وبعد خمسة أعوام لم يغلقها ، وغادر محمود دمشق قبل أن يغلقها ، مع أن غلقها لا يكلف سوى إعادة القرميدة المنزوعة إلى مكانها.
في عمّان وفق محمود أبو الجدايل في استئجار بيت في بناية في حي اللويبدة . المؤجّر رجل نبيل كما يبدو، وغير طمّاع كبعض أصحاب البيوت والبنايات في عمان . فالبيت واسع نسبيا ، يمكّن محمود من عرض بعض لوحاته فيه ، وأجرته مقبولة نسبيا رغم أنه الطابق الثاني من تسوية في سفح الجبل المطل على ساحة العبدلي . وهذه الأجرة ( 200 دينار شهريا ) تبتلع قرابة ثلثي دخل محمود الشهري الثابت .. المؤجر لا يتدخل بأي إصلاحات لأعطال تحدث في البيت ، ويندر أن يمر شهر دون عطب ما في البيت سواء ما يتعلق منه بالماء أو الكهرباء ، لقدم التمديدات في البيت ..
المشكلات الأكثر هي مع بعض الجيران كما في دمشق . ففي دمشق وفي بيت آخر قبل أن يمتلك محمود بيتا، كان المؤجر يرمي بالجراذين الميتة إلى داخل فناء بيت محمود ليرغمه على الرحيل .. وجارآخر يسكن في الطابق الأرضي في بيته الأخير( المُلك ) لديه حديقه يزرع فيها أشجار ونباتات ، يتسلق بعضها البناية ليغطي الشبابيك ويدخل إلى داخل الغرف ويحجب الشمس ، يرفض أن يقلم نباتاته حتى لا تصل إلى نوافذ الآخرين وتحجب الشمس عنها . هذا الجار نفسه وهو موظف في السلطة وحزب البعث اقتحم بيت محمود ليلا ذات يوم بصحبة رجل آخر ، بمجرد أن فتح محمود الباب ، دون أن يطلب أي اذن وكأنه داخل إلى خان عام ، وراح يبحث عن تسرب ماء من بيت محمود إلى بيته ، رغم أن طابقا أسفل بيت محمود يفصل بين بيته وبيته .. وجار آخر مسؤول في الحزب نفسه كان يقذف بفضلات بيته من الطابق السادس إلى الأرض ليسقط بعضها على شرفة محمود .. القاء الفضلات والقمامة من شرفات الطوابق االعلوية مسألة عادية في دمشق ، يشكو منها معظم السكان .ولا يستغرب أن تجد انسانا يشكو من سقوط كيس قمامة على رأسه وهو مار في شارع ما .
هذه المسائل يعاني منها محمود في بيت عمان فجاره الأرضي ، يشغله طوال العام في قص النباتات حين تتسلق على النوافذ التي يرى منها الشمس ، ونظرا لوجود شبك سلكي على النوافذ لمنع دخول الحشرات فقد اضطر محمود إلى شق الشبك ليتمكن من تقليم النباتات عن النافذة .
أما القاء بعض النفايات على الدرج الخارجي المؤدي إلى بيت محمود فمسألة لم يجد لها محمود حلا غير القيام بتنظيف الدرج بين فترة وأخرى ، وخاصة في الشتاء ، حتى لا تغلق مياه الشتاء مصرف الماء الوحيد أسفل الدرج ، ففي هذه الحال ستتجمع بركة من الماء وتندفع إلى بيت محمود . والعجيب لدى سكان عمان أنهم يعتقدون أن إلقاء القمامة إلى جانب مدخل البناء مسألة في منتهى الأخلاق .. وعادة ما تأتي القطط وتفض أكياس القمامة بحثاً عما يدرأ جوعها ، فتتبعثر القمامة أمام المدخل إلى أن يأتي موظف البلدية ويجمعها . لا يكلف الناس أنفسهم في وضع القمامة في الحاويات البعيدة نسبيا عن بعض الأحياء ، ولا يبحثون عن مكان مناسب لوضعها فيه . محمود أبو الجدايل يختلف عن هؤلاء الناس بأنه يحمل قمامته معه حين يكون خارجا من البيت ليضعها في الحاوية المخصصة لذلك التي تبعد قرابة مائتي متر عن البناء ، وحين لا يكون خارجا يحملها إلى خرابة بين عمارتين يضع فيها بعض الناس هناك القمامة .. أو يعلّق الكيس على وتد مدقوق في يسار جدارخرابة مواجه له ، أسفل شجرة تين مزروعة على رصيف الشارع ، حيث يضع سكان بنايتين مواجهتين قمامتهم. الطريف في الأمر أن محمود تعرّض لانتقادات كثيرة من قبل بعضهم وبعضهن لأنه لا يضع قمامته أمام بنائه ، اعتقادا منهم أنه يسيء لهم بعدم وضع قمامته أمام مدخل بنائه ! ولم يفكر أحدهم في أنه يسعى إلى المكان الأفضل لوضع القمامة فيه . فقد اعتادوا على وضع القمامة أمام مدخل بناياتهم ، اعتقادا منهم أن هذه أفضل الوسائل للتخلص منها ، وكل من لا يفعل ذلك هو في الغالب بدون أخلاق !! ترى لو أنه طُلب للسكان الأردنيين فرز القمامة قبل التخلص منها ، بوضع البلاستيك في كيس والورق في كيس والزجاج في كيس ، وباقي النفايات في كيس ، كما يحدث في اوروبا ، والتقيّد بإلقاء القمامة في الحاويات المخصصة لها .. كم من الأردنيين الذين سينفذون ذلك ؟!
إضافة إلى ذلك ثمة من يسطو على خزان مائه أحيانا ليبقيه دون ماء إلى أن يأتي الماء مرة في الاسبوع في عمان ، وكان بعض المستآجرين قد سطوا على خزان آخر لديه حين فكّه ليصلحه ، ليبقى بخزان صغير وحيد يسطى عليه من قبل من ينفذ ماؤهم قبل يوم قدوم الماء، وهو يوم الأربعاء .. حيث ينشغل الأردنيون بالإستحمام والغسيل في هذا اليوم .. وهذا ما يفعله محمود أيضا ، لكنه يضطر في الصيف إلى الاقتصاد أكثر في الماء لحاجته إلى الاستحمام مرتين على الأقل في الاسبوع ، فيلجا إلى استخدام مياه الغسيل والجلي للتواليت لتوفير أكبر قدر من المياه في الخزان . وثمة أطفال يلعبون كرة القدم تحت نافذة بيته مما يحرمه من قيلولة الأصيل، أو حتى النوم في النهار، فقد اعتاد طوال عمره أن يعمل في الليل وينام في النهار، ويشعر بكرة القدم هذه تخبط في رأسه كلما خبطها أحد الأولاد بقدمه. أما عن مفرقعات الأفراح والأعياد والنجاح في الامتحانات المدرسية فحدث ولا حرج ، فهذا قدرلا مفر منه ..أما ما يغيظه أكثر فهو هذا الذي لا يجد مكانا يبرّز فيه كلبه سوى أمام باب بيته كونه واقعا أسفل الدرج .. كتب له لافته على الحائط بخط عريض تقول " يا صاحب الكلب ، هل أنت بلا أخلاق ؟ " وأضاف أسفلها بيت شعر لشوقي " إنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا " ولم يكف صاحب الكلب عن فعله ، ربما لأنه لا ينزل مع الكلب إلى أسفل الدرج ليرى اللافتة ! كثيرا ما صادف محمود أطفالا أسفل الدرج ، وخاصة في الظهيرة أوالمساء .. راح محمود يشك في أنهم يمارسون مراهقتهم فيها .. أما الأكثر مأساوية ، فهو أسرة ذهب معيلها إلى سوريا ربما مع جماعة داعشية ولم يعد . لم تجد الأم سوى ممارسة الدعارة . ونظرا لأن في البيت أطفالا كبار ، فقد كانت تؤجل استقبال الزبائن إلى وقت متأخر من الليل كما يبدو، لكي يكون الأطفال نائمين ، ولا يعرف محمود كيف اهتدت إلى أسفل الدرج أيضا لتقود الزبائن إليها لممارسة الجنس وقوفا وعلى عجل، ربما معها أومع ابنتها الكبيرة . كان محمود يفاجأ بكم من المناديل الورقية الناعمة أمام الباب وعلى الدرج .. فيشرع في كنسها وإلقائها في القمامة دون أن يخبرصاحب البناية . غيرأنه أخبر جاره المخرج التلفزيوني في الطابق الذي يعلوه ، فوعد بوضع كاميرا لمعرفة الفاعلين ، غير أنه رحل من الشقّة دون أن يفعل ، كما رحلت الأسرة من البناء ربما بعد أن انكشف أمرها لصاحب البناية أو لم تعد قادرة على دفع أجرة البيت.
أطرف الوقائع في البناء هي محاولة انتحار لعاشق . كانت فتاة فرنسية تدرس العربية تقيم في الطابق الثالث، ويبدو أنها دعت العاشق إلى غرفتها لكن ليس بقصد الغرام ، مما فاجأ العاشق ، فهدد بالانتحار إذا لم تنفذ رغبته. ويبدو أنها لم تنفذها ، كان ثملا ، فنهض وألقى بنفسه من نافذة منور البناية . سمع محمود سقوطه وخبطته بأرض المنور ثم صرخة هائلة تنبعث منه ليتابع الصراخ .. كان الوقت بعيد منتصف الليل .. هرع محمود إلى نافذة المنور وفتحها ليرى الشاب مطروحا على طوله ويصرخ ، وقد هرع بعض سكان البناء إلى نوافذ المنور ليروا ماذا جرى .. كان الشاب يشتم ببذاءة كل من يقول عنه أنه لص ، ويتابع صراخه حين يهم للنهوض ، فلا يستطيع لأن ساقه قد كسرت .. طلب بعض السكان الاسعاف فحضر بعد قرابة نصف ساعة كما حضرت الشرطة التي راحت تحقق في الأمر..
ومن أطرف الحوادث أيضا أن اسرة ميسورة سكنت البناية ولديها أغراض كثيرة، راحت تضع بعضها على الأدراج وعلى مدخل البناية حيث يوجد درج عام خارجي أيضا ، وضعت عليه بعض المناضد والخزائن الخشبية التي تحوي أشياء مختلفة كمطربانات المخلل.. بعض الفقراء ممن يدورون في الأحياء باحثين عن أشياء مستهلكة ، ظنوا أن هذه الأشياء مكبوبة لخرابها أو لقدمها ، فأخذوها لبيعها ، والعجيب في الأمر أن الأسرة اتهمت محمود أبو الجدايل بإحضار هؤلاء وبيع الأشياء لهم ! قال مخاطبا من اتهمه " تلقون بأشيائكم في أماكن عامّة وتتهمون الناس بأنهم سرقوها أو باعوها ، هل سنقف لكم حرّاسا عليها "؟
على أية حال تبقى حال محمود أبوالجدايل في عمان مع الجيران والأصدقاء أفضل منها في دمشق . وهذا لا يعني أنه لا يوجد في دمشق أصدقاء وصديقات طيبون، وهم كثر، لكن الحديث عنهم يحتاج إلى رواية غيرهذه كما يرى . في عمان لم يدن نقودا إلا لفنان تشكيلي ومترجم وكاتب . وهو يدرك تماما أنهم لن يسددوا .. الطريف أن الفنان التشكيلي الذي أدانه مائة دينار اتصل بعد أكثرمن ستة أعوام ليهديه لوحة مقابل الدين ! وحتى كتابة هذه السطور لم يأت باللوحة ! مع أن محمود ليس في حاجة إلى لوحاته .
في دمشق حين أدان ابن جيران في الحارة بما يعادل 400 دولار أنكرها فيما بعد وادعى بكل وقاحة أمام القضاء أنه هو من أدان محمود أبو الجدايل 400 دولار. لم يرفع محمود دعوى إلا بعد أن اكتشف أن الشاب ىسلب بعض لوحاته إضافة إلى خط الانترنت. بدأت القصة حين استدعاه ليفرمت له الكومبيوتر. كان الشاب وسيما ويتحدث بمنتهى الدماثة والأدب بحيث ترك انطباعا لدى محمود أنه يتمتع بأخلاق عالية ، أعطاه أجرة الفرمته كما طلب وأهداه لوحتين صغيرتين أيضا لذلك حين طلب منه نقود ليبتاع كومبيوتر أدانه على الفور . بعد بضعة أيام جاء ومعه جهاز الكومبيوتر وطلب أن يجلس في مكتب محمود ليفرمت الجهاز ويختبره ، وطلب إلى محمود أن يفتح له خط النت .. ضرب محمود الرقم السري لخط النت وفتحه له . دون أن يفكر في أنه سيحتفظ بالرقم السري في جهازه ، وانصرف إلى الصالون ليكمل لوحة كان يرسمها . حين كان محمود بعد تلك الليلة يحاول فتح النت فلا يفتح معه ، كان يظن أن ثمة مشكلة من الشركة ، وهي شركة تابعة للدولة .
ولم تمر سوى بضعة أيام أيضا، حين زاره مساء في المعرض قبل أن يغلقه . كان محمود بصحبة صديقه المودي وهو فنان تعبيري رحل عن الدنيا فيما بعد على أثر نوبة قلبية، كان قد دعاه ليسهرعنده تلك الليلة.
أغلق محمود المعرض قبيل العاشرة ليلا وانصرف ثلاثتهم إلى البيت .. وهم يهمون لدخول البناية حيث يقطن محمود . فوجئ بابن الجيران (سامح ) يصفع وجهه براحة يده ويتوقف هاتفا ( أف )!
- شو القصة ؟ قال محمو د مندهشا.
- نسيت هاتفي الجوال في المعرض !
- أيه بسيطة بتوخذه بكره الصبح .
- لا ! ما فيه أستغني عنه !
- أف ! شو بدك فيه في هالليل ؟
- عندي اتصالات لازم أجريها .. أعطيني المفتاح !
وأمام اصرار الشاب اضطر محمود أن يعطيه مفتاح المعرض .
صعد هو والمودي إلى البيت . تساءل المودي بعد أن جلسا :
- هل تثق به إلى حد أن تعطيه المفتاح ؟
- يبدو أنه شاب طيب . لم أر شيئا سيئا منه حتى الآن .
- هل يوجد نقود في المحل ؟
- مجرد فراطة قليلة .
- واللوحات هل تعرف عددها ؟
- لأ طبعا .. في المعرض أكثر من 300 لوحة ، وبعضها مكدس على الرفوف في مجموعات ! لا أعتقد أنه سيسرق لوحات، لقد بدأت تثير قلقي .
- يا صديقي أنت طيب أكثر من اللازم ! تفقد لوحاتك جيدا غدا !
تأخر سامح بعض الوقت إلى أن عاد بالمفتاح بعد أكثر من ساعة من انصرافه . جلس بضع دقائق معهما واستأذن طالبا الانصراف .
*****
تفقد محمود أبو الجدايل اللوحات في اليوم التالي . ليس من السهل عليه تذكر بعض اللوحات الصغيرة غير المعلقة على الجدران .. اللوحات الكبيرة وبعض المعلقات فقط ما يمكن تذكره . وإذا كان سامح قد اختلس عشر لوحات صغيره أو أكثر فلن يكتشف ذلك .
جلس على الكومبيوتر ليلا بعد أن تناول عشاءه في وقت متأخر كعادته . حاول فتح النت. لم يفتح معه . لم يهمل الأمر كالعادة. اضطرأن يتصل بالشركة فقد يكون هناك موظف مناوب . اتصل . كان هناك موظف بالفعل . وحين أخبره عن الأمر، رد عليه الموظف ليخبره أن خطه على النت مشغول من الرقم كذا ! وأعطاه رقم الهاتف.. طلب إليه محمود أن يقطع النت عنه فورا وأن يعطيه رقما سريّا جديدا ..
لم يصدق محمود أبو الجدايل نفسه فمن يعرف الرقم السري لخطه حتى يسرقه . اتصل برقم الهاتف المعطى له على الفور ، ليأتيه صوت سامح بكل وضوح . طار صوابه . هتف بانفعال :
- الله لا يسلمك هوه أنت إلي سارق خط النت وأنا أفكرمنذ قرابة شهر أن المشكلة من الشركة .
- أنا نايم !
- نايم وترد على الهاتف من أول رنّة ؟ هل أزعجك انقطاع النت عندك ؟ احتفظت بكلمة السر في جهازك ليلة أن فتحت الخط لك . استغبيتني ! ماذا سلبتني أيضا وأنا في غفلة من أمري ؟ أحضر ديني عليك من النقود وإلا سأرفع عليك دعوى .
****
لم يسدد سامح من الدين إلا ما يعادل قرابة عشرين دولارا .. اضطر محمود أن يرفع دعوى سرقة واحتيال ..لم يثبت عليه سوى سرقة خط النت . أما عن سرقة لوحات . فقد أحضر مراهقتين إحداهما أخته والأخرى ابنة خالته شهدتا بأنهما كانتا معه حين فتح المعرض وأخذ هاتفه ، وأنه لم يسرق شيئا. ورغم بعض الاختلاف في رواية الفتاتين المختلقة والملقنة من محامي المدعى عليه إلا أن القاضية قبلت شهادتهما ، ولم يقم المحامي بالطعن بالشهادتين..الدين اعتبرته القاضية دينا وليس احتيالا أو نصبا وأنه يحتاج إلى محكمة مختصة بالدين ، وخاصة حين انبرى سامح في المحكمة ليعلن بوقاحة شديدة أنه هو من أدان محمود أبو الجدايل نقودا ! محامي محمود أبو الجدايل لم يحضر الجلسة وهي الأخيرة قبل اصدار الحكم ، أرسل أحد الطلاب المتدربين عنده ، لم يتفوه بكلمة . وكانت المحكمة الابتدائية قد حكمت بتغريم سامح خمسين ألف ليرة عن سرقة لوحات ، بناء على دعوى محمود ومرافعته ، لكنه خسرها في الاستئناف بناء على شهادة المراهقتين !
صدر الحكم بتغريم سامح عشرة آلاف ليرة سورية، لثبوت سرقته لخط النت . لم يقبضها محمود ابو الجدايل حتى مغادرة سوريا عام 2012! تاركا خلفه الدين على سامح إضافة إلى قضية أخرى مع صاحب محل كان محمود أبو الجدايل قد استأجره ! وإضافة إلى ديون نقدية كثيرة على الأصدقاء وغير الأصدقاء.
*****
صاحب المحل هذا( اوضه باشا ) ينتمي إلى أسرة تركية بقيت في دمشق بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وخروجها من بلاد الشام .. وبعد ثلاثة أعوام من تأجير المحل لمحمود جاء هذا الصاحب المستأجر بدوره من مالك المحل ، وطالب محمود أبو الجدايل بأن يعقد معه عقد شراكة ! فاجأه وهو يحضر معه نسختين من العقد ويطلب إليه التوقيع عليهما !
هتف محمود متسائلا :
- عقد شراكة يا أوضه ؟ اتق الله !
- وهل تعرف أنت الله ؟
- يا سيدي يكفي أن تعرفه أنت ، فالله ليس في حاجة إلي ! أنا أدفع لك أغلى أجرة في الحي (خمسة عشر ألفاً شهريا) وكل ثلاثة أشهر مقدما . ولم أتأخر عليك يوما في دفع الأجرة ، رغم عدم وجود عقد بيننا بناء على طلبك حين استأجرت . فما الذي جد في المسألة؟
- أريد أن أضمن حقي !
- وهل رأيت مني ما لا يضمن حقك ؟
- لا أعرف ماذا يحدث في المستقبل !
- نكتب عقد إيجار اذن لماذا عقد شراكه ؟ هل تريد أن تقاسمني ريع لوحاتي؟
- لا أحد يكتب عقود إيجار! وعقد الشراكة هو عقد شكلي .وسيبقى الأمر كما هو عليه .
- عقد شكلي ؟ هل هناك عقود شكلية ؟ العقد هو العقد وحسب ما ينص عليه .
حين استأجر محمود المحل لعرض لوحاته فيه كان هناك الكثير من المحلات غير المشغولة وخلال ثلاثة أعوام في المحل إضافة إلى ستة أعوام سابقة في المقاهي ومحل أخر، شجع محمود عشرات الفنانين لأن يستأجروا محالا ، فازدهر الحي ، وأصبحت دمشق القديمة تضج بالمعارض ومحلات بيع اللوحات ، حتى بائعوالشرقيات أصبحوا يهتمون بالفن التشكيلي .. وأوضه باشي يخطط لطرد محمود من المحل حين يحتاج إليه . ويعتقد أنه لا يستطيع اخراج محمود من المحل فيما لو شغله بعقد إيجار، وهذا غير صحيح ، والحال هذه تنطبق على معظم مؤجري المحلات في دمشق . كان اوضة باشا يخطط للأمرمن قبل ، فقد طالب محمود بأن يعيد إليه وصولات قبض الأجرة حتى لا يثبت محمود أنه كان مستأجرا من قبل ؟ لم يرد محمود حينها الدخول في صراعات مع أوضه باشا ، فأعاد له معظم الوصولات وأبقى على الأربعة الاولى منها مدعيا أنه لم يعثرعليها! فقد كان واضحا له أن اوضة يضمر نوايا سيئة !
رفض محمود التوقيع ، ورفض أوضة باشا الخروج من المحل ، وظل جالسا ! اضطر محمود أن يتصل بصديقه المودي ليحل الإشكال.
المشكلة أن المودي بدوره مستأجر لمحل وبعقد شراكه أيضا مع أنه مستأجر. لذلك قال " هذه عقود شكلية وأنها جارية في البلد بين المؤجرين والمستأجرين "
وافق محمود على التوقيع ودون أن يقرأ كلمة في العقد المؤلف من خمس صفحات " لن أقرأ عقدا كله كذب من ألفه إلى يائه " فما أن وضع أوضة باشا نسختي العقد أمامه حتى وقعهما . فوجئ باوضة باشا يخطف نسختي العقد بسرعة من أمامه وينصرف هارباً!
هتف محمود مخاطبا المودي :
- الحقه أخذ نسختي أيضا !
- ربما يريد أن يوثق العقد في المحافظة !
- ليوثق من نسخته ، لماذا أخذ نسختي؟
- سنرى ماذا سيفعل في اليومين القادمين !
أدرك محمود أبو الجدايل أنه وقع في حبائل الاوضه باشا ، متمنيا في سريرته أن لا تؤول هذه القضية إلى ما آلت إليه قضايا نصب واحتيال وابتزاز كثيرة أخرى ، في زمن الخراب هذا كما كان يطلق عليه .
مر يومان، ثلاثة، خمسة، اسبوع، ولم يطرأ أي جديد.. ذهب المودي إليه في محاولة يائسة للحصول على نسخة من العقد دون جدوى .. فقد تساءل اوضه عن حاجة أبو الجدايل لنسخة من عقد شكلي !؟
بحث محمود أبو الجدايل عن نسخة مشابهة للعقد ليرى ما فيه . عثر على نسخة من مستأجر آخر لمحل آخر من اوضة، تنص على شراكة بنصف الارباح !!
" نصف الأرباح ؟! أية بلطجة هذه برب الكائنات ؟!"
استشار محمود محاميه . كتب الآخربطاقة بريدية لأوضة يقول فيها أن موكله لا يعترف بعقد لم يحصل على نسخة منه !
" لكن هذا الكلام يشير إلى عقد تم ابرامه فعلا والمشكلة في عدم الحصول على نسخة منه .. وليس هناك ما يشير إلى عقد شكلي أو عقد بالارغام "
" هذا أفضل " قال المحامي .
أرسل محمود أبو الجدايل البطاقة البريدية لأوضة .
جاء رد أوضة بعد بضعة أيام عبر بطاقة بريدية أيضا :
" لقد حصل محمود أبو الجدايل على نسخة من العقد الذي وقع عليه وهو بكامل وعيه وأمام شهود ، وأن محاولته لإنكار ذلك ليست إلّا ذر للرماد في العيون ، وعليه تحمل كامل المسؤولية عما ينجم عن هذا الإنكار !"
" ما العمل أستاذ خضر "هتف محمود للمحامي .
" نرفع دعوى عدم الاعتراف بالعقد وتثبيتك في المحل كمستأجر بعقد أيجار"
" ليكن "
قام محمود أبو الجدايل بعمل وكالة رسمية للمحامي ودفع قرابة عشرين ألف ليرة على حساب الدعوى .
*****
بعد بضعة أيام من رفع الدعوى وتسلم اوضة باشا تبليغا من المحكمة بموعد الجلسة الأولى ، استيقظ محمود في الصباح على جرس الهاتف يرن إلى جانب سريره . أخذ السماعة ليأتيه صوت جاره في السوق:
" لوحاتك وكل أغراض محلك مقذوفة على الرصيف المقابل ، والمحل مستولى عليه من قبل اوضه باشا"
شعر بقلبه يهبط ! " شكراً أيمن " وأغلق الهاتف.
" اتخذت البلطجة شكلا أعنف وأنت لا قدرة لك عليها يا محمود ، تريد أن تكون انسانا في زمن الخراب ، أو زمن البلطجة إن شئت " فكر محمود بصمت !
ذهب إلى المحامي الذي رفع دعوى ثانية بكسر قفل المحل وسرقة محتوياته. أسرع محمود إلى القصر العدلي ليأخذ موافقة المدعي العام والإيعاز إلى مخفر شرطة للتحقق من الأمر ..
انتظر في الدور قرابة نصف ساعة إلى أن تمكن من المثول أمام المدعي العام .. أوعز المدعي إلى شرطة الحميدية ووقع الدعوى .
لم يكن محمود قد تناول شيئا في البيت سوى كآس شاي.. وحين وصل إلى مخفر الشرطة أحس أن فمه يجف من العطش. تجاهل الأمر ومثل أمام الضابط المناوب الذي سارع إلى تكليف شرطيين بالأمر، أحدهما مساعد.
انطلق الشرطيان برفقة محمود، الذي أكرم المساعد بألف ليرة مقابل الأتعاب التي سيبذلانها للتحقق من الأمر .
وصلوا إلى المحل . كان اوضه باشا يجلس فيه مع أربعة آخرين على كراس . وقد وضعوا على الرفوف بعض السلع الخفيفة كالمحارم الورقية والعلكة والملبس وغير ذلك . للإيحاء بأن المحل أصبح متجرا آخر.
تفرس المساعد ومرافقه وجوه الجالسين . سأل عن محتويات المحل السابقة . نهض اوضه وأشار بيده إلى الرصيف حيث اللوحات والمحتويات المقذوفة . وقدم كشفا للمساعد يحتوي على سجل لكل ما كان المحل يحتويه .أشار إلمساعد إليه بالابقاء عليه .
اتجهوا إلى الرصيف .. كانت المحتويات مركونة على حائط إلى جانب الرصيف ولا توحي أنها قذفت قذفا وإن وضعت بشكل عشوائي.
" هل بإمكانك أن تتأكد من أن شيئا لم يسرق ؟"
هتف المساعد سائلا محمود .
" كيف سأتأكد وهناك مئات اللوحات والأغراض التي كانت في المحل "
عادوا للوقوف أمام المحل .
سأل المساعد وهو يشير إلى قفل مشبوك في حلقة حديدية مثبتة في أرضية من الاسمنت:
" هل هذا قفل محلك ؟"
" لا " أجاب محمود.
أعطني مفتاح قفلك .
أخذ المساعد المفتاح وجربه على القفل الموجود . لم يدخل المفتاح فيه .
سأل أوضة باشا :
" أين القفل الأصلي للمحل "
" رميته في الخرابة"
شعر محمود أنه سيموت من العطش .. سارع إلى ابتياع عبوتي ماء وشرع يغب الماء وكأنه لم يشرب منذ أيام .
أنهى المساعد عمله . انطلق الجميع عائدين إلى المخفر بصحبة اوضه باشا دون أن تقيد يداه.
*****
مثل محمود وأوضة أمام الضابط المناوب .
سأل الضابط :
" لماذا استوليت على المحل يا اوضه ؟"
" إنه محلي يا سيدي ولم أستول عليه. المستأجرهو الذي يريد أن يستولي عليه "
راح محمود يهز رأسه مستنكرا !
" أيه هز راسك جايك دعوى نصب وتزوير على الطريق"
هتف اوضة!
" كمان نصب وتزوير يا اوضه ؟" تساءل محمود بدهشة!
*****
كان يجب انتظار استدعاء االقضاء ليمثل الاثنان أمامه . غير أن الدوام انتهى ولم يتم الاستدعاء.
اقتيد أوضة باشا إلى النظارة ليمضي باقي يومه وليلته في سجن المخفر. بينما عاد محمود إلى بيته يبتلع الماء بشراهة، مما يشير إلى مشكلة صحية قد تكون متعلقة بالسكر والضغط ..
في صباح اليوم التالي.. أرسل المحامي محاميا متدربا مع محمود ليمثل معه أمام القضاء حين استدعاء اوضه ، لإجراء تحقيق سريع معه ، يقرر القاضي على ضوئه ابقاء اوضة موقوفا رهن التحقيق أو الافراج عنه إلى أن يحين موعد المحاكمة . لكن الدوام أوشك على الانتهاء ولم يستدعى اوضة ..أعلن المحامي ( المتدرب) الذي اكتفى بخمسة آلاف ليرة أتعابا للمشوار والمرافقة ، أن اوضة لن يستدعى اليوم ! وانصرف ، لينصرف محمود بدوره . ليتناول طعام الغداء بصحبة صديقه المودي !
استدعي اوضة باشا بعد فترة وجيزة من انصراف محمود ومرافقه المحامي .. أطلق القاضي سبيله على ذمة التحقيق.. شوهد وهو يتجول في السوق عصر اليوم نفسه في محاولة لإثبات أن القضاء لم يوقفه كدليل على عدم ارتكابه ما يمكن أن يعتبر جرما؟
*******
بعد بضعة أيام فوجئ محمود أبوالجدايل بباب بيته في دمشق يقرع ليتسلم تبليغا بحضور جلسة دعوى تزوير أقامها المدعي اوضه باشا .
كانت الدعوى مضادة للدعوى التي اقامها محمود بتثبيت وضعه كمستأجر للمحل ـ فقد اعتبرها محامي اوضة تزويرا ونصبا ، وبدلا من الدفاع عنها أمام القضاء أقام المحامي دعوى مضادة يشير فيها إلى أن محمود ابو الجدايل يحاول الاستيلاء على المحل بالتزوير والنصب بإقامته لهذه الدعوى على اوضة ، مفترضا أن القضاء سيحكم لصالح محمود ! وطالب المحامي في الدعوى بتعويض موكله اوضة باشا مليون ليرة سورية مقابل الأضرار التي لحقت به !!
لم يكن العطش الشديد الذي لازم محمود لبضعة أيام قد توقف جيدا بعد حين شعر أنه سيعود إليه .. جلس على أريكة في بيته متعبا يزفر متأففا ، وهو يدرك أنه وقع فريسة لمجموعة من البلطجية والمحامين ! وأن المحاكم قد تستغرق أعواما وسيدفع الكثير للمحامين عدا وجع الرأس وضياع الوقت..
فكر في التصالح مع اوضه . طرح الأمر على أبي فراس وهو صاحب المحل الجديد الذي استأجره محمود بعد أن استولى اوضة على المحل السابق، اصطحبه إلى مختار الحارة . اتصل المختار بأوضة فحضر ..
- الأستاذ يريد الصلح معك رغم أنك استوليت على المحل . وسيسقط دعواه .
هتف المختار مخاطبا اوضة .
- لكن مختارنا أنا دفعت للمحامي 25 ألف ليرة مقدما !
أدار المختار يده إلى جيبة في حركة مسرحية وهو يهتف :
- بسيطة .. أنا سأتكفل بالموضوع !
وجد محمود ابو الجدايل نفسه في وضع محرج فوافق. أخرج 25 ألف ليرة من حقيبته وسلمها للمختار . الذي أخرج ورقة وقلما وشرع يكتب :
"نحن الموقعين أدناه فريق أول: محمود أبو الجدايل . فريق ثان اوضه باشا ، نعلن اتفاقنا على
الصلح وإسقاط الدعاوي المقامة بيننا وعدم رفع أية دعاو في المستقبل"
ووقع الطرفان إضافة إلى ثلاثة شهود .. ولم يذكرفي نص الصلح أنه تم بدفع مبلغ 25 ألف ليرة للفريق الثاني.. لم يتذكرها المختار بعد قرابة ثلاثة أعوام من المحاكم ، ففي صباح اليوم التالي في القصر العدلي حيث اتفق الطرفان على التنازل عن الدعويين .. فوجئ محمود بأوضة وقد تخلى عن الصلح بناء على طلب محاميه . كان محمود قد قدم تنازلا عن دعواه منذ أن دخل إلى القصر العدلي في الصباح الباكر وراح ينتظر أوضة ليحضر ويتنازل .
- لكن الدعوى لك أنت وليست للمحامي يا اوضة .. وأنا لدي محام أيضا ولم أستشره لا في الصلح ولا في اسقاط الدعوى .. وقد قمت بإسقاط دعواي .
- لقد تسرعت !
- والخمسة وعشرين ألف التي أخذتها ؟
- قد تدفع فوقها كثير !
- يبدو أنك تحلم بالمليون التي تطلبها في دعواك .
*****
"آه يا لهذا الزمن السخيف"يتأوه محمود ابو الجدايل من أعماقه كلما تذكر في سريره في عمان بعض ما جرى معه في المدينة التي أحبها . حتى محاميه وهو صديق قديم غضب حين علم بالصلح وطالب محمود بأن يدفع له بقدر ما دفع للمدعي، متجاهلا مبلغ عشرين ألفا أخذها مقدّما وقبل أن تعقد أي جلسة محكمة ..
استولى أوضه باشا على المحل أوائل عام 2009 وغادر محمود دمشق إلى عمان أواخر تموز 2012، وقد وصلت القضية إلى محكمة النقض. ففي المحكمة الابتدائية حكمت قاضية عظيمة على االمدعي اوضة باشا بتغريمه 200 ألف ليرة ، بناء على مرافعة خطها محمود بيده موضحا كل شيء، فلم تقنعه مرافعة محام ثان وكله محمود، اقتصرت على اعتبار الدعوى كيدية ،لأنه بإمكان اوضه أن يدافع عن نفسه أمام الدعوى المقامة عليه ..
استأنف محامي أوضة الحكم ليصدر بتغريم أوضة 50 ألف ليرة هذه المرة . ورغم أن المبلغ نقص كثيرا عن الحكم الابتدائي ، إلا أن محامي أوضة بات على قناعة أنه سيخسر القضية حتما إن رفعها إلى محكمة النقض ، فاتصل اوضه بمحمود مطالبا ب 25 ألف ليرة أخرى لإتمام الصلح . غير أن محمود رفض وراح يصرخ في وجه اوضة على الهاتف:
" يخرب بيتك خسران القضية في محكمتين وتطالب ب 25 ألف أخرى؟"
كان محمود قد تقدم بمرافعة ثانية أمام محكمة بداية الجزاء الثانية ونشرها على شبكة النت ليفاجأ بنشرها في موقع منتدى محامي سوريا كنموذج للمرافعات الأدبية الرفيعة التي ينبغي أن تقدم للمحاكم ،ومما جاء فيها : ،
السيد قاضي محكمة بداية الجزاء الثانية عشرة المحترم
تحية العدالة وبعد:
جئتكم سيدي مثخنا بأوجاع ثلاثة وستين عاما من العناء ،أمضيت معظمها منكبا على صفحات الورق ، بحثا عما يرقى بالإنسان إلى مراتب الفضيلة .
جئتكم سيدي لأمثل أمام عدالتكم من تهمة ملفقة ، ولا تستند إلى أية حقائق أو مراجع قانونية .
جئتكم سيدي سافرا دون أقنعة ، وأعزلا من كل شيء ، حتى دون محام ، ودون ) واسطة ) ودون أقارب ، ودون أصدقاء ، وحتى دون فضوليين وشامتين .
غير أنني جئت يا سيدي مسلحا بنبلي ، وبرسالة الأدب والفن والفكر والصحافة التي حملتها على كاهلي ، وبمبادىء الإتحادات والنقابات التي أنتمي إليها ، والتي يشرفني أن أصون مبادئها واتقيد بها ، وما لا يقل أهمية سيدي ، أنني جئتكم مسلحا بأملي الكبير بنزاهة عدالتكم ،وكلي ثقة بأنكم لن تخيبوا أملي ، فلا يقال أن قضاء دمشق ظلم أديبا عربيا مقدسيا ، أحب دمشق ، وفضل العيش فيها على أهم عواصم العالم ، معتبرا إياها أمه بالرضاعة ، حين لجأ إليها منذ قرابة أربعين عاما ، مداريا جراحه الدفينة ، فأشرعت له صدرها ، وأغدقت عليه حليب أمومتها ، وفيأته بظلالها الوارفة ، فاستكان إلى حضن أمومتها ، لينعم بالدفء والطمأنينة .
أجل سيدي ، جئتكم وأنا أمثل للمرة الثانية في حياتي أمام القضاء ، آملا حكما نزيها عادلا أشهره في وجه من دمر حياتي ، كما أشهرته منذ أسابيع فقط ، على يد السيدة الفاضلة ( لوسي جلبيان )، قاضية محكمة صلح الجزاء الأولى ، حين أدانت من سلبني - بعد جلستين فقط ، وخلال بضعة أسابيع - بما يستحق من حكم ، آخذة في الإعتبار الرحمة ، تلك الصفة الألوهية التي لا غنى لقاض عنها ، وهذا ما كنت أطمح إليه تجاه من ادعيت عليه . وإني لأنتهز هذه الفرصة لأقدم لها جزيل شكري ، على نزاهتها ورحمتها ، والسرعة التي حسمت بها القضية .
(وإني لأعتذر لسيادتها وسيادتكن إذا ما بخستكن حقكن بمخاطبتكن ) بصيغة المذكر ، فأنا لا أعرف ، فيما إذا كنت سأمثل أمام قاض أم قاضية ، لأنني أكتب مرافعتي مسبقا ، وقد فوجئت بهذا العدد من القاضيات ، ولا تعرف سيدي كم أفرحني ذلك ! وإني لآمل أن يأتي يوم نرى فيه جميع القضاة ، وفي كافة أنحاء العالم من النساء ، لعلنا ننعم بعالم عادل مختلف ، تعمه المحبة ، وليس البطش والجشع والكره والإستغلال ، كما هي حال عالمنا اليوم .
عذرا سيدي القاضي ، إذا ما كانت مرافعتي هذه أخلاقية ، بقدر ما تستند إلى وقائع مرجعية .
سيدي :
إذا كان القانون نبراس الأمم ، فإن القضاء تاجها ، وإذا ما فقدت أمة الثقة في قضائها ، فقدت أمنها واستقرارها وطمأنينتها . ولا أنكر ، أن بعض ما سمعته عن القضاء ومتاهاته ، وما سمعته عن المحامين وحقوقهم الباهظة ، إضافة إلى سعيي للراحة والهدوء ، هو ما دفعني إلى التنازل عن قضيتين رفعتهما على المدعي ، والسعي إلى التصالح ، الذي دفعت ثمنه من مالي ، وأنا صاحب الحق ، لأتفرغ لأدبي وفني وفكري ، بدلا من هدر وقتي في أروقة المحاكم .
سيدي :
حين يدرك المدعي أن حكم القضاء لن يكون في صالحه ، كما في دعوى التخمين المرفوعة ضده ، يلجأ إلى عضلاته وبلطته ، ضاربا بالقضاء عرض الحائط ،مستبقا حكمه ، فيكسر قفل المحل ويستولي عليه ، ليقذف مؤلفاتي ولوحاتي ومخطوطاتي وكتبي وأشيائي ، على بعد عشرة أمتار على الرصيف المقابل ، لتكون نهبة للمارة ، طوال ما يقرب من ثماني عشرة ساعة ، منها حوالي ست ساعات ليل.
وحين لا يجد المدعي وسيلة أخرى ليشفي غليله مني ، يلجأ إلى امتطاء ظهر القضاء في دعوى تزوير ملفقة ضدي ، ويطالب بتعويض مليون ليرة عما لحقه من ضرر ، وبإنزال أقصى عقوبة بي !
لعل المدعي يا سيدي يطمح في أن يمنحه القضاء مكافأة ووساما على ما فعلته يداه ، ولا أعرف على ماذا يعتمد ، رغم أنه ردد كلمتي ( الواسطة الثقيلة ) أكثر من مرة أمامي ، وربما يظن أن هذا ما دفعني إلى التصالح الذي تراجع عنه بعد توثيقه.
إن المدعي يمتطي ظهر القضاء حين يشاء ، ويدير له ظهره حين يشاء ، وكأنه ملك خاص له .
والمؤسف يا سيدي أن القضاء لم يوعز بإعادتي وأشيائي إلى المحل ، أو إغلاقه إلى أن يصدر حكمه ، وجعلني أتشرد في أحياء دمشق القديمة ، لأعرض لوحاتي وكتبي على الأرصفة ، ملبيا بذلك رغبة المدعي في أن يذلني .. إنه لأمر مؤسف جدا يا سيدي .
لقد بكيت من أعماقي يا سيدي لما واجهته من ألم ، وأنا أرى إلى أشلاء روحي ملقاة على الأرصفة ، وأنا أقف في حر الشمس ، لأعرض بعض لوحاتي على الرصيف ، حتى لا أحتاج أحدا ، قبل أن أعثر على محل ، والسواح الذين يعرفون مدى شهرتي لا يصدقون أنني أعرض لوحاتي على الرصيف وأنا المدون على صفحات الكتب السياحية العالمية التي يحملونها .
ما خفف من حزني يا سيدي هو تضامن الآلاف معي في الصحافة وعلى شبكة الإنترنت ، وتضامن بعض السياح الذين ابتاعوا لوحاتي من على الرصيف .
اورد هذه الوقائع سيدي للدلالة على الإستهتار من قبل المدعي ، ومن قبل بعض الناس ، بالقضاء ، وهيبة القضاء ، ونزاهة القضاء ، فلو كان المدعي يدرك أنه يعيش في دولة وليس في غاب ، وأن هناك قضاء لن يرحمه على أفعاله ، لما أقدم على ما أقدم عليه ، ولتم حل المشاكل كلها حتى خارج إطار القضاء ، عبر محكم ما نتفق عليه ونحتكم إليه . وكنت سأرضي طموح المدعي بأن أعطيه بدل ايجار أكثر ، علما أنني أدفع أغلى ايجار في الحي قياسا بحجم المحل الذي لا يتجاوز ثمانية أمتار حتى مع جزء من الرصيف !
يدعي المدعي يا سيدي أنه كانت تربطه بي علاقات تجارية ، فلماذا لا يقدم أية وثيقة تثبت ذلك
منذ بداية عام 2006 ؟! لعله استغل غفلتي ومرر ورقة ما في العقد الصوري المبرم بعد ثلاث سنوات ؟ كل حي القيمرية يا سيدي يعرف أنني مستأجر .
حين استأجرت المحل بداية عام 2006 اتفقنا على بدل إيجار مائة وخمسين ألفا في العام تدفع كل أربعة أشهر مقدما ، ورفض المدعي ابرام عقد ايجار مدعيا أنه غير ضروري ! وغضب علي المستأجرون الآخرون في الحي ، لأنني رفعت الأسعار إلى ما هو فوق طاقتهم ، علما أن أكثر من سبعة محلات في الحي كانت لا تجد من يستأجرها .
عام 2007 زاد الأجرة إلى مائة وثمانين ألفا .
عام 2008 زادها إلى مائتي ألف .
عام 2009 لم أوافقه على زيادة الأجرة لتصبح مائتين وأربعين ألفا ، وبعد أن تدخل السيد محمد المودي جعلناها مائتين وستة عشر ألفا على أن تصبح في عام 2010 مائتين وأربعين ألفا ، شريطة أن أوافق على العقد الصوري الملفق الذي أحضره ، (( عقد محاصصة ،للتغطية وهدر حقوقي ، والتهرب من الضرائب، ليس فيه أي ذكر على الإطلاق للمبالغ التي يتقاضاها المدعي مني )) والذي يحق له بناء عليه أن يخليني من المحل إذا لم أدفع له الأجرة التي يريد بعد انقضاء العامين . وبناء عليه تم ابرام العقد الذي لم يعطني نسخة منه لما يحويه من بنود غير أخلاقية كما يبدو ، فأنا لم أقرأه لمعرفتي أنه عقد تلفيق ، مدعيا أنه سيقوم بتوثيقه . وقد دفعت له فور توقيع العقد مبلغ أربعة وخمسين ألف ليرة عن الأشهر الثلاثة الأولى عبر السيد محمد المودي الذي قام بعدها وتسليمها له ، ليكتب سندا باستلامها ، دون أن يشير إلى أسباب الإستلام كالعادة ! وكم حاولت الحصول على نسخة من العقد دون جدوى ، فقد كان يرفض استقبالي أو حتى الرد على مكالماتي الهاتفية ، وقد أعلن فيما بعد - في بطاقة بريدية أرسلها ردا على بطاقة موجهة من محامي إليه بأنني لا أعترف بعقد لم أطلع على ما فيه ولم أستلم نسخة منه –أعلن فسخ العقد لإخلالي بشروطه حسب رأيه ، مدعيا أنني قرأت كل بند فيه ، ووقعت وبصمت على كل صفحة فيه ، وطالب بإخلاء المحل . وللحق إنني فعلا وقعت وبصمت لكن دون أن أقرأ ، ما عدا الفقرتين المتعلقتين باسمينا ومدة العقد التي ملأتها بنفسي ، علما أن العقد الذي وقع وبصم هو ليس العقد الذي وقع بحضور السيد محمد المودي ، فقد عاد بعد فترة من الزمن ليدعي أن ثمة أخطاء في العقد وأنه أحضر نسختين جديدتين ، وهاتان النسختان هما ما وقعت وبصمت على كل صفحة من صفحاتهما السبع ؛ وإذا ما تم تمرير أوراق غير أخلاقية أخرى ، فقد يكون مررها هنا ! لأنني لم أكن أرى غير ذيل الصفحة الذي كان هو يقوم برفعه لي وهو يرتجف ! لأوقع وأبصم .
يطمح المدعي يا سيدي في أن تصبح أجرة المحل أربعين ألفا في الشهر بعد عامين ، ويتخوف أن لا أدفع له هذا المبلغ حينئذ ، ولهذا أقدم على ابرام عقد صوري ، تحت التهديد بالطرد إن لم أوافق ، ليتسنى له إخلائي بعد ثلاثة أشهر ، وليس بعد عامين حسب العقد ، وهذا ما حصل ، وإن لم يكن بشكل قانوني . هناك محلات في الحارة أكبر من محلي لم تتجاوز أجرتها الأربعة عشر ألف ليرة شهريا حتى الآن . المحل معروض الآن ب ثلاثمائة ألف ليرة في العام ، تدفع كلها مقدما ، وبقرار قضائي يوجب الإخلاء بعد عام ! لهذا أقدم المدعي على الإستيلاء على المحل ، ويدعي أنه تضرر. عرضت عليه إعادتي إلى المحل بأن أدفع له مائتين وأربعة وستين ألفا عن عام كامل مقدما فأبى. سيدي القاضي :
أنا وبكل تواضع ، رجل نبيل كما أسلفت ، ومنزه عن كل ما يسيء إلى البشر والكائنات ، ولا أقبل أن أبيع نبلي بكنوز العالم كلها ، وما كنت أؤشر به أسفل المستندات لورثتي ، كوني أعيش وحيدا ، من أنها تسديد لأجرة المحل مقدما ، هي حقا كذلك ، وقد كتبتها لحفظ حقوق المدعي وحسب ، لأنه لم يكن يشير إلى سبب استلامها وحتى لا يطالبه أحد بها ، وليس لها أية علاقة بالتزوير لا من قريب ولا من بعيد ، والمدعي يعرف ذلك حين استعاد معظم هذه المستندات مني ، مع أنه من حقي أن أحتفظ بها وأرفض إعادتها إليه، غير أنه لم يعد يطالبني بالمستندات اللاحقة ، لاطمئنانه إلى حسن نواياي ، ولم يعترض حينئذ ، ولم يفكر إطلاقا في رفع دعوى ضدي ، مع أن بعض المستندات لديه منذ أكثر من عام ونصف ، ويستغل ما هو لدي منها مرفقا بدعوى التخمين لرفع دعوى انتقامية في مواجهتها ، ومواجهة دعوى كسر القفل والإستيلاء على المحل . ثم إن المستندات مكتوبة بخط يد المدعي وتوقيعه ، وشرحي عليها بخط يدي وتوقيعي أسفل المستند وليس ضمن نصه ، فأي تزوير يمكن أن يتم بهذه الطريقة ؟! إن المستند بحد ذاته كدفعات مالية محددة وعلى فترات منتظمة كل ثلاثة أو أربعة أشهر ، وطوال ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، كاف بحد ذاته لإثبات أنه بدل ايجار وليس شراكة مثلا، دون شرحي عليه . هناك أحد عشر سندا ، وقد استعاد معظمها كما أسلفت ، وكان من حقي أن أرفض إعادتها إليه لأنها تخصني ، وكان بإمكاني أن أرفض كتابة عقد محاصصة ، بعد ثلاث سنوات ، وكنت رافضا بالفعل ، لولا أنه ضمن لي عامين مقبلين ، ويا ليته التزم بهما . ثم ما معنى رفع هذه الدعوى طالما أنه استولى على المحل موضوع الخلاف بالقوة وفسخ العقد من قبل ، وقدمت بدوري وثيقة التصالح إلى قضيتي ( الإثنتين ) واشترطت أن يقوم هو بإسقاط دعواه لأسقط دعويي .
سيدي :
إذا كان هناك من يستحق تعويض ضرر ، فهو أنا ، فأنا خسرت مئات الآلاف ، وخسرت المحل الذي كان يستر شيخوختي ،وإذا ما استمر الحال كما هو عليه ، ستكون خسارتي بالملايين، وتعرضت للإهانة والإذلال والتشرد ، وإذا كان هناك من يستحق العقوبة ، فهو المدعي يا سيدي ، وإني لآمل أن ترأفوا به وترحموه .. لأن إنسانيتي لا تبيح لي أن أطالب بإنزال أقصى العقوبة به . ولقد أمضيت عمري يا سيدي مستلب الحقوق ، كأديب وفنان ، وحتى كإنسان ، أعطي الآخرين أكثر من حقوقهم علي ، وآخذ منهم أقل من حقوقي عليهم ، وأسامح أوأغض الطرف عن كثيرين ممن سلبوني حقوقي في لوحاتي أو في أدبي ، أو سلبوا بعض مالي أو نصبوا علي .
إن المحل الجديد الذي استأجرته ( بعقد شراكة أخلاقي نوعا ما ) في شارع فرعي لا يكاد يعمل إلا ببعض الزبائن الذين يعرفونني من قبل ، وما يبتاعونه لا يغطي الأجرة البالغة خمسة عشر ألفا في الشهر . وكم أنا في حاجة للمحل الذي شقيت فيه طوال ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وستة أيام رغم صغره ، بعد أن جعلته معروفا في معظم أنحاء العالم ، ومدونا على خارطة دمشق القديمة ، إضا فة إلى نبذة عن أدبي وفني، وكان يدر علي ما لايقل عن ستين ألفا في الشهر ، أستر بها شيخوختي .
لقد وقعت والمدعي وثيقة تصالح ، بحضور وتوثيق وشهادة مختار القيمرية السيد عبد الرزاق الطويل ، ودفعت ثمن التصالح خمسة وعشرين ألفا ،( لم يذكر المبلغ في الوثيقة ،وقد سلم له من قبل المختار ) غير أن المدعي تراجع عن الصلح ، في محاولة لابتزازي أكثر ، حين توهم أنني ضعيف جدا ، لأنني لا أحمل بلطات ولا سكاكين !وأنه يمكن استغلالي أكثر ..
إن من يطالب تعويض ضرر مليون ليرة ، لا يمكنه أن يقبل صلحا ب خمسة وعشرين ألفا ، إذا كان واثقا أنه على حق ، وسلوك المدعي لا يدل على أنه متسامح لنقول أنه قبل نتيجة تسامحه .
سيدي :
لكل ما تقدم ، جئت وكلي أمل ، ملتمسا عدالتكم ، بتحقيق ما يلي :
1- اعلان براءتي المطلقة من تهمة التزوير الملفقة ضدي ، ومن كل ما يشوب سمعتي كأديب وفنان وصحافي .
2- عدم تعويض المدعي بأي مبلغ مهما كان عن أضرار ما ..
3- اعتبار الدعوى ملفقة ورفعت لاستغلال القضاء العام والتحايل عليه وهدر وقته في ما هو غير وجه حق ، ومعاقبته على ذلك بعقوبة الحد الأدنى ( !!) (أعرف أنه ليس من حقي المطالبة بذلك لأنه حق عام ، لكني أطلب له الرحمة إنسجاما مع مبادئي).
4- إرغام المدعي على دفع مبلغ مائتي ألف ليرة كحد أدنى ، تعويضا لي عما سببه من خسائر مالية فادحة وقلق فظيع لي ، طوال ما يقرب من أربعة أشهر ، تحت التهديد بالسجن لمدة عام ، ودفع غرامة .. ولما هدرته من وقت في أروقة المحاكم ،ومراجعة المحامين ، وكتابة المرافعات والإتصال بالصحافة وشبكة الإنترنت.
5- إعادة مبلغ أل 25000 ليرة التي دفعتها ثمنا للصلح من غير وجه حق ، طالما أنه تراجع عنه ، وإذا ليس في الإمكان القبول به .
ولا أعرف سيدي فيما إذا كان في مقدور محكمتكم الموقرة أن تجمع خيوط القضية الموزعة على ثلاث محاكم والعمل على حلها استنادا إلى كل ما تقدم ، وإيجاد حل يرضي الطرفين
أعود به إلى محلي الذي شقيت فيه والذي أعلق عليه أملا كبيرا لأمضي شيخوختي بسلام ، وسأسامح المدعي حينئذ عن كل ما سببه لي من آلام ، وأتنازل عن التعويض والعقوبة ، وغير ذلك علما أن المدعي غير مالك للمحل حسب ما أعرف. عذرا سيدي للإطالة ، وللأسلوب غير المعتاد في تقديم المرافعات .
وتفضلوا بقبول فائق احترامي ، سيدي .
المدعى عليه
محمود أبو الجدايل !
عضو اتحاد الكتاب العرب
واتحادات ونقابا ت سورية وعربية
أخرى .

*******




وكتب محمود مرافعة أخيرة اعتقد أنها لو قدمت لقضاء نزيه في محكمة النقض ، لقضى بتغريم اوضة ما لا يقل عن نصف مليون ليرة .. المؤسف أن محمود غادر دمشق قبل موعد جلسة المحكمة بأسبوع ، وبقيت المرافعة في البيت .. ويأمل محمود ان لا يكون الحكم قد صدر ضده ، ليفاجأ به إذا ما عاد إلى دمشق يوما ما ! وفيما يلي نص هذه المرافعة كما هي في الأرشيف:
المرافعة الثالثة أمام القضاء للروائي والفنان محمود أبو لجدايل....
*******

إلى مقام محكمة استئناف الجنح الثانية بدمشق الموقرة
مرافعة بشان الدعوى ملف 1738 . جلستها في 24/7/012
من المستأنف عليه بعد نقض الحكم محمود أبو الجدايل!
سادتي القضاة . سادتي المستشارين :
لن أخوض في المبررات التي حدت بمحكمتكم الموقرة إلى تخفيض تعويضي من مبلغ مائتي ألف ليرة ( حكمت بها محكمة بداية الجزاء الثانية عشرة ، مشكورة ) إلى مبلغ خمسين ألف ليرة فقط ، لأنني لا أعرفها أصلا ، فلم أحصل على نسخة من قرار الحكم . كما لن أخوض في قرار محكمة النقض بقبول النقض لأنني لم اطلع على حيثياته أيضا . لكن ما أعرفه جيدا يا سادتي هو :
1- إنني أتعرض منذ ثلاثة أعوام لعملية ابتزاز كان أخرها اتصال المدعي بي مطالبا خمسة وعشرين ألف ليرة كي لا ينقض الحكم ، متناسيا أنه ابتزني بمبلغ (25) ألفا ليقبل بالصلح الذي تم قبل أكثر من ثلاثة أعوام ، ووثق من قبل مختار حي القيمرية السيد عبد الرزاق الطويل .ولم يتقيد به المدعي ولم يعد النقود إلي . ومتناسياً خسارة قضيته في محكمتي الجزاء والإستئناف !
2- يدعي المدعي أنني أقمت دعوى التخمين لأختلس فروغ المحل وأستولي عليه . وهذا اتهام غير مباشر للمحكمة التي أقيمت أمامها القضية بأنها ستكون شريكة معي في الإختلاس فيما لو حكمت لصالحي بالعودة إلى المحل وتثبيت وضعي كمستأجر . كما أنه يشير إلى عدم ثقتة بالمحكمة ، لذلك أقام المدعي دعوى مضادة (تزوير) وتم قبولها للأسف ليتم بذلك هدر وقت القضاء في قضية كيدية لأكثر من ثلاثة أعوام .
3- يتناسى المدعي أنّه استولى على المحل عنوة بأن كسر القفل وألقى بلوحاتي ومؤلفاتي ومخطوطاتي على الرصيف بمجرد أن عرف بالدعوى التي اقيمت عليه . مديرا بذلك ظهره للعدالة بل وضارباً بها عرض الحائط ، وممتطيا متن القضاء في الوقت نفسه برفع دعوى مضادة ، وكأن القضاء طوع يديه ! هل يعقل يا سادتي أن لا يضع القضاء حدا للإستهتار به !
4- يرى المدعي أنه في مقدوري تحريك القضية التي شطبت منذ أكثر من ثلاثة أعوام بناء على الصلح ، ومجرد تحريكها فيما لو تم هو عودة للإختلاس كما يرى ، وكأن المحاكم مشرعة أمام المختلسين واللصوص لتثبت حقهم في اللصوصية والإختلاس .
5- لن أقوم بتحريك دعوى التخمين يا سادتي طالما لم أفعل ذلك طوال ثلاثة أعوام ، عدا أن تحريكها لم يعد ممكنا حسب اعتقادي . وكذلك لن أحرك دعوى الإستيلاء على المحل عنوة . لكني قد لا أتنازل عن حقوقي بالتعويض إذا لم تنصفني محكمتكم الموقرة ، لما عانيته وكابدته لأكثر من ثلاثة أعوام متنقلا بين المحامين وصالات المحاكم . عدا عن خسارتي للمحل الذي كنت أستر بدخله شيخوختي ، والذي فاقت خسارتي له المليون ليرة فعلا لا مجرد قول.
6- أي مزور أحمق هذا الذي يكتب ملاحظة أسفل سند ويوقع عليها ويكتب اسمه؟! علما أن المدعي استعاد سبع سندات مني ولم يبق لدي إلا الأربعة التي أرفقتها بدعواي .أرجو مراجعة مرافعتي السابقتين للإستفاضة إذا دعت الضرورة .
7- يتناسى المدعي أن عقد الشراكة الملفق قد تم بعد ثلاث سنوات من الإيجار حسب السند المؤرخفي 1/1 /2006 . وقد وقعته مرغماً كعقد شكلي لا علاقه له بالواقع ولم أعرف أنني أمام مكيدة لطردي من المحل بعد أن زادت أجرته . وأعترف بحماقتي بتوقيع العقد الذي رفض المدعي إعطائي نسخة منه كي لا أكشف التلفيق الذي فيه .
ختاما: أمضيت العمر يا سادتي بحثا عمّا يرقى بالإنسان إلى مراتب الفضيلة ، ولم أتصور يوماً أن أجد نفسي تسعى إلى الخلاص من براثن الرذيلة ، متمنيأ لو في مقدوري أن أستجمع أصوات البشرية لأصرخ بها : أين هي الفضيلة ؟ أين هي العدالة .
آمل من محكمتكم الموقرة أن تنصفني يا سادتي وتعوضني عن الخسارة الفادحة التي تعرضت لها فعلا لا قولا ، وعما تعرضت له من إهانات ومعاناة كادت أن تودي بحياتي .
مع فائق احترامي وتقديري .
محمود أبو الجدايل .





(14) ربما ثمة أمل !
كثيرة هي المرات التي كان يتعثر فيها مستقبل محمود أبو الجدايل ليجد نفسه يغرق في حاضر مظلم وأفق أكثر ظلمة ، منذ أن أخرجه أبوالجدايل الأب من المدرسة ليرعى قطيع الغنم إلى كارثة تشرده من سورية . قرابة ستة عقود من المعاناة. كان يصبر ويعمل بمثابرة ودأب لينهض من جديد ويواجه مصاعب الحياة. الكارثة الأخيرة كانت من أقسى الكوارث، بعد أن حقق نهوضا غير مسبوق، بوجود بيت ملك له، ودخل شهري لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار، يجنيه من بيع لوحاته. كان هذا نهوضه الاخير بعد حرق البالة التي ورطه فيها صديق معلم مدرسة ، لا يكفيه دخله ؟ كان محمود قد حصل على ارث بقيمة الفي دينارمن قطعة أرض تعود ملكيتها لأبي الجدايل الأب . . لم يعرف محمود ماذا يفعل بها ، إلى أن جاءه المعلم وطلب النقود ليفتح محلاً لبيع الملابس المستعملة . على أن يكون الربح مناصفة . المعلم بعمله ومحمود بفلوسه . الشرط الوحيد لمحمود كان الاطلاع على حسابات المحل . فاجأ محمود المعلم بعد قرابة عشرة أيام من افتتاح المحل . لم يستقم تسويق أي سلعة في المحل . فما هو موجود في المحل لا يتناسب مع الكمية المشتراة وما بيع منها . فإذا كان سجل التنانير يحتوي على خمسين تنورة مشتراة وسجل المبيعات يحتوي على خمس وعشرين تنورة مباعة ، فهذا يعني أنه بقي في المحل خمس وعشرين تنورة أخرى. وإذا لم يكن في المحل إلا عشرتنانير ، فهذا يعني أن الشريك ابتلع ثمن خمس عشرة تنورة لم تدخل سجل المبيعات ..
لم يضبط محمود أبو الجدايل أي نوع من الملابس. كان ثمة اختلاس بنسب متفاوته من كل صنف مباع.
- الله يخرب بيتك ألم تجد أحدا غير صديقك لتسرقه! هل هذه مكافأتي على الثقة التي وضعتها بك ؟
أنكس فالح رأسه متجنبا النظر في عيني محمود في محاولة يائسة لإخفاء خزيه !
- لم أتمكن من تسجيل كامل المبيعات بعد ، وكنت سأفعل ذلك قريبا .
- نعم ؟! قريبا ؟! وهل ستتذكر سعر كل قطعة بعتها قريبا !؟ الله لا يسلمك يا شيخ . اسمع . سأترك المحل لك شريطة أن تعيد إلي نقودي خلال اسبوع . لا اريد شيئا مما بعته.
- سأحاول ايجاد شريك . تدبير مبلغ 150 ألف ليرة ليس أمرا سهلا .
- سنرى.. باي !
لم يتمكن فالح من ايجاد شريك ولم يحصل على المبلغ بعد عشرة أيام . حضر محمود في غياب فالح وكسر قفل المحل ووضع قفلا جديدا ، واستعاد محله ليبيع البالة لمدة عامين، ليستعيد نقوده ،إنما بتعب شديد ، وبالكاد كان يحصل من المحل على مصروف البيت دون أن يوفر قرشا ..
بعد قرابة عقدين من الزمن تذكر محمود ابو الجدايل وهو في عمان بعض أصدقائه في دمشق ، ومن بينهم فالح شماس.. بحث عنه على النت ليجد أن السرطان قد أودى بحياته.
******
قبل أن يحرق الباله عرف محمود ابو الجدايل فيها من الناس الطيببين والمستغلين وغيرهم.. وكانت نسبة الأخيرين غير قليلة ، فقد ترك البالة وله ديون على الناس بحوالي ألفي دولار، لم يحصل منها على شيء. هذا الامر دفعه للتفكير في من في استطاعته أن يحكم هذا النوع من البشر ذوي الميول المختلفة والمتعددة .. كان أحيانا يخلص إلى نتيجة مفادها أن بشرا كهؤلاء لن ينجح في حكمهم إلا دكتاتور ولو بالحد الأدنى من العدالة ! وأن إقامة مجتمع ديمقراطي بوجود هؤلاء مسألة شبه مستحيلة . لكنه كان يراجع نفسه كون رواد البالة من الطبقات الدنيا في المجتمع، الذين يفتقرون إلى ثقافة نوعية . " لكن من يحمل ثقافة نوعية يا محمود ؟ أليست الثقافة السائدة هي الثقافة البائدة والمستبدة منذ قرون وقرون .. هل تظن أن الناس مثلك يبحثون عن فهم جديد للقائم بالخلق والغاية من الوجود "؟!
يهرب محمود ابو الجدايل من الناس ومن أفكاره .. ويشرع في الكتابة بعد حرق البالة . ليكتب " الملك لقمان " و" غوايات شيطانية " دون أن يجد من ينشر له .
تطرق لتلك المرحلة في مقطع شعري من مطوّلة تدور أحداثها في السماء، وردت في " غوايات شيطانية " :
لا أريد العودة إلى بيع حثالات برلين
لأضيع نفسي
وليمتطي الفقراء
والأعدقاء
والسفهاء
رقة قلبي
وكرمي وشهامتي
وقناعتي
ويدعونني أغرق في جحيم الدين
والعوز
والليالي المجحفات ..
*****
لا أريد العودة أيها الملك
لأندم على شهامتي وكرمي
الذي فاضت به الموائد في دمشق
قبل أيام الجفاء
فأنا لا أحب الندم على الكرم
حتى لو كان على البخلاء والسفهاء
فأنا سليل أمة عريقة
عرفت ذات يوم
بالشهامة
والشجاعة
والأصالة
والسخاء
والكبرياء"
آه يا مليكة قلبي والسماء
أنا محتار بين لذة خمر نهديك وبين الفناء !
ولا أريد العودة إلى الأرض
لأتسلم من دانتي وهوميروس
ناصية الشعر
لأشدو على أوتار ليلي حزني الطويل
فأنا أمضيت عمري
ألوي أعنّة بحور الكلام
وألجم الشعر في دخيلتي
وأقدمه قربانا لروحي
على طبق القوافي
كي لا أهدم القصور والمعابد
وأزلزل عرش الله المستحيل.
*****
كتب محمود أبو الجدايل " الملك لقمان " و" غوايات شيطانية " في ظل تفاؤل كبير بأن نشرهما سيدر عليه مالا يقيه العوز . وحين فوجئ بعدم قبول أي دار للنشر نشرهما، شعر بتدمير أمله . ولم يعرف ما الذي قاده إلى الرسم ذات فجر وهو يتقلب في سريره أرقا .. لم يكن الرسم أكثر من هواية يمارسها بين فترة وأخرى. أمضى بضعة أشهر يرسم ليلا نهارا قبل أن يقيم معرضه الأول في المركز الثقافي الروسي .. لم يبع المعرض بأكثر من 500 دولار في الوقت الذي كان فيه ثمن الألوان والكرتون والبراويزوالريش والسكاكين أكثر من ثلاثة آلاف دولار معظمها دين عليه .. عانى قرابة ثلاثة أعوام إلى أن أصبح يبيع بشكل شبه يومي .. لكن بعد أن فقد في العالم قرابة 700 لوحة ..كان يعطي لوحات لكل من يدعي أن في مقدوره التسويق له ، وخاصة في الخليج وألمانيا .. أكثرما آلمه سيدة ألمانية ترك لديها أكثرمن مائة لوحة حين دعته جامعة ألمانية لتدريس طريقته في الرسم لطلاب من أوروبا أقامت الجامعة دورة لهم .. لم يقبل إقامة علاقة غرامية مع المرأة واقترح عليها أن يظلا صديقين ..فما كان منها إلا أن انتقمت منه بالإستيلاء على اللوحات .. حاول أن يستعين بمحام ألماني ابتاع منه لوحات في دمشق .. لم يستطع المحامي فعل شيء لعدم وجود عقد مع السيدة .. الأمر يكاد يكون نفسه مع سيدة فلسطينية أخذت منه قرابة مائة لوحة لتسويقها في الخليج .. لم تستقر أوضاع محمود مع الرسم إلا بعد أن أصبح لديه محل ، فمحلين ، ليشعر أنه نهض بقوة، بعد أن باع لوحات بعشرات آلاف الدولارات .. وجاءت الأزمة التي احدثتها الثورة السورية ليتدمر كل شيء، وليتشرد محمود أبو الجدايل من جديد ، دون أن يكون هناك أي أمل ممكن أن ينقذه هذه المرة . وخاصة إذا ما نفدت النقود التي جاءت معه من دمشق ، فما باعه من لوحات في عمان لم يدر عليه إلا القليل ،ولا ينذر المستقبل بما هو أفضل .
جاء الفرج النسبي بعد قرابة ثلاثة أعوام من الإقامة في عمان ، على يد رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين مراد سوداني ، كما أسلفنا، الذي سعى له ولأربعة كتاب آخرين مشردين في عمان أو مشردين من سورية بينهم المترجم صالح علماني ، أحد أهم المترجمين للغة الاسبانية . كان المبلغ 300 دولار تدفع شهريا . وهو مبلغ يكفي لأجرة البيت . وقد زيد هذا المبلغ ليصبح 500 دولار بداية عام 2018.
قرابة سبعة أعوام أمضى محمود أبو الجدايل حتى اليوم في عمان . كان يظن أن أزمة سورية ستحل خلال عام أو عامين .. وها هي تستقبل عامها التاسع بعد أسابيع دون أي أمل في حل .. وحين وجد محمود أبو الجدايل أن لديه من اللوحات ما يكفي لأعوام قادمة ، تحول إلى الكتابة ليكمل مشروعه الثقافي وليبلور فلسفته للوجود ، وقد وجد من شبكة النت متنفسا له ..فنشر آلاف المقالات والمقولات،وبعض المؤلفات ، إضافة إلى ثلاث روايات ومجموعة قصصية وبحث نقدي مقارن، نشرت ورقيا . لم يجد ناشرا لروايتيه الفلسفيتين إلا صالح عباسي صاحب ومدير مكتبة كل شيء في حيفا . فرحته بنشر هذه الكتب أحيت الأمل لديه ، كما سبق للرسم أن أحياه ، وكذلك نشر الملك لقمان وغوايات شيطانية عامي 2008 و2009 في دمشق عن دار نينوى، بعد أن قبعا كمخطوطين في الدرج لما يقرب من خمسة عشر عاما.
حين تحول محمود أبو الجدايل إلى الرسم في دمشق ، اعتقد أنه لن يعود إلى الكتابة إلا لماما حتى ما بعد ظهور النت. لكن نشر مخطوطاته اللاحقة وتعثر الرسم أعاده إلى الكتابه وبقوة. يتمنى لو يحصل على مخطوطين روائيين بقيا في أرشيفه في بيت دمشق ، إضافة إلى مخطوطات أخرى غير مكتملة .
" آه يا محمود مخيلتك تضج بأشياء وأفكار كثيرة ولا تعرف أيا منها ستتناول.. وتكره أن تكتب عن الحياة الاجتماعية الواقعية رغم غنى حياتك في هذه المسألة ، من التشرد والشقاء إلى الكفاح وإلى النساء، من الجنس في الطفولة إلى سعاد الغجرية في دمشق وهي تترك برداية غرفة القياس في البالة مشقوقة للتتيح لك البصبصة على نهديها ومؤخرتها ، في أسخف محاولة للإغواء.! من يصدق أنك وصلت إلى حد القرف من هذا العالم بشقائه ونسائه ، وأنك تعشق وحدتك ولا يشغلك إلا العقل البشري والغاية من الوجود ، بعد أن استكانت البشرية إلى أفكارها العقائدية والفلسفية معتبرة إياها حقائق مطلقة ، دون أن تفكر في أن الحقيقة المطلقة لم يعرفها العقل البشري بعد ، وربما لن يعرفها بعد ملايين الأعوام ! وما تزال البشرية تخوض صراعاتها وتمارس حماقاتها ، وتضطهد امم أمما وشعوبا أخرى دون أن تدرك الغاية من وجودها، بتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الانسانية ليحيا البشر جميعا في ظلها"
*****




(15) نصابون ظرفاء!
يكره محمود أبو الجدايل الكتابة عن حياته اليومية ، ويكره التطرق إلى النصابين والمحتالين واللصوص وما أكثرهم في حياته ، مستثنيا الأصدقاء والصديقات الذين كان يدينهم بعض النقود وبسخاء أحيانا ولا يسددون ديونهم، وخاصة بعض الصديقات الجميلات اللواتي قد لا يبخلن عليه بليلة غرام في زمن مجدب من النساء! في عمان اكتشف نوعا جديدا من المحتالين لم يعرفه من قبل ، وإن كان أحدهم قد لطش منه أكثر من عشرة آلاف ليرة وبعض الدولارات بخفة يده ! تكمن مشكلة محمود في أنه لا يشك في نوايا من يتعامل معهم ، ولا يفكر على الإطلاق في أنه يتعامل مع محتالين ، فلا يعقل أن يكون جميع الناس محتالين ، فهؤلاء نادرون في المجتمعات بالتأكيد .. في دمشق دخل عليه رجلان ادعيا أنهما تركيان ، طلبا ابتياع رواية له مترجمة إلى التركية. كان سعرها 10 دولارات . أعطاه أحدهما ورقة نقدية من فئة المائة دولار . أخرج محمود من حقيبته بعض الدولارات وراح يبحث بينها عن تسعين دولار. فوجئ بأحد الرجلين يجعجع بكلمات غير مفهومة ويخطف الدولارات من يده ويفردها على طاولة وهو يجعجع .. لم يعرف محمود ماذا يريد هذا الكائن ، ولم يعد الاثنان يفهمان الانكليزية التي خاطبهما بها حين دخلا واختارا الكتاب . كان خاطف الدولارات يجعجع بينما الآخر يحاول أن يوضح ما يريده وبجعجعة أيضا لا تخلو من مفردات مشوهة بالانكليزية . فكان محمود ينتبه مرة إلى خاطف النقود ومرة إلى الموضّح ! للتتم السرقة . اعتقد محمود أنهما يريدان باقي المبلغ بالسوري . أعاد الخاطف الدولارات إلى محمود الذي أعادها إلى جيبة ، وأخرج مبلغا من العملة السورية . تكرر الأمر نفسه . خطف الخاطف النقود من يد محمود وفردها على الطاولة وهو يعبث بها ويجعجع ، دون أن يفهم محمود شيئا ، لا من المجعجع ولا من زميله الذي يجعجع للتوضيح . أعاد الخاطف المبلغ إلى محمود ، ومد الموضح يده وأخذ ورقة المائة الدولار( المزورة على الأغلب ) وعدلا عن شراء الكتاب وانصرفا ..
كعادته لا يدرك محمود ما يجري معه إلا بعد فوات الأوان .. تفقد نقوده ليجد أنها نقصت بما لا يقل عن خمسة عشر ألفا .. ولم يستطع تحديد المبلغ (الملطوش) بالضبط ، لأنه كن يحمل فلوسا كثيرة نسبيا إضافة إلى ما كان يبيعه ..
حين دخل في عمان إلى محل الكترونيات ليبتاع فلاشه للكومبيوتر، قدم إلى شاب في المحل ورقة نقد من فئة العشرين دينار، ليحسم الآخر منها ثمانية دنانير ثمن الفلاشة . أعاد له الشاب دينارين فقط . كان محمود يتفحص الفلاشة وحين رأى الدينارين ، قال للشاب أنه أعطاه عشرين دينارا . سارع الآخر إلى سحب درج النقود من الطاولة ووضعه أمامه ليريه أن كل ما فيه هو فئة العشرة دنانير، ولا يوجد فيه فئة العشرين ! مضيفا إلى كلماته عبارة " جل من لا يسهو" رددها أكثر من مرة ، في محاولة لإقناع محمود أنه سها ! وبدلا من أن يشك محمود في هذا البائع الشاب ، ويقول له أنه لم يضع الورقة النقدية في الدرج، راح يشك في نفسه ، أنه فعلا ربما سها ، ورأى العشرة عشرين ! انصرف من المحل وهو يحاول يائسا أن يقنع نفسه أنه أعطى الشاب عشرة دنانير وليس عشرين مع أنه لا يوجد في محفظته غيرها من هذه الفئة !
بعد يوم واحد فقط . وقف على الرصيف في وسط البلد، حاملا رزمة من الكرتون ابتاعها للرسم ، منتظرا أن يقله تكسي إلى بيته . توقف تكسي أمامه ونزل السائق منه حاملا رزمة صغيرة من النقود في يده ، وسار نحو محل لبيع الدهان ، ليعود بعد لحظات وهو يردد " ما حدا معه خمسين دينار " ثم خاطب محمود " معك خمسين قطعة وحدة ؟" يحمل محمود معه دائما ورقة نقدية من فئة الخمسين دينارعلى سبيل الاحتياط ليعود إليها إذا ما نفدت نقوده في السوق . قال للسائق " معي " وصعد السائق إلى حافلته ليصعد إلى جانبه . قال للسائق :
- الناس يبحثون عن الفراطة وأنت تبحث عن قطعة نقدية واحدة ، لماذا تريدها ؟
- أمي مريضة في المستشفى وتريد خمسين دينار شقفة وحده!
أوحى له السائق أن امه تعاني من مرض نفسي.
- أوكيه ! هات !
قدم له السائق خمسين دينارا كلها أوراق جديدة !
وضعها محمود في جيبه إلى جانب بعض النقود لديه .
كان يضع ورقة النقود الاحتياط في مغلف ويضعها في جيب خاص في حقيبته. فتح الجيب وأخرج المغلف وفتحه وأخرج قطعة النقود وقدمها للسائق ، وانصرف لإغلاق الجيب والحقيبة . ولم يكد ينتهي من الأمر حتى فوجئ بالسائق يمد يده بورقة نقدية من فئة الخمسة دنانير وهو يهتف " لكن هذه خمسة دنانير وليست خمسين " ؟!!
ثمة شبه ضئيل جدا بين فئة الخمسة دنانير والخمسين دينارا ، يتمثل في اللون الأحمر أساس القطعتين ، وإن كان متفاوتا في القطعتين ، كما أن فئة الخمسين أكبر من فئة الخمسة وليس من السهل أن يخطئ أحد فيهما ولا يميز بينهما في التعامل، وإن كان ممكنا إنما بشكل نادر جدا في حال لم يكن الشخص متنبها عند التعامل النقدي.
- نعم ؟! هتف محمود متسائلا.
الطيبة إلى حد السذاجة تدفع محمود إلى أن يشك في نفسه ولا يشك في الآخرين .
" معقول ؟ هل كنت أحمل خمسة دنانير بدلا من خمسين ؟"
" هذه هي "
- أيه هاتها !
أخذ محمود الخمسة دنانير وأعاد للسائق الخمسين دينارا !
المسافة الى البيت في حي اللويبدة قريبة . كان العداد أقل من دينار . تلكأ محمود قبل أن يخرح نقوده ليحاسب السائق، كان ما يزال يفكر في الخمسين دينارا فيما إذا كانت خمسة أم خمسين . وهذا ما دفع السائق إلى التخوف من أن يصحو محمود من صدمته ويجزم له أنه أعطاه خمسين دينارا وليس خمسة دنانير ، فسارع إلى مخاطبته :
" روح الله يسامحك ما بدي منك أجرة "
سارع محمود إلى النزول مصطحبا رزمة الكرتون ، فيما انصرف السائق مسرعا ..
منذ ذلك اليوم حاذر وهو يعطي قطعة نقود إلى بائع أن يقول له من أي فئة هي .. مثلا " هذه خمسة دنانير، هذه عشرة ، هذه عشرين ، هذه خمسين " ونأمل أن لا تأتيه السطوة في الأيام والسنين القادمة من باب يجهله !
بقال الحارة المتدين جدا، والذي يكاد أن يرفع الأسعار كل يوم على مزاجه ، انطلاقا من قاعدة يؤمن بها يجيزها له الإيمان الديني " التجارة شطارة " فمن حق التاجر أن يتشاطر في االبيع ليربح أكثر ، فهذا حق له ! كان يبيعه مرطبان العسل الاسترالي بخمسة دنانير، ليجد أن سعره في السوق دينارين وربع فقط ! قال له بعد أن أخبره محمود بقصص النصب عليه " خلال يومين انتصب علي مرتين ، مرة بخمسين دينار ومرّة بعشرة دنانير" ليجيبه الآخر على الفور:
" الأول أعطيته خمسين فأخفاها في غفلة منك وأخرج خمسة ، والثاني أعطيته ورقة العشرين فقال لك عشرة "
فوجىء محمود بالأمر :
" يا إلهي أنتم تعرفون كل شيء "
" بدك تدير بالك وتقول للبائع ماذا أعطيته ، والبائع النظيف يترك قطعة النقود أمامه إلى أن يعيد للزبون باقي نقوده "
بعد أيام ابتاع محمود بعض الفواكه من بائعين متجولين في شاحنة . مد أحد البائعين يده برزمة نقود وهو يهتف " معك خمسين شقفة وحده" ؟ كان محمود بملابس البيت ولم يحمل معه إلا مبلغا قليلا يفي بالغرض . هتف " لا " وتذكر بعد ذلك ما جرى معه فراح يخبر البائع بالأمر دون أن يشك اطلاقا في احتمال أن يكون هذا محتال أيضا !
*****



( 16) جدائليون أنبياء ومتصوفة!
يهرب محمود أبو الجدايل من عالمه الواقعي الكريه في " زمن الخراب " هذا، ليعيش مع أحلامه في عالم متخيل يريح نفسه وينسيه هذا العالم . أصبحت معظم كتاباته في العقود الأخيرة تدور في فانتازيا موغلة في الخيال المطلق ، دون أن تتجاهل البحث عن ماهية القائم بالخلق ، إن كان إلها، وعمّا إذا كان يعتبر نفسه كذلك ، سالكا بذلك طريق آلاف الأجداد من الأنبياء والمتصوفة وحتى المجانين من مدعيي الألوهة ، وكان عليه أن يحسم هذه المسألة بإيجاد طريق ثالث في الفلسفة لا يغفل العقل والعلم والمادة ولا يتجاهل الروح ، أسماه المادية الروحية ، دون أن يجزم بأن ما جاء به هو حقائق مطلقة حتى لا يقع في ما وقع فيه الأسلاف ، الذين اعتبروا كل ما جاءوا به حقائق مطلقة لا تقبل الجدل! فقد اعتبر أن فكره ليس أكثر من اجتهاد كغيرة من اجتهادات العقل البشري عبر التاريخ لمعرفة أسرار الوجود والغاية منه .
أحد الأجداد لم ير في عبادة النار والعبادات الطوطمية وعبادة الأجداد لدى بعض الشعوب أية آلهة ، ودعا إلى عبادة الكواكب ممثلة بالشمس والقمر والزهرة ، بعد أن أمضى عشرين عاما معتكفا في كهف في سفح جبل صخري في جبال اليمن ، متأملا الكواكب، ليقوده تأمله إلى أن عائلة الألوهة تكمن في الشمس الأم والقمرالأب والزهرة الابن . ولم يكن من الصعب عليه أن يجد أتباعا لعقيدته لما يتركه هذا الثالوث من أثر في الحياة اليومية للناس، فراح ينتشر في الجزيرة وبلاد الشام وبعض بقاع العراق وفارس ومصر.
أحد الأجداد البابليين ممن كانوا يعبدون الربة عشتار رفض هذه العقيدة بإصرار ، ما لم تتح له ممارسة طقوس الجنس المقدس في المعبد ، التي لم تكن كافية لإشباع رغباته ، فكان يقصد معبد عشتارعند طلوع الشمس ليحظى بافتضاض عذراء ممن ينهضن مبكرا ويحضرن ليجلسن أمام المعبد ليهبن عذريتهن للربة كقربان عبودية مع أول قادم إلى المعبد .
بعض أتباع عبادة مردوخ من البابليين ممن راحو يشكون في ألوهية مردوخ ، وإقدامه على شق جسد جدته ليجعل من النصف العلوي سماء والنصف السفلي أرضا ، آمنوا بهذه العقيدة ، غير أنهم أبقوا على فكرة خلق الإنسان المردوخية التي نصت على أن مردوخ خلق الإنسان بدمه .. لذلك نشأ صراع فكري بين البابليين الكلدانيين من أتباع مردوخ والمنشقين الذين اتبعوا عبادة الشمس. وظل الصراع قائما في حدود الفكر والاجتهاد دون سفك الدماء كما جرى في أزمان لاحقة وفي زمننا .
أقيم معابد للشمس في بعض البلدان مورست في بعضها طقوس العبادة والتي كان من ضمن بعضها ممارسة الجنس المقدس التي لم يكن من السهل التخلي عنها ، وخاصة من مؤيدي الألوهة الأنثوية الذي كانوا يرفضون بشدة الألوهة الذكورية من انليل وجلجامش إلى مردوخ وإيل ويهوة والله فيما بعد . كما أسمى كثيرون أنفسهم " عبد شمس" فيما أقام كثيرون أنصابا ترمزإلى هذه الألوهة ، كاللات والعزى ومناة ، ولم تكن عبادتها إلا تقربا للألوهة الممثلة في السماء بالشمس والقمر والزهرة .
هذا الأمر قاد محمود أبو الجدايل المعاصر للبحث في هذا الثالوث المقدس ليجد أن عقائد كثيرة تعود إليه ، فإنسان العصر الحديث المتدين يرى أن عقيدته هي التي جاءت بمفهوم التوحيد الصحيح مهما تعددت مظاهر ومفاهيم الألوهة ، وأن لا علاقة لها على الإطلاق بأية مفاهيم ومعتقدات قديمة بدائية .رغم أن الإسلام يعترف في بعض آيات القرآن بالمسيحية واليهودية وحتى بالصابئية. والمسيحية تعترف باليهودية حسب العهد الجديد. واليهودية لا تعترف بما قبلها من عقائد رغم أنها أخذت الكثير من المعتقدات الأقدم، الفرعونية والبابلية والكنعانية .
الإسلام ينفي تثليث الألوهة رغم اقترانها بشخص النبي محمد وجبريل (ناقل الوحي) مع الله ، فلا يذكر اسم النبي أوصفته إلا ويذكر اسم الله معه وفي الشهادة ينبغي ذكراسم النبي محمد مع الله .ونصف الشهادة لا يقبل فهوغير محمود كأن يقال " أشهد أن لا إله إلا الله " فقط . وإذا ما عدنا إلى ابن عربي وبعض المتصوفة سنجد أن الخلق جاء من الحقيقة المحمدية التي كانت في العماء الإلهي (الهيولى البدئية ) منذ الأزل !
وفي المسيحية لا تتم البسملة إلا باسم الآب والابن وروح القدس .
ثلاثة أقانيم في ذات إلهية واحدة أزلية .
في اليهودية ضاعت المفاهيم بين إيل وألوهيم ويهوة والرب والله وغيرهم ، وإن كانت قد استقرت على رب الجنود يهوة ! بنسبة كبيرة .
وقد استعرض محمود ابو الجدايل بعض هذه السلسلة من (الثالوثات والتعددات الإلهية ) بغض النظر عن كيفية تطورها وتناقلها من أمة إلى أمة ، متجاوزا المراحل الأولى للدين المتمثلة في السحر والطقوس السحرية والطوطمية، ومتجاوزا صراعات وتحولات وتعددات الآلهة بعد مظاهر الوجود البدئي :
العائلة الخالقة الأولى :أي الإله الواحد، في عقائد جنوب شبه جزيرة العرب ( اليمن ومحيطها):
القمر : الأب .
الشمس : الأم .
الزهرة : الإبن .
أقانيم ثلاثة تمثل الألوهة .
يرد القسم في القرآن بالشمس والقمر والنجوم وحتى بالتين والزيتون .
فما الذي يعنيه القسم بها إذا لم يكن لها علاقة بالوجود الإلهي ؟!
مرحلة لاحقة في شبه الجزيرة العربية :
يمكن أن تكون ممثلة في ثالوث إلهي :
أللات (الله ) العزى . مناة .
ومن ثم تعددت الأوثان التي ترمز إلى ألوهة
ممثلة في ذات إلهية واحدة ، وما الأوثان إلا للتقرب بها إلى هذه الذات ، التي بني لها العديد من المعابد (الكعبات). ثمة روايات ذكرت 23 كعبة . وحدت فيما بعد في كعبة واحدة ، توجها الإسلام بتحطيم الأوثان .
مراحل ما بعد الوثنية في الجزيرة : اليهودية . الصابئية . الحنيفية الابراهيمية . النصرانية ، الإسلامية.

العائلة الخالقة السومرية البدئية ( التكوين السومري البدئي :
آن . إله السماء . زوج كي . الأب .
كي . إلهة الأرض ، زوجة آن .الأم .
إنليل : إله الهواء . الإبن .

العائلة الخالقة البابلية :
ابسو : الماء العذب ( الله الأب(
تعامة : الإلهة الزوجة والأم . الماء المالح .
ممو : الإله الإبن . الأمواج المتلاطمة.

عائلة خالقة فرعونية :
رع : الشمس . الله .
جيب : إله الأرض زوج .
نوت : إلهة السماء . زوجة جيب .

العائلة الإيزيسية :
ايزيس الأم
أوزيريس الأخ والزوج !!
حورس الإبن
(ايزيس تحمل من خالق دون زوج كمريم العذراء )

عائلة فرعونية لاحقة آتونية ( شمسية ) اتفق المؤرخون على أنها من
وحد الألوهة ، ونحن نعتبرها مرحلة متطورة من التوحيد :
آتون : الشمس . الله .
أخناتون : الإبن !
نفرتيتي . زوجة أخناتون ابن الله !

مقطع من ترتيلة أخناتونية:

" يا آتون الحي الذي يظهر في السماء كل يوم
والذي ولد ابنه المبجل " وا- إن –رع " ( أخناتون ) على شاكلته .
ابن رع الذي يستمد من جماله .
أنا ابنك الذي يعمل لمرضاتك ويبجل اسمك

العائلة الخالقة الكنعانية :
إيل ( الله ) كبير الآلهة الكنعانية
عشيرة : الزوجة الأم .
يم : الابن .

عائلة كنعانية لاحقة :
بعل . الله . الزوج .
عناة : العذراء . الزوجة .
عشتاروت : الإبنة .

العائلة الخالقة اليهودية :
إيل . أيلوهيم . يهوة : ثلاثة أسماء لإله واحد .
آدم : بمثابة ابن .
حواء : بمثابة ابنه .
موسى : كليم الله . حامل وصاياه العشر . قائد بني اسرائيل .
مؤسس العقيدة اليهودية .نبي حسب المسلمين .

العائلة الخالقة الهندوسية :
براهمان : إله
فيشنو : إله مساعد
شيفا : إله مساعد
العائلة الخالقة الزرادشتية:
أهورا مازدا . إله الخير.
أهريمن. إله الشر
زرادشت ! من جاء بالعقيدة.

العائلة الخالقة النصرانية ( المسيحية) :
الروح القدس :الله الأب . الأزلي . روح الله .المبدع المجدد للحياة .وهو الأقنوم الثالث في العقيدة المسيحية الذي يحتوي ليس على الأقانيم الثلاثة فحسب لتصبح واحدا، بل على كل ما يتعلق بالخلق ( وهذه الأخيرة من اجتهادي ) يرمز له برموز كثيرة منها الحمامة البيضاء .
المسلمون يعتبرون الروح القدس جبريل
يسوع المسيح : الإله الإبن .
مريم العذراء : الأم المقدسة .
كل ما مر معنا من تثليث أو ثالوث إلهي في المفاهيم البشرية لا ينفي أن تكون الغاية هي فهم الألوهة بحد ذاتها : الغيب المجهول . القدرة الخالقة . الحقيقة المطلقة . الطاقة الكامنة ما وراء الكون والخلق . ويمكن اختصار كل ذلك بكلمة أوجدها البشربعد اختراع اللغات من زمن قريب مقارنة بعمر الوجود : ( الله )! والغاية من فهم الألوهة هي للتواصل معها والتقرب إليها بل والوجود فيها ! ومعرفة الغاية من الوجود كله.
ولا أشك في أن المعتقدين بوحدة الوجود هم الأقرب إلى الصواب في فهم الألوهة ، مهما تعددت مفاهيم ومظاهر الخلق . ( الكلام لمحمود أبو الجدايل ) فالعائلة الخالقة عند هؤلاء تتمثل في الوجود كله وليس بجزء منه أو فرد أو كائن فيه . ونحن أحد هؤلاء بالتأكيد ، غير أننا نختلف في فهم وحدة الوجود أيضا كما تختلف العقائد السالفة .
والآن إلى ترتيلة توحيدية من مصر الفرعونية القديمة تبدو وكأنها تتويج لما توصل إليه الفكر الديني في مصر، حتى بدت وكأنها فكر مادي وجودي حديث :
واحد ، ولا ثاني له ، واحد خالق كل شيء
قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شيء
والموجودات خلقها بعد أن أظهر نفسه إلى الوجود
أبو البدايات ، أزلي أبدي ، دائم قائم
ويوغل النص في التجريد ليبدو وكأنه يتحدث عن الطاقة :
خفي لا يعرف له شكل وليس له من شبيه
هو الحقيقة . يحيا في الحقيقة .إنه ملك الحقيقة .
هو الحياة الأبدية به يحيا الانسان. ينفخ في أنفه نسمة الحياة .
هو الأب والأم . أبو الآباء وأم الأمهات !!
يلد ولم يولد
ينجب ولم ينجبه أحد
خالق ولم يخلقه أحد
صنع نفسه بنفسه
هو الوجود بذاته لا يزيد ولا ينقص
خالق الكون . صانع ماكان والذي يكون وما سيكون .
نص يعبر عن وحدة الوجود كما يعبرعنها الفكرالصوفي بعد قرابة ثلاثة آلاف عام . وحين يتطرق النص إلى أسماء هذا الإله يشير إلى سرية اسمه وعدم قدرة الإنسان على معرفتها رغم أن له أسماء كثيرة :
سر اسمه ولا يدري الإنسان كيف يعرفه
سر خفي اسمه وهو الكثير الأسماء!
*******
المفاهيم والإجتهادات تختلف لكن الغاية هي وحدها . ويا ليت البشرية تتفق على الغاية . لعل صراعات الأمم تقل ..
لا شك أن الثالوث المقدس جاء في مرحلة متأخرة نسبيا من تطور المعتقدات، بعد أن عرفت بعض الأمم آلهة كثيرة كالاغريق والرومان وشعوب المايا ، فكان هناك إله لكل عمل انساني كالزراعة والحب والحرب والخمر ، ولظواهرالطبيعة كالمطر والريح والصواعق والليل والنهار، وحتى للشمس والقمر والكواكب ...
************












(17) لمى!!
لم ينقذ التخيّل، الجدائلي محمود أبو الجدايل من وقائع زمن الخراب هذا ، بكل مافيه من قتل ونصب وسلب حريّات وجرائم ، فلم يكن في بعض الأحيان ينجح في تمثل عالم خياله أو استنهاض دخيلته إلّا لبضع دقائق ، ليجد نفسه بعد ذلك يغوص في الواقع من حوله ، فيجلس إلى حاسوبه ويشرع في الكتابة، إمّا عن الحال التي آل إليها العرب في مجتمعات ما تزال ترزح تحت نير التخلف والاضطهاد ، وإمّا عن رؤيته الفلسفية عن القائم بالخلق ، في أتعس محاولة لإنقاذ أمة لا تقرأ، من الجهل المحدق بها .
غير أن ما كتبه ذات يوم تحت عنوان (إشكالية العقل الديني بين المحلل والمحرم في الجنس والحب !) ونشره في بعض منتدياته المفضلة إضافة إلى صفحته على الفيس بوك، جرّعليه ما لم يكن يتوقعه على الاطلاق، ليس نقمة المتدينيين المتعصبين التي صاحبت معظم مقالاته وأقواله فحسب ، بل الغرق في مآسي بعض الفتيات والنساء ، اللواتي كن يرغبن في مساعدته للخروج من فظاعة واقعهن .
جاء في ذلك المقال :
" ما لا يصدقه عقل بشري أن تقتل فتاة أو زوجة لمجرد مشاهدتها تتحدث أو تجلس إلى شخص ما ، ليذهب عقل الرائي أو الواشي إلى ما هو أبعد من التحدث والجلوس ، يذهب فورا إلى الشرف الذي ربطه العقل الذكوري بفرج الأنثى دون ذَكر الرجل . فالأخير يبيح له المجتمع وحتى الدين ما لم يبحه للمرأة . وكم من رجل يفتخر بين أصدقائه بكم النساء اللواتي طارحهن الغرام ، وكم من شاب فعل الأمر نفسه بين أصدقائه وحتى أبويه ! والغريب والعجيب أن يقدم أحد هؤلاء (الدونجوانيين) على قتل أخته أو ابنته أو زوجته لمجرد الشك في أنها على علاقة ما بشخص ما ، متجاهلا أن النساء اللواتي عاشرهن بنات بشر لهم شرفهم أيضا ! والمأساة التي لا يتقبلها العقل أن يجد القاتل قانونا يحميه من العقاب الشديد ، ويطبق عليه عقابا مخففا قد لا يتجاوز السجن لبضعة أشهر في بعض الأحيان .
كم هي مظلومة المرأة في مجتمعاتنا ، لا أحد يرحمها وكأنها ليست إنسانة لها حقوق إنسانية ، بل الحد الأدنى من الشروط الإنسانية . ولو أننا أردنا أن نشرّح بنية هذا العقل لمعرفة الأسس التي قام عليها لوقعنا في حيرة من الأمر، بين ما هو مورّث ( بالخطأ ) من الدين ، وما هو مورث من المجتمع القبلي .
عُرف تعدد الزوجات والجواري منذ أقدم العصور ، إذ تروي التوراة عن سليمان ( الملك عند اليهود والنبي عند المسلمين ) أنه تزوج من 700 امرأة وكان لديه 300 جارية . وسليمان هو أبن داود من زوجته( بثشبع) المختطفة من زوجها اوريا الحثي ، التي رآها الملك داود تستحم على سطح بيتها، فاشتهاها، فأمر بأن يوضع زوجها في مقدمة الجيش لكي يقتل في الحرب ، ليحظى داود بجمالها !
ولو أننا ذهبنا إلى الإسلام لوجدنا أنه أباح الجنس وربما بما لم يبحه دين آخرعلى الإطلاق ، حتى أنه أجاز البغاء للفتاة :
" ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " (النور 33) الآية تشير بشكل غير مباشرإلى حق الفتاة في البغاء إن أرادت ، وإلى حقها في التحصن ، وبالتأكيد إلى حقها في الحب الذي يعتبرأحد أهم شروط التحصن ! فليس هناك تحصن دون حب قد يتبعه زواج !
وقد يقول لنا معترض : إن الآية نزلت في جارية أرغمها مولاها على البغاء ليتكسب من ورائها . فهي تقتصر على الجواري، ولا تنطبق على بنات الناس ! لهذا المعترض نقول : وهل الجواري من الفتيات لسن بنات ناس ؟ ولماذا نصت الآية على فتيات ولم تنص على جوار؟ ثم كيف تتحصن جارية هي في الأساس منتهكة من قبل سيدها ، وإن كان حالها مع السيد أفضل من أن تكون عاهرة .
وثمة مصادر أكدت على وجود جنس في صدر الاسلام خلال موسم الحج اطلق عليه" متعة الحج " إضافة إلى زواج المتعة الذي ما يزال الشيعة يأخذون به . رغم تحريم هاتين المتعتين من قبل عمر بن الخطاب.
" قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ـ و لم ينزل قرآن يحرمه ، و لم يَنْهَ عنها حتّى مات ، قال رجل برأيه ما شاء .
فزواج المتعة زواج شرعي صرح به القرآن الكريم و عمل به صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله والمسلمون سنوات عديدة حتى نهى عن ذلك عمر بن الخطاب وعاقب عليها فخاف الناس وتركوها لا لنسخ".
وتحدث بعض الباحثين عن جبل عرفات ، ورأوا أن اسمه مقتبس من التعارف الجماعي في طقوس التعارف في الجاهلية، التي كانت تمارس عليه . فالجبل هو الوحيد بين جبال الدنيا الذي يمكن اعتباراسمه جمعا ( عرفه . عرفات ) ومن معاني عرفه في اللغة العربية هو المواقعة : عرف المرأة : واقعها ..

النبي محمد رحل عن تسع نساء . وقد أباح النص الديني للنبي من النساء ما لم يبحه لرجل آخر قط ، حتى أنه حلل له مواقعة امرأة تهب نفسها له " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" ( الأحزاب 50)
ثلاثة من الخلفاء الراشدين تزوجوا من تسع نساء ، غير الجواري بالتأكيد ، هم : عمر وعثمان وعلي. أبو بكر تزوج من أربع حسب بعض المصادر . وننوه هنا إلى أن العديد من أمراء وخلفاء المسلمين هم أبناء جوار .
هارون الرشيد اقتنى 300 جارية . حسب بعض المصادر وأكثر حسب مصادر أخرى .
المتوكل اقتنى 3000 جارية !
جواري سبايا الحروب في الإسلام بعشرات الآلاف ، وجميعهن مباحات للخلفاء وأمراء الحروب وبعض المحظيين من قادة الجند. تحدثت أبحاث عن مئات آلاف العذراوات والنساء من سبايا الحروب في المغرب والأندلس كن يسقن إلى مقر الخلافة في دمشق .. ولا نعرف متى كان يتسنّى للخلفاء مواقعة هذا الكم الهائل من الفتيات والنساء..
وحتى مسألة مثنى وثلاث ورباع حسب الإسلام وحسب ما ذكرنا أعلاه تبدو قابلة لتأويلات مختلفة : فالأرقام تشير إلى تسع نساء ، ولهذا نرى ثلاثا من الخلفاء الراشدين تزوجوا من تسع أو ماتوا عن تسع . وقد يحتمل النص تأويلا على سبيل الكثرة ( تزوج من اثنتين، ثلاث ، عشر، أومائة إن شئت ) شريطة أن تعدل ! وإلا فواحدة ! والحق إن أحدا لم يعدل ولم يكتف بواحدة !
ولو أننا ذهبنا إلى آيات حد الزنى في النص الديني لما وجدنا إطلاقا آية تشير إلى رجم الزانية أو قتلها. نجد آية تشير إلى جلد المحصنة مائة جلدة وغير المحصنة إلى نصف العدد. وقد اشترط النص الديني أربعة شهود لإثبات فاحشة الزنى ، وإذا لم يأت الواشي بهذا الإثبات فسيقام عليه الحد بأن يجلد ثمانين جلدة "
"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة "( النور4) ومن يستطيع أن يأتي بأربعة شهداء شهدوا واقعة الزنى ؟ حتى في بيت دعارة قد لا يحدث هذا الأمر . فماذا نقول لقاتلي أخواتهم أو زوجاتهم في زمننا . هل أنتم مع الدين أم ضده ؟ وإذا كنتم تتصرفون حسب أعراف اجتماعية قبلية ، فلماذا الدين إذن ؟
صحيح أن الدين أباح للرجل ما لم يبحه للمرأة ، لكنه لم يقتلها ، كما أنه أباح لها الحق في الحب لكي تصون نفسها وتحصنها ، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر .
نحن بالتأكيد أمام اشكالية عقل مبني على فهم خطأ للدين ومفاهيم قبلية خاطئة لا يتقبلها العقل المعاصر .
ولا يسعني في ختام هذه المقالة إلا أن أترحم على أرواح شهيدات الحب عبرالأزمان ، اللواتي قتلن ظلما وغدرا . تفيد المصارد في الأردن أن 35 فتاة وسيدة قتلن في الأشهرالعشرة الأولى من العام الماضي ، رميا بالرصاص أو طعنا بالسكاكين أو ضربا أو حتى حرقا ! يا للفظاعة !"
*******
" لمى " احدى صديقات محمود أبو الجدايل على الفيس بوك .. اللواتي يتابعن كل ما يكتبه وكل ما ينشره على صفحته في الفيس. ويؤيدن بمحبة كل مقالاته .. ورغم أن بعضهن يقمن في عمان إلا أنهن لم يسعين إلى لقائه . وكن يكتفين بإطلاعه على القليل من مشاكلهن على الشات .. لمى من هؤلاء اللواتي يقمن في عمان ، لم تسع إلى لقائه . ولم يسع هو بدوره .. وقليلا ما تحدثا على الشات عن مشاكل الحياة رغم أن محمود كان ينشر بعض ما يواجهه مع الناس من نصب واحتيال وغير ذلك.. إلى أن جاء يوم كتبت إليه راجية أن تلتقيه .. وافق على الامر ببساطة شديدة ..
التقيا في بيته. رحب بها محمود بالكلمات المعتادة " أهلا يا لمى " دون أن يخفي مفاجأته حين وجد أنّه أمام شابة جميلة ، تبدو في حدود الثلاثين من عمرها أو أكثر قليلا، ترتدي لباسا محتشما ، وتضع على رأسها شالا أبيض، تنزلق منه خصلة شعر على جبينها كلما حنت رأسها ، فتسارع إلى رد الخصلة عن وجهها حتى لا تغطي عينها ..
انبهرت في كم اللوحات المعروضة على جدران الغرف والصالون والممرات ، وشرعت في النظر إليها قبل أن تجلس، غير أن محمود رأى العكس :
- اتركي الفرجة الآن واجلسي .
- أهلا وسهلا ..
- أهلا بك . لم أتوقع أن ألقاك يوما .
- أف ! أنا انسان بسيط ومتواضع ولقائي أسهل ما يمكن ، وإن كنت في أحلامي المتخيلة أهرب إلى شخصيات غير موجودة في الواقع ، في محاولة للهروب من الواقع الذي لا أحبه. وآمل أن لا أصاب بانفصام الشخصية في الأعوام القادمة!
- سلامتك من الانفصام استاذ . في الحقيقة أن فكرك لا يشير إلى أنك انسان بسيط !
- اتركي الفكر في حاله . صورتك على الفيس لا توحي أنك على هذا القدر من الجمال.
- أشكرك استاذ.
- لو انني أعود شابا ولو في منتصف العمر لسعيت إلى حبك !
- أنت تحبني كما أعرف من حواراتنا القليلة ومن متابعتي لما تنشر على الفيس وفي المنتديات..
- أقصد حبا يرافقه عشق وليس حباً أبوياً !
اومأت لمى برأسها وهي ترسم ابتسامة طفيفة خالجها حزن ما ، فيما انزلقت خصلة الشعر على جبينها لتغطي عينها اليسرى .. وما لبثت أن رفعت رأسها وهي تنزع الشال وتترك شعرها ينساب على عنقها وظهرها وكأنها تريد مقاومة ما يعتلج في دخيلتها ، مبدية الفرح .
- أنا سعيدة بالتعرف إليك وبلقائك ويمكنك أن تحبني كما تشاء !
- أشكرك . ماذا تشربين ؟
- لا أريد أن أتعبك ..
- ليس في الأمر ما يتعب .
- اذن سأعمل أنا . ماذا لديك ؟
- كل شيء !
- ماذا تعني بكل شيء؟
- كل شيء من المشروبات النباتية غير الكحولية .
- مثلا ..
- شاي أخضر وأحمر وقهوة وكاكاو وزعتر وبابونح وزهورات وميرمية وزنجبيل ويانسون وقرفة وخزامى وكمون وحصى البان وإكليل الجبل وكركديه وشوفان وحلبة، وربما هناك أشياء أخرى !
راحت لمى تضحك ببراءة مخفية طيف الحزن الذي رافق ابتسامتها عند حديث محمود عن الحب الأبوي.
- يا إلهي كيف اقتنيت كل هذه الأعشاب وحفظت أسماءها ؟
- كثرة استخدام بعضها أتاح لي حفظ أسمائها .
- سأشرب ما تحب أن تشربه أنت الآن !
- لكن أنا أفضل القهوة في هذا الوقت .
- وأنا كذلك .
- سأنهض لإعداد القهوة ، وبإمكانك أن تتأملي بعض اللوحات الآن أو أفتح لك التلفاز .
- سأتأمل اللوحات .. لا أحب التلفاز لأستمع لأخبار القتل و أرى الدمار..
- نحن في زمن الخراب يا عزيزتي.. أنا أيضا أهرب كثيرا من هذا الزمن إلى الخيال وأعيش فيه . وأتخوف أحيانا كما أسلفت من أن تتلبسني إحدى هذه الشخصيات التي أتمثلها في خيالي ، وأصورها في أدبي ، ولا أستطيع الخروج منها . سنكمل حديثنا على القهوة .. هيا ..
يصب محمود القهوة في كأسين صغيرين ، فقد وظف جميع الفناجين التي لديه لوضع الشموع فيها .. فتكسر معظمها لكثرة ما أشعل الشموع فيها .. ينهض إلى المكتبة ويحضر آخر كتابين له . رواية وبحث نقدي ..
يكتب الإهداء عليهما ويقدمهما لها قائلا " للأسف لم يبق من كتبي للإهداء إلا من هذين الكتابين .
- هذا تكريم منك وشرف لي أن أقتني بعض كتبك . أتسمح لي أن أقبلك ؟
ومدت رأسها نحو محمود دون أن تنتظر اجابته. تعانقا للحظات . وهما يضمان رأسيهما برفق .
أخرج محمود سيجارة ودعاها إلى التدخين . أخذت سيجارة . أشعل محمود لها وله .
- أنا أدخن بايب لكني لجأت إلى السيجارة في محاولة بائسة للتوقف عن التدخين الذي أفشل دائما في تركه، رغم أنني أتوقف عنه لشهرأوأكثرأحيانا .. أشعر أنني قادرعلى تركه لكنني لا أريد ذلك .. فهو إلى جانب الشطرنج ، يشكلان متعتين لي يبدو أنه يصعب علي فراقهما .. ألجأ إلى الشطرنج حين لا أجد رغبة في الكتابة أو الرسم ثم إنه ينسيني السيجارة لبعض الوقت لحاجتى إلى التنبه والتفكير المتواصل معه .
- هل تلعب مع أحد ؟
- لا ألعب مع الكومبيوتر. كل الذين لعبت معهم ليسوا من مستواي فابتعدوا حتى عن زيارتي تخوفا من اللعب معي .. الانسان يحب الفوز دائما ولا يحب الخسارة ، ومشكلة الشطرنج لا تكمن في الخسارة فحسب ، بل في مستوى تفكير اللاعب ، وما يتمتع به من أخلاق ، وقدرته على ضبط أعصابه. معظم الناس ذوي التفكير العادي يقدمون على اللعب مع الآخرين بفوقية شديدة مستهترين بخوصمهم ، وحين يهزمون تنكشف أنفسهم على حقيقتها.
- هل تعرفين لعبة الشطرنج ؟
- أعرفها ومارستها قليلا في حياتي .. أعتقد أنني ضعيفة جدا فيها .
- وأنا ضعيف أيضا ، مقارنة بأصحاب العقول النابغة في الشطرنج ، فمستواي فوق الوسط بقليل ، ولست نابغة .. ألاعب الكومبيوتر على هذا المستوى وهو الخامس بين ثمانية مستويات في البرنامج الذي ألعب معه . أغلبه بصعوبة على هذا المستوى ويمكن القول إنني أتفوق عليه مهما حاول معي .. وأبتعد عن المستوى السادس فما فوق ، لأن هذه المستويات تحتاج إلى متفرغ أو محترف للشطرنج وليس هاوياً. كما أنها تحتاج إلى وقت أطول.. حين آخذ لعبة منه من ثلاث جولات على المستوى السادس أشعر أنني حققت انجازا .. فهو يطور برنامجه بشكل مستمر حسب من يلعبون معه .
لنترك الشطرنج والتدخين ماذا لديك لتحدثيني عنه .
- لا أريد أن اثقل عليك بهمومي.. لدي الآن أسئلة حول لوحاتك .
- ماذا رأيت فيها ؟
- كلها جميلة . ثمة لوحات تعطي نفسها بسهولة كلوحات الأساطير والأيقونات والوجوه والأشخاص ، وثمة لوحات تجريدية تبهرني ألوانها وتشكيلاتها المتناسقة أحيانا والمتنافرة أحيانا أخرى دون أن أصل إلى سبر أغوارها .. أشعر أنها تعبر عن عمق فكرك ، الجمال هو ما نلمسه من النظرة الأولى للوحات ، وهو ما يدعونا إلى تأمله والذهاب بعيدا فيه لنتلمس حدود الكمال .. إنه جمال غير مألوف كذاك الذي يصل إلينا بسهولة من مجرد النظر إلى لوحة واقعية لامرأة مثلا . هنا مهما تأملت في جمال بعض اللوحات تشعر أنك في حاجة إلى المزيد من التأمل .
- أشكرك عزيزتي لهذا الذوق الرفيع للجمال .. ثمة لوحات أحبها وثمة لوحات أرسمها بسرعة لأتسلى . ليس كل ما يرسمه الفنان يعجبه، مع أنه يعجب بعض الناس وليس كل الناس . والأمر نفسه ينطبق على الكتابة .. الكمال عندي غير موجود حتى في عملية الخلق نفسها .. الوجود ما يزال يحبو لبلوغ كمال ما يسعى إليه القائم بالخلق .
- سأهديك لوحة أو لوحتين منها ..
- أشكرك أنا أستطيع أن أشتري..
- في هذه الحال ستزداد الهدية ، كنت في دمشق أهدي لوحة لكل من يشتري مني .
- هذا كرم منك .. سنعود إلى حديثنا .. فهمك للألوهة والغاية من الوجود هو ما أعجبني وأحببني فيك . وهو من أجمل ما أقرأه على الفيس بوك والمنتديات .. معظم الكتاب والمفكرين يسعون إلى نقد الديانات والمعتقدات والفلسفات دون أن يقدموا فهما جديدا للخلق والخالق أوالقائم بالخلق . فمعظمهم إمَا أن يقودونا إلى الإلحاد أو إلى الطبيعة . أنت تركز على الفهم البديل وإن تطرقت إلى بعض السلبيات في النصوص المختلفة من عقائدية وفلسفية كنقدك للمحرك الثابت غير المتحرك عند أرسطو. ولم تلغ احتمال وجود ألوهة كما لم تلغ العلم والمنطق ، من فهمك ، وإن عبرت عنهما بتعابير أو مفردات مختلفة .
- أشكرك أنت تفهمينني بشكل جيد . ولا مانع لدي أن يكون القائم بالخلق إلها أوأنه يعتبر نفسه كذلك ، وكثيرا ما أستخدم مفردات الله والألوهة ، المهم عندي ما هو جوهر الله ، وهل هو خارج المادة والطاقة ؟ هذا هو المهم ، وحين يتفق العقل البشري على هذا المبدأ ، قد يسهل تطوير المفاهيم للوصول إلى غايات انسانية تحقق قيم الخير والجمال وتبني حضارة انسانية .
توقف محمود ، غير أن لمى رجته أن يتابع ، فهي لم تحضر إلا للإستماع إليه حسب قولها..
- آه يا عزيزتي .. لقد ظلم العقل البشري الألوهة حين عزا حسابا وعقابا إليها ، فلا يعقل أن يكون بعض البشر مثلا في زمننا، أكثر رحمة ورأفة بالناس من الله ؟ ! لقد ألغت بعض دول العالم ( أوروبا بشكل خاص ) عقوبة الاعدام ، مهما كانت جريمة الفاعل ، بينما ما تزال بعض الدول تمارس هذه العقوبة ، إضافة إلى القتل الفظيع . فالاعدامات في بعض البلدان أصبحت بالجملة ، والقتل والدمار اللذين يحدثان في سورية وبعض البلدان العربية وغير العربية أكثر من فظيع . الآلهة في المعتقدات البشرية تمارس عقوبتها بأشكال مختلفة ، كما صورها العقل البشري، وقد يكون المعتقد الإسلامي هو أكثرمن ظلم الله حين أوغل في تصوير العقوبة عندالله بأن جعله يستبدل جلود المعذبين بعد حرقها بجلود أخرى ليتم حرقهم بشكل دائم ، كما أوغل العقل الإسلامي في تصوير عذاب المرأة بما لا يمكن لعقل أن يتصوره ، حين جعل دماغها يغلي وهي معلقة من شعرها في الجحيم ! ولعل العقل الإسلامي لم يفكر في أن تصوير الله على هذه الشاكلة يتناقض بشكل مطلق مع وصف الله بالرحمن الرحيم ، الذي تبدأ به جميع آيات القرآن .
- وماذا عن المعتقدات الأخرى؟
في الهندوسية يبدو العقل الهندي أقل ظلما بكثير للإله ( براهمان ) فليس هناك عقوبة تؤدي إلى الموت أو العذاب الدائم عند براهمان . كل ما هنالك أن يجعل براهمان روحه تخرج من جسد الميت لتذهب إلى كائن آخر حسب أعمال الميت في الحياة ، فإذا كانت أعماله صالحه تحل روحه في كائن انساني ذي مرتبة أرقى من السابق، وإن كانت سيئة تحل روح براهمان فيه في كائن ذي مرتبة أدنى كأن يكون انسانا بمرتبة أدنى أو جرذا أوأي شيئ آخر . لذلك نرى اخواننا الهنود يقدسون الكائنات مهما كانت ، من الجرذان إلى البقر، ويقدمون الحليب للجراذين لأنهم يعتقدمون أن روح براهمان تحل فيها .. براهمان إله طبقي بامتياز، ويعاقب البشرية حسب هذا المبدأ.
وثمة معتقدات أنصفت القائم بالخلق إلى حد ما ، فاخواننا الصينيين ليس لديهم إله كما في التاو ، وإن كان بفعل هذا ( التاو) يتم كل شيئ ، بدءا بالخلق وانتهاء بالموت . وليس هناك لا حساب ولا عقاب ولا عذاب ..
اخواننا البوذيون لم يحسموا مسألة وجود إله أيضا ولخصوا الأمر بالتوحد مع الوجود بغض النظر إن كان هناك إله أو لم يكن !
أخواننا الشنتويون حسب عقيدة الشنتو في اليابان يقدسون كل شيء لاعتقادهم أن ثمة خالقا يكمن في كل شيء في الوجود.. وليس لديهم حساب وعقاب.. وحسب فراس سواح أن عالما امريكيا سأل راهبا شنتويا بما معناه : لقد زرت معابدكم وشاهدت طقوسكم ولم أعرف شيئا عن دينكم . فقال الراهب : نحن نرقص ! وللإنسان أن يدرك كم ينطوي الرقص على جمال ومحبة وابداع وسعادة ..
اختلفت عقائد البشرية في اجتهادات عقول مبدعيها عبر التاريخ في التفكير في الوجود والقائم به والغاية منه ، فتوصلت إلى ما توصلت إليه من آلاف العقائد دون أن تبلغ الحقيقة المطلقة للوجود والغاية منه . وإن كان المنطق والعلم يقولان حسب اعتقادي" أنّ القائم بالخلق ، هو محبة مطلقة وخير مطلق وجمال مطلق وعدل مطلق ، وطاقة خالقة مطلقة، ويسري بطاقته الخالقة في الوجود كله ، من أبعد نقطة في الكون إلى أصغر خلية في أجسادنا، وبالتأكيد يسمو فوق العذاب والحساب ، وأن غايته من الوجود هي تحقيق قيم الخير والمحبة والعدل والجمال وبناء الحضارة الإنسانية ..
في النصوص الدينية لا يخلو كتاب مقدس من عبارات تدعو إلى العمل والمحبة كما في الاسلام مثلا " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وبالتأكيد المقصود من هذا الكلام الجميل عمل الخير وليس ( جهاد ) القتل .
ظلم البشر الله ولم يرحموه ، ولم يجتهدوا في أن يرتقوا بأنفسهم وسلوكهم إلى الألوهة العظيمة السارية في أجسادهم والمتمثلة فيها ، لأنهم لا يدركون ذلك. فالله في حاجة إلى البشرية بقدر حاجتها إليه . ولن ترقى البشرية وتحقق حضارة انسانية ما لم تتفق على مفاهيم قريبة من جدا من هذا الفهم ، وتسعى إلى تنفيذها .
*****














(18) الخوف من البوح بما يعتمل في النفس!
تحاول لمى أن تبدو منشرحة ، غير أن أحزانا دفينة في نفسها تفضح هذا الانشراح ، فحتى ابتساماتها أمام محمود يخالجها حزن ما خفي ودفين ، لا تفلح لمى في الخلاص منه ، إلى حد أن محمود لاحظ ذلك .
- ملامح وجهك تخفي حزنا ما ، حتى أنه يخالط ابتساماتك ، وتقولين أنك لا تريدين أن تثقلي علي بهمومك .. ربما أنت محقة . ليس هناك انسان يخلو مما لا يمكن البوح به . فالنفس الانسانية رغبات وأهواء تفلت من عقالها بين فينة واخرى ، متجاوزة كل الحدود الاجتماعية والمعتقدات الدينية ، وحتى النظم الأخلاقية . خاصة إذا ما مارس الانسان هذه الرغبات بينه وبين نفسه دون أن يسيئ إلى أحد واقعيا .
جهدت لتناسي جراحها التي لامس حديث محمود عمقها. تساءلت :
- ماذا تقصد بذلك ؟
- مسائل كثيرة قد لا يمكن تحديدها.
- مثلا ؟
- كممارسة العادة السرية مع كائن يحبه الانسان !
- هذا أمر عادي ربما يمارسه الناس جميعا ، وخاصة من لديهم القدرة على التخيل ، كالأدباء والشعراء والمفكرين وغيرهم .
- صحيح ، لكن لا أحد يبوح بما يتخيله حتى لو كان أمراً عاديّاً، وحتى البوح بمجرد ممارسة العادة السرية يندر أن يعترف به أحد.
- رغم أنها قد تساعد المرء على تعويض نقص ما يعاني منه في المسألة الجنسية .
- تساعد أو لا تساعد المسألة تتعلق بالبوح أو الاعتراف.
صمتت هنيهة وهي تود لو أنها تجرؤ على أن تسأل محمود عما إذا كان يمارس العادة السريّة ، خاصة وأنه يعيش وحيدا .. قرأ محمود ما هو خلف صمتها، فتطرق إلى الأمر بشكل شبه مباشر:
- الخيال في جانبه الجنسي المتعلق بالآخر يعوض المرء عما يفتقر إليه كما أشرتِ، وخاصة في المجتمعات المتزمتة وغير المتحررة، فيلجأ إليه ويحقق فيه ما هو خارق للعادة، وقد يشعره بمتعة شديدة !
- يا ألله وكأنك تقرأ أفكاري؟
- أنا أتخيل نساء من عالم الأرض أو من عالم السماء ! كنت في الماضي أتخيل بعض الصديقات الجميلات اللواتي لم أستطع الوصول إلى قلوبهن، غير أنني مللت من نساء الأرض، فألجأ في أحيان كثيرة إلى نساء من عالم السماء حتى مع ربّات وملائكيات وحوريّات!
شرعت لمى في الضحك وهي تتساءل:
- يا الله حتى مع ربّات ؟
- الحب مع مع الرّبات مسألة خارقة وإن احتاجت إلى خيال مغرق في الفانتازيا وما وراء الطبيعة ! لقد كتبت عن حبيبتي المتخيلة شعرا ، مع أنني لست شاعرا ولا أعتبر نفسي كذلك رغم قدرتي على كتابة الشعر .
- بجد؟
- طبعا .
- هل تحفظه ؟
- أحفظ بعضه .. هل تحبين أن تسمعي ؟
- بكل سرور!
- أوكيه ! آمل أن تسعفني الذاكرة حتى لا أبحث عن القصيدة في أرشيفي! عنوان القصيدة :
ملكة السماء تنشد سحر جمالها للأديب !
- وأنا يا حبيبي
ستجدني واحدة في سبع
وسأتحول من السبع
إلى سبع أُخريات
ومن السبع الأخريات
إلى سبع أخريات.
سأكون يا حبيبي
كل الحورياتِ
وكل الإنسياتْ
كل السمرِ
وكل البيضِ
وكل القمحياتْ
سأكون الظبية والمهرة
والملكة والملائكية
وسأكونُ ربة الرباتْ
سأكونُ يا حبيبي
كل العاشقاتْ
***
سأكون كل من خطفت قلبك
عبر السنين الموحشة
وضاعت في غيهب الزمن
أو زحمة الطرقاتْ
***
وسأكون يا حبيبي
بكل الشُّعور الخالباتْ:
بشعرٍ حريريٍّ هادلٍ
أو خلاسيٍ عاصفٍ
أسود بدويٍ
أو أشقر روسيٍ
بنيٍ هنديٍ
أو أسمر غجري
ينهمرُ كشلالٍ
أو يتلوى كأفعوان
أو يكتسحُ السهوبَ كما
الظلالِ الغارباتْ
*
يتدلى في خُصَلٍ
أو ينضفرُ بحنانٍ
أو يمورُ كما السنابل في
الحقولِ المخصباتْ
*
يتثنى بدلالٍ
أو يلوح مع الريح
أو يفيضُ على الشطآنِ
كموج البحارِ
الغاضباتْ
*
يُهفهف مع النسيمِ
أو يَفِرُّ كأسرابِ اليمام
الجافلاتْ
*
يحلق في الغمامِ
أو ينداحُ مع العواصف العاتياتْ.
***
وسأكون يا حبيبي بكل العيون:
العيون السود الهائماتْ
والعيون الخضر الساحراتْ
والعيون الزرق الغاوياتْ
والعيون الصُّفر العاسلات
والعيون المكحلة بالألوانِ
المائجاتْ
سأكونُ بعيونِ عيونِ
كل الغجرياتْ
***
وسأكون يا حبيبي
بكل الأعناقِ
الظبيانية والزرافيةِ
والبضة والماسيةِ
وكل الأعناقِ
القاتلاتْ
***
وسأكونُ يا حبيبي
بنهدين:
جَدَّاءينِ أو إجاصينِ
برتقاليينِ أو تُفاحيينِ
وديعينِ كحمامتينِ
أو حائرينِ كبومينِ
صغيرينِ كظلف الرشا
أو كبيرينِ كبازينِ
وسأكون يا حبيبي:
بنهودٍ كاعباتٍ
حانياتٍ كقطوفٍ دانياتْ
وحنوناتٍ كأمهاتٍ هاوياتْ
ناهداتٍ دافقاتٍ جامحاتٍ عابثاتْ
***
سأكون يا حبيبي:
ببطنٍ للتماري
وسُرّةٍ تتضوّع بالمسكِ
وأفخاذٍ أملسَ من الديباجِ
وفمٍ أصغرَ من حبة الكرز
وشفاهٍ كالورود
اليانِعاتْ
*
وبرعمٍ بحجم حبة الفستُقِ
تعبّق بالنَّدِّ
وحُقٍ مُتناهٍ في الصغر
تفوّحَ بالعنبرْ
وخدودٍ بالقبلِ
مغرماتْ
*
ووجناتٍ ناعسةٍ
وخصورٍ ناحلةٍ
ورموشٍ
سابلاتْ
وأردافٍ كالزُّبدِ
وركبٍ ساحرةٍ
وأيادٍ كما الأحلامِ
وسيقانٍ
ماحقاتْ
وأقدامٍ ملائكيةٍ
وأصابع كما الألحانِ
وقدودٍ
مائساتْ
وعظامٍ لشفافية جلدي
بائناتْ
***
سأكون يا حبيبي
كل جميلةٍ:
مرت في التاريخِ
أو خطرت في الخيالِ
أو رسمتها الـرِّيش
أو صقلتها الأزاميلُ
أو خطتها الأقلامُ
على الصفحات

*
إن كانت إنسيةً
أو كانت جنيةً
ملائكيةً أو ربّةً
عذراء أو ثيّباً
من تكوينِ الخالقِ
أو من بدَعِ
المخلوقاتْ
*
سأكونُ يا حبيبي يا حبيبي
سا سا سأكون سأكون:
عشتارَ، وإيزيسَ
دليلة وأستيرْ
ليلى وسارانيو
أثينا وممتاز محل
وحواء
وسموراماتْ

*
سونيا وجرتشن
أمَلَ ‍‍!! والموناليزا
ناتاشا!! ودُلثينا
المجدلية وراحاب
واوروبا
وأُفرودايت
*
هيلانة وبلقيس
كليوباترا وزنوبيا
إلزا وبياترتشي
وإنانا
وعناتْ
***

سأكون يا حبيبي:
كلَّ جميلةٍ كانت
وكلَّ جميلةٍ لم تكنْ
وكلَّ جميلة يمكن
أن تكون
سأكون يا حبيبي
الجنونْ
سأكونُ الأجملَ والأكملَ
منذُ خلق
الكائناتْ
*
لنتوحد يا حبيبي
أنا وأنتَ
وأنتَ وأنا
ونحنُ ونحنُ
مع الوجودِ
ونندغم في خضمِّ
الرعش الكوني
ونشوة الروح
والمكانِ الأبديِّ
والأزمنةِ
الخالداتْ
******
توقف محمود وراح يزفر متنفسا في محاولة للراحة، والخروج من الحالة التي ألقى بها القصيدة فيما لمى تردد :
" يا الله هذا شعر يجنن ، لم أسمع شعرا بهذا الجمال من قبل ، وإن شعرت أمامه أن جمالي وجمال نساء الأرض كلهن ليس شيئا يذكر أمامه !
" تشكري عزيزتي .. إنه جمال المرأة في بعض أهم رموزها التاريخية في الأدب والأسطورة والمعتقدات والحياة .. في الحقيقة ثمة بعض التناص والتأثر في هذا الشعر ببعض الشعراء ممن قرأت لهم أو استمعت إليهم في حياتي، وثمة تأثر حتى بالنص القرآني ، ومع ذلك تبقى خصوصيتي وثقافتي الصوفية المختلفة .. ويا ليتني أستطيع العودة إلى هذه النصوص لأرى إلى أي حد تأثرت بها وماذا أضفت إليها أو أخذت منها "
" الشعراء يؤثرون في بعضهم في العادة ، ربما تأثرت بنزار قباني أكثر من غيره "
" تأثرت بالقليل من أشعار نزار، لكن التأثير الأغلب لشاعر صديق كان يسمعني معظم ما يكتبه من أشعار.. ولا أعرف إن نشر كل ما سمعته منه . لأننا افترقنا ، وثمة تأثر بآخرين كدرويش وأدونيس، ومع ذلك تظل خصوصيتي المغرقة في الخيال والتصوف والفهم المختلف، ماثلة في القصيدة . هناك أشعار لي لا أظن أن فيها تأثرا بأحد . المشكلة أنني لست شاعرا ولا أريد أن أكون رغم إحساسي بحاجتي إلى الشعر في بعض الأحيان ، ما دفعني لكتابة بعض الأشعار.. مثلا، استفزني محمود درويش ذات يوم ، فشرعت في نقد بعض شعره شعراً "
" يا ألله كم أحب أن أسمع هذا الشعر، خاصة وأنه نقد لشعر شاعرعملاق بحجم محمود درويش"
" هل قرأت درويش؟ "
" قليلا "
" وعرفتِ من هذا القليل أنه شاعر عملاق؟ "
" للأسف لا .. عرفت من تركيز الاعلام عليه "
" إن أردت رأيي . يمكنني القول إنه شاعر كبير، لكنه ليس عملاقا ، ليس بحجم الجواهري مثلا ، وليس بحجم المتنبي ، وليس بحجم عشرات من أمثال هؤلاء ، سواء في زمننا أو الزمن الماضي.. وفي الساحة الفلسطينية والعربية ثمة شعراء لا يقلون أهمية عن درويش ،وربما يتفوق بعضهم عليه في بعض قصائدهم .. المشكلة في الاعلام الذي يكرس في العادة ما هو مكرس ، أو ساعدته الظروف لأن يعرف ويبرزأكثر من غيره " في الساحة الفلسطينية كرس اثنان فقط " محمود درويش كشاعر وغسان كنفاني كروائي . وإن لمعت بعض الأسماء الأخرى فهي لمعت بجهدها وجلدها ومثابرتها كابراهيم نصر الله مثلا ، وليس بفعل ظروف معينة ساعدت على الأمر."
" دخلنا في موضوع آخر غير قصيدتك "
" صحيح . يمكن أن أقرأ لك بعض أشعاري عن شعر درويش في مناسبة أخرى . هل وصل إليك خلاصة الفكر في القصيدة ، ما الذي أرادت أن تقوله أو تصل إليه ؟"
" شعرت انني أمام قصيدة صوفية تمثل المرأة عبر التاريح من الإنسانة إلى الربّة كما أشرت أنت .. وأن الحب الذي تنشده رغم كل هذا التعدد الأنثوي هو حب صوفي يقود إلى التوحد بالوجود، أو بالذات الخالقة الإلهية ، ليبقى إلى الأبد"
" صحيح ! أنت فهمت القصيدة بشكل جيد "
" أشكرك هذا يعني أن دراستي لم تذهب سدى "
" يبدو ذلك . ثم إن الموضوع الأساسي الذي خرجنا عنه هو الحزن الذي ألمسه في ملامح وجهك ويرافق ابتساماتك ، وعدم رغبتك في أن تثقلي علي بهمومك ، مع أنني أعتقد أن زيارتك لي قد تكون إحدى الدوافع للبوح لي بما يقلقك مما قد يريح نفسك "
" أكيد . لكني أتخوف من ذلك ، لأن ما جرى معي وما زال هو فوق التصوّر .. ليس مجرد عادة سرية يمارسها البشر جميعا .. وآمل أن تأتي لحظة ما أجرؤ فيها على مصارحتك ، والبوح لك "
" على راحتك . لقد فاتنا وقت الغداء .. ألن تتغدي؟"
" بلى "
" ادعوك لنتناول الغداء معا "
" أشكرك"
ودخل إلى غرفة النوم ليأتي بلوحة ويكتب عليها اهداء ويقدمها لها .
" أنت تخجلني بكرمك "
" هه ! هذا ليس كرماً .. إنه لا شيء. هيا لنبحث عن مطعم قريب في اللويبدة "

*****












( 19) بوح جدائلي!!
دخلا إلى مطعم افتتح في الأعوام الأخيرة ، كان معرضا للتحف والشرقيات وبعض الوثائق الصحفية القديمة .. ابتاع صاحبة منّ محمود أبو الجدايل لوحتين صغيرتين ،وكان يزوره بين فترة وأخرى .. إلى أن فوجئ ذات يوم ببيع المحل وتحويلة إلى مطعم .
كان المطعم خاليا من الروّاد .. جلسا إلى مائدة متطرفة .. جاء النادل وقدم لهما كرّاسا يحتوي على قائمة بالمأكولات والمشروبات .. لم تفتح لمى الكراس وألقته جانبا .. ألقى محمود نظرة خاطفة على المأكولات .
- ماذا تحبين ؟
- ما تحبه أنت !
- ما رأيك بقطعة فيليه بالبهارات !
- ممكن!
- وماذا تشربين ؟
- ماء فقط .
- وأنا كذلك كما يبدو، رغم رغبتي بكأس من البيرة ، لكني توقفت عن تناول الخمور حين وجدت أن أسعارها جنونية هنا .. وأنا مشرد من دمشق ونقودي تنفد كل يوم . والدعم الذي يأتيني من الصندوق القومي الفلسطيني تبتلع معظمه أجرة البيت . وسوق الفن ميت .. والأدب والفكر أساهم في نشرهما دون أي مردود يذكر .
- هل وضع الكتاب والفنانين مثل وضعك ؟
- وربما أسوأ .. في دمشق كان لدي معرض دائم ، وأقمت معرضا ثانيا ، وكنت أصرف النقود دون حساب.. هنا اختلف الأمر.
- استاذ محمود أنا لدي نقود ويسرني أن أكون أنا الداعية وأن تتناول ما تشتهي.
- أشكرك عزيزتي ليس الأمر بهذا السوء فما يزال لدي نقود ، مشكلتي أنني أفكر في المستقبل القريب وشيخوختي بشكل خاص . التشرد وعدم الاستقرار في مثل عمري مشكلة .. تشردت في شبابي كثيرا .. لم أكن أكترث للأمر لأن في مقدوري أن أعمل أي شيء . أما الآن فالأمر مختلف ، إضافة إلى التخوف من مرض يقعدني ولا أجد أحدا إلى جانبي.
- لذلك أرجو أن تتقبل دعوتي، وسأشاركك تناول البيرة .
- اضطر محمود إلى الموافقة أمام اصرار لمى .
طلبت إلى النادل أن يحضر زجاجتين من أفضل بيرة لديهم .
أحضر النادل زجاجتي أمستل وملأ كأسيهما .. تبادلا الأنخاب.
تساءلت لمى متابعة حديث محمود عن الوحدة:
- لماذا تعيش وحيدا؟
- لأنني أعشق حريتي وأعشق الوحدة أيضا لما تتيحه لي من هدوء وتأمل وإمكانية للعمل . وقد يكون الأمر مؤسفا لتأخري في تحقيق ذلك .
- لماذا تأخرت في تحقيق ذلك ؟
- لأننا نعيش في مجتمعات تقوم على مبادئ متخلفة بحيث لا يستطيع المرء بشكل عام، أن يختار نمط حياته وتحديد مستقبله ، وقد يجد نفسه غارقاً في ما لا تحمد عقباه .
- هل لك أن توضح لي ذلك ؟
- مثلا عدم وجود حريّة جنسية قد يدفع المرء لأفعال شاذة تتناقض مع الأعراف الاجتماعية والأخلاقية، كممارسة الجنس المحرّم مع الأخوات والأخوة أوالآباء مع بناتهم، وقد يدفعه إلى الزواج حتى دون أن يعرف شيئا عن الجنس وعن الحياة الزوجية . وعدم الاختلاط أو صعوبته يرغم المرء على اختيار زوجة من أقرب معارفه ، وفي الغالب قد لا يتوفر لدى هذه الزوجة الحد الأدنى من المعرفة .. ليجد المرء نفسه يغرق في مجموعة من المسائل المعقدة التي يصعب حلها ، فإما أن يستكين للأمرالواقع وإما أن يسعى لحل ما قد يكون مدمراً للمرأة أو للطرفين أحيانا .. مجتمعاتنا تسير بتقدم سلحفائي وفي الغالب تتقهقرإلى الخلف بدلا من أن تسير الأمام ، رغم التقدم الهائل الذي تشهده الحضارة . يحضرني هنا قول لجبران " مأساتنا هي أننا نتزوج ولا نحب، نتكاثر ولا نربّي، نبني ولا نتعلم ، نصلّي ولا نتقي، نعمل ولا نتقن ، نقول ولا نصدّق"
أدخل محمود بحديثه لمى في عمق مأساتها وودت لو في مقدورها أن تبوح له ولو بالحد الأدنى من جراح عمرها . كبتت ما يعتمل في نفسها .. وتساءلت :
- هل أفهم من كلامك أنك تزوجت وطلقت ؟
- أجل يا عزيزتي تزوجت مرّتين وطلقت مرتين أيضا ولم أستطع أن أعيش كما أطمح إلا في منتصف الأربعينيات من عمري، دون زوجة ودون نساء إلا من مغامرة عابرة أوعلاقة تدوم لبعض الوقت .. لكني أنتجت منذ ذلك الزمن بعض ما كنت أطمح إليه وأفكر فيه ..
- هل في الامكان أن أتدخل في خصوصياتك وأسألك لماذا تزوجت اثنتين وطلقتهما؟
- هذا الأمر يحتاج إلى رواية يا عزيزتي وهي بالتأكيد ليست ككل الروايات من حيث وقائعها والصدق إلى حد كبير فيها .. لا تصدقي ما يتناوله الروائيون في رواياتهم .. في الغالب يتناولون القشور دون أن يغوصوا في أعماق الحياة .. أنا شخصيا بات لدي عقدة من الحياة الزوجية بحيث أصبحت أنكرها وألغيها من حياتي أحيانا، بعد أكثر من ربع قرن من حياة الوحدة والحرية ..
الأسباب كثيرة دون شك .. بدءا بالمسألة الجنسية مرورا بالثقافة ومتطلبات الحياة وبناء أسرة، وانتهاء بقدرة الزوجين على تفهم بعضهما..
- ماذا لو تطرقنا للمسألة الجنسية ولو نظرياً؟
- أشرت إلى عدم الحريّة في مجتمعاتنا وإلى محدودية اختيار شريكة العمر ، التي تتم بشكل خطأ ، وتكون في الغالب نتاج الحاجة إلى الاكتفاء الجنسي ، وليس بدافع الحب كما يعتقد كثيرون.. وبعد الزواج يكتشف المرء أنّه لم يحقق له الحد الأدنى من الاكتفاء، وفي الغالب يجد نفسه في وضع ينبغي أن يراعي فيه مسائل كثيرة خلال الممارسة، يتوافق عليها الزوجان وإلا سينتج عن ذلك مشاكل ليس لها حدود، يكون أولها طيران ما يعتقد أنه حب ! إضافة إلى مجموعة المسائل الحياتية الأخرى.. المرأة غير الواعية لحقوقها في الممارسة الجنسية قد تتقبل الرجل على علّاته الذكورية ، وتتكيف مع نزواته مهما كانت !
- الحق معك . المسألة تحتاج إلى رواية لتفيها من كافة جوانبها ..
- افكر في أن تكون روايتي القادمة عن هذه المسألة ، وخاصة في ما يتعلق بحياة المثقفين !
حضر الطعام .. وشرعا في تناوله ؟
تناول محمود قطعة صغيرة من الفيليه ولاكها في فمه متذوقاً :
- لا بأس بها .. هل أعجبتك ؟
- تبدو لذيذة ..
استأنفا تناول الطعام دون كلام ! شعرت لمى أنه في مقدورها أن تبوح لمحمود بكل مكنونات دخيلتها، وأنه أهل لكي يتقبل وضعها ، وقد يساعدها على تحمل أثرالآلام التي تضج بها دخيلتها ، غير أنها أحست أن الوقت غير مناسب لذلك ، وربما يحتاج الأمر للتقرّب إلى محمود أكثر .. راودها شعور بإمكانية إقامة علاقة معه رغم شيخوخته .. لكنه قد لا يقدم على ذلك رغم أنها أعطته الضوء الأخضر من هذا اللقاء، لكنه لم يهتم للأمر كما بدا عليه .. حاولت أن تهرب من وضعها وأن تهرب إلى عالم آخر يغني ثقافتها .. كلام محمود عن قائم بالخلق مطلق المحبة والخير والعدل والجمال مشكلة محيرة ، فلماذا لم يتحقق إلّا الحد الأدنى من هذه الغايات ؟ سألته . أجاب :
- لأن عملية الخلق ما تزال تحبو في بدايتها كما أشرت من قبل. ولن يتحقق ذلك إلا بإدراك البشرية للغاية من وجودها وأن الخالق يكمن فيها كما يكمن في الوجود كله وكل كائن فيه . ثمة آية جميلة في القرآن تشير إلى أن الله لا يغير البشر ما لم يغيّروا ما في أنفسهم " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"( الرعد 11) العلماء فسروها حسب فهمهم للألوهة ، سواء كان التغيير في اتجاه الخير أو في اتجاه الشر. أما أنا فأفسرها باتجاه الخير فقط ، واتجاه الشر لا علاقه له بالألوهة ، غالبية سكان الأرض يسيرون في اتجاه الشر حتى يومنا ، ولو كان القائم بالخلق قادرا على تحويل سلوكهم نحو الخير لفعل ، ولن يحدث ذلك ما لم يدركو هم بأنفسهم أنهم من ينبغي أن يقوموا بالتغيير والتحول إلى عمل الخير، بدلا من الإقدام على أعمال شرّانيّة . القتل والفظائع في الحروب مثلاً، فاق طاقة الإنسان العاقل على التحمل!
ضحكت لمى وهي تهتف :
- وهل من يقومون بالقتل في الحروب وغيرها غير عاقلين ؟
- أكيد غير عاقلين ولو من وجهة نظري! الإنسان العاقل ينبغي ألا يعمل غير الخير . نحن أمام بشرية لا تخلو من توحش.. أستثني بعض الدول التي جهدت لأن تخرج من تخلفها وتساهم في صنع حضارة انسانية حديثة بعد أن عانت من الصراعات والحروب كثيرا ..
- وماذا عن العبادة ؟
- أي عبادة ؟ إذا كان فهم المعبود خاضع لاجتهادات خاطئة، فلن تكون العبادة إلّا مضيعة للوقت وهدرا لطاقة البشر لا طائل منها ، وخاصة تلك التي تتطلب صلوات كثيرة في اليوم، وإن كانت تؤدي إلى راحة نفسية لدى من يومنون بها بصدق لا بتقية ونفاق ووظيفة!
فرغا من تناول الطعام . أصرت لمى برجاء حار على دفع الحساب. وافق محمود على الأمر .
أمام المطعم تبادلا القبل وافترقا على أمل اللقاء ثانية .
****
20) هواجس انتحارية وفلسفية !)
وهو يستلقي في السرير بعد غدائه مع لمى ، متأملا وضعه الحالي وبعض ملامح حياته الماضية ، تذكر محمود أبو الجدايل مسدس الانتحار الملفوف بقميص قديم وملقى بين مجموعة من الملابس المكومة في قعر الخزانة .. تذكر المسدس لأن مساعدة أل 500 دولار تأخرت حتى الثالث عشر من آذار هذا العام ، فالصندوق القومي مفلس كما يبدو ، والسلطة الفلسطينية تعاني من ضائقة مالية بعد أن قطعت عنها المساعدات الخارجية ، وزاد نتنياهو الطين بلة حين اقتطع من ميزانية الضرائب الفلسطينية مخصصات الأسرى والشهداء .. ورفضت السلطة استلام الأموال ما لم تكن كاملة ! هذا الأمر أعاد محمود إلى التفكير في الانتحار إذا ما ضاقت كل الخيارات الممكنة أمامه ، ويأتي في مقدمتها هذا المبلغ الذي يحتمل أن ينقطع في أي وقت ، رغم أنه لا يكفي لحياة مستقرة ، وفلوسه تنفد كل يوم . سوق الرسم معدوم والكتابة الروائية لا تدر شيئا ، بل وفكر في التوقف عن الاستمرار في كتابة رواية " زمن الخراب " التي شرع في كتابتها منذ ستة أعوام ، ثم تخلى عنها ، ليعود إليها هذا العام ، في محاولة لإكمالها. فكر في أن يحمل بعض اللوحات في حقيبة ويدور على بعض الفنادق والشركات لتسويق لوحاته، وإذا لم ينجح المسعىى ليس هناك إلا المسدس . سينتحر بالتأكيد. لا يتصور أن يجد نفسه وهو في هذا العمر خاليا مما يفيه قوت يومه !" لا لا قد ينجح في إيجاد وسيلة لبيع بيته في دمشق ، وجلب مقتنياته ولوحاته .. ربما يتمكن من الذهاب بنفسه إذا ما تغير الحال هناك .. وربما يوكل ابنته في الأمر. وربما يقبل ابنه العاق بالذهاب .." أطلق نفسا عميقا محاولا الهروب مما يدور في خياله .. تعرفه إلى لمى خارج العالم الافتراضي أراحه بعض الشيء، هو يحتاج إلى صديق يجده إلى جانبه في وقت ما .. حين مرض بالتهاب القولون قبل عامين وتوقف عن تعاطي الحبوب المنومة والمهدئة ، أصيب بارتكاسة شديدة أرغمته على السير كالسلحفاة ، ولم يجد من يأخذه إلى الطبيب غير أحد البقالين الذين يتعامل معهم في المحيط. الأصدقاء الذين يزورونه ويسهرون في بيته تذرعوا بانشغالهم ، رغم وعودهم بمساعدته في أي أمر إذا ما احتاج ! لم يجد ولو واحدا بينهم يصحبه في سيارته إلى طبيب. الصديق الذي قبل أن يصحبه مئات الأمتار إلى البنك ليسحب نقودا ، تأخر أكثر من خمس ساعات عن الموعد المحدد . ولم يذهب دون تناول الطعام لأنه كان جائعا. صدق الشافعي حين قال "ما أكثر الأصدقاء حين تعدهم .. ولكنهم في النائبات قليل " لمى ليست كذلك كما هو واضح من سلوكها . إنها أول فتاة تدعوه إلى الغداء في حياته .. هذا مؤشر على كرمها ونبلها ." لكن ماذا تخفي هذه الفتاة بحق السماء .. لماذا تتخوف من إطلاعي على ما يعتمل في نفسها .. لا شك أنه أمر مخيف . وعلى الأغلب يتعلق بالجنس . فهي تبدو غير متزوجة رغم أنها ربما تجاوزت الثلاثين من عمرها .. هذا يعني أنها عانس.. لن ألح عليها لمعرفة أي شيء .. سأتركها على سجيتها إلى أن تشعر أن في مقدورها البوح لي .. آه آه يا محمود .. آه يا زمن .. "
حاول أن يهرب من هذا العالم ليتابع بحثه عن جوهر الخالق .." إذا كان الخالق طاقة حسب ما يتصور، فهل لديه وعي مطلق وقدرة مطلقة . لم يتصور أن يكون هناك خالق دون وعي ، مهما كان شكل أو لا شكل عقله ومادته ، ومن ماذا يتكون ؟ فهذه مسألة مفروغ منها . الإشكالية تكمن في حجم الوعي وقدرته على الفعل ، توصل في تفكيره إلى أن امكانية الإطلاق مستحيلة، وإلا لما استغرقت عملية الخلق قرابة أربعة عشر مليارا من الأعوام ، الإمكانية الواردة هي تطور نسبة الوعي وإمكانياته عبر الزمن. فكّر في طرح بعض الأسئلة على محرك البحث جوجل لعله يجد إجابة ما ، رغم إحساسه أنه لن يجد إجابة شافية بين إجابات كثيرة قد يجدها تدور حول الطاقة . لم يستطع النوم كما يحدث كثيرا في قيلولاته . نهض . حضّر شايا وجلس إلى الكومبيوتر، فتح النت على جوجل وكتب في محرك البحث : الطاقة والوعي ؟
فوجئ بوجود أكثر من تسعة ملايين نتيجة تدور حول الطاقة والعلاج بها وما إلى ذلك . الطريف أن أحد مقالاته عن الطاقة احتلّ الفقرة الثامنة في الصفحة الاولى !! لكن ليس هذا بالضبط ما يبحث عنه . ومع ذلك راح يستعيد قراءة المقال الذي يستند إلى مقال منشور في موقع اسلامي تنويري كما يبدو:
*الطاقة الكونية بين الوعي والفعل .
من تابعوا بعض مقالاتي المتعلقة بالخلق والخالق والمادة والطاقة لمسوا إلى أي حد أوغلت بعيدا حين لم أضع الخالق نفسه خارج الطاقة ، بل اعتبرته الطاقة نفسها السارية في الوجود والمتجلية فيه بكل كائناته ومكوناته ! وإن عبرت عنه بمفردات مختلفة كالخالق أو القائم بالخلق أو المطلق الأزلي ، أو الله ! ولا شك أن مذهب وحدة الوجود الذي أنتهجه ، يقوم على مبدأ لا يختلف في أهم مدارسه عن فهمي لهذا المذهب ،حتى وإن كان فهم التجلي الإلهي في الوجود لدى بعض هذه المدارس يختلف عن فهمي بتنزيه الذات الإلهية عن الوجود رغم تجليها فيه ! بينما لم أنزهها أنا إلا بمفردة لغوية هي الخالق أو القائم بالخلق أو حتى الله أو أي اسم آخر.
ترى ماذا يقول المسلمون المتنورون عن الطاقة ؟ بحثت على النت لأجد الكثير، وقد اخترت لأصدقائي هذا المقال من موقع اسلامي يدعى رام رام !! ولم أتدخل فيه ولو بكلمة ،حتى أنني أبقيت على معظم الأخطاء الإملائية والنحوية دون تصحيح !( قام بتصحيح الأخطاء خلال هذه القراءة ) وأعتقد أنه أجمل وأرقى ما أنتجه العقل التنويري الإسلامي، رغم أنني أختلف حول بعض القليل مما ما جاء فيه .
الطاقة و الوعي !
لقد توصل علم الفيزياء الحديثة إلى أن جوهر ومنبع الطاقة موجود فيما وراء كل من الزمان والمكان والصفات .
ففي الفضاء اللامحدود طاقة لا تضاهيها طاقة أخرى هي الطاقة الكونية أو طاقة الخلق طاقة الحياة( البرانا)
تتجسد هذه الطاقة في الكون تحت اسم الوجود
و تتجسد على الأرض تحت اسم الطبيعية
و في الإنسان تحت اسم الحياة
توجد هذه الطاقة في إحدى طبقات الفضاء اللامتناهي وهي مخصصة و مكرسة لتغذية الإنسان و الطبيعة والعالم بخصائص الوجود والاستمرارية و قوة البقاء
و تدخل هذه الطاقة كيان الإنسان باستمرار لتحافظ على وجوده وهي التي تقوم بالوظائف اللاإرادية كنبضات القلب و جريان الدم والتنفس
و تنفذ هذه الطاقة إلى كيان الإنسان عبر منفذين في رأس الإنسان الغدة النخامية والأنف بواسطة التنفس
الطاقة التي تدخل عبر الأنف هي التي تزود الكيان بالحيوية و نَفَس الحياة واستمرارية العيش و الطاقة التي تدخل عبر الغدة النخامية تزود القلب بحركته والدم بالحياة وبالعناصر الصحية الكامنة فيها كما تمد بقية الأعضاء اللاإرادية بحيويتها و نظامها
إن الطاقة الكونية هي قوة الحياة في هذا العالم
الطاقة الكونية أساسية في حياتنا و بنيتنا فهي تحيطنا من الخارج و تتغلغل في أجسامنا من الداخل .
و حتى ندعم ونقوي أجسامنا نحتاج إلى إدخال الطاقة الكونية الأثيرية و طاقة الأرض .
و يتم امتصاص هاتين الطاقتين من خلال الشاكرات ( الغدد الباطنية ) ثم توزع هذه الطاقة على أجزاء جسم الإنسان الباطنية وإلى كل خلية من خلايا جسمه .
أهم صفات الطاقة الكونية :
1- أنها لا يمكن أن تدمّر
2- قابلة للتحول أو التغيّر
3- هي عبارة عن ذبذبة أو اهتزازة
4- لا يوجد لها خاصية ، فهي دون شكل دون زمن دون أبعاد
5- لا نهائية، لا محدودة، لأنها من مصدر ذي قوى لا محدودة، هو الله سبحانه وتعالى .
كما أن الطاقة هي الجوهر النقي للحكمة و الوعي لأن الوعي والحكمة هي صفات فيما وراء الزمان والمكان .
عندما نعلم أن الجسم المادي ليس هو الذي يصنع حقل الطاقة، بل الطاقة هي التي تخلق الجسم المادي. وما نشاهده كجسم مادي هو النتيجة النهائية لعملية تبدأ في الوعي وفق المخطط التالي :
1-تغير في الوعي يخلق تغيراً في حقل الطاقة.
2- تغير في حقل الطاقة يحدث قبل التغير في الجسم المادي.
اتجاه الظهورأو التمثل هو من الوعي ، خلال حقل الطاقة ، إلى جسم الإنسان الفيزيائي.
الوعي ----- حقل الطاقة .........الجسم المادي
كما يؤكد لنا علم الفيزياء الحديثة أن كل شئ في الكون هو طاقة، حتى ما نعتقد نحن أنه مادة صلبة هو في الحقيقة حالة معينة للطاقة، والوظائف الفيزيولوجية والحيوية ترتكزعلى مستويات الطاقة المختلفة.
والصحة هي نتيجة إدخال التوازن على مستوى الطاقة ، وأي خلل في هذا التوازن ينتج عنه إما زيادة أو نقص في النشاط، الذي يتجسد بالتالي مع الوقت في شكل مشكلة صحية.
و كل شئ في الكون سواء كان حجراً أو نباتاً أو حيوان أو إنسان، هو محاك في نسيج وظائفه الأساسية الجوهر الأصلي للحكمة والوعي. حتى على مستوى المخلوق الواحد، فالوعي والحكمة الموجودان في خلية الدم أو خلية المناعة أو بلورة الماء أو وعي الإنسان نفسه، هما في الحقيقة نفس الجوهر الأصلي ولكن يعمل في وظائف مختلفة .
نهاية المقال.
****
كان الإنسان يبحث عن الخلود لعدم معرفته للغاية من الوجود ، أي كان يبحث في الطريق الخطأ ، وظل الإنسان يبحث في الطريق نفسه ، إلى أن حل الإشكال بالجنة الموعودة بحورياتها الفاتنات حسب المعتقدات التي ترى نفسها سماوية ! وما يزال الإنسان يغرق في الأفكار نفسها ، لأنه لم يدرك معنى الوجود والغاية منه ، وما هي الطاقة الكامنة خلفه . الموت ليس نهاية الحياة . بل مرحلة ضرورية لتجدد المادة والطاقة واستمرارالحياة لتحقيق الغاية من الوجود وهي إقامة الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . الإنسان شريك في عملية الخلق في حياته الدنيوية وشريك فيها في حياته الأخروية كمادة وطاقة متحدتين مع الطاقة القائمة بالخلق ،وهي ما عبر عنه المقال "بالجوهر الأصلي للحكمة والوعي ".أي ما يطلق عليه البشر الألوهة . هذا ما يجب أن يدركه الإنسان ويعمل عليه حتى لو لم يكن حقيقة مطلقة، لأن أي عمل خيراني أو إنساني أو جمالي ، لن يكون إلا في اتجاه بناء الحضارة الانسانية والحقيقة المطلقة التي ينشدها الخالق.
*******
لاحظ محمود من خلال حديث الكاتب مغفل الإسم عن الوعي والحكمة الموجودين في خلايا جسم الإنسان ووعيه وحتى بلورة الماء، وإعادتهما ، إلى الجوهر الأصلي نفسه أي الطاقة ، أنه لم يبق أمامه إلا أن يقول أن الألوهة تكمن في هذه الطاقة ، وأنها تسري في الوجود كله ! تابع تصفحه ليجد النص في صفحات أخرى تحت اسم رمزي " العقل الكوني " ولديه صفحة على الفيس بوك .
لم يعثر على ما يضيف إلى فهمه. شعر بالنعاس. أغلق الكومبيوتر وعاد إلى السرير. ما أن استلقى في السرير حتى وجد أن النعاس قد جافى عينيه . حاول استعادته بأن شبك أصابع يديه فوق رأسه ، وضم قدميه إلى بعضهما ليجعل دورة الطاقة تكتمل في جسده وتتلقى الطاقة المحيطة به . أطبق عينية وأغلق عقله بإبعاد أي صورة من دماغة . الإحتفاظ بالحالة مسألة ليست سهلة على الاطلاق. شغل نفسه بالشهيق والزفير لبضع دقائق ولم يعرف كيف نام ، كما لم يعرف كيف وجد نفسه يحلم بأنه يكتب مقالا بعنوان:
*"الدخول في الأسئلة الصعبة حول إمكانية وجود ألوهة " يقول فيه :
الدخول في الأسئلة الصعبة مسألة معقدة جدا بالتأكيد ، لأن الإجابة عنها أكثر تعقيدا ، خاصة وأننا مهما اجتهدنا في الإجابة لن نتوصل إلى حقيقة مطلقة . غير أن عدم التوصل إلى حقيقة مطلقة ينبغي أن لا يثنينا عن خوض غمار طرح الأسئلة والإجابة عنها ، فقد نتوصل في أحسن الأحوال إلى حقيقة نسبية ، وفي أسوئها إلى اكتشاف خطأ الإجابة أو حتى خطأ الطرح ، مما يقودنا إلى إجابات مختلفة لمفكرين قد ينتج عنها حقيقة نسبية تساهم في إغناء الفكر الإنساني ، أو إلى طرح الإسئلة بشكل مختلف يؤدي إلى نتائج مختلفة قد تساهم في إغناء الفكر الإنساني أيضا .
إذا اتفقنا على أن الوجود مكون من مادة وطاقة ولا شيئ غيرهما : مادة ينتج عنها طاقة، تعيد تشكيل وخلق المادة في ملايين الأشكال المختلفة من كائنات في الوجود ، تقوم بدورها بإنتاج طاقة ينتج عنها خلق وإبداع ينتجان حضارة ، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا من أسئلة في هذه الحال : هل هناك ألوهة أم أنه لا يوجد ألوهة على الإطلاق، وإذا كان هناك ألوهة فهل تتمثل في المادة والطاقة أم أنها خارجهما؟ والأهم من ذلك هل تعي الألوهة وجودها كألوهة في المادة والطاقة أم أنها لا تعيها ؟ وهل ترى أن التمظهرات المادية والأفعال الناتجة عنها في الكائنات كلها هي تمظهرات وأفعال لها أم لا ؟ هذه هي أهم الأسئلة التي يمكن أن يطرحها المرء . سنستبعد إمكانية وجود ألوهة خارج المادة والطاقة سواء قبلهما أو بعدهما لأن ذلك لا ينسجم - كفكرغيبي لا يستند إلى أي منطق - مع تفكيرنا . وسنشرع في الإجابة استنادا إلى المنطق الثاني أي إمكانية وجود ألوهة في المادة والطاقة ، وفي الإمكان استباق الإستدلال لنقول، إذا كان ثمة ألوهة في المادة والطاقة فإن وجودنا المادي وفعلنا الطاقوي لا ينفصلان عن وجودها كمادة وطاقة وبالتالي فإن الألوهة موجودة فينا أيضا كما هي في كل خلق مهما كان، كون كل خلق هو مادة وطاقة . وبهذا نريح أنفسنا من أي منطق آخر للإستدلال .لا، لن نكتفي بهذا القدر من الإستدلال لإمكانية ألا تدرك الألوهة أنها ألوهة وبالتالي لا يوجد ألوهة على الإطلاق.
لقد سبق وأن تحدثنا عن أن مفردات لغوية من نوع إله ورب وخالق وخلق وألوهة لم توجد قبل اختراع اللغة من قبل الإنسان في زمن قريب جدا من عمر الخلق لا يتجاوز سبعة آلاف عام في أحسن أحواله ، في الوقت الذي يوجد فيه عملية خلق قائمة منذ أربعة عشر مليار عام ، وهذا يعني أنه لم يكن هناك خالق مهما كان يخضع لمفهوم لغوي قبل اختراع اللغة ، وبما أن اختراع اللغة هو فعل طاقوي إنساني فإن اختراع مفردات لغوية تعبر عن ألوهة ما هو فعل بشري إنساني ، وفي هذه الحال تكون الألوهة وكل المفردات المعبرة عنها نتاجا إنسانيا وليس إلهيا .
لكن مهلا . ليس الأمركذلك رغم ما يبدو من منطقية الإستدلال. فما تم هو نفي وجود مفهوم لألوهة وليس نفيا لمفهوم وجود خلق، كذلك ليس نفيا لوحدة مادة وطاقة موجودة قبل اللغة لم يتم التعبيرعنها لغويا إلا في القرون الحديثة ، كما تم تناول المسألة بمعزل عن عملية الخلق القائمة منذ قرابة أربعة عشر مليار عام ، والتي يأتي خلق الإنسان كذروة تطورها . فإذا ما ذهبنا في هذا الإتجاه فإننا سنجد أن خلق الإنسان هو نتاج فعل مادي طاقوي قائم منذ بدء عملية الخلق ، شكل خلق الإنسان ذروة تطوره ، وأن اللغة اعتبرت هذه العملية الجارية المتحولة خلقا، استدعت بدورها وجود خالق أو ألوهة ، أطلقت عليها اسم الخالق أو الله كمفردة توصلت إليها اللغة، لم تجد حتى الآن أفضل منها للتعبير عن عملية الخلق . ونظرا لأن الإنسان غير معزول عن عملية الخلق هذه كمادة ينتج عنها طاقة ، وطاقة ينتج عنها مادة ،فإن الألوهة كمادة تتمظهر فيه كما تتمظهر في كل كائن، وأن طاقة الألوهة تسري فيه كما تسري في كل كائن ، وبالتالي فإن كل ما ينتج عنه يمكن اعتباره نتاجا إلهيا ، وأن اختراع اللغة وإنشاء مفردات تعبرعن الألوهة هو اختراع من قبل الألوهة نفسها ممثلة في جانب متمظهر منها في الإنسان ، كون تمظهر الألوهة هو تمظهر في كل شيء في الوجود حتى في الكواكب والنجوم . وبالتالي فإن هناك ألوهة ! ولقد أثبتت الفيزياء الكمومية ( الكوانتية )أن الراصد والظاهرة المرصودة متكاملان أو متكافلان ، ولا يمكن معرفة أحدهما دون معرفة الآخر . وهو ما شرحناه بقدر مقبول من التفصيل في تحليلنا للعلاقة بين الخالق والمخلوق أو الطاقة والمادة ! فالكل خالق والكل مخلوق ، والكل مادة والكل طاقة في الوقت نفسه .
والألوهة إضافة إلى ما تطرقنا إليه من كونها مادة وطاقة ، فهي من حيث المبدأ ، أوجدت نفسها بنفسها لنفسها منذ الأزل وما زالت توجد نفسها بنفسها لنفسها دون أن تصل إلى كمال ما مطلق . وبناء عليه يمكن اعتبار اللغة ومفهوم الألوهة مرحلة في تطورفهم عملية الخلق وفهم الألوهة لنفسها ، وإدراكها لوجودها، لكنها ليست الفهم الأخير المطلق وليست الإدراك الوجودي المطلق.
نستنتج مما سبق وتحديدا عن المرحلي والمطلق ، أن عملية الخلق لم تخرج حتى الآن عن مفهوم النسبية ، سواء في إدراك الألوهة لوجودها أو وعيها لنفسها . وأن الإدراك المطلق لن يتم دون إدراك الألوهة لوجودها المطلق ، وأن وعيها لنفسها لن يتم دون إيجاد الوعي المطلق . ويمكن تعريف الوجود المطلق بأنه الوجود الذي ليس بعده وجود ، وأن الوعي المطلق هو الوعي الذي ليس بعده وعي . وهذان الأمران في الحالتين شبه مستحيلين على المدى المنظور والممكن تبصره، إلا إذا اعتبرنا أن وجودنا ووعينا ( الإلهيين ) مطلقان. وإذا ما انتقلنا إلى الغاية من الوجود فإن استحالة التحقق في الحقب القريبة القادمة تغدو شبه مؤكده . فإذا كانت الغاية من الوجود هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وبناء الحضارة الإنسانية الإلهية ( إن شئتم ) فإنه لم يتحقق من هذه القيم إنجاز على مستوى أممي يدعو للفخر . وإذا ما ذهبنا إلى عملية الخلق بحد ذاتها فإننا نجد أنها غير مكتملة من نواح كثيرة ،كخلق مخلوقات ضارة ، وخلق الإنسان غير الكامل ، وغير ذلك كثير .
لكل ذلك يمكن القول إن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ،وإن كمالا ما لن يتحقق على كافة الصعد ما لم يتحقق كمال الخلق في كافة الجوانب المتعلقة بعملية الخلق.
وإذا أردنا أن نوجز الإجابات عن الأسئلة التي طرحناها ، فإننا نقول حسب مفهوم نسبي غير مطلق :
- نعم يوجد ألوهة ، وأنها تتمثل في المادة والطاقة وتتمظهر كمادة في كل شيء ،وأن أسمى تمظهر لها هو في الإنسان ، وأنها كطاقة تسري في الكون والكائنات كلها ،وأنها تدرك وجودها المادي لأنها تحتويه وتتمظهر فيه ، وتعي وجودها الطاقوي لأنها تنتجه.
*****
لم يعرف كم نام حين استيقظ . ما كتبه في الحلم أمر لا يصدق . نظر إلى الساعة كانت تقارب التاسعة والنصف ليلا .. لقد نام أكثر من ساعتين ..
نهض . حضر ابريقا من الزهورات .. أشعل سيجارة في محاولة لتناسي البايب .. وجد أنه لم ينجح .. تدخين البايب يملأ الدماغ .. سارع إلى تنفيذ الأمر .. شغل الكومبيوتر .. فتح الوورد ليعيد كتابة المقال الذي كتبه في الحلم . طالعه مقال في الصفحة التي يفترض أنها بيضاء .. حدق مندهشاً ، ولا يمكن لكل لغات العالم أن تعبر عن دهشته ، حين وجد أن المقال الذي كتبه في الحلم قد نسخ في الوقت نفسه على جهازه. أطبق بيديه على صفحتي رأسه ، وشرع في شكر الله مرددا " شكرا يا إلهي" بضع مرات ، وهو يدرك بشعور تام أن ما جرى هو فعل إلهي طاقوي اعجازي خارق للمألوف .
*******
سارع إلى نشر المقال على الفيس بوك وفي " الحوار المتمدن " ومنتديات أخرى. تلقى ردودا مختلفة .. بعضها من منطلقات دينية مسيحية أو اسلامية ترفض افكاره بشكل مطلق ، وبعضها مؤيد ومعجب ، وثمة من لا يتقبل الأفكار رغم أنه علماني. وهذا ما دعا محمود أبو الجدايل إلى أن يمضي يومين آخرين في البحث والتفكير للرد ، في محاولة لإقناع العلمانيين بصواب تفكيره .
ومما كتبه:





(21) في الألوهة وشرط وجودها !
ترى لو لم يكن هناك خلق للإنسان بشكل خاص ، وللكائنات الحية بشكل عام، فهل كان في الإمكان تصور وجود ألوهة ما ؟ سيكون التصور في هذه الحال من قبل الكون المفرغ من الحياة ، أي من قبل كواكبه ونجومه وفضاءاته ،وهو ما لا نستطيع أن نجزم بأنه قادر على تصور ذلك لعدم وجود عقل لديه . إذن فوجود الإنسان كان شرطا ضروريا للتفكير في وجود ألوهة وبالتالي تصورها وإيجادها، وهو ما لم يكن ممكنا عند الإنسان البدائي . بل في الإمكان القول إن تصور وجود ألوهة قد لا يزيد على بضعة آلاف من السنين. وكان التصور بدائيا إلى حد أنه لم يصل منه شيئ إلى العصور الحديثة. وقد لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إن هذا التصور ما يزال بدائيا حتى الآن وإن كان ثمة تفاوت في المفاهيم العقائدية . وإذا ما عدنا إلى عمر الكون البالغ قرابة أربعة عشر مليارا من الأعوام ، وعمر الحياة البالغ قرابة 500 مليون سنة ، فإن عمر الألوهة مقارنة بعمر الوجود قصير جدا جدا .
وبهذا سنصل إلى شرطي المعادلة وجود الألوهة ارتبط بوجود الإنسان العاقل المتطورنسبيا، وقبل ذلك لم يكن هناك ألوهة . وفي هذه الحال سيكون فناء الإنسان فناء للألوهة التي أوجدها أو تصورها. وليس في الإمكان أن نجزم بأن الكائنات الأخرى من حيوانية ونباتية وكونية من العقلانية بحيث ترى أو تتصور وجود ألوهة .
غير أننا إذا ما طرقنا الموضوع من زاوية أخرى وانطلقنا من المادة والطاقة اللتين يتكون منهما الوجود فلن يكون من العسير علينا أن نستبعد وجود الألوهة إذا كانت الألوهة هي نفسها مادة الكون وطاقته وأنها أوجدت نفسها بنفسها لنفسها منذ الأزل . وأن شرط وجودها كان بوجودها ، وأنها لن تفنى ولن تموت حتى بموت الكائنات الحية ، التي تعود بموتها وتحللها إلى عناصرها الأولية كمادة وطاقة تتجدد للمساهمة في عملية الخلق المتجددة الأبدية . وآمل أن تكون البشرية (التي تشعر بوجودها في الحياة الدنيا وتساهم في صنع الحضارة الإنسانية ) تشعر بوجودها المادي الطاقوي في الآخرة وتساهم في عملية الخلق الدائمة .
(تخيلوا أن أكون أنا مثلا طاقة مندمجة في مادة الكون وطاقته بعد موتي وأشعر بوجودي الطاقوي وأتمتع به، والأهم من ذلك أن يرى الناس أنني أنا وأجدادهم والكائنات الأخرى نسري كطاقة في أجسادهم ومادة تشكلها) ( لا تنسوا أن تتذكروا دائما أن اجتهادي ليس حقائق مطلقة ، يمكن القول أنه مجرد تحفيز للعقل لكي يفكر . يكفينا جمود عقلي طال سباتنا)
نشر المقال ليتلقى بعض الردود ، التي دفعته إلى الرد من جديد :
مفهوم الألوهة الملتبس بين وجود إله أو عدمه !

كنت أتوقع أن يلتبس مفهوم الألوهة على القارئ في الخاطرة) المعنونة ب " في الألوهة وشرط وجودها " فقد كتب أحد القراء ( صلاح البغدادي ) في (الحوار المتمدن ) معلقا على الموضوع ،قائلا :" المادة والطاقة هي الإلوهة....صعب هذا السيناريو" واستعرض بعض المفاهيم الأصعب للألوهة من مادية ومثالية ، ليختم بقول لبوذا " لا أعرف شيئا عن الاله ولكن اعرف أشياء كثيرة عن ألم الانسان"وهي ترجمة ثانية لقول بوذا "لا أعرف شيئا عن سر الإله ولكني أعرف أشياء عن بؤس الانسان"
حين انطلقت من المادة والطاقة لفهم الألوهة لم أقصد أن المادة والطاقة أو أحدهما هو الله ، بل لأقول إن ما يكمن وراء عملية الخلق هو المادة والطاقة ، واستخدمت تعبير الألوهة كتعبير مجازي لا غير ،وقد تطرقت إلى أن الإنسان العاقل المتطور حديث الوجود مقارنة بعمر الكون هو من أوجد مفهوم الألوهة ، الذي ظل غائبا عن الوجود مليارات السنين . وإذا ما عدنا إلى اللغة التي لم يمر على اختراعها أكثر من سبعة آلاف عام على الأكثر سنجد أن مفهوم الألوهة حديث جدا مقارنة بعمر الكون وعمر الإنسان أيضا .
ويذهب يوسف زيدان في كتابه ( اللاهوت العربي ) إلى ما ذهبنا إليه حين يرى أن مفهوم الألوهة "يتوقف على البشر ويقوم على شرط وجودهم " أي لم يكن هناك مفهوم للألوهة قبل وجود البشر ، وأي بشر ؟ إنهم حديثو الوجود . ويتابع يوسف زيدان " ولذلك قال الصوفية المسلمون لاحقا إن ( سر الربوبية ) هو توقفها على المربوب ، فإذا انعدم المربوب صارت الربوبية مستحيلة ") وهذا الكلام ينفي وجود إله قبل وجود بشرية . ويتابع يوسف زيدان قائلا " وقد يجوز لغة ، إطلاق صفة الرب على الله والإنسان معا مجازا ، لكنه في حال إطلاق هذه الصفة على الإنسان ، لا بد أن يكون اللفظ مضافا ، كأن يقال : رب الإبل ، ربة البيت ، رب العمل ، بينما المعرف من لفظ الرب بالألف واللام لا يقال إلا لله " والحق أن المتصوفة أوغلوا كثيرا في فهم الألوهة وخاصة في شطحاتهم ، حيث قال الحلاج " أنا الله " وقال البسطامي " سبحاني ") وثمة الكثير من الأشعار والمقولات الصوفية التي توحد بين الله والمتصوف ، غير أن كل هذا يعود إلى مفاهيم بشرية حديثة جدا ليس بالضرورة أن تعبرحقيقة مطلقة . وسنعود إلى أرقى هذه المفاهيم كما هي عند ابن عربي بعد قليل .
إن الحديث عن مفاهيم لا يعني في أحسن أحواله أكثر من اجتهاد العقل البشري للبحث عن الحقيقة وبشكل خاص حقيقة الوجود . فإن أشرنا إلى أن الألوهة طاقة أو أنها الطبيعة أو حتى حسب مفهوم ديني ما أنها ألله ، فإن كل هذا يظل في دائرة الإجتهاد المجازي وليس الحقيقة المطلقة . وأنا هنا أشمل الفكر البشري كله الديني بكافة تنوعاته والفلسفي بكافة تنوعاته أيضا ، وحتى العلمي . والذي يدعي الحقيقة المطلقة لهو مخطئ بالتأكيد إن لم يكن أحمق . حين يخبرنا العلم أن نواة الخلية تختزن آلاف الملايين من المعلومات المكودة وأن جسم الإنسان يحتوي على آلاف المليارات من الخلايا ، وأن العمليات الجارية فيه ، ليوم واحد فقط توظف معلومات مكودة أكثر مما أنتجه العقل البشري من كتب حتى اليوم ، فإنه لا يسعنا في هذه الحال إلا القول :إن مفردات من نوع ألوهة وإله ورب وغيرها ليست كافية للتعبير عن إعجاز هذا العقل الكوني هائل العظمة .
لقد تطرقت إلى الألوهة في مقالات كثيرة ،وكلها مقالات تجتهد في البحث عن سر الوجود وتحاول أن تقدم ما هو جديد وممكن دون أن يرقى إلى الحقائق المطلقة التي لا وجود لها إلا عند العقول المنغلقة على ما فيها من مفاهيم مندثرة .
لماذا ابن عربي ؟ ولماذا أفدت منه ؟ لقد قدم ابن عربي مفهوما من أرقى المفاهيم البشرية إن لم يكن المفهوم الأرقى على الإطلاق ، حين جعل من الألوهة حقيقة تسري في الكون من أعلاه إلى أدناه . يقول نصر حامد أبو زيد : " إذ العالم كله من أعلاه إلى أدناه بمستوياته ومراتبه المختلفة ،من أرواح وأجسام فلكية وعناصر طبيعية ،ليس سوى مظاهر وتجليات لحقيقة واحدة سارية في أجزائه بنسب مختلفة ، تلك هي الحقيقة الإلهية "
لم يكن ابن عربي حسب زمنه يعرف الطاقة ولو كان يعرفها لربما وظفها بدلا من الحقيقة . وحسب هذه الرؤية يفسر ابن عربي كل ما يجري في الكون وكل ما يصدرعن الكائنات والإنسان بشكل خاص أنه فعل إلهي . فإن آمن الإنسان أو كفرأو ألحد ، هو فعل إلهي ، إن عبد صنما وإن عبد يهوه ، هو فعل إلهي . إن عبد المسيح أو الله هو فعل إلهي . إن تألم أو فرح هو فعل إلهي . إن بكى أو مات هو فعل إلهي . إن ضرب أحدا أو قبل امرأة هو فعل إلهي . والأهم من كل ذلك إن تكلم الإنسان أو ألف كتابا ، فهو فعل إلهي . فليس ثمة حركة خارج الفعل الإلهي . وبناء على هذا الفهم فأنتم تقرأون الآن كلاما إلهيا لإنسان يسري في جسده (شحنة ) من الحقيقة الإلهية ، إنه محمود أبو الجدايل ! وهذا لا يعني بالتأكيد أن محمود أبو الجدايل إلها ، وأن كل ما يخطه قلمه هو حقائق مطلقة ، فما يسري في جسده ليس أكثر من نقطة من محيط الحقيقة الإلهية السارية في الكون والكائنات حسب ابن عربي . والتي حولها مفهومه إلى طاقة خالقة سارية في الكون . وقد نفى ابن عربي أن تحل الألوهة بكمالها في انسان دون غيره ، وهو رفض للحلول والاتحاد بالمطلق. فالله حسب ابن عربي حال في الوجود كله ومتمظهرأومتجسد فيه ، ولذلك لا يشبهه شيء ، فهو يشبه نفسه التي لا يستطيع أحد تصورها إلا هو وحده .. ومن هنا يأتي الخطأ في الأفعال الإنسانية ، وتوظيف الطاقة الكونيّة ( الإلهية ) فيها ، إن كانت خيراً وإن كانت شراً. لأن الألوهة بمطلقها ليست متجسدة فيه . والخالق ليس مسؤولا عن الأفعال الشرانية للإنسان ، رغم أنها تتم بفعل طاقته السارية في الانسان .. وهذا ما يحاسب عليه الإنسان دنيويأً من قبل الدول وقضائها، وليس من قبل الخالق، لأن الخالق منزه عن الحساب والعقاب والتعذيب.
وقد بحثنا في بعض مقالاتنا عما إذا كانت الطاقة تعقل ، وعما إذا كانت ترى في نفسها ألوهة أو إلها ما . وأظن أن النتيجة لم تحسم بالمطلق حتى اليوم رغم كثرة المقالات ، وإن حسمت مسألة وجود عقل كوني طبيعي طاقوي مادي ! دون أن نصاب بالغرور، ولن نصاب ونعتبر اجتهادنا حقيقة مطلقة . وسيجهد العقل البشري كثيرا إلى أن يصل إلى حقيقة نسبية وليست مطلقة، تكون قادرة على استقطاب العقل البشري واتفاقه عليها . لعله يصل يوما إلى الإقتناع بأن الغاية من وجود الإنسان ليست إلا المساهمة في عملية الخلق وإقامة الحضارة الإنسانية بتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وكل القيم الإنسانية النبيلة.






(22) انتصار الخير!
خابرته لمى متسائلة عما إذا بإمكانها الحضور إليه . رحب بها . حضرت . بدت منشرحة ولا يبدو أي أثر لحزن على ملامح وجهها.
- جميل أن أراك مبتهجة بعض الشيء.
- إن شئت الحق مجرد قرار إرادي!
- ماذا تقصدين ؟
- ليس هناك ما يدعوني للبهجة فقررت أن أتناسى كل ما يكدّر حياتي ولو لساعات.
- أتمنى أن تبقي كذلك دائما .. الحياة صعبة ومتعبة لنا ولأمثالنا ..
- أشكرك .. لا تعرف كم يريحني اللقاء بك .. قرأت مقالاتك الأخيرة بعمق واستمتعت بها .. أنت ترغم كل صاحب عقل حر على التفكير حتى لو كان يخالفك الرأي..
- هل في الامكان متابعة الحوار معك حول آخر ما نشرته ؟
- أكيد ..
- تتحدث عن كل عمل إن كان خيرا أو كان شرا كفعل إلهي وتستشهد بأفكار منسوبة إلى ابن عربي .. وكأنكما أنت وابن عربي تشرحان الآية 17 من سورة الأنفال الواردة في القرآن " وما رميت إذ رميت إن الله رمى " السؤال هل يمكن أن يكون الخير والشر من فعل الخالق؟
- أنت تضعيننا أمام الاسئلة الصعبة التي حيّرت الناس ، وفكروا فيها منذ زمن بعيد . لقد أجبت على ذلك ضمن المقال . فهذه الآية تحتمل أكثر من تأويل. فهل الرامي هو المقصود ، أم الطاقة التي تحركه ، أم الاثنين معا؟ كان أيوب أول من تساءل عن المسألة في سفر أيوب حسب النص التوراتي .. بعد أن أنزل الله به المصائب وشل حركته ، في محاولة لاختبار مدى ايمانه ، على أثر رؤية شيطانية انصاع لها الله ، تشير إلى أن أيوب لم يؤمن بالله إلّا لأنه أغدق الخير عليه، وفي حال نزع هذا الخير عنه ، سيتخلى عن الأيمان وسيكفر بالله . دمرّت حياة أيوب إلى حد فظيع ، بحيث بات الدود ينخر جسده وهو طريح الفراش ، مما دفعه إلى التساؤل عمّا إذا كان الشر من عند الله أيضا ، ليخلص إلى مخاطبة الله ناعتاً إياه بالظلم ، ومطالبا بأن يرفع عصاه عن رأسه !
و في بدايات الحكم الاسلامي سار المعتزلة على الطريق نفسه في مواجهة الجبريين، الذين كانوا يرون أن أفعال الإنسان مقدرة من الله ، وأنه مسيّر وغير مخيّر، لتبريرأعمالهم ، عكس ما كان يرى المعتزلة من أن الانسان مخير بين الخير والشر وأنه مسؤول عن عمله. الأمر الذي لا يصدق أن الفكر الجبري ما يزال ساريا في العالم الإسلامي حتى يومنا .. حتى مقتل الآلاف في الأعاصير والفيضانات والحروب والحوادث تعزى إلى قدر إلهي ، وحتى غضب من الله كما في الأعاصير والزلازل ! وقد قضي على المعتزلة وفكرهم منذ ذلك الزمن ..
يمكن أن أختصر لأقول إنّ فهم البشر للمسألة ناجم عن عدم فهم لماهية وجوهر القائم بالخلق أو الألوهة ، كونها طاقة سارية في الكون والكائنات ومتجسدة فيهما، لا يمكن دونها القيام بأي فعل مهما كان ، دون أن تكون هي مسؤولة عن الفعل ، وبهذا أتفق مع المعتزلة في أن الإنسان مخيّر وغير مسيّر، ويتحمل مسؤولية أفعاله ، والنظر إلى أي فعل يقوم به الإنسان كفعل إلهي ، هو مجرد مسألة مجازية كونها ناجمة عن طاقة سارية . ولنأخذ مثلا بالحافلة . فإذا اصطدمت الحافلة بحافلة أخرى أو بجدار وأودت بحياة بعض الناس ، فهل يقع اللوم على السائق أم على الطاقة التي تسيّر الحافلة ، وهي هنا البنزين ؟
- على السائق بالتأكيد ، لكنه بدوره مسيّر بطاقة الخالق !
- نعم مسيّر بطاقة الخالق لكنها لا تتحكم به . ويبدو لي أن ابن عربي كان يجب أن يوضح هذه المسألة حين جعل كل فعل هو فعل إلهي مهما كان .
- أكيد لا يعقل أن يرى ابن عربي أن أفعال الشر من الخالق ، وترك الفهم للناس أوأنه وضح الأمر في كتاب آخر من كتبه الكثيرة لم يصل إلى زمننا. أو أن الباحثين لم يتطرقوا للأمر.
- صحيح . إذن كفانا أن نعزو كل شيء إلى الله ونحمّله مسؤولية أفعالنا !
- وماذا عن الأعاصير والزلازل وغير ذلك؟
- كل فعل يقوم حسب قوانين مادية طاقوية وضعت في المادة منذ مليارات السنين ، وأي خلل في هذه القوانين ينتج عن عوامل مادية مختلفة ، يؤدي إلى نتيجة ما قد تكون إعصارا أو زلزالا أو طلقة تقتل انسانا ! وقد تكون العوامل ايجابية ومنضبطة لا تشذ عن القوانين فينتج عنها ما هو خيراني كالمطر وحتى القُبَل البشرية ! والله هنا ليس كائنا يقف على رأس كل كائن في الوجود ليراقب فعله ويسيّر عمله . هذا تخريف عقلي !
- لماذا لا يستطيع الله أو القائم بالخلق التحكم بكل شيء ، رغم ادراكي أنه طاقة سارية متمظهرة في مادة حسب فكرك؟
- لأنه لم يتوصل إلى ذلك حتى يومنا ، وقد لا يتوصل بالمطلق ! فالمسألة أكبر من كل قدرة حتى لو كان القائم بالخلق إلهاً ، أو ما هو أكبر من إله ، أو مجموعة آلهة ، كما في العبادات القديمة .
- هل هذا يعني أن الخير والشر سيستمران إلى الأبد ؟
- بشكل نسبي نعم . لكن الخير سيتفوق في النهاية للوصول إلى قدر أكبر من تحقيق قيم الخيروالعدل والمحبة والجمال ،وبناء الحضارة الإنسانية .
- كيف .
- واقع الحياة يشير إلى أنها تسير في تسارع بين الخير والشر، وأن الخير يتقدم على الشر . وأن القوانين بدورها تتطور، فهي ليست قوانين ثابتة وتتطوردائما نحو الأفضل ..
- اضرب لي مثلا .
- لو لم يتقدم الخير لدمرت الحياة .
- لم أفهم !
- لو افترضنا أن الموت مهما كانت أسبابه من قتل أومرض أو كوارث أو حوادث، شراً ، واعتبرنا الحياة بما فيها من ديمومة لبقاء الإنسان والحيوان والنبات والطبيعة بكل تجلياتها خيراً .. لوجدنا أن الخير متفوق على الشر بدليل وجوده حتى اليوم ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، أي انتصار الشر، لكانت الحياة قد دمرت منذ زمن ، ولما وجدنا بشرا مثلا ! فالبشر يزدادون كل يوم رغم كثرة الموت وأنواع الجرائم والقتل والحروب ..
- على ماذا نراهن لتقدم الخير؟
- نراهن على تقدم الإنسان بالدرجة الاولى وعلى طفرة نوعية في قوانين الطبيعة .
- أرجو توضيح الأمر .
- الإنسان يتقدم كل يوم في فهم الوجود والغاية منه .. ومعتنقوالديانات على اختلافها باتوا يتقربون من الغايات الإنسانية كالمحبة والتعاون بين الأمم ، وينبذون الحروب والشعوذة والدعوشة والتخلف العقائدي . الدين القادم للبشرية وخلال قرون سيكون دين الإنسان . دين المحبة والتعاون بين البشر.. ومن لم يسر مع الأمم سينقرض. زمن الخراب هذا لن يدوم إلى الأبد .. انظري إلى أوروبا كيف تخلت عن الحروب خلال عقود قليلة ، وصنعت عالما حديثا بكل معنى الكلمة ، تسود فيه المحبة والعدالة والحريّة إلى حد كبير .
تنهدت لمى بعمق وهتفت ربما دون كامل وعي منها :
- آه ليتني أموت اليوم وأنهض من موتي بعد قرون لأعيش في هذا الزمن الأجمل الذي تتحدث عنه .
تفاجأ محمود بالأمر . تساءل :
- لقد بدوت منشرحة فلماذا تتمنين الموت الآن ؟
- ليتني أستطيع أن أحدثك عن مأساتي ؟
- لماذا لا تستطيعين يا عزيزتي ؟
- لأنها أكبرمن قدرة العقل على التحمًل ! ولا أريد أن أثقل عليك بها ، كما انني أريد لها أن تبقى سراً لتخوفي من أن تشاع !
- لن ألح عليك رغم إحساسي أن مشكلتك ليست كما تتصورين ، فهي بالتأكيد مشكلة شخصية لا يمكن أن تقارن بمآس كثيرة تعيشها البشرية. وأعتقد أنك ستبوحين لي بكل شيء ذات يوم .
- آمل ذلك !
- أنا لا أعرف حتى اليوم إن كنت متزوجة أو مطلقة أو أي شيء آخر ! هل لي أن أعرف؟
- أنا أي شيء آخر !
- ماذا تقصدين ؟
ترددت في الإجابة . ثم هتفت " متزوجة " وشاءت أن تتابع غير أنها ترددت .. تابعت بما لاتريد أن تفصح عنه :
- متزوجة وغير متزوجة !
تساءل محمود بدهشة :
- نعم ؟
- هذه هي الحقيقة !
- أية حقيقة هذه ؟
صمتت للحظات وملامح وجهها تفصح عمًا قد يكون بركاناً تكبته في دخيلتها ، جاهدة بكل قوتها لأن تبقيه مكبوتا في نفسها ، غير أن الصراع راح يحتدم في دخيلتها بين تفجير البركان وبين الإبقاء على كبته .. غيرأن إرادة التفجيرانتصرت ـ ربما لثقتها بالشخص الذي تتحدث إليه ، فانفجرت في بكاء فظيع وهي تهتف بانفعال:
- أنا متزوّجة من .. من أبي !
فتح محمود فمه والدهشة ترتسم على وجهه، فيما هي تهم لإلقاء نفسها على صدره، في محاولة للاحتماء به عمّا تعتبره عارها! .. أشرع محمود ذراعيه لها .. ألقت رأسها على صدره وهي تنتحب من أعماقها ..راح يضمها بشدة ويربت على ظهرها دون أن يتفوه بكلمة .
هتف بعد لحظات في محاولة لتهدئتها:
- هذه مشكلة بسيطة يا عزيزتي مرت بها البشرية ، وحتى الأنبياء وكبار رجال الدين والملوك والآلهة ، وما زال بعض البشر يمارسونها سرّا ، وأدرك تماما دون أن أعرف التفاصيل أن والدك هو المسؤول عن الأمر ! وأدرك أيضا أنك لا تقصدين زواجا بالمعنى الحقيقي للكلمة .. تقصدين علاقة جنسية مع أبيك ، شرع هو بالتأكيد في إقامتها معك ، وعلى الأغلب منذ طفولتك المبكرة .
قالت بصوت متهدًج وهي تنشغ وتنتحب " صحيح "
- اذن اهدأي الآن وحاولي أن تنسي الأمر أو تتناسيه على الأقل .
- ألا تريد أن تعرف كيف حدث الأمر ؟
- لا ! لا أريد أن أعرف وأنت في هذه الحال . يمكن أن أعرف حين أرى أنك تفوقت على واقعك بشكل جيّد ، وأصبحت قادرة على التحدث عن المسألة بشبه حيادية ودون بكاء ونحيب.
- وهل يمكن أن يحدث هذا ؟
- طبعا ممكن.. لا أريد لحياتك أن تدمر نتيجة لصراع متأجج في دخيلتك ! هناك ملايين البشر مرًوا في ظروف أصعب بكثير وتجاوزوها .. تعرفت إلى سيدة أوروبية ذات يوم ، أخبرتني أن أباها كان يمارس معها ومع اختها الجنس منذ سن الحادية عشرة . واستمرت العلاقة بينها وبينه حتى كبر وشاخ ، وحاولت الممارسة معه في عيد ميلاده، لكن لم يحدث معه انتصاب !
- هل هذا يعني أنها كانت تحبه وتشتهيه ؟
- أجل !
- وماذا أيضا ؟ أريد المزيد من هذه الأحاديث عن البشر والآلهة كما ذكرت !
- حسنا يا عزيزتي ! هذه مشكلات عابرة في حياة بعض الناس ولا يمكن مقارنتها بقتلى الحروب ومشرديها الذين تغرق خيمهم بالثلوج والأوحال ... ربما سمعت بعقدة لوليتا ؟
- سمعت لكني لم أعرف عنها شيئا سوى حب البنت الصغيرة لأبيها ومحاولتها البحث عن رجل يكبرها للتقرب عبره من صفات أبيها .
- صحيح . هي رواية للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف تتحدث عن بطل يعشق ابنة زوجته وهي مراهقة في الثانية عشرة من عمرها ، ويقيم معها علاقة جنسية . وهناك العشق المضاد المتمثل في عقدة أوديب حيث الابن الذي يقع في عشق أمه . كما صورها الكاتب اليوناني سوفوكليس في مسرحيته( أوديب الملك) . غير أنها أكثر تعقيدا من عقدة لوليتا ، كونها تقوم على قدر إلهي ، فقد تنبأت عرّافة المعبد بأن ابنا سيولد لملك طيبة ( لايوس ) سيقتل أباه ويتزوج من أمًه الملكة ( جوكاستا ). وينجب منها! وهذا ما حدث .
لقد أصبح هذان العملان الأدبيان عنوانين رئيسين لفرعين نموذجيين في علم النفس ، قد يحتاج كل من يمرض بأحدهما إلى العلاج النفسي.
- وماذا عن الملوك والآلهة :
- في مصر الفرعونية تشير المدونات إلى أن الزواج من البنت أو الأخت كان شائعا .. فرمسيس الثاني تزوج من ابنته ميريت أمون، والملك سنفرو تزوج من ابنته نفرت كاو، وتوت عنخ آمون تزوج من أخته . وإيزيس تزوجت من أوزيريس وأنجبا حورس ، وتزوجت كليوباترا من أخيها.

وعند الإغريق كانت قوانين أثينا تسمح بزواج الأخ من أخته ، فتزوج بطليموس الثاني من أخته أرسينوس. وكبير الآلهة زيوس اغتصب أمًه " ريا " وزنى الإله أبولو بأخته أرتميس، وأم الآلهة " كابل " زنت مع ابنها وعشيقها " آتيس ! والأمر نفسه عند الفرس والرومان والهنود ومعظم أمم الأرض.. فعند العرب في الجاهلية كان الرجل لدى بعض القبائل يجوز على نساء بيته كلهن !
وإذا ما ذهبنا إلى الأنبياء سنجد أن النبي لوط زنى بابنتيه لتنجبا منه موآب ( جد االموآبيين ) وبني عمي ( جد العمونيين ) حسب النص التوراتي !
- بجد ؟
- هذا ما تقوله التوراة فأنت كعمونية من سكان عمان تنتمين إلى جد ابن زنى وإن كان قديما !
انفرجت شفتا لمى عن ابتسامة تغرق بالدموع !
- وتذكر التوراة أن النبي ابراهيم كان متزوجا من أخته من أبيه ، وقد قدمها لفرعون ملك مصر على أنها اخته ! وكذلك للملك الفلسطيني ( أبيمالك ) ورؤابين بكر يعقوب زنى بسرية أبيه وأم أخوته " بلهة "، وتزوج يعقوب من اختين هما راحيل وليئة ، وتزوج عمران من عمته يوكابيد لتنجب موسى وهارون . واليهود يسمحون حتى يومنا بالزواج من ابنة الأخ أو ألاخت أو العكس !
والإمام الخميني في كتابه " تحرير الوسيلة " يبيح الزواج من طفلة في الثالثة من عمرها ، شريطة عدم فض بكارتها إلا في التاسعة ، كما قيل عن النبي محمد أنه تزوج من عائشة في السادسة وافتضها في التاسعة أو العاشرة ، وأنه كان يفاخذها قبل ذلك ..
قصص زنى المحارم وغيرها، كثيرة في التوراة اليهودية ، فمثلا الملك داود أمر بقتل محارب في جيشه " اوريا الحثي " ليتسنى له الانفراد بزوجته " بثشبع " تزوجها بعد مقتل زوجها وأنجبت منه سليمان النبي عند المسلمين.
وعند المسيحيين طال زنى المحارم البابوات أنفسهم ، فيروى أن البابا اسكندر السادس ( 1942-1503) كان على علاقة غرامية مع ابنته لوكريزا، وكان ابنه سيزارعلى علاقة معها أيضا !
وربما سمعت الأخبار التي تحدثت منذ زمن قريب عن رهبان في الكنائس والأديرة يزنون مع أطفال، وقد أوحى لي ذلك الأمر بكتابة فصل في إحدى رواياتي الأخيرة . ولو عدنا إلى بدء عملية الخلق حسب مفهوم ديني بدأ العملية بذكر وأنثى ، سنجد أن وجود بشرية لم يتم إلا بعدم وجود تحريم على الإطلاق .. يفترض أن أبناء وبنات آدم تناكحوا، وربما أيضا تناكح ابن مع أمه أو العكس ، وكذلك الأب ربما نكح ابنته ، ولا يمكن فهم تكاثر البشرية إلا بإباحية الجنس كغريزة ،وقد دامت هذه العملية لعشرات آلاف السنين .. التحريم ظهر في عصور قريبة مع ظهور بعض الديانات .. وحتى اليوم يختلف التحريم من ديانة إلى أخرى . فهناك ديانات تبيح ما تحرمه ديانات أخرى .. وإذا ما تجاهلنا التحريم في زمننا فإن الأمر لا يتعدى الأعراف الاجتماعية . وليس بالضرورة أن تكون هذه الأعراف مبنية على مفاهيم صحيحة ، وخاصة إذا ما تساءلنا عن فعل الجنس بحد ذاته ، فهل هو خيرأم شر؟ محبة أم لابنها مثلا وممارسة الجنس معه ، هل تندرج في إطارالمحبة والخيرأم في إطارالشر؟ فإن كانت خيرا ومحبة فما الذي يمنع أماً من أن تمارسها مع ابنها ، أو أباً من أن يمارسها مع ابنته ؟!
توقفت لمى عن البكاء وإن كانت تنشغ بين لحظة وأخرى ..
- آه كيف أنت الآن ؟
- أشكرك.. لقد خففت قصصك وفهمك الكثير من معاناتي. وقد أتمكن بمساعدتك من التخلص منها كلها، وأضع حداً لهذه العلاقة الشاذة مع أبي التي ينبذها المجتمع .
- سأحاول قدراستطاعتي ، وآمل أن يكون أبوك على استعداد لأن يتوقف عن هذه الممارسة معك
- أعتقد أنه سيتوقف إذا ما ووجه بإصرار مني . فهو يعاني من المسألة أيضا وربما أكثر منّي ، ثم إنه في الستينيات من عمره الآن ولم تعد الرغبة فيّ تلح عليه كما من قبل !
- هذا جيد !
- وماذا الآن . الساعة تقترب من الثامنة مساء ، هل تتأخرين عن البيت ليلا في العادة ؟
- لا لا أتأخر، قد أبقى حتى حدود االعاشرة أو أكثر قليلا ..لكن في بعض الأحيان أنام عند صديقة لي بعد أن أخبر أبي. هذا اليوم حين اتصلت بك، كان لدي رغبة أن أنام عندك إذا توافق ، فأخبرت أبي إذا لم أعد أنني سأنام عند صديقتي.
- أوه ! يبدو أنك خططت لهذا اليوم !
- تقريبا!
- أنا أسهر الليل كله وأنام في حدود السادسة صباحا ، هذا إذا نجحت في مراودة النعاس ! وإذا لم أنجح ،قد لا أنام إلا في ساعة غير محددة خلال النهار ، ولفترة لا تزيد على أربع ساعات .
- كم يسرني أن أسهر معك الليل كله .
- آمل أن لا تملًي .. على أية حال يمكنك أن تنامي إذا شعرت بالنعاس.
- لن أمل . أنا واثقة من ذلك .
- لا بد من عشاء! تغديت بضع لقيمات فقط .
- سأدعوك إن أحببت لنتعشى في مطعم !
- لا أحب الجلوس طويلا في المطاعم ، ونحن نريد أن نتحدث أيضا لا أن نأكل فقط .. سنعمل هنا عشاء أفضل من أي مطعم .
- ماذا لديك ؟
- لدي لحوم منوعة من غنم ودجاج وسمك . ماذا تحبين ؟
- ما تريده أنت .
- ما رأيك بشواء من الدجاج؟
- ممكن!
- هيّا إلى المطبخ ! يفضل أن تغسلي وجهك لتمحي آثار البكاء.
- سأفعل .
- اسمح لي أن أشكرك من أعماق قلبي لأنك تقبلت وضعي وقدرت ظروفي ولم تغيّر نظرتك إليّ بعد أن عرفتها.
- يا عزيزتي خبرتي في الحياة وحتى في المعرفة والعلاقات الاجتماعية وغيرها تتيح لي أن أحكم على أي مسألة بعقلي وليس بعواطفي إن أردت !
وشرعت في تقبيل محمود امتناناً له.
******




(23) شواء جدائلي!
شرع محمود في فرم بصل وثوم وفلفل أخضر حار بشكل ناعم .. رأسان كبيران من البصل وخمسة فصوص ثوم وقرنا فلفل. وضع الخلطة في وعاء مجوّف . وراح يضيف إليها تشكيلة عجيبة من البهارات : شطة . فلفل أسود . كاري. قرفة ناعمة. قرنفل. مطحون . كمون. بهارات مشكلة . سمّاق . زنجبيل. مزج الخلطة بملعقة .. أخرج الفروج من البراد وشرع في تقطيعه .. سأل لمى قبل أن يضيف الفروج إلى الخلطة :
- عذرا لم أسألك إن كنت تحبين البهارات .
- أحبها كثيرا .. ولولا ذلك لأخبرتك ..
أضاف الفروج المقطع إلى الخلطة ، وسكب فوقه قليلا من زيت الذرة،وشرع في خلطه ودعكه بيديه وهو يقول :
- في العادة أترك الفروج أو اللحوم أو السمك مكمورا بشكل جيد لليوم التالي ، كي يتشرب التوابل .. هذا اليوم لن ننتظر..
غطّى الفروج وشرع في عمل سلطة . بندورة خيار خس بقدونس بصل ثوم .. ساعدته لمى فقط في تقشير الثوم .. أضاف إليها معظم البهارات السابقة والنعنع المجفف. إضافة إلى الليمون وزيت الزيتون .. حركها جيدا وتركها ..
- سنسلق بعض الخضار!
قال ذلك وهو يضع ماء في طنجرة ويضعها على نارالغاز .. أعطى لمى ثلاث حبات بطاطا لتقشيرها ، وأخرج من البراد بضع جزرات... شرعا في التقشير معا مستخدمين قشارتين . قام بتقطيع الجزر ووضعه في الطنجرة .. ألحقه بالبطاطا .. أخرج كوسا وباذنجان وقرنبيط من البراد . شرعت لمى في غسل هذه الخضار فيما هو يقطع ويضع في الطنجرة التي امتلأت ..
- الآن إلى الشواء!
ذهب إلى الشرفة حيث كانون الشواء . ملأ وعاء مثقبّاً بالفحم لإشعاله . وعاد إلى المطبخ ليضعه على الغاز .
شرعا في تحضير المائدة بالصحون والشوك والسكاكين والملاعق والكؤوس . واضعين طبق السلطة أيضا .
- للأسف لا يوجد خمر . يوجد برتقال للعصير .
- إذا تريد سأذهب لابتياع بيرة أو أي شيئ آخر .
- لا لا أريد , اعتدت تناول غدائي مع عصير البرتقال بعد أن ساءت الأحوال . هل تريدين أنت ؟
- ممكن فيما بعد ..
أخرج برتقالا من البراد وقدم عصارة إلى لمى طالبا إليها أن تعصره . ليتابع هو تجهيز الشواء والفحم .
أخرج من خزانة في المطبخ شبكا حديديا وشرع في فرد قطع الفروج عليه .
اشتعل الفحم . ألقاه في الكانون واضعا عليه كمية أخرى من الفحم . أضاف أيضا قليلا من الكحول الطبي على الفحم ليشتعل بسرعة .. تذكر بعد ذلك أن لديه نفطاً يستخدمه في الرسم !
فرغت لمى من العصير ووضعته في ابريق زجاجي. تذوقت الخضار لتجد أنها أوشكت على الإستواء .. خففت النارعلى الآخر ! توقفت للحظات تفكر في أمر ما .. تنبه محمود لها ..
- فيه شي ؟
- أفكر في كأس خمر .. ليس من المعقول أن نمضي الليل على عصير البرتقال .. ثم إنني أريد أن أحتفل معك ..
- ليكن سنفكر في الأمر بعد العشاء طالما أننا شرعنا فيه .
فرد محمود الفحم في الكانون ووضع شبك الفروج عليه .
******
" لم آكل فرّوجا مشوياً أطيب من هذا في حياتي " هتفت لمى .
" صحة " قال محمود !
" والسلطة ينطبق عليها الوصف نفسه "
" صحتين " قال محمود وتابع " للأسف أنا شخصيا لم أعد أشعر بالنكهة نفسها بعد انتشار الزراعة في البيوت البلاستيكية .. أيام زمان كانت الخضار أشهى وألذ وخاصة الخيار والبندورة . كان صحن السلطة هو المفضل لدي ، ولم يعد كذلك اليوم رغم أنني أحاول أن أجعل له نكهة خاصة بما أضيف إليه من توابل . المزارعون يسمدون التربة بمواد كيماوية بعضها ضار بالصحة ويسبب السرطان .. معظم مأكولاتنا أصبحت صناعية وضارة . المأكولات الطبيعية أصبحت شبه معدومة . وبتنا نتخوف من السرطان أن يبغتنا في يوم ما !"
- نفَسَ الطاهي هو الذي يمنح الطهي نكهته الفريدة ! حتى الخضار المسلوقة عندك نكهتها تختلف!
- المسألة تتعلق بطريقة الطهي وليس بنفس الطاهي كما أظن ! فهناك طاه يخبص عالماشي كما يشاء، يريد أن يخلص من الطبخة في أسرع وقت ، وهناك آخر يعمل كل شيء بعناية واهتمام ، بما في ذلك درجة حرارة النار، وهذا ما يطلق عليه نفس الطاهي !!
- صحيح !
رفع محمود كأس العصير ليقرعه بكأس لمى وهو يهتف " بصحتك " رفعت كأسها بدورها وقرعته بكأسه " صحة " !
- كيف أنت الآن ؟
- بوجودك أنا سعيدة جداً.
- أرجو أن تبقي كذلك .. الحياة زائلة ومصيرنا إلى الموت .. قد لا يخلو انسان من مشكلة ما ستهزمه إن لم يتصدى لها .. حتى أنا الذي أرى في الموت مرحلة إلى حياة طاقوية أخرى ، يزعجني أن أتوقع مواجهة هذه اللحظة إذا نفدت نقودي، ولم يعد لدي دخل يكفيني لحياة مستقرة ولو بالحدود الدنيا ! فأفكر في الانتحار .
- لن أدع نقودك تنفد طالما أنا على قيد الحياة .
- أشكرك ! لا أعرف إلى أي حد أنت ثرية ؟
- لست ثرية بمعنى الثراء الفاحش . لكن لدي نقود وضعها أبي في البنك باسمي ، ربما ليكفر عن ذنوبه وخاصة تجاهي.
- وهل هو ثري؟
- ورث أرضا باعها بمئات الآلاف . بنى عمارة من أربعة طوابق . يؤجرمعظم بيوتها .. وأقام بعض المتاجر لبيع مواد البناء والأدوات الكهربائية والالكترونية وغيرها، كما لديه مزرعة في الأغوار. ثم بنى بيتا خاصا لنا .. دخله ممتاز .
- هل هو متعلم ؟
- المرحلة الاعدادية فقط .
زم محمود شفتيه وهو يحرك رأسه أعلى وأسفل متوقعا أن يكون عدم إكمال تعليم الأب أحد الأسباب التي دفعته لممارسة الجنس مع ابنته .
أدركت لمى معنى حركته ومع ذلك تحاشت الحديث في المسألة وسألته :
- ماذا تقصد بقولك ، الموت مرحلة إلى حياة طاقوية ؟!
- مرحلة إلى جوهر عملية الخلق التي بدأنا بها ومنها .
- وما هي ؟
- الوعي والحكمة الممثلان بالطاقة الخالقة!
- كيف ؟
- المسألة لا يعرف تفاصيلها إلا الخالق نفسه . لكن يمكن القول إن الإنسان بعد الموت يتحلل جسده إلى العناصر الأولية التي خلق منها .. هذه العناصر تندمج بتحللها مع التربة لتغنيها. أي أنها تصبح سمادا للأرض ولولا ذلك لما استمرت الحياة ، بل لفنيت ، لأن الإنسان يخلق من التراب أي من مواد الأرض المختلفة ، كما أنه يستغل ثروات الأرض المختلفة ، ولو لم يكن هناك موت وتلف لما يصنعه الانسان ويستهلكه من ثروات الأرض ، لأصبحت الأرض فقيرة جدا بموادها ومواردها وربما يؤدي الأمر إلى موتها .. وموت الأرض يؤدي إلى موت الإنسان الذي لن يعرف أين سيعيش وكيف، في حال فقر الأرض أو موتها ، فالموت في هذه الحالة ضرورة لإغناء ثروات الأرض وتجديدها باستمرار . وبما أنه لا يوجد مادة في الوجود إلى وينتج عنها طاقة كما لا يوجد طاقة إلا وينتج عنها مادة ، فإن اختلاط جسد الميت بمواد التراب يعني الإختلاط بمادة وطاقة الكون المتصلة القائمة بعملية الخلق كلها ، التي ينتج عنها الخلق والوعي والحكمة !!
الوعي والحكمة هما جوهر المادة والطاقة . ولو لم يكن هناك وعي وحكمة لما كان هناك خلق كما نراه وكما هو عليه .
- الآن فهمت مقالك بشكل أفضل عن الطاقة الكونية !
- المؤسف أن الإنسان لا يعرف حتى اليوم الغاية من وجوده ! فهو ما يزال ناقص الوعي وبالتالي ناقص الحكمة أو شبه معدوم منها.
- وهل سيأتي يوم يعرف ذلك ؟
- أكيد . لكن ثمة أمم ستنقرض قبل ذلك !
تخيلي لو لم يكن هناك موت منذ بدء عملية الخلق فكم سيكون عدد البشر والحيوانات والنباتات، وأين ستعيش كل هذه الكائنات وكيف ؟
- قد يحتاجون إلى عشر كواكب أخرى !
- وإذا لم يكن هناك كواكب أخرى صالحة للعيش ؟
- يكون الموت على كوكب الأرض ضرورة لاستمرار الحياة !
- أحسنتِ. تخيلي كم المعادن والمواد التي يصنع منها الانسان ما يحتاجه وخاصة ما يصنعه للبناء والحروب وغيرهما. الحروب تحتاج دبابات وشاحنات وطائرات وسفن وطوربيدات وصواريخ وأسلحة مختلفة . إذا ما استمر الحال على ما هو عليه سينضب مخزون الأرض من الثروات شيئا فشيئا ، وتصبح عملية الخلق فقيرة ، فيأكل البشر ثمارا ولحوما ناقصة الغذاء ، وبالتالي سيجد البشر أنفسهم أمام خلق مشوه لهم . وآمل أن يصحوا على أنفسهم قبل أن تحدث الكارثة التي قد تفني الحياة ، لأن ما يخرج من باطن الأرض قد يفوق كثيرا ما يعود إليها ليغذيها. إنهم الآن يتحدثون عن ثقب الاوزون والمناخ ، ولا يعرفون أنهم قد يجدون ذات زمن أجساد أحفادهم هشة ، ينقصها الحديد والكلس والكربون والكبريت والفسفور وغيرها..
- هل يعني هذا أنه على البشر أن يتعاملوا في المستقبل مع الطبيعة حسب منهج علمي قدر الامكان ، حتى لا تفقد توازنها وتدمر ؟
- أكيد ..إنهم يغترفون الآن من خيراتها دون أي حساب للمستقبل .. لا أحد يعرف ما الذي سيحدث حين يصبح باطن الأرض خاليا من النفط والغازوالحديد والكلس وغيرذلك على سبيل المثال .. ربما تحدث زلازل أو انهيارات جوفية كبيرة تؤثر على بعض المناطق في االكوكب.
- وإذا تنبه البشر لذلك ، هل سيتوقفون عن انتاج معدات الحروب مثلا ؟
- يفترض ذلك ، أو الحد منها على الأقل . والمسألة تتعلق بكل ما يستهلكه الإنسان من الأرض، وليس ما ينفع معدات الحروب فقط . وتبقى مسألة الخوف من الموت في حياة البشرقائمة ومتعددة الأسباب. المؤمنون وغير المؤمنين يكرهونه . لم يرتبط الموت بحياة أخروية راغدة في جنة مع حورعين طاغيات الجمال، وإلا لما كره إلى هذا الحد ..لا أحد يتذكر الجنة عند الموت إلا بالتمنيات للميت بأن يكون من الخالدين فيها . حتى أنا الذي حاولت قدر الإمكان في فلسفتي أن أرى في الموت ضرورة لتجدد الحياة واستمرارها ، كما أسلفت ، أخاف من الموت ، ولا أستطيع كبح حزني لرحيل إنسان ، رغم أنني أوغلت فكريا في جعل الطاقة الناتجة عن عناصر الجسد المتحلل تتحد مع الطاقة الخالقة لتغنيها وتقوم بدورها في عملية الخلق والخلود إلى الأبد في الذات الخالقة .. وهذا أعظم ما يطمح إليه أي مؤمن متصوف ، أي أن يكون جزءا من الذات الخالقة نفسها باتحاده معها .. فلماذا كل هذا الخوف من الموت والحزن على الميت ؟ رغم أن الموت حق في الفكر الديني ؟ كثيرا ما أنعى راحلا بأن أتمنى له خلودا جميلا في المطلق الأزلي الذي لا يموت ، أي في الألوهة !
- قرأت لك بعض المقالات سابقا تعود فيها إلى أبحاث تاريخية حول نشأة الاسلام ، ترى أن الاسلام نشأ كمذهب مسيحي لتطوير الديانة المسيحية وأن الكعبة كانت في البتراء، وأن شخصية النبي محمد التي وصلت إلينا ليست الشخصية التاريخية ، وأن معاوية كان مسيحيا وكذلك عبد الملك بن مروان وحتى الأمويين، وأن النص القرآني الأول كتب بالآرامية ، وحين تمت ترجمته إلى العربية جرى فهم خطأ للغة الآرمية فترجم العنب الأبيض على أنه حورعين !!
- صحيح . هناك أبحاث تاريخية كثيرة معظمها لمستشرقين ترى في نشأة الاسلام ما لا نراه نحن اليوم . وهذه الأبحاث لا يمكن التأكد من صحة ما يرد فيها إلا بالمزيد من البحث والتقصي .. أنا أتعامل مع الحاضر بغض النظر عما تقوله الأبحاث ، وأتعامل معه بمنظور فكري مختلف تماما عن الفهم التاريخي مهما كان .فأنا لا أبحث عن عقيدة عشتارولا عن عقيدة المسيح ومحمد. أنا أبحث عن الألوهة لأعرف ماهيتها وجوهرها إن كانت موجودة. فأنا أشك في أن القائم بالخلق المتجلي في المادة والطاقة يعتبر نفسه إلها .. وما تأليهه إلا نتاج للفكر البشري الذي أنتجه ، وإن كان الفكر نتاج الطاقة القائمة بالخلق كونها مصدره .
******
فرغا من تناول الطعام .. نهضت لمى وشرعت في جمع الصحون وأخذها إلى المطبخ . نهض لمساعدتها . أصرت عليه أن يبقى جالسا ..
- يكفي أنك طبخت ! أنا علي التنظيف والجلي.
- كما تشائين مع أننا طبخنا معاً . سأشاهد الأخبار إلى أن تنتهي .
لم يكن هناك ما يسرعلى الاطلاق .. أخبارعن الحروب والقتل والإرهاب والجوع والخراب في سورية وليبيا واليمن وفلسطين وأماكن أخرى... وأخبار عن االمهجرين الذين تبتلعهم مياه المتوسط بالمئات .. أغلق التلفاز حتى لا يصاب بالجلطة وهو يلقي شتيمة على العالم الذي يتفرج دون أن يفعل شيئا مجدياً ، وراح ينتظر لمى إلى أن تفرغ من الجلي، مفكراً في أمرها ، دون أن يراوده أي شك في أن تقربها منه يمكن أن يكون لغايات خبيثة أو عدوانية .
*****








(24) لغة الله !
فرغت لمى من الجلي . وقفت في مواجهة محمود في الصالون . بدت وكأنها تفكر في أمر ما .
تساءل :
- فيه شي؟
- لا أظن أننا سنمضي االسهرة على الشاي والقهوة بعد عصير البرتقال ! وخاصة في هذه الليلة التاريخية !
- يبدو أنك تفكرين في الخمر.
- أجل .. لو سمحت سأذهب لأبتاع بعض الخمور.
- ممكن ..سأذهب معك .
- لا داع لذلك !
- الدنيا ليل !
- ولا يهمك أنا أخت ارجال. بعدين معي سيارة.
لم تتأخر أكثر من ربع ساعة لتعود بزجاجة وسكي فاخر إضافة إلى زجاجة عرق وزجاجة نبيذ فاخرين أيضا ، وكم من علب البيرة، وكغم من الموالح المختلفة ، وبعض الثلج.
- ما هذا يا مجنونة ؟
- ألن نحتفل ؟
- كما تشائين !
- ماذا سنشرب ؟
- ما ذا تفضلين ؟
- وسكي!
- ليكن !
أحضر محمود كأسين . فتح زجاجة الوسكي وسكب فيهما ، ثم أضاف الثلج ، فيما كانت لمى تضع مقدارا من الموالح في صحنين صغيرين ، وتجلس إلى جانبه .
رفعت كأسها لتشرب نخب محمود الذي رفع بدوره كأسه ، وهو يحاول أن يجعله منخفضا عن كأسها كدليل على احترامها ، غير أنها أدركت قصده وجعلت كأسها أدنى من كأسه وهي تقرعه .
أدرك محمود بدوره خبرتها في المجاملات . أخذا جرعتين من كأسيهما . مد محمود يده على الكنبة خلف كتفيها ، سارعت هي إلى القاء رأسها عليها وهي تتنهد بعمق وتهتف:
- لم أشعر بهذه الطمأنينة في حياتي .
ولم يجد محمود إلا أن يشكرها .
- أشكرك!
- وأنت ؟ هل أنت مطمئن ؟
- أنا انسان قلق وإن كنت أشعر بالطمأنينة معك .
- ما الذي يقلقك ؟
- مسائل كثيرة .. أهمها حاليا لوحاتي المبروزة التي وضعتها تحت الأسرة في بيت دمشق، لعلها تنجو إذا ما سقطت قذيفة طائشة على البيت .
- وماذا عنها الآن ألا تسأل عنها؟
- لا أعرف لأنني لا أسأل .. تركت الأمر لابنتي. سكن البيت أكثر من عائلة ولا أعرف ماذا جرى لمحتوياته . ربما شطفوا الارض بالماء ونزعوا اللوحات ،وربما سلبوا بعضها .. على أية حال مصيبتي تهون أمام مصائب ملايين السوريين .. أحاول أن أتجاهل الأمر كلما تذكرته ..
- ألن تذهب لترى إذا ما تغيرت الأحوال ؟
- أشك في أنها ستتغيرعلى المدى المنظور ، بل تسيرمن سيء إلى أسوأ ! لننس الموضوع ..ونطرق مسألة أخرى .. هل تحبين الموسيقى ؟
- أحبها كثيرا ، لكني أريد التحدث إليك والإستماع إلى ما تقوله ، قد نسمع في الأيام القادمة .
- عن ماذا تريدينني أن أحدثك ؟
- أفكر في مصيري بعد الموت حسب تحليلك !
- إلى ماذا توصلت ؟
- أريد أن أعرف منك !
- ألم تعرفي بعد ؟
- حسب ما فهمت من فلسفتك أنه لن يكون هناك حساب وعقاب في الآخرة .
- أكيد !
وهل ينطبق هذا على جميع البشر؟ الصالحين والطالحين ؟
- أجل !
- لماذا ؟
- لأنه ليس هناك من يحاسب !
- وماذا عن القائم بالخلق إن كان الوهة ما ؟
- هو يسمو فوق الحساب والعقاب وهو في حاجة إلى مادة أجساد الجميع لديمومة الحياة .
- وإذا كان هناك إله حسب المفاهيم الدينية ولنأخذ الاسلام على سبيل المثال فهل سيكون لديه جنة للمؤمنين ونار للخاطئين والكافرين ؟
- هذه اجتهادات العقل البشري في فهم الدين وليست شرائع إلهية .
- ألا يمكن أن تكون بعض هذه الاجتهادات صحيحة ، خاصة وأنها لا تتم دون طاقة الخالق؟
- تطرقنا للأمر. الخالق موجود في الخلق وخاصة الانسان كطاقة محايدة يوظفها الانسان ليفعل ما يريد، إن كان خيرا وإن كان شراً، وإن كان فكرا أو كان لهوا ، والخالق ليس مسؤولا عن ذلك . ولو كان في مقدوره أن يجعل البشر مثلا لا يفعلون إلا ما هو خير، ولا يجتهدون إلا بما هو حقيقة ومنطق لفعل . ألم أضرب مثلا بالحافلة والسائق والبنزين ؟! إن المسألة لا تتعدى حدود الاجتهاد حسب زمنها ، وكل المؤشرات تقود إلى ذلك ، فهل يعقل أن لا يسمو الخالق العظيم فوق الحساب والعقاب؟
صمتت لمى للحظات لتسأل بعد ذلك:
- طيب ماذا عن اللغة ، هل يتحدث الخالق لغة ؟
- لو أننا سألنا أي جماعة بشرية تتبع معتقدا أو دينا ما ، هل يتكلم الخالق لغة ما ، لأجابت كل طائفة بأن الخالق يتكلم لغتها . ولو أن سومريا حضر في زمننا وسألناه عما إذا كان إنكي وإنانا كأبرز إلهين سومريين يتحدثان اللغة السومرية ؟ لأجاب بالإيجاب مؤكدا ذلك ، والأمر نفسه ينطبق على البابلي أو الكلداني ولغة الربة عشتارمثلا ، وسينبري العبراني ليقول لنا إن يهوة خاطب آدم بالعبرية وأتاح له أن يطلق أسماء على الحيوانات. والمسيحي سيقول لنا بل باللغة الآرامية لغة الرب يسوع المسيح ، وقد يشهر المسلم سيفه في وجوهنا ليقول لنا " وعلم آدم الأسماء كلها " بالعربية، وهي لغة الله ! لنخلص إلى نتيجة مفادها أن الله يتكلم آلاف اللغات . وما قد يتبادر إلى الذهن هو سؤال يطرحه المؤمنون دائما ، وهل يصعب على خالق الكون والكائنات أن يعرف جميع اللغات أو حتى أن يخترعها ؟! يمكن تقبل هذا الكلام لو أن الخالق فعلا كما اعتقده العقل البشري قادر على أن يقول للأشياء كوني فتكون . غير أن واقع الحال يشير إلى غير ذلك . فعملية الخلق قائمة منذ قرابة أربعة عشر مليار عام، ولم يخلق الإنسان إلا منذ بضعة آلاف معدودة من السنين ، وأن الخلية الحية نفسها لم توجد إلا منذ قرابة خمسمائة مليون عام . وهذا يعني أن الخالق مهما كان جوهره ، ومهما كانت ماهيته أو طبيعته ، أمضى أكثر من ثلاثة عشر مليارعام في خلق البيئة المناسبة للحياة، وأمضى أكثر من ذلك بكثير جدا حتى خلق الكائنات الحية ليخلق أخيرا الإنسان أرقى ما خلقه . نستخلص من هذه المقدمات أن عملية الخلق لم تنته بخلق الإنسان وأنها ما تزال قائمة ومستمرة إلى ما لا نهاية ، وأنه ليس لدى الخالق وقت لتعلم لغات البشرية التي لم تتم إلا بفعل طاقته السارية في الخلق والكون . ولو أننا تناولنا الأمر من ناحية فلسفية حسب ما أشرنا إليه لوجدنا أن كل ما يخترعه الإنسان بل وينتجه هو من الخالق وله ، رغم أنه اجتهادات للعقل البشري المستقل نسبيا عنه ، فوجوده لا ينفصل عن وجودنا ، بل إن وجودنا مرهون بوجوده . وبناء على هذا يمكن ولو مجازيا اعتبار كل اللغات لغته كما أن كل الوجود وجوده . وهذا لا يعني أن هذه اللغات ستستمر كلها إلى الأبد .. مستقبل البشرية قد ينتهي إلى لغة واحدة أو لغات محدودة جدا ، تتمثل في الأشهر منها . المسألة تتعلق بتطور الخلق ، واللغات غير منفصلة عن هذا التطور.
- ويظل السؤال قائما، أليس لدى الخالق لغته الخاصة التي تختلف عن كل اللغات التي أبدعها مخلوقه الإنسان ؟ وإلا كيف يبدع الخلق ؟ هل يبدعه دون لغة ؟ وهل يمكن ابداع خلق دون لغة ما ؟
- تعالي لنتأمل هذه المكتشفات العلمية التي ترد في الكثير من المواقع على شبكة النت :
الخلية : هي وحدة بناء الأحياء من نبات أو حيوان أو إنسان . صغيرة الحجم ولا ترى بالعين المجردة .
- عدد الخلايا في جسم الإنسان : 60 تريليون خلية .
- عدد الخلايا العصبية 28 بليون خلية .
- خلايا الشم في الأنف 100 مليون خلية .
- عدد العظام في الجسم 206
- العضلات 656
*الخلايا العصبية في جسم الإنسان لا تقبل التغيير !
* نواة الخلية تحمل في داخلها خمسة آلاف مليون معلومة . اكتشف العلم منها حتى اليوم 800 معلومة فقط قابلة للتوريث!
من يتخيل أن هذه الخلية التي لا ترى بالعين المجردة تحمل في نواتها هذا الرقم الهائل من المعلومات ، التي يبقى الإنسان عاجزا أمامها !
السؤال الذي يطرح نفسه هل دونت هذه المعلومات الهائلة في نواة الخلية وفي الجينات الوراثية، دون لغة وأرقام ورموز؟! ليس في الإمكان القول إنها دونت دون ذلك، ولو أننا تأملنا تفاعلات وعمل الخلية تحت المجهر لوجدنا أنها تتحرك وتتفاعل حسب معادلات دقيقة ورموز معينة منتظمة في غاية الدقة ، لتقوم بوظيفتها على أكمل وجه ، محيلة الهيولى إلى خلق ، ولأمكننا القول إننا أمام لغة الخالق ، أم اللغات كلها ، التي لن يتوصل العقل البشري إلى معرفتها إلا بعد عناء وبحث طويلين ، وقد لا يتوصل ، طالما أنه لم يستعمل حتى اليوم إلا القليل جدا من القدرات العقلية التي منحها الخالق له . يروى عن ألبرت أينشتاين أنه لم يوظف من طاقاته العقلية أكثر من 6 إلى 10% ! هذا ما اتفق على أنه أكبر علماء العصر، فكيف هي الحال مع الإنسان العادي ، متى يعرف نفسه، ويدرك أن الغاية من وجوده التي لا غاية غيرها للخالق ، هي المساهمة في عملية الخلق ، وتحقيق قيم الخير والمحبة والعدل والجمال ، وبناء الحضارة الإنسانية ، الحضارة التي يطمح إليها الخالق ، والتي لن تبلغ عملية الخلق كمالا ما إلا بها .
- وماذا عن العقل ، فإذا كانت لغة الخالق هي أم اللغات كلها ، فهل عقله هو أب العقول كلها ؟
- أجل يا عزيزتي . عقل الخالق هو العقل الكوني ( الكلي ) الذي جاءت منه جميع العقول وتتصل به . ويشمل ثلاثة أقسام :
* العقل الكوني ينتج عنه الوعي الكوني والخلق الكوني . وهو المتعلق بالألوهة بمعناها المنزه الأسمى، حتى نتجاوز ولو مجازا مسألة المادة والطاقة. البشرية تحب تعبير الله والألوهة والخالق كونها غيبية وغير مشخصة !
*العقل البشري . ينتج عنه الوعي البشري بمجمله ، وما يحققه في مضمار الصناعة والزراعة والثقافة والعلوم والحضارة بشكل عام .
* العقل الشخصي . هو عقل الفرد في المجتمع . ينتج عنه وعي الشخص نفسه ، وما يحققه في حياته !
وكل هذه العقول متصلة طاقويا بالعقل الكوني عبرالطاقة المنتشرة في الكون والهالة (الطاقوية) المحيطة بجسم الإنسان ، لتتكامل عملية الخلق وتحقق رقيها وغاياتها . فالحضارة لا تبنى دون تضافر الجهود والعقول وتطور الوعي .. وما كل هؤلاء بما في ذلك الأجرام والكواكب والمجرات وكل الكائنات إلّا تجسيداً لكينونة واحدة أطلق عليها البشر اسم الخالق ، أو الله ، أو الألوهة !
- ولماذا كل هذا التنوع والاختلاف في العقول وما ينجم عنها من وعي ؟
- في هذا الاختلاف يكمن سر التطور . فلا يعقل أن يفكر جميع البشر بشكل متشابه وكأنهم خلية نحل لا تجيد غير صنع العسل !
- هل هذا يعني أن اتفاق جماعة بشرية على فكر محدد يعتبرتخلًفا في مرحلة ما من عمر هذه الجماعة .
- أكيد ، فما يمكن أن يعتبر تقدما في مرحلة ما ، يمكن أن يعتبر تخلفا في مرحلة لاحقة ، ولو في بعض جوانبه . وهنا تكمن مشكلة العقل الديني الذي يريد أن يبقى في الماضي ، وينظر إلى الحاضر بثقافة الماضي . من هنا تأتي أهمية فكر ابن عربي حين يعتبر الإلحاد إيماناً . لأنه مع العقل المتحول الذي ينشده الخالق لبلوغ كمال ما ، أو شكل أرقى من الحضارة الإنسانية . الخالق خلق الإنسان من ذاته، أو من روحه كما يرى بعض الحكماء، ومنحه عقلا من عقله، عقلا مطلق الحرية لم تفرض عليه وظيفة محددة . عقلأ يتمتع بطاقة خارقة قادرة على أن تصنع المعجزات وتحقق غايات الخالق من عملية الخلق برمتها.
- ومتى ستتحقق هذه الغايات وتنشأ حضارة انسانية ؟
- التحقق بشكل مطلق قد يكون مستحيلا . بشكل نسبي ممكن خلال بضعة قرون أو بضعة آلاف من السنين .
- كيف تتوقع أن يكون شكل الحضارة .
- أعتقد أنه سيقضى على الفقر ويحد من الثراء الفاحش وتسود المحبة بين البشر حين يدركون جميعا أنهم من ذات الخالق وأن الخالق فيهم .
- وما مستقبل الدين وما يتعلق بالمسائل الروحية ؟
أعتقد أن العلاقة بين الإنسان والخالق ستصبح علاقة شخصية كل إنسان سيتواصل مع الوجود بطريقته الخاصة ومتى يريد . ويكون التواصل للإحساس بالوجود والقائم به في النفس الانسانية. العبادات الجماعية كالصلوات وغيرها يمكن أن تنقرض لوظيفيتها.. لأنها مجرد تمثيل وظيفي سيء شبه معدوم الإحساس . يمكن أن تبقى في حال تطورها وشعور الإنسان العميق بأن وجوده في مسجد هو وجود في الألوهة نفسها ..
- وماذا عن الأسرة ؟
- أعتقد أن المؤسسة الأسرية ستظل قائمة بحدود ما ، لكن مع تحديد النسل أو حتى عدمه ، وفي هذه الحال لا بد أن يلجأ المجتمع إلى وسائل مختلفة للنسل حتى لا ينقرض البشر!
- هل سيكون هناك نسل صناعي مثلا ؟
- أجل وبطرق مختلفة . كأن يصبح حمل امرأة ما عملا مؤسساتيا تتقاضى عليه المرأة راتبا جيدا ! وقد يكون الحيوان المنوي الذي يستخدم في التخصيب مدروسا بعناية ومستوفيا للشروط الجيدة .. وقد يكون هناك رجال مختارون يؤدون هذا العمل مقابل راتب لهم !
و قد تتغير شروط الزواج والحب ، كأن يكون هناك زواج مدني حر . يمكن الإنفصال عنه متى شاء المرء. والجنس سيكون متاحا للجميع ذكورا وإناثا .. وقد تخف أو تقتل مسائل الغيرة عند البشر .
- وماذا عن جنس المحارم وكل جنس ينبذه المجتمع ؟
- أعتقد أنه سينتفي بقدر كبير من المجتمعات حين يكون الجنس متاحا للجميع وبيسر . وقد لا يخلو الأمر من فتاة تعشق أباها أو العكس ، أو أم تعشق ابنها أو العكس أيضا .. أو رجل يغتصب طفلة ، وما إلى ذلك. ومسألة جنس المحارم قد لا تكون جريمة أو عاراً لدى فاعلها، أو حتى لدى المجتمع ، لكنها قد تظل غير محموده ، كما أنها لا تشجع على الانجاب نظرا للتشابه أو التقارب في الجينات الوراثية مما ينتج عنه أمراض وتشوهات .. ومسألة زواج الأقارب قد تنقطع نهائياً.
- يحيرني عقل الانسان هل له مكان محدد في الدماغ !
- للأسف لم يكتشف العلم مكانا محددا خاصا بالعقل في الدماغ .، وإن توقع بعض العلماء أن يكون في القشرة الدماغية. بعضهم اعتبر العقل ينتج عن القلب ، وآخرون عن الدماغ ، وغيرهم عن القلب والدماغ والأعصاب! دون أن يكون هناك مكان محدد بالضبط للعقل في هذه الأعضاء. العقل هو أساس الوجود كله ، ولا يستطيع أحد أن يحدد مكان عقل القائم بالخلق .أنا شخصيا أظن أنه في الطاقة نفسها. وأعتقد أن الدماغ البشري ينطوي على العقل (كوعي) بإنتاجه له ، وأن الوعي ينطوي على الدماغ ( كمادة ) بإدراكه له .
- وماذا عن القلب والأعصاب؟
- يمكن أن يكون للقلب والأعصاب دور ، لكن ليس بقدر دور الدماغ.
- أليس هناك فرق بين العقل والوعي؟
- هما كالمادة والطاقة متلازمان . الوعي نتاج العقل ..وهو يتطور بقدر ما يكتسب الإنسان من معرفة وتجارب في الحياة . وهنا تكمن مأساة أمتنا ، أي في عقلها ووعيها ، فهي لم توظف عقلها على الوجه الأكمل لتحصل على حالة متطورة من الوعي .. نحن ما نزال نعيش في وعي متفاوت عمره أكثرمن ثلاثة آلاف عام ! لا نريد أن نتعب عقولنا في التفكير لإنتاج وعي متقدم ينتمي إلى العصر الذي نعيش فيه ، وينتج ثقافة معاصرة تنتمي إلى المستقبل.
- تستوقفني مسألة اتصال العقول بالعقل الكوني! فكيف يتم ذلك .
- أعتقد أن الأمر يتم عبر الطاقة المحيطة بجسم الانسان والمتصلة بالطاقة المنتشرة في الكون ، المتصلة بدورها بالعقل الكوني ..
- أنت تركز في مقالاتك وأبحاثك على الغاية من الوجود ، وهي بناء الحضارة الانسانية ، أو الكونية إن شئت . فعلى ماذا تستند لتثبت ذلك ؟
- أستند إلى جمال الوجود . المتمثل في جمال الكون والطبيعة ، وجمال الانسان ، وجمال عملية الخلق كلها .. أقف أحيانا مشدوها أمام جمال وردة. إن من خلق هذا الجمال وهذا الوجود والإنسان العاقل بهذا العقل ، لا بد وأن يكون له غاية ، ومن هو على هذا القدر من العقل والجمال والحكمة ، لا يمكن أن يكون له غاية أخرى غير إقامة حضارة كونية .. ليرى ذاته فيها على الوجه الأكمل أو الأكثر كمالا ، كون الوجود كله لا ينفصل عنه .
******














(25) وقع الأساطير!!
احتست لمى كأسين من الوسكي خلال ما يقرب من ساعة من الزمن دون أن يبدو عليها أي أثر لثمل ، نزعت غطاء رأسها وأسدلت شعرها ، وفكت أزرار قميصها رغم أن الطقس كان معتدلا. حسرت ثوبها إلى ما فوق ركبتيها وهي تثني ساقيها . أخذت جرعة من كأسها وأراحت رأسها ليتكئ قليلا على ذراع محمود .
- يبدو أنني سأحتاج إلى مائة محاضرة منك لأتخلص نهائياً من سحر الأساطير وتأثير الدين علي !
- أية أساطير تقصدين ؟
- أساطير كثيرة ، ربما أكثر من أن تحصى .
- أكيد المسألة ليست سهلة على انسان ينشأ على ثقافة معينة ليفاجأ فيما بعد بوجود ثقافة تتعارض مع ثقافته ، بل وليكتشف أن ثقافته خطأ !
- أكثر ما كان يقلقني هو رؤية نفسي معلقة من شعري في جهنم ودماغي يغلي دون أن أموت ! كيف سأحتمل كل هذا العذاب؟
- لماذا لم يخطر ببالك صورة مناقضة للخالق تزيح عن كاهلك هذا القلق؟
- ماذا مثلا ؟
- إنّه رحمن رحيم وستطالك رحمته !
- لم أفكر في الأمر . كنت اعتقد أن اثمي أكبر من أن تطاله رحمة مهما كانت!
- كيف لم تجنّي في هذه الحال !
- أعتقد أنني مجنونة ! أمارس حياة شاذة عن الخلق، وأفكر في عواقبها..
- أعتقد أنك كنت تشكين في قرارة نفسك أو في لا وعيك بوجود مثل هذا العذاب الفظيع ، وإلا لحاولت التوقف عن نمط حياتك ، أو سعيت إلى تغييره !
- أعتقد أن الظروف كانت أقوى مني ! تبدو لي المسألة كمن يدمن على شيء ولا يستطيع التخلّي عنه بسهولة، كالتدخين والكحول والمخدرات . على أية حال لا أنكر وجود صراع في دخيلتي بين الشك واليقين ، الشك هو الذي يمدني بطاقة المقاومة ، للتغلب على ما هو يقين ولو بحدود . وكلما قرأت مقالا لك ازداد تقبلي للشك ، بحيث لم أعد أتخوف منه كما من قبل ! نمت الحالة شيئا فشيئا في دخيلتي ، إلى أن أصبحت أنتظر مقالاتك بفارغ الصبر.
- ومع ذلك لم تتخلصي نهائيا من الغيبيات كلها ..
- أجل، وإن كنت أضع كل شيء الآن تحت المجهر.
- هل وضعت اسطورة نقل عرش بلقيس إلى سليمان تحت هذا المجهر؟
- للأسف تقبلت الأمر ولم أفكر فيه، والأمر نفسه ينطبق على اسطورة شق البحر الأحمر أمام اليهود بضربة من عصا موسى، وغرق المصريين فيه وغير ذلك من الأساطير كغروب الشمس في عين حمئة !
- يا عزيزتي لم يثبت أي وجود تاريخي لا لسليمان ولا لبلقيس ، ولم يرد ذكرهما إلا في التوراة اليهودية ، وهي نص غير تاريخي على الإطلاق ، مجرد أساطير ملفقة . ثم إن إمكانية نقل بلقيس بعرشها من أقصى جنوب شبه جزيرة العرب إلى شمالها مسألة لا يتقبلها لا المنطق ولا العلم ، حتى لو لم يتم النقل بسرعة لحظية ، بل على السفن ومن ثم الإبل والخيول والحمير!
- تقصد بالسرعة اللحظية سرعة الضوء ؟
- السرعة اللحظية حسب فهمي يفترض أن تكون أقوى من سرعة الضوء . أي في اللحظة نفسها التي يتخذ فيها القرار يتم المثول في المكان الآخرالمفترض حتى لوكان على بعد مليار سنة ضوئية ! الباحثون عن العلم في النصوص الدينية لجأوا إلى الفيزياء الكمومية ليثبتوا أنه في الامكان تحويل العرش وبلقيس نفسها إلى طاقة فوتونية ونقلهما وإعادة تشكيلهما أمام سليمان خلال طرفة عين !
- لكن هذا الأمر يتطلب أن يكون الجني الذي قام بالعملية عالماً بالفيزياء الكمومية !
ضحك محمود بملء فيه :
- وتحويل المادة إلى طاقة يحتاج إلى علم هائل ومختبرات ومفاعلات ومولدات ،أي أن الأمر قد يستغرق بضع سنين ! وليس بالسهولة التي يتصورها الجهلة الذي يظنون أن تحويل المادة إلى طاقة يتم بفعل كن فيكون.. يضحكون على البشر ليقنعوهم بوجود العلم في الدين .
- والأهم إعادة تحويل الطاقة إلى مادة وهي هنا بلقيس وعرشها ! يا لهذا الجني الرهيب! لعله إله !
- وجود جن وملائكة من تصورات العقل الإنساني ولم يثبت علميّاً أي وجود لهم. وحتى الخالق نفسه كي يشكل طفلا في رحم أم يحتاج إلى تسعة أشهر وعشرة أيام ، غير الزمن السابق على العملية من تشكل بويضة في جسد الأنثى وحيوانات منوية في جسد الرجل ، ووقت المضاجعة ! أي أن العملية لا تتم لحظيا ، وليس ب كن فيكون ! ويحتاج المولود إلى ثمانية عشر عاما ليكتمل نموه !
- وماذا عن غروب الشمس حيث قيل عن ذي القرنين أنه بلغ مغرب الشمس فوجدها تغرب في عين حمئة !
- ذو القرنين هذا اتفق الباحثون على أنه الإسكندرالمقدوني ، أي أنه كائن بشري اكتسح بجيوشه جزءا من أوروبا وأجزاء كبيرة من آسيا قبل الميلاد ببضعة قرون.. وسار على الأرض ولم يسر في السماء. ثم ألم تقرأي في المدرسة أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس في الوقت نفسه ؟
- بلى قرأت !
- وهل قرأت أن النهار يحدث حين يكون جزء من الأرض في مواجهة الشمس ، وأن الليل يحدث على الجزء نفسه حين يبتعد عن مواجهة الشمس؟
- أكيد قرأت !
- هل قالوا لك في المدرسة أن الشمس تغرب . وأنها تغرب في عين حمئة !
- لا أذكر أنه قيل لي ذلك .
- إذن كيف تصدقين أن الشمس تغرب بغض النظر عن مكان غروبها ؟
- في الحقيقة لم أفكر حينذاك ، مثلي مثل الناس الذين ما زالوا يصدقون ذلك ..
- وصدقت أن رجلا سار حتى بلغ مغربها!
- للأسف صدقنا كل شيء وقد نحتاج إلى معجزات للتخلص مما رسخ في أذهاننا ..
- رغم احترامي للنصوص الدينية مهما كانت كونها اجتهادات للعقل البشري لمعرفة الوجود والغاية منه ، إلا أنني لا أحبذ تقديسها والأخذ بكل ما ورد فيها، بل وينبغي تهذيبها من كل ما يتناقض مع المنطق والعلم. ولا يحتاج المرء إلى معجزات كما أرى ، يحتاج إلى قليل من التفكير ليكتشف أن الخالق ليس على هذا القدرمن الجهل ليقول لنا أن الشمس تغرب في عين حمئة ، وأن هناك من سار حتى بلغ مغربها .. إلى آخر الخرافة .. خالق الكون والكائنات ليس على هذه الدرجة من الجهل .. كل ما في الأمر أنه على الانسان أن يدرك أن هذا نتاج فكره هو ، نتاج اجتهاد عقله ، وليس نتاج عقل الخالق، وإن كان الخالق قد سهل له سبل التفكير ومنحه قدراً من طاقته ليكون بدوره مساهما في عملية الخلق نفسها ، وليس مجرّد متفرّج عليها ، ومطبق للشرائع والقوانين .. لو أن الإنسان بقي متفرجا ومطبقا للشرائع والقوانين لكنا ما نزال نطبق شرائع حمورابي ونعبد الربة عشتار، أو الشمس، أو إيل ، أو اللات والعزّى . تعبير الغروب والشروق هو تعبير مجازي لظاهرة حدوث الليل والنهار. تقدم البشرية ورقيها لن يتما دون الخلاص من الفكر الغيبي بكل أشكاله الدينية وغير الدينية ، والسعي إلى إقامة حضارة إنسانية علمانية ترضي الخالق. حتى حضارة الصواريخ والقنابل النووية كما أرى ليست حضارة إنسانية كما هي الحال مع الفكر الغيبي.. عبرت عن ذلك في مقطع من إحدى مطولاتي الشعرية ، التي أحاور فيها محمود درويش حول أشعاره في ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا "
- أرجوك اسمعني هذا المقطع !
- لا أعرف إن كنت أحفظه بشكل جيد . بدا محمود متفائلا بالمستقبل في قصيدته، بينما كنت أنا في غاية التشاؤم ، حيث قلت :
أي تلة أعدت لميلاد النيروز يا محمود؟
بعد أن غسلوا أيديهم بدماء الحلم
وأعدموا سنابل القمح
على المقصلة
وشنقوا اللوز على سياج الكرم
وصلبوا الزنبق على جدار الحديقة
وشبحوا الأيائل على أسلاك الحدود
وسيرونا حفاة في طريق
الجلجلة!!
فأي رياحين
وأي دخان لازوردي
وأي خبيزة وكنائس
ونساء صارخات
وسنديان وآلهة؟!
فلن ينبثق في المدى فجر
ولن تتألق شمس
ولن يحلق في سمائك قمر
ولن تتمخض شقوق المكان
عن زنبقة
ولن نجد حتى سعف نخيل
نفيء به مواكب جنازاتنا
إلى المقبرة!!
لا تنتظر يا محمود ميلاد عشب
فالأديم لا يخفي حمله
ولا حورية تحل ضفائرها للغيوم
ولا مهرة تعدو في الضباب
ولا صهيلاً يجلجل في الأودية
ولا برقا يلوح في الأفق
فلا خير في فجر ترسمه
قنبلة!!
لا خير في فجر يرسم بقنبلة
تقابلها قنبلة!
ولا خير في أمم
صنعت التاريخ بالسيوف
فصار حاضرها
مهزلة !!
وأهلا بأمم قد تأتي يوما
لتصنع تاريخها بالقبل!!!!!
وترسم خيوط فجرها بالسنابل
كل سنبلة تقابلها
سنبلة!!!!!
- يا ألله ما أجمل هذه الصور.. صناعة التاريخ بالقبل ، ورسم خيوط الفجر بالسنابل ! بصحتك !!
شربا نخب صحتيهما ..
- هل تخبرني أنت كيف تخلصت من الفكر الغيبي؟
- المسألة بسيطة .. أنا نشأت على ما نشأت أنتِ عليه، فنحن ننتمي إلى البيئة نفسها، ربما مع بعض التفاوت في كيفية التنشئة. لكن حب المعرفة لدي الذي رافقني في سن مبكرة لعب دورا في المسألة .. إضافة إلى أنه أتيح لي أن أتعرف إلى أشخاص يفكرون بمنطق وعقلانية وعلمانية إلى حد كبير .. رحت أبحث عن نفسي في هذا العالم متعدد الثقافات ، وأسعى لإيجاد موضع لي فيه.. نميت معرفتي وطورت ثقافتي بكثرة القراءة والإطلاع والتأمل والتفكير ، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه . لم أقرأ كتابا منذ أوائل عشرينيات عمري إلا بعين نقدية ، لا للفائدة فحسب ..على أية حال معظم قراءاتي في هذه الفترة كانت أدبية ، لأنني كنت أسعى لتطوير موهبتي في كتابة الرواية .. قرأت بعض الكتب الدينية أيضا في هذه المرحلة لكن تأثري بها كان محدودا وإن أعجبت بشخصية النبي محمد . غير أن هذا الإعجاب لم يدفعني إلى التقيد بالدين ، فلا أذكر أنني صليت ولو مرة واحدة في عمري. الصلاة الوحيدة التي أتذكرها هي صلاة عصر جماعية في الصف الأول الاعدادي في ساحة المدرسة ، فرضها علينا المعلمون ، ولا أذكر منها إلا ضحكي المكتوم على ما كان يتحدث به التلميذان الساجدان إلى يميني، فقد كان أحدهما يسأل الآخر عمّا تغداه ذلك اليوم ، فأجابه : مرقة عدس ! ولم أستطع ان أمسك نفسي عن الضحك .. الأساتذة الحمقى يريدون أن يطبقوا شرائع الدين على الأطفال بإجبارهم على الصلاة ، ولا يدركون أن الأطفال لم يتفهموا الدين بعد . الأمر نفسه لا يختلف عن صوم رمضان ، فلا أذكر أنني صمت يوما كاملا .. كنت آكل في غفلة من امي وأبي ، رغم أنهما لم يطلبا إلي الصوم . فالأمر لم يكن ملحا لديهما، لكني كنت أسعى لأن أفعل ما يفعلان ربما لنيل ثنائهما ! المسألة ليست أكثر من تقليد من قبل الصغار للكبار، لتصبح الحياة الاجتماعية كلها مجرد تقليد ،لا علاقة لها بالايمان ولا حتى بالدين ..حين أمر من أمام بعض المساجد وأرى كم الأطفال المشاركين في الصلاة لا أندهش لأنني أدرك أن الأمر مجرد تقليد بائس حتى من قبل الكبار أنفسهم ، وثمة من لا يمارسون هذا التقليد إلا يوم الجمعة ، ليروا الناس أنهم مؤمنون ! وابني أحد هؤلاء ، فهو لا يصلي إلا يوم الجمعة ، وأشك في أنه توقف عن مهزلة التقليد المؤقت هذه ! فهو يحرص على أن يبدو مؤمنا أمام الناس وكنت أتمنى لو أنه أخذ على الأقل بالنص الديني الذي وضع الوالدين في مرتبة أقرب إلى القداسة ، وهو من أجمل ما جاء به النص الديني على الإطلاق" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانا، إمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا "

- هل تستمعين إلي يا لمى أم أنك سكرتِ؟
- بل أستمع بكل حواسي ولم أسكر بعد .
وإمعانا في الراحة رفعت لمى ساقيها ووضعت قدميها على مقعد صغير إلى جانب الكنبة وثنت ركبتيها لينحسر فستانها عن فخذيها ، وهي تهتف" بعد إذنك "
- خذي راحتك ، بعدين افخاذك حلوين !
- تشكر..
ومدت يدها لتأخذ يد محمود من خلف كتفها وتقبلها.. سارع هو إلى ضمها ليتبادلا القبل ويتابع محمود حديثه وكأن أمراً لم يحصل.
في الرابعة والعشرين من عمري شرعت في كتابة أول رواية لي ، لم أكتب قبل ذلك إلا بعض القصص والأشعار الرديئة . وكنت حينها قد أصبحت على قطيعة شبه مطلقة مع المعتقدات كلها ، وحسمت الأمر بأنها فكر بشري وليس إلهيا .. لكني لم أحسم فهمي للقائم بالخلق ، فكنت أقرب إلى الالحاد . واستغرق الامر أربعة وعشرين عاماً أخرى لأبدأ بحسم الأمر في اتجاه التصوف وتأسيس مذهب صوفي جديد أسميته " الصوفية الحديثة " تبلور في الأعوام اللاحقة ، وما يزال التعمق فيه قائما لدي! ويمكنني أن أقول أنه تطوير لمذهب وحدة الوجود.
- فكرك كان يتطور بسرعة كما يبدو .
- إلى حد ما صحيح . فلم يكن من الصعب علي أن أرى أن الله إن كان هناك إله ، ليس حسب ما صوره العقل البشري.. بدءا بعملية الخلق في ستة أيام وانتهاء بالجنة والحساب والعقاب.. أذكر أن حديث النمل عن جند سليمان من المسائل الاولى التي استوقفتني. وكنت في الأعوام السابقة قد قرأت الكتاب المقدس بعهديه . إضافة إلى بعض الأساطير وتطور المعتقدات .. ولم يختلف موقفي من العقائد الأخرى عن موقفي من الإسلام .. وإن تأثرت بحدود بقصة المسيح التراجيدية . ولا شك أن قصته مؤثرة رغم موقفه المتزمت من المرأة والجنس.
- هل تعتقد أن شخصية المسيح حقيقية ؟
- يمكن أن يكون لها أصل واقعي ، خاصة وأن الأبحاث التاريخية تطرقت إلى أكثر من مسيح جاءوا قبل المسيح المفترض. ويمكن أن تكون القصة عن مسيح جديد ظهر حينذاك، ويمكن أن يكون الخيال الشعبي قد نسج القصة استنادا إلى قصص المسحاء السابقين الذين أعدم الرومان معظمهم .. على أية حال لا يوجد نص تاريخي معتمد عن وجود المسيح كشخصية تاريخية وجدت فعلا. كتبت بحثا عن المسيح بعنوان " ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة " خلصت فيه إلى الرؤية الصوفية في قصته . ولا أعرف إن رأى أحد فيها ما رأيته.
- وماذا عن قصة شق البحر الأحمربضربة من عصا موسى ؟
- لا يمكن لأي عقل سليم أن يصدق هذه الأسطورة أو يصدق وجود موسى نفسه تاريخيا .. فبغض النظرعن عدم تطرق المدونات الفرعونية إلى أي وجود لليهود في مصر ، يمكن النظر إلى الأسطورة بعين العقل :
يبلغ أقصى عرض للبحرالأحمر355 كم ، ويبلغ متوسط عمقه 490 م . بينما يبلغ أقصى عمق 2211 م .
سأكتفي بعرض 300 كم كمتوسط عرض، وأفترض أن الإله يهوه اختار المكان الأقل عرضا لشعبه المختارليعبر منه . ولأفترض أن يهوه حين شق الماء بعد ضربة موسى بعصاه، جعل عرض الشق ألف متر، وأوقف الماء على الجانبين بطول 300 كم! ولن أتطرق إلى امكانية حدوث فيضان على شاطئي القسم الجنوبي نظرا لانحباس الماء وعدم وجود متسع للمياه المتدفقة من الخليج . ولأفترض أن يهوه اختار الإنحدار الأقل عمقا إلى البحر وهو ال 490 م.. لم يتطرق النص التوراتي إلى هذه التفاصيل المفترضة واكتفى بشق البحر ليعبر بنو اسرائيل ، وليتبعهم الجيش الفرعوني عبر الشق ، ليطبقه يهوه عليه .
لنتصور الآن 600 ألف انسان مع أحمالهم ودوابهم وأغنامهم وإبلهم سينحدرون قرابة 500 متر ليبلغوا أرض العمق، عبر منحدر أرضي غير ممهد ، فهو على الأغلب وعر جدا، ويحتاج إلى وقت وتمهل لنزوله . مما يتيح للجيش المصري أن يلحق بقسم كبير من الحشد قبل أن يشرع في النزول.
والحال نفسه ينطبق على مسافة ال 300 كم التي سيقطعها الحشد ، فهي ليست ممهدة كما المنحدر، وبالتأكيد في تضاريسها مرتفعات ومنخفضات وصخور مرجانية وأخاديد وبرك ماء ومستنقعات وما شابه من الكائنات والتضاريس البحرية .. فكيف سيعبر شعب يهوة هذه الأرض كلها ، إذا جازفنا وافترضنا أن يهوه شق البحر فعلا ؟ فلو قطع الحشد 30 كم يوميا ، لاحتاج إلى عشرة أيام ليقطع المسافة ، وسيحتاج الشعب ومواشيه إلى ماء وطعام ، ولن يكون من السهل الحصول عليهما .. وسنتجاهل الحاجة إلى الراحة والنوم ، فقد يتسنى له أمرهما خلال الليل . وسنذهب الآن إلى قائد الجيش الفرعوني الغبي! فكيف لم يفكر هذا القائد حين رأى وهو يقف بجيشه أعلى جروف البحر من الغرب، أن الماء يقف على الجانبين ، مما يشير إلى تدخل رب بني اسرائيل في الأمر، وأن أية مغامرة للنزول إلى عمق البحر ومطاردة الحشد عبر الشق لن يكتب لها النجاح ، لأن الرب قد يطبق الماء على جيشه دون بني اسرائيل .
ولنفترض أن الأمر تم دون تصوراتنا هذه .. وتم نزول المنحدر من قبل جميع اليهود وأنهم قطعوا مسافة كبيرة في طول الشق قبل أن يلحق بهم الجيش المصري .. السؤال : حين أطبق يهوه البحرعلى الجيش المصري، هل أطبقه من جانبي الجيش فقط ، وهو ما ينبغي أن يكون قد تم، وهذه معجزة ثانية لا يمكن تصديقها بسهولة . فلم يحاول كاتب النص التوراتي توضيحها وإن حرص على أن يخبرنا بحماقة أن بني اسرائيل رأوا جثث المصريين على الشاطىْ وكأنهم على بعد أمتار منه ، في الوقت الذي يفترض أنهم قطعوا بضعة كيلومترات في الشق، وبستحيل أن يروا الشاطئ من مكانهم..
في النصوص التوراتية قبل أسطورة شق البحر ، كان التعبير السائد عن السفرمن فلسطين إلى مصرأو العكس، هو مفردتي النزول والصعود ، وكأن فلسطين على مرمى حجر من مصر، فلماذا غير كتبة التوراة رأيهم وجعلوا يهوه يقود شعبه المختارعبر البحرالأحمر إلى الصحراء. والأدهى من ذلك ، أن يضيعه في تيه صحراوي يمتد لأربعين عاما .. أيهما الغريب والعجيب أمرالكتبة أم أمر يهوه نفسه ، الذي شق البحرلشعبه المختار بينما لم يفعل شيئا له ليخرجه من الصحراء، ولو مجرد ارشاده إلى الطريق الأفضل لاجتيازها، مع أن الأمر لا يحتاج إلى معجزة كما فعل للبحر؟!
******
بدت لمى وكأنها ثملت ،فقد ألقت رأسها على فخذ محمود ورفعت ساقها اليمنى لتلقيها على ركبة ساقها اليسرى المتكئة على المقعد ، ولتنحسر تنورتها عن كامل فخذيها ، ليبدو كيلوتها الصغير بالكاد يغطي فرجها ..
ملس محمود على شعرها وهو يتساءل:
- لمى هل سكرتِ؟
- لا أعرف! عندي رغبة لأن أنسى كل شيء إلا أنت ! أريد أن أكون معك ، ومعك فقط !
- لكن إن سكرتِ لن تتذكريني !
- لن أنسى وجودك معي حتى لو شربت كل ما أحضرته من خمر !
- ماذا في وسعي أن أفعل لك ؟
ولم تتريث ولو للحظة لتجيب:
- ضاجعني!
- مجنونة ! ألم تجدي غير عجوز مثلي لتمارسي معه الحب خارج نطاق علاقتك بأبيك ؟
- لا أحب الشباب ، ولا أحب الكهول الأغبياء .. ربما رأيت فيك شيئا من أبي الذي لم أمارس الجنس مع غيره .
- لكن أباك انسان عادي كما فهمت منك ، وربما متخلّف!
- وربما رأيت فيك ما ينقص أبي.. كنت أتمنى لوأن أبي يحمل جزءا يسيرا من ثقافتك !
- هل تحبينه ؟
- أعتقد ذلك، وإن كنت في بعض الأحيان أجد نفسي واقعة في مشاعر متناقضة تجاهه!
- عذرا لسؤالي الغبي !
- لا أعتقد أنه سؤال غبي!
- هل لي بسؤال شخصي؟
- اسأل ما تشاء!
- منذ متى وأبوك يمارس الحب معك ؟
- منذ طفولتي المبكرة ربما كنت في سن الرابعة أو الخامسة ، فهو من كان يحممني بعد أن فطمتني أمي كما أعتقد ! وبدأ الجنس معي في الحمّام !
لم يصدق محمود ما سمعه .. ولم يجد نفسه إلا وهو يهتف :
- يا إلهي ! أي مجنون هذا هو أبوك ؟
ولم يدرك محمود أنّه بسؤاله وردة فعله على إجابة لمى ، قد نكأ الجراح العميقة في دخيلتها. فقد غيرت من وضع استلقائها وانكفأت على وجهها وشرعت في البكاء وهي تحاول أن تغمر رأسها بين فخذيه.
راح محمود يملس على شعرها وقد أدرك سوء سؤاله .
- آسف لمى !
- لا تتأسف! أنا مجرمة أيضا بقبولي بهذه العلاقة الشاذة ، وهذا ما أكرهه في نفسي وفي أبي ، وأعيش في صراع بين القبول والرفض. محبة أبي وكرهه . ومحبتي لنفسي وكرهها .. ليتني أستطيع أن أنتحر لأخلص من عاري!
- ليس في الأمر جريمة وأنت لست مجرمة . انزعي فكرة الجريمة من دماغك .
ظلّ محمود يمسد على شعرها ويربت على ظهرها ويمسح دموعها إلى أن هدأت .. طوقت جسده بيديها وأراحت رأسها على ملتقى بطنه وفخذيه وغرقت في نوم عميق وهو يملس على شعرها .
انتظر إلى أن شعر أن النوم قد استولى عليها . سحب جسده بهدوء من تحت رأسها ، وأحضر مخدة وضعها تحت رأسها . أسدل تنورتها ليستر فخذيها وساقيها . وأتى بحرامين غطاها بهما .. انصرف إلى غرفة نومه . استلقى في السرير. أخذ كتابا من على المنضدة إلى جانبه . وشرع في القراءة إلى أن نعس ، أطبق الكتاب وألقاه إلى جانبه . أطفأ النور وحاول أن ينام محاولا قدر الامكان أن يطرد مأساة لمى من مخيلته .
*****














(26) حالة صحو !
استيقظ محمود على هديل مزعج ليمامتين بريّتين حطتا على نافذة غرفة نومه. أخذ كرة الشرائط التي عملها من قبل ويضعها في العادة على المنضدة إلى جانب السرير لهذا الغرض، وقذف بها زجاج النافذة .. طارت الحمامتان وابتعدتا غير أنه لم يتمكن من العودة إلى النوم . هذا الحمام غبي جدا فرغم أن وقوفه على حافة النافذة وإطلاق هديله المزعج يعرّضه في العادة لخبطة على النافذة ، فيتجنب الوقوف عليها لبضعة أيام بعد بضع خبطات ، لكنه ينسى ليعود ويحط عليها .
نهض. وجد لمى تحتسي القهوة في الصالون . صبّح عليها وبادلها قبلة وذهب إلى المطبخ . وضع ماء على النار وذهب إلى الحمام ليغسل وجهه.
- هل أساعدك ؟
- ليس هناك ما هو في حاجة إلى مساعدة . مجرد عمل كأسين من الشاي الأخضر والزعتر.
- هكذا تبدأ نهارك ؟
- أجل !
- والقهوة ؟
- بعد الشاي والزعتر!
- أظن أن هذا مفيد صحيا أكثر من البدء بالقهوة .
- أكيد . هل تشربين معي ؟
- ممكن وإن كان بعد القهوة .
******
سألته وهما يحتسيان الشاي:
- يبدو أنني سكرت في الليل .
- ربما!
- ألا تعرف ؟
- لم يبد عليك أنك فقدت وعيك ؟
- لكني لا أذكر كل ما حدث!
- ماذا تذكرين ؟
- أذكر أنني طلبت إليك أن تضاجعني ، وأذكر أنني بكيت ولا شيء غير ذلك !
- أنت تذكرين جيدا ! فلم يحدث شيء مهم غير ذلك . ظللت أملس على شعرك وأربت على ظهرك إلى أن غفوت .. غطيتك وانصرفت إلى غرفة نومي.
- لماذا لم تضاجعني ؟
- هههه! ليست المسألة بهذه البساطة ! فأنا رجل عجوز قد لا أستطيع تلبية رغباتك . ثم لوكنت واثقا من ذلك فأنا لن أضاجع فتاة مخمورة قد لا تعي ما تفعل . كما أنني شخص لا ينتهز فرصا .. رغم أنني ندمت مرّات كثيرة على فرص أتيحت لي مع فتيات جميلات ولم أنتهزها !
- لماذا ندمت؟
- ربما لأن الفرص لم تتكرر!
ثمة فرصتان تركتا في نفسي أثرا سلبيا لأنني خذلت فتاتين ولم ألبي رغبتهما في ممارسة الحب معي نتيجة للظرف غير المناسب الذي كنا فيه ! مما دفع الفتاتين فيما بعد إلى الاعتقاد بأن لدي مشاكل مع الجنس!
كانت إحداهما قد جاءت لتنام عندي لكنها سكرت لكثرة ما شربت ، نيمتها في السرير دون أن أفعل معها شيئا .. الأخرى كانت متسرعة لتعود إلى عملها بعد الغداء وأنا كذلك ولا وقت لدينا للحب . حتى أنني لم أقبلها حين مدت رأسها لتقبلني ، لأننا كنا نقف في المطبخ ونحضر الغداء والنافذة مفتوحة على وسعها والجيران يروننا من النافذة المقابلة !
- ماذا لو طرحت الأمرعليك الآن وأنا لست مخمورة ولا أحد يرانا!
- أكيد لن أفعل للأسباب التي ذكرتها وغيرها.
- ولن تندم فيما بعد ؟
- أكيد أيضا لن أندم .
- لماذا ؟
- لأنني لست الآن هذا الشاب أو الرجل الشهواني الذي كنته ذات يوم .
- لكن قد يترك رفضك أثرا سلبيا على نفسك لعدم تلبية رغبتي !
- لا ! الآن لي مبرراتي التي قد تقنعك وليس كما في الحال مع الفتاتين . أتذكر الآن حالة نادرة من حالات حدثت مع من لا يفوتون الفرص ، وكنت موافقا عليها وشاهدا أيضا!
- ما هي ؟
- كنت سهران وصديق لي مع سيدة أوروبية. طالت السهرة وبدت السيدة ثملة ومتعبة .. كانت سمينة بعض الشيء . طلبت إلى صديقي أن يحملها معي لنمددها في السريرفي غرفة النوم . حملناها . وبينما كنا نمددها في السرير رفعت ساقيها وثنت فخذيها ونزعت رداءها الداخلي. فوجئنا بالأمر. تطلع الصديق في وجهي متسائلا . لم أعرف ماذا أقول أمام امرأة تشرع جسدها لممارسة الجنس . لم أفكر في أنها ثملة قد لا تعي ما تفعل. قلت لصديقي ضاجعها إذا تريد . وانصرفت إلى الصالون. لم يضيّع صديقي الفرصة . واقعها وانصرف إلى بيته.
في الصباح سألتني بعد أن استيقظت :
- محمود هل كنت أحلم أم أن صديقك نام معي ؟
- بل نام معك. وحدثتها عمّا فعلته.
لم تنزعج . بل وأصبحت صديقته فيما بعد!
ضحكت لمى وراحت تجوب بنظراتها أرجاء الصالون .سأل محمود:
- أظن أن اليوم الجمعة ماذا لديك لتفعليه!
- لا شيء! وأخبرت أبي أنني سأتغدى مع صديقتي وقد نذهب إلى البحر الميت .
- ألا يشك أبوك في قصص غيابك عند صديقتك .
- لم يكن يشك لأن لي صديقة فعلا وكنت أذهب إليها وأنام عندها أحيانا . لكن بعد أن تعرفت إليك قد يختلف الأمر ويشك ..
- ماذا لو اكتشف أنك تكذبين وأنك تلتقين بي.
- أعتقد أن ردة فعله قد تكون عادية أو حتى لن يهتم ! فهو يقدر وضعي لعلاقتي معه . ويمكن القول أنه يدللني قدر الامكان .
- هل تشعرين أنه يحبك كثيرا ؟
- هكذا أشعر .
- هل يغار عليك ؟
- أعتقد أنه يغار قليلا ..
- هل تشعرين أنه يعاني من هذه العلاقة ؟
- أشعر أحيانا أنه يعاني بقدر ما أعاني !
- غريب أمركما . تعانيان من العلاقة ولا تقطعانها.
- لأننا وجدنا نفسينا متورطين فيها .
- كيف؟ هل توضحين لي؟
- أدمنا عليها كما سبق وأن أشرت. ربما كان أبي يعتقد أن العلاقة ستنتهي بعد أن أكبر، لكنه وجد أنني متشبثة به وغير قادرة على قطع العلاقة معه ، ولا أستطيع تخيل رجل غيره ينام معي !
- وماذا عن صراعك مع نفسك بين قبول العلاقة ورفضها .. كيف توفقين بين الحالتين؟
- انا لا أوفق وأعيش في خضم الصراع ، ويبدو أنني اعتدت عليه ! في السرير مع أبي أكون راضية ، وخارجه أكون رافضة !
- وهل تخلصت من عذاب جهنم ؟
- إلى حد كبير وخاصة بعد الإطلاع على مقالاتك . ما لم أتخلص منه هو رؤية المجتمع للمسألة وهذا أكثر ما يترك ألماً في نفسي !
- يبدو لي أنك في السرير تتعايشين مع الغريزة وتلبين رغباتها . وخارجه تفكرين بعقلك فترفضين الحالة وتعانين منها !
- يبدو أن الأمر كذلك .
- هل حاولت استشارة طبيب نفسي ؟
- لا أتقبل مجرد التفكير في الأمر . لا أستطيع أن أتصور نفسي جالسة أمام طبيب نفسي أحدثه عن ممارسة الجنس مع أبي.
- لكن يفضل أن تفعلي بل ويجب إذا تريدين أن تتخلصي من الوضع .
- أنت أفضل طبيب لي بعد أن عرفت مشكلتي وتفهمت وضعي وقبلت أن أبقى صديقتك ، وأن نحيل صداقتنا من صداقة افتراضية إلى صداقة عملية وواقعية .
- لكني لست فرويد ولا كارل غوستاف يونغ لأعالجك ! والعلاج النفساني مسألة صعبة وغير سهلة. رغم أنك كما يبدو لي تتفهمين وضعك . وأكاد أجزم أنه بإمكانك أن تتخلصي من المعاناة
إذا ما اعتبرت أنه ليس إثما يتطلب عقوبة اجتماعية وربانية عليه . انزعي العقاب الاجتماعي والجهنمي من خيالك . وحاولي أن تتوقفي عن هذه العلاقة .
- لكني قد احتاج إلى بديل يغنيني عن أبي !
- حاولي أن تتوقفي أولا والبديل مسألة سهلة حسب ما أعتقد !
- حتى لو كان البديل أنت !
- هه! رغم أنني قد أكون أسوأ بديل على الإطلاق ، إلا أنني سأفكر في الأمر من أجلك !
وضمت رأس محمود إليها وقبلته على خده وهي تهتف :
- ياه ! أشكرك ! سأقدم على الأمر بجديّة وأنهي الأمر مع أبي مهما كان الثمن.
- هل مارست العادة السرية في حياتك ؟
- نادرا ! لم أحبها كثيرا . لم أستطع تخيل شخص غير أبي يمارس معي الجنس!
- يمكنك أن تستعيني بها في البداية !
- هل تسمح لي أن أتخيلك خلال ممارستها ؟
- هههه! لست في حاجة إلى أن تستسمحيني طالما أنه مجرد خيال ! لو أنني كنت أطلب سماح أي فتاة أو امرأة أتخيلها لما مارست العادة السرية في حياتي. والأمر نفسه ينطبق على البشر جميعا. العادة السرية السبيل الوحيد السهل للبشر للتعبيرعن مكبوتهم الجنسي ، ولتلبية رغباتهم وغرائزهم.
- لا أتصور أن أخدعك في المسألة .
- هذه ليست خدعة ! مارسيها باطمئنان وتخيليني كما تشائين واخبريني إن كنت لائقا وممتعا معك !
- ههه .. سأتخيلك الأمتع في الوجود كله .
- طيب. حدثيني الآن عمّا لا أعرفه عنك . أنت خريجة تجارة كما عرفت من مراسلاتنا على الفيس .
- صحيح .
- ولا تعملين إلا في مصالح أبيك ،
- صحيح ! أراقب الحسابات أحيانا لكسلي ! وأحاول أن أكتب قصصا أوشعرا أحيانا ، لكني كاتبة فاشلة .
- وماذا عن أخيك ؟
- يشرف على محلات أبي ويقوم بالمشتريات .
- وماذا عن أبيك ماذا يفعل ؟
- يدير مصالحه ويبحث عن مشاريع جديدة !
- كم عمره ؟
- في حدود االرابعة والستين .
- هل هو متدين ؟
يصلي مرة أو مرتين في الشهر، في الغالب يكون يوم جمعة ، فيصلي الظهر مع الجماعة في المسجد !
- ذكرني بابني! عرفت من مراسلاتنا على مسينجر الفيس أن أمك متوفاة !
- صحيح . أمي رحلت وهي في ريعان الشباب!
- نتيجة مرض ؟
- أصيبت بالسرطان وهي في الثلاثينيات من عمرها .
ألقت رأسها على ذراع محمود . تنهدت بعمق. قالت :
عندي رغبة لأن أحدثك عن قصتي من البداية إلى الآن . أرجوك أن تسمعني .
أطرق محمود قليلا . تنهد بدوره .
- ليكن يا عزيزتي . لكن حاولي أن لا تنفعلي . اجعلي من نفسك روائية تتحدث بحيادية أو شبه حيادية .
استجمعت لمى قواها وشحنت ذهنها ، واستنهضت ذاكرتها ، وشرعت تتحدث :
****


(27) عشق وألم وبوح !
"أقدم صور ترتسم كطيف في مخيلتي . هي صورة أبي وأمي عاريين يمارسان الجنس وأنا أحبو إلى جانبيهما، وصورأخرى باهتة خلال الاستحمام مع أحدهما دون أن أتذكر من هو منهما. وثمة صور بعد هذه يبدو أبي فيها عاريا وهو يليّف بين فخذي ، ويبدو أنني كنت أستشعر متعة ما . لكن الصورة التي انطبعت في ذاكرتي بشيء من الوضوح خلال الإستحمام، هي ذكَرأبي المنتصب وهو يداعب بحشفته شفري فرجي صعودا ونزولا . لا أعرف كم كان عمري بالضبط ، ربما كنت في السادسة . لا أتذكر صورا قبل هذه من هذا النوع.. من هنا بدأ تعلقي بأبي حسب ما أعتقد. دأب أبي على تحميمي أكثرالأحيان ، دالكا بين فخذي بأصابع يده الغارقة بالصابون أحياناً ، وبحشفة ذكره أحيانا أخرى ، خاصة حين كنت أنا أطلب منه ذلك إن لم يفعل .. يبدو أن ذكره كان يستهويني ، وأنني كنت أستشعر متعة تدفعني إلى طلب ذلك . وهذا ما عرفته لاحقا حين كبرت.
لم يكن أبي قد ورث بعد لينشئ ثروته . وكانت أمي تعمل ممرضة في مستشفى . ولا أعرف لماذا أخذ أبي يحممني بدلا منها .. بالكاد أتذكر طيفها معي في الحمام . لكني أذكر فيما بعد أنها أرادت ذات مرة أن تحممني لانشغال أبي خارج البيت ، فقلت لها " بدّي بابا يحممني " لا أظن أنها شكت في السبب الذي يدعوني إلى ذلك .، ربما قالت إنّ أبي في الشغل. أدخلتني الحمام وشرعت في تحميمي لتستحم هي بدورها معي.أذكر طيف جسدها . وتنبهت إلى أنّه ليس لديها ما لدى أبي. ربما بدأت تشك في الأمر، حسب ما أعتقد ، حين طلبت إليها ذات مرّة وهي تليّف بين فخذي أن تدلك دحنوني كما يفعل أبي"
كم كان بود محمود أن يقاطع حديثها ليعلق على فعل الأب، غير أنه لجم انفعالاته حتى لا يثيرشجونها . وفضل الاستماع دون أي تعليق ، وإن كان يود أن تروي لمى ما كان يحدث معها في طفولتها دون أن تبدي وجهة نظر في ما يحدث معها أو في انطباع أمها غير المعلن .
تابعت لمى حديثها :
" لا أذكر ردت فعلها . ولا أذكر أنها استجابت لي . فقد أنهت حمامي دون أن يطرأ أي تدليك يشبه ما يفعله أبي، أو حتى مجرد مداعبة ! ما بالكاد أذكره ، أن شجاراً نشب بين أمي وأبي يتعلق بتحميمي، لكني لا أعرف بعد كم من الزمن حدث ذلك . وربما أصبحت في السابعة من عمري أو في بداية الثامنة. وأذكرأن أبي لم يعد يحممني في أغلب الأحيان إلا بصحبة أخي الذي يصغرني بما يقرب من عامين. وكان يترك باب الحمام مواربا . وحين يحدث ويحممني وحدي كان يتلافي أن يفعل ما يفعله ، ويكتفي بدلك فرجي بالليفة دون استخدام أصابعه وحدها ، ولم يعد ينزع كيلوته . وحين طلبت إليه ذات مرة أجاب بأن الأمر "عيب" وأنه ينبغي التوقف عنه. كما أنه أخذ يخرجني من الحمام حين يفرغ من تحميمي ليستحم وحده. ولو أردت أن أحلل سلوكه على ضوء ذكرياتي ومعرفتي الآن ، لقلت أنه ربما كف عن الأمربعد مشاجرته مع أمي، وأنها أدركت على الأقل أنه كان يداعب فرجي . وأنها نجحت في إقناعه بالكف عن فعله، وأنه ربما كان يعاني في دخيلته بين الرفض والإقدام ، ونجح في التغلب على نفسه وكبح شهوته.
مرت فترات بعد ذلك كنت فيها خلال جلوسي أضع يدي فوق فرجي ، فتنهرني أمّي حين تراني " عيب الله بيحطك في النار" لم أكن أعرف العيب وما هو الله ولماذا سيضعني في النارالتي كنت أعرف أنها تحرق! فهل مجرد وضع يدي فوق هذا المكان في جسدي يستوجب الحرق ؟ وكنت أرفع يدي وأسدل تنورتي إذا كانت مرفوعة. غيرأنني وخلال استلقائي في السريرعند النوم لم أكن أتنبه لنفسي إلا وأنا أضع يدي فوق فرجي ، فتسارع أمي إلى ضربي على ظهر يدي وتحذيري من فعل ذلك . والحق إن كل تحذيرات أمي لم تنفع ، فقد أصبح الأمر عادة عندي ، بل وانتقل من العفوية إلى القصدية حين تتاح لي الفرصة وخاصة قبل النوم وبعدم وجود أمي أوعدم تنبهها ، ليتحول إلى عادة سرية فيما بعد ، أي حين أصبحت في التاسعة أو العاشرة ..
دخلت المدرسة في السادسة حسب ما أعرف . وظلت علاقتي بأبي تتوطد وتدخل حالة حميمية لا يكاد أبي فيها يشبع من تقبيل خدّي وفخذي . وأنا أتمتع بضمّه إلي وتقبيله بدوري.. ولم يتجاوز الأمرهذا الحد . ولم يعد يحممني إلا نادرا.
أظن أنني كنت في الثامنة من عمري ، حين كنت أنام إلى جانب أخي في غرفة النوم، فزلقت كيلوته من تحت الغطاء ورحت أداعب زبرته إلى أن انتصبت ، التصقت به ورحت أحك بها فرجي. بعد ذلك رحنا نلعب أنا وأخي لعبة أمنا وأبينا - التي طالما شاهدناها لمرات كثيرة - كلما أتيحت لنا الفرصة . ويبدو أن عقوبة من نوع الحرق بالنار والعيب ، دفعتنا إلى الإبقاء على سريّة اللعبة ، إلى أن ضبطتنا أمي ذات ليل حين دخلت الغرفة وأشعلت النورلتطمئن علينا ، ولتجدنا عاريين تماما وفوق الغطاء وليس تحته ! وقفت مبهوتة للحظات وما لبثت أن انهالت علينا ضربا وهي تهتف " إلهي يغضب عليكم ، شو بدي أسوي فيكم؟ " وأخذت أخي لينام في غرفة نومهما هي وأبي، بشكل دائم، ما أتاح له أن يستيقظ أحيانا على تأوهاتهما وهما يمارسان الحب ، ليأتي ويخبرني ماذا رأى حين ينفرد بي . وكان أكثر ما أثار فضوله هو رؤيته لأمي تمص ذكرأبي، فقد جاء ليهمس لي " أمي ترضع زبرة أبي " ! وكنت قد رأيت ذلك من قبل بدوري. قلت له إنهما يلعبان لعبتهما ! فتساءل عن سبب منعنا من ممارسة اللعبة . أخبرته لأننا صغار ولا نعرف كيف نلعب. وسنفعل ذلك حين نكبر ونتعلم ! ولا أنكر أنني وددت في دخيلتي أن يتاح لي أن أجرّب مص ذكر أبي كما تفعل أمي !
أصبحت أنام وحدي في الغرفة، مما أتاح لي أن أعبث بفرجي وأمهد السبيل للعادة السرّيّة ، التي أجدتها في العاشرة ، وأدمنتها وأنا أستشعرمتعة لذيذة بتخيّل رضع ذكرأبي أو مداعبته لشفري دون الإيلاج ، الذي لم أعرف كما يبدو كيف يكون وماذا ينتج عنه ! ولم أكن أنتهي من ممارسة إلا لأشرع في أخرى ، إلى أن أنعس وأنام.. وقد انتهى العبث بيني وبين أخي منذ أن أصبحنا ننام مفترقين .
في المدرسة وربما بعد الصف الخامس الابتدائي حين أخذ الدين يحتل مكانته في تعليمنا ، بدأت أعرف القليل عن الله والجنة والنار والحرام والحلال ، مما سبب لي قلقا ، لعلاقتي المحرمة مع أبي التي ما يزال طيفها يراود مخيلتي ، وإن كانت ممارسة سطحية وغير مكتملة كما أعتقد . وقد يشمل التحريم ممارستي مع أخي .. ولم أعرف إن كانت العادة السريّة التي أمارسها وحدي يشملها هذا التحريم ، وبالتالي ينبغي العقاب عليها من الله .. وظل القلق يراودني بضعة أعوام ، عابراً أحياناً ، وبشدة في أحيان أخرى، إلى أن استمعت إلى محاضرة رهيبة من أستاذة الدين في الصف الأول الاعدادي ( السابع ) تتحدث عن عذاب المرأة في جهنم . وكيف أنها تعلق من شعرها ودماغها يغلي والنار تحرق جسدها .. وأن جلدها يستبدل بجلد آخر كلما احترق لمعاودة الحرق إلى ما لا نهاية ! ولا أعرف كيف ضبطت نفسي ولم أنهض لأصرخ لشدة الرعب الذي انتابني وأنا أتخيل نفسي معلقة من شعري والنار تلتهم جسدي. وكم عانيت من كوابيس فظيعة بعد ذلك ما زال بعضها يداهمني حتى اليوم .
في هذه الفترة مات جدي لأبي ليرث أبي مع أخت له أرضا من عشرات الدونمات، وبيارة للخضار والفواكة في غور الاردن، إضافة إلى بيت وبعض الأموال .. من هنا جاءت ثروة أبي فيما بعد .
في الفترة ذاتها بدأت الدورة الشهرية تأتيني.. وبدأ جسدي يتأجج شهوة ، ولم أكن أمل من ممارسة العادة السريّة ، سواء في الحمام أو قبل النوم ، وكان اشتهائي لأبي يزداد ، ضاربة عرض الحائط بالحساب والعقاب في جهنم .. فقد كانت شهوتي تطغى على كل ممنوع وغير مرغوب، ولم أكن أترك فرصة يضمني فيها أبي أو يقبلني ، إلا وأستغلها قدر الامكان ، إلى أن جاء يوم ذهبت فيه أمي وأخي لزيارة أهلها وبقيت وحدي مع أبي في البيت . أظن أنني كنت في الثالثة عشرة .. وقد برز نهداي.. كان أبي يجلس على أريكة في الصالون يستمع إلى أخبار التلفزيون .. وكنت أراجع بعض دروسي دون أن افهم شيئا لاضطرام شهوتي ، والتفكير في أبي الجالس وحده في الصالون ! أغلقت كتابي ودخلت إلى الصالون لأجلس على فخذيه وأقبله .. ضمني إليه بشدّة وشرع في تقبيل خديّ وعنقي ، وما لبث أن التهم شفتي وأدخل لسانه في فمي ليدور به حول لساني ويشرع في مصّه . أظن أنني ذبت فيه وذاب هو فيّ، حين شرع في رضع نهدي الصغيرين، ومن ثم عرّى فخذي وشرع في تقبيلها، ليطرحني بعد ذلك على الأريكة ، وينزع كيلوتي ويثني فخذي ليقبل فرجي الصغير، ومن ثم يخرج ذكره ليداعبني به ويلجني، لأغرق في نشوة طويلة ..
يمكن القول يا عزيزي أنني منذ ذلك اليوم أصبحت متزوجة من أبي الذي لم أمارس الجنس في الواقع مع غيره ً.
ابتاع لي حبوبا لمنع الحمل كنت آخذها أحيانا . وحين لا آخذها كان يستخدم واقيا، أو يقذف خارج فرجي أو في ..في ..أماكن أخرى !!
ولأول مرة يضحك محمود ويقاطع لمى متسائلا :
- بعد كل هذا الحديث الصريح وجدت ما تخجلين من ذكره !
- يبدو أن ثمة ما قد يخجل الانسان أحياناً حتى لو كان ممكناً وممتعاً في الممارسة الجنسية !
- ذكرتني بشبابي حين كنت شهوانياً مثلك !
- يا ليت الشهوانية تعود إليك!
- غير ممكن ..فالعمر ولّى .. بإمكانك متابعة حديثك .. عذرا للمقاطعة !
- أمر عادي عزيزي .. لم تجر الأمورعلى ما يرام لأن أمّي بدأت تشك في علاقة بيني وبين أبي . فهي كانت تلمس أن تعلقي بأبي وتعلق أبي بي يزداد كلما كبرت .. كما أنها لاحظت التغير النسبي في سلوكي والتكتم على بعض المسائل أو الكذب ، للتأخر في العودة من المدرسة مع أبي فقد كان يصحبني بسيارته إلى منطقة خالية من الناس ويضاجعني في السيارة أو في الطبيعة . ويبدو أن مواقعات أبي لها قد قلّت إلى حد يثيرالشبهة ، وحتى الغيرة، وهو ما أخبرني به أبي. وقد لا حظت بدوري أن أمي بدأت تغارمني وأن غيرتها تزداد يوما عن يوم . وأن الأمر يقلقها إلى حد التأثيرعلى صحتها فقد بدأ وزنها ينقص. وجاء يوم يبدوأنها خططت فيه للأمر .. فقد ذهبت للإطمئنان على أمها المريضة وأخذت أخي معها ، وقالت أنها قد تنام هناك إذا ما وجدت أن صحة أمها تتطلب ذلك .
كالعادة استغلينا أنا وأبي الفرصة .. ولم نتوقع أن تأتي أمي في الليل ، بعد أن تجاوزت الساعة العاشرة ولم تعد . ومع ذلك أغلقنا الباب من الداخل احتياطا ، فهي لديها مفتاح . كنا قد فرغنا للتو من الممارسة حين قرع الباب. واضح أنها جربت مفتاحها ووجدت الباب مغلقا من الداخل . هتف أبي " جاءت . البسي بسرعة واذهبي إلى غرفتك" أية سرعة هذه ؟ التأخر لدقيقة واحدة في فتح الباب قد يزيد الشك ، والتذرع بالنوم مسألة واهية ، فالوقت ما يزال مبكرا ولو نسبياً على النوم .. حملت ملابسي على عجل وركضت إلى غرفتي وانزلقت عارية في السريروتدثرت بالغطاء. لا أعرف ماذا ارتدى أبي فيما أمي تواصل قرع الباب، وما أن فتح لها حتى اندفعت بسرعة إلى غرفتهما لتجد السرير وكل شيء في الغرفة مبعثراً . وسارعت إلى غرفتي التي كان بابها مفتوحا أيضا والنورمضاء، فلم يتسنّ لي لا أن أغلق الباب ولا أن أطفئ النور، رفعت الغطاء عني لتجدني عارية ونائمة على جنبي.. لم تنجح التمثيلية ! فقد هزتني من كتفي وهي تردد "منذ متى تنامين عارية يا بنت أبوك " ؟! وانصرفت لتعود بعد لحظة وهي تحمل كيلوتي بسبابة يدها وترميه على وجهي ، وهي ترتجف من قمة رأسها إلى أخمصي قدميها .. ولم أجد نفسي إلا وأنا أبكي .. لا أعرف إن كان الكيلوت قد سقط مني أو أنه كان ملقى إلى جانب السرير ولم أره حين حملت ملابسي. ويبدو أن أمي لم تعد قادرة على الكلام من أثرالصدمة. فما تأكدت منه أكبر من كل كلام لأن يعبرعنه ، فقد ارتمت على أريكة في الصالون وهي ما تزال ترتجف ، وتطبق راحتيها على جانبي رأسها، وجسدها يرتج بشدة . ولم يعد أبي قادرا على فعل شيء .
تخوفنا من أن يكون في الأمر جلطة ما .. فكرأبي في أخذها إلى المستشفى .. لكنها رفضت بإصرار دون أن تتكلم .. حملناها أنا وأبي ومددناها في السرير بعد أن أعطاها أبي حبوبا مهدئة كانت تتناولها في الأشهر الأخيرة ..
في الصباح بدت أفضل قليلا ، لم تعد ترتجف ، لكنها ظلت تصر على عدم الكلام . فكر أبي في أخذها إلى المستشفى ، لكنها رفضت أيضا ، وكأنها تدرك أنهم في المستشفى قد يدفعونها إلى الاعتراف بما جرى معها حتى أحجمت عن الكلام ، أو لم تعد قادرة عليه. وهذا ما كان أبي متخوّفا منه ..
أحضر أبي لها أدوية من طبيب نفساني ذهب إليه عبر صديق ، معترفا له بجانب من الحقيقة ، وهو شك أمي في علاقه بينه وبين ابنته حين وجدتهما يتبادلان القبل في غرفة الأب ! . اعتبر الطبيب أنها ربما تعرضت لصدمة نفسية قوية أثرت على أعصابها .. وكتب له أدوية على هذا الأساس ..
أمضيت قرابة عشرة أيام متغيبة عن المدرسة لأعتني بها .. متمنية لو في مقدوري أن أودي بنفسي إلى التهلكة مقابل أن تعود لأمي صحتها وتتخلص من معاناتها .. كنت جادة في الأمر. وحين لمحت لها بذلك أنّت من أعماقها وهزت رأسها بعنف ، وأشرعت صدرها لاحتضاني ، ألقيت نفسي على صدرها وشرعت في البكاء .. أمي الحبيبة يا محمود دمرنا أنا وأبي حياتها.. ضحت بنفسها، وكانت ترفض الذهاب إلى المستشفيات أو مقابلة أطباء حتى تسترعلينا ولا تفضح عارنا! أحضر أبي خادمتين للإعتناء بها وبنا وبالبيت .. أخذ جسدها يذوي شيئا فشيئا ، وقد فقدت شهيتها للطعام ... وتبين أنها أصيبت بسرطان المعدة والأمعاء.. كنت أشعر بقلبي يتمزق وأنا أستمع إلى أنينها المؤلم . حاول أبي انقاذها من السرطان دون جدوى . رحلت إلى العالم الآخر بعد قرابة شهرين من الحادثة وهي في منتصف الثلاثينيات من عمرها. حددت عليها بلبس السواد والحجاب لأربعين يوما .. لا يمكن تصوّر مدى حزني وإحساسي بالذنب . ولم أمارس الجنس مع أبي طوال ستة أشهر . وكم كنت أتمنى لو في استطاعتي أن أقتل الرغبة الجنسية إلى الأبد ، وأن أقطع فرجي وعضو أبي أيضا .. استأنفنا الممارسة بيسر وحرية إلى حد كبير ، حين وجدنا أن الكف عنها أمر ليس سهلا على الإطلاق ، وخاصة أنا التي كنت أجد في تعلقي بأبي مسألة مصيرية لا يمكن تصور علاقة غيرها ..
أنهيت الثانوية ودخلت الجامعة ، وتخرجت . وأنا الآن أشرف على بعض العمليات الحسابية لأعمال أبي. أخي لم يدخل الجامعة وتفرغ للعمل مع أبي . هو متزوج الآن ويقيم وحده مع زوجة وطفلين .
كانت الساعة قد قاربت الثانية ظهرا حين فرغت لمى من سرد ملخص قصتها . أسئلة كثيرة خطرت لمحمود حول الأمر، لكنه فضل تجاهلها إلى حين آخر ، وفكر في أمر الغداء. تساءل :
- ألن نتغدى ؟
- ما رأيك بغداء على شاطئ البحر الميت ؟
- البحر الميت ؟ لم أتغدّ هناك إلا مرة واحدة دعاني فيها صديقي التشكيلي محمد نصر الله .
- أنا سأدعوك كل أسبوع إن شئت !
- يوه! يبدو أنك ستعيدنني إلى حياة الترف بعد أن كنت أفكر في الانتحار إذا ما ضاقت الدنيا علي.
- أرجوك أن تنسى الأمر .
- لا قدرة لي على تحمل كرمك الزائد !
- اعتبره واجبا وليس كرما !
- كيف ؟
- واجب الصديق الثري تجاه صديقه الأديب والفيلسوف الذي يستحق أن يعيش الحياة بكرامة وأن يتوفر له ما يدرأ عنه العوز ، لكي يتفرغ لأدبه وفكره.
- تعرفين ؟ لو أنك لم تكوني بجسدك حقيقة أمامي ، لقلت أنك مجرد شخصية متخيلة لي ربما تشبه نورالسماء وما أنا الآن إلّا الملك لقمان !
- ههه ! كم هذا جميل يا جلالة الملك فما أنا إلا محبوبتك ومليكتك ونور سمائك .. هيّا لننهض! ولنعش كما في الخيال، وليذهب الواقع إلى الجحيم !!
****




.







(28) وليمة ملكية !
يستلقي الماء هادئا في أعمق أعماق الكون كوجه مرآة ، ونسمات موج خفيفة تنساب على سطحه لتلثم صخور ورمال وحصى الشاطئ ، فيما محمود يتأملها بشغف مستعيدا بعض ذكرياته مع هذا البحر الفريد الذي لا حياة لكائنات فيه لملوحة مياهه. كان مقاتلا في ريعان الشباب ويحلم بتحرير فلسطين كأي فلسطيني أو عربي يحلم بذلك ، وكان مستعدا لأن يضحي بنفسه من أجل هذه الغاية ، لذلك أهمل حينها التفكير في مستقبله ، فهو على الأغلب سيستشهد ، وإن لم يستشهد ، فإما أن يظل مقاتلا ، أو أن يبحث عن عمل آخر في المستقبل ..
كان يتأمل البحر من إطلالة متنزه أقيم على الشاطئ ، فيما لمى تتحدث إلى نادل طالبة كماً هائلا من المأكولات والمشروب. مر في مخيلة محمود شريط ذكرياته مع البحر وهو يعبره ليلاً على قارب مطاطي إلى فلسطين مع مجموعة من المقاتلين ، ويعود عبره وحيدا في ظلام دامس بعد أشهر، جالسا في دولاب شاحنة ، والأمواج تتقاذفه طوال الليل لتقذف به على الشاطئ الشرقي بعيد الفجر.
- أين أنت يا حبيبي الملك؟! هتفت لمى .
- حبيبك الملك ؟
- ألست الملك لقمان يا حبيبي هل نسيت ؟
- هه.. ليكن أيتها الملكة ، كما تشائين .. كنت أتذكر حياتي الواقعية وكيف اجتزت هذا البحر ليلا قبل قرابة خمسين عاما ممتطيا دولاب سيارة ..
- جميل أن يمتزج الواقع بالخيال حبيبي! ثم إننا نحتفل بتطهيري أمامك من الآثام التي كانت تخفيها سريرتي.
- لا أصدق أنني ما أزال على قيد الحياة وأنني عشت حتى اليوم. أتذكر الآن كيف استلقيت على الشاطئ مطلقا العنان لانهياراعصابي التي طبطتها طوال ليلي في البحر.. وحين بزغ النهارسحبت أقسام بندقيتي وشرعت في اطلاق النارعلى سفح الجبل الشاهق الذي سأبدأ في تسلقه للخروج من أخفض موقع على الكرة الأرضية .
- لماذا أطلقت النارعلى الجبل ؟
- ربما لأحتفل بنجاتي من سلطات الاحتلال ومن البحر أيضا ، ولأقهر الجبل الذي لن يكون صعوده سهلا علي !
- وقهرته بالتأكيد !
- أجل قهرته ، فصعوده أسهل من عبور البحر، ولا يحتاج إلى ضبط أعصاب ، يحتاج إلى جهد جسدي ، وهذا ما لم أكن في حاجة إليه وانا أعبر البحرجالسا في دولاب.
- إذن دعنا نحتفل اليوم باليوبيل الذهبي لذلك اليوم أيضا !
- يا الله كم من الأحداث والوقائع مرت على ذلك اليوم .. كنت مجرد مقاتل بدماغ فارغ تقريبا !
- وأنت الآن الملك لقمان الذي يحكم الكون يا حبيبي!
ضحك محمود وهو يتساءل :
- وكأنك قرأت " الملك لقمان " أو" أديب في الجنة " ؟
- أجل قرأتهما يا حبيبي، وإلا كيف أعرف الملك لقمان والملكة نور السماء ؟ لقد أخبرتك على الفيس !
- نسيت !
أحضر النادل زجاجة وسكي فاخر وبعض علب البيرة . وشرع في سكب البيرة والوسكي في كؤوس ؟ تساءل الملك لقمان :
- ماهذا أيتها الملكة ؟ بيرة ووسكي؟
- حبيبي الدنيا حر هنا ! بالبيرة نطفئ الظمأ وبالوسكي نثمل !
- الحق معك ، لكن أين الملك شمنهور ؟
- صرفته هذا الجنّي فنحن لسنا في حاجة إليه ، فكوكبنا آمن هنا !
- آمن ونحن على بعد أميال من اسرائيل ؟!
- تكفي قوانا الخارقة يا حبيبي إذا ما عرفت اسرائيل بوجودنا هنا وحاولت الاعتداء علينا!
- لن تفعل لأنها تعرف مقدار قوانا بجن أو بدونهم يا حبيبتي !
ضم نادلان طاولتين إلى طاولتهما . تساءل الملك ؟
- ماذا يفعل هؤلاء؟
- يوسعان المائدة يا حبيبي لتكون مائدة ملكية!
أدرك محمود أبو الجدايل أن لمى تسعى لأن تدخله في حالة أقرب إلى الخيال ، وهي ربما تدرك خلال قراءتها لبعض أعماله ومتابعتها لكتاباته أن عالمه المتخيل يشكل جزءا من دخيلته وقد يتقمصه لبعض الوقت إلى حد ينسى فيه واقعه. شعر براحة نفسية ومحبة جارفة للمى التي تريد أن تعيشه في عالمه وتعيش معه .
رفع كأسه وشرب نخب الملكة . خاطب نادلا كان يضع بعض المكسرات من فستق حلبي ولوز وجوز وبندق على المائدة :
- متى تفرغون من إعداد المائدة التي أمرت بها جلالة الملكة ؟
ويبدو أن النادل قرر الدخول في الحالة ولو من باب المسايرة :
- خلال نصف ساعة على الأكثر ستكون المائدة جاهزة جلالتكم !
مدير المطعم ارتاب في الأمر حين أطلعه رئيس الندل على قائمة الطلبات التي تكفي لأكثر من عشرة أشخاص ، وفكر في أن يكونا مجنونين، أو ربما ينتظران أحدا ما .. ثم هل يحملان نقودا لتسديد ثمن الفاتورة؟ طلب إلى رئيس الندل أن يستفسر منهما .
- لكنهما سيدي يتحدثان مع بعضهما كملك وملكة !
- ماذا ؟
- هذا ما أخبرني به الشباب.
- لعلهما ممثلان يقومان ببروفا على مشهد سيؤديانة على المسرح أو في فيلم ؟
- لا أعرف سيدي !
- هيا اسبقني واسألهما عما إذا يصرّان على هذا الطلب .. وإذا أصرّا أخبرهما أن ثمن الطعام قد يبلغ قرابة ألف دينار!
اقترب رئيس الندل من المائدة ومدير المطعم يقف على مسافة قريبة خلفه . بدا الرئيس مترددا في السؤال . تساءل الملك:
- هل هناك شيء !
- عفوا جلالتكم ، جلالة الملكة طلبت طعاما يكفي لأكثرمن عشرة أشخاص، هل تنتظرون أحدا؟ !
ضحك الملك لقمان بملء فيه :
- ههه ! ألم تعرف بعد أن جلالتها طلبت مائدة ملكية ؟
تردد الرئيس وهو يهتف :
- لكن ..لكن ..
- لكن يتوجب عليك تنفيذ أمر جلالتها دون أسئلة. هل فهمت ؟
أدركت الملكة نورالسماء أن رئيس الندل يريد أن يطمئن على الحساب. سارعت إلى إخراج بطاقة البنك من حقيبتها وقدمتها لرئيس الندل قائلة :
- هاك ! احسم ألف دينارعلى الحساب ولا تزعج جلالة الملك بأسئلتك !
. أخذ رئيس الندل البطاقة وانحنى أمامها وهو يهتف : عفوا مولاتي صاحبة الجلالة، ثم أمام الملك لقمان : عفوا جلالتكم!
وانصرف عائدا خلف المدير .
- واضح أنهما ممثلان ! هتف المدير!
- بل مجنونان سيدي!
- لا يبدو عليهما أنهما مجنونان ! ثم إنك دخلت معهما في الحالة وخاطبتهما كملكين !
- وهل تريدنا أن نصطدم مع مجانين ! هكذا تصرف معهما الشباب!
أعطى المدير البطاقة للمحاسب الذي اقتطع ألف دينار من الرصيد البنكي.
أعاد رئيس الندل البطاقة وفاتورة المبلغ المقتطع ضمن حافظة من الجلد وضعت على صحن مزخرف ، وهو يعتذر عمّا جرى :
- عذرا جلالتكم لتصرف الإدارة غير اللائق بحقكما !
- لا عليك فأنتم لا تعرفون أننا ملكان ! أجابت الملكة .
. وقام رئيس الندل بنفسه بالإشراف على تجهيز المائدة . ووضع قرابة عشرين نوعا من المقبلات عليها ..
هتف الملك لقمان وهو يتأمل امتداد أطباق المقبلات :
- منذ زمن لم نقم مائدة كهذه جلالتك !
- أنت تمضي وقتك في التأمل والبحث عن الله جلالتك ولا تتيح لنا أن نتمتع بالحياة .
- الحق معك . لنتمتع إذن . بصحتك .
- بصحتك .
شرع نادل في تضييفهما بسكب ما يرغبان من المقبلات في طبقيهما..
اكتفى الملك في البداية بالقليل من السلطة والتبولة والحمص والمتبل ، والكبّة النيئة. فيما امتلأ صحن الملكة بقطعة واحدة من كل نوع من مأكولات نباتية وحيوانية . فطر. أرضي شوكي . بيض غنم. كبد . كلية . حلزون . قريدس. .
سرح الملك لقمان للحظات . تنبهت له الملكة .
- أين سرحت يا حبيبي؟
- أتذكر المشردين والفقراء كلما عشت لحظات مترفة . وحزين جدا على الشعب السوري . لا أستطيع أن أنسى مأساته . أصبحت تقلقني أكثر من المأساة الفلسطينية .
- نحن في زمن الخراب كما تقول أنت يا حبيبي وتذكر المشردين والفقراء لن يخلصهم من معاناتهم .
- صحيح .. آه آه!
- بصحتك حبيبي وصحة الشعب السوري وكل الشعوب المغلوبة على أمرها !
شربا النخب واستأنفا تناول المقبلات ..أعادت لمى/ الملكة، محمود / الملك ، إلى أفكاره في القصيدة التي يحاور فيها درويش:
- هل تظن حبيبي أنه سيأتي يوم تعم فيه المحبة العالم ويسود السلام الأبدي، كما وددت في قصيدتك التي تحاور فيها درويش؟
- أعتقد أنه سيأتي لكن بعد أن يبلغ الدمار ذروته!
- كيف ؟
البشرية منذ أن وجدت حتى اليوم وهي تعيش في حروب وأمم وأقوام . وكل أمة أو قوم تسعى لأن تسود على آخرين ، حتى في الأمة نفسها تجدين فئة تتسلط على الشعب.. فالتسلط والحروب والصراعات بكافة أشكالها ما تزال قائمة . ولا أحد يفكر في وحدة العالم بمعنى أعمق وأشمل مما هو قائم من افكار متخلفة ممثلة في مؤسسات دولية مهيمن عليها ولا تستطيع أن تفعل شيئا ، حتى لكيان مغتصب ومتمرد على كل القوانين الدولية مثل اسرائيل .. بعض الدول تفتعل الحروب والصراعات لتسويق أسلحتها .. وماذا عن هذا السلاح المكدس وخاصة النووي منه . هناك من يفكر في توظيفه بأي شكل إن لم يكن بيعا فبالحروب .. أعتقد أن الزمن القادم سيشهد أهوالا فظيعة قد تباد فيها شعوب بالسلاح النووي، وتنقرض إلى الأبد ، ولن يبقى غير الأقوياء مما يضطرهم بعد حقبة زمنية أن يتحدوا للحفاظ على بقائهم ، وليتخلصوا من زمن الحروب والصراعات . وآمل أن يتمكن هؤلاء من إقامة حضارة انسانية تسود فيها العدالة والمحبة .
- متى سيحدث هذا حسب اعتقادك ؟
- على الأغلب خلال الألف الثالثة هذه التي تمر فيها البشرية .
- وماذا عن الذين انقرضوا؟
- سيكون في انقراضهم فائدة لإغناء المادة وانتاج الطاقة . أي أن الباقين سيفيدون من فنائهم بتوظيف ما ينتج عن مادتهم في بناء الحضارة الانسانية .
- وعملية الخلق ألن تفيد منهم !
- طبعا ستفيد .. ولو أن الكائنات التي تفنى لا تعود إلى أصلها المادي الطاقوي لفنيت الحياة وانتهت عملية الخلق برمتها !
- بما في ذلك القائم بالخلق ؟
- القائم بالخلق ستضعف قدراته إن لم يفنى هو الآخر . لكنه بوضع هذه القوانين للخلق حافظ على بقائه بإعادة عملية الخلق وتجديدها لتظل مستمرة ..
- وكأن عملية الخلق أشبه بعملية تدوير ؟
- هي كذلك فعلا .
- وهل الخلق المدور من الانسان يشعر بوجوده الطاقوي .
بوجوده الطاقوي أجل لأنه يصبح جزءا من الطاقة الكونية ، أما عن وجوده الانساني السابق فلن يعرفه إلا بالوعي المجرد. أما الانسان الباقي القادم فسيعرف ماضي الانسان المنقرض من مدوناته وأرشيفه التاريخي للوجود.
- أليس هناك شيء من التناسخ في العملية وخاصة ما يسمى بتناسخ الأرواح ؟
- أكيد لا . الروح هي الحياة السارية في الكائنات وفي الوجود . وهي لا تموت بموت الكائن كحياة . فإن ماتت في الكائن فهي باقية في الكائنات الأخرى وفي الوجود . أما أن تنتقل حياة ومكتسبات انسان محدد إلى آخر، فهذا مجرد اجتهاد من اجتهادات العقل البشري في بحثه عن سر الوجود ،ولا حقيقة له على الاطلاق. وإلا لكنا نرى أنبياء ومفكرين وفلاسفة يتجددون، فلم نر لا أفلاطون ولا محمد ، ولا أرسطو ، ولا غاندي يتجددون! كأن نرى أحدهم يدعي أنه أرسطو في صورته الجديدة ، ويخبرنا عن فلسفته وأين عاش ومتى وكيف ! يعجبني الاجتهاد الهندوسي في التناسخ
حيث تحل روح الانسان التي هي من روح براهمان في كائن جديد بعد الموت ، لكن حسب عمل الميت في حياته ، فإن كان صالحا ، تحل روحه في انسان أرقى ، وإن كان طالحا ، تحل روحه في كائن أدنى كأن يكون جرذا !! فتخيلي أن يعرف الجرذ أنه كان الانسان كذا وأنه الآن مجرد جرذ نتيجة أعماله الطالحة !
ضحكت الملكة وهي تقول :
- لكن هذا أفضل من الحرق في جهنم !
- أكيد طالما لا يوجد حرق واستبدال جلود وأدمغة تغلي!
بدأ الندل يحضرون أطباق الشواء وهي في سفافيدها أو على شبك :
طبق قطع كباب من لحم الخروف (شقف) وطبق كباب آخر لحم مفروم. وطبق ضلع خروف.
طبق فروج. طبق حمام . طبق فر . طبق كبد. طبق كلاوي! طبق كبّة.
كاد محمود أبو الجدايل أن يخرج من شخصية الملك لقمان ليعود إلى شخصية محمود أبو الجدايل المشرّد في عمان، ويعيد لمى إلى شخصيتها شبه العبثية حين هتف :
- ما هذا يا مجنونة ؟ المقبلات وتقبلناها، لكن هذه اللحوم من سيأكلها ؟!
- لا عليك جلالتك ! سيأكلها العمال! ولن يذهب الجنون الملكي سدى!
التقط بعض الندل صورا لهم وللمائدة دون أن يتنبه لها الملك والملكة . وأعطت الملكة هاتفها المحمول إلى نادل ليأخذ لهما بعض الصور مع المائدة . التقط النادل قرابة عشر صور من نواح مختلفة .
" بصحة جلالتك "
"بصحتك ! لكن لا تشربي كثيرا لأنك ستقودين السيارة "
" كثيرا ما قدتها وأنا ثملة ولم يحدث شيء"
" ليس في كل مرّة تسلم الجرّة .. كما يقولون ! "
يصدح صوت أم كلثوم عبر مكبرات الصوت :
والهوى آه من الهوى
سهران الهوى، يسقينا الهنا .. ويقول بالهنا .. يا حبيبي
يلّه نعيش في عيون الليل
ونقول للشمس تعالي تعالي بعد سنه .. مش قبل سنه
دي ليلة حب حلوه بألف ليله وليله ..
بكل العمر .. هو العمر إيه غير ليله زي الليله
إزاي أوصف لك يا حبيبي إزاي؟
قبل ما أحبك كنت إزاي يا حبيبي ؟
أحست لمى وهي تتمايل مع الموسيقى أنها في حاجة إلى الرقص ، فنهضت لترقص كما لم ترقص من قبل في حياتها ، لتثير رغبة بعض الفتيات والنساء في المنتزه للرقص ، فنهضن وشرعن في الرقص، ليتحول اليوم إلى يوم فرح ، يفرح به جميع من كانوا في مطعم المنتزه، وقد عرفوا من الندل أنهم في حضرة ملك وملكة وإن كان تمثيلا لا حقيقة ! وما أن فرغت أم كلثوم من ألف ليلة وليلة ، حتى وضع مديرالمنتزه موسيقى هادئة للرقص. انحنى الملك لقمان أمام الملكة وهو يمد يده لها طالبا مراقصتها . وهكذا فعل معظم من كانوا في المنتزه . وقد أخذت الكثير من الصور الثابتة والمتحركة للراقصين وخاصة الملك والملكة !
ما أن انتهت الرقصة حتى انحنى الملك أمام الملكة وقبل يدها شاكرا ، وقادها ليعيدها إلى مقعدها ، وهذا ما لم يفعله الآخرون .
****
طلبت الملكة فاتورة الحساب .. لم تكن تتجاوز ال 800 دينار .. أعاد رئيس الندل مبلغ مائتي دينار للملكة ، لكنها تركتها للندل والعاملين .
وهما يهمان لمغادرة المنتزه . أمر مدير المنتزه أن يودّعا كملكين . اصطف الندل والعاملين في صفين لوداعهما ، وأحنوا رؤوسهم احتراما لهما وهما يمران بينهم محيين وشاكرين.
*****








(29) الجدائلي الأخير محمود أبو الجدايل !
والمقصود بالجدائلي الأخير من حيث فهمه المتطور لمذهب وحدة الوجود وكونه ما يزال على قيد الحياة خلال كتابة هذه النصوص ، وليس لعدم قدوم جدائليين بعده . فالجدائليون لن ينقرضوا من الحياة البشرية طالما هي قائمة ، وسيظل دأبهم البحث والعمل على ما هو أرقى وأجمل للحياة البشرية إلى أن تبلغ الكمال!
كما أن محمود أبو الجدايل لم يكن يشبه كثيرا من الجدائلين السابقين عبر التاريخ . فأحد الجدائليين على سبيل المثال كان من صحابة النبي محمد، بإيمانه برسالته وإخلاصه له ، وتشرده معه ، وحتى خوض حروبه فيما بعد من بدرإلى فتح مكة ! وحظي بحصة من الغنائم والسبايا من النساء ، وكان لا يقبل إلا العذراوات ، ما عدا مرة واحدة قبل فيها أن تكون محظيته ثيبا ، فقد كانت إحدى جميلات بني قريظة وقد أعدم زوجها مع المئات الذين قطعت رؤوسهم وألقيت في خندق بعد استسلامهم ، وكان لسطوة جمال المرأة أن الجدائلي لم يمهلها لتخرج من حالة الحزن على زوجها ، فاقتادها إلى ما وراء كثيب في الصحراء وشرع في مواقعتها، وظل يواقعها لثلاثة أيام إلى أن افتقده الجيش عند انطلاقه . تزوج منها فيما بعد لكثرة ما عشقها، لتصبح الزوجة السابعة عشرة له، ولينجب منها جدائليا أصبح في سن الشباب واحدا من أشجع فرسان المسلمين، وخاض حرب الجمل مع عائشة ، وبعض حروب معاوية مع الخوارج وقيل أنه فكر في الاستيلاء على الخلافة ، فبلغ الأمر إلى يزيد بن معاوية ، فأحضره وأمر بقطع رأسه أمامه وهو جالس على كرسي الخلافة ! وما أن تم ذلك حتى نهض يزيد وركل الرأس المقطوعة بقدمه !
جدائلي آخر تعيس الحظ اتهم بحديث الافك حول أم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل ، في غزوة بني المصطلق، كونه كان أحد أصدقاء عبد الله بن أبي سلول ، الذي تولى الافك حسب صحيح البخاري ، غيرأنه هرب وتاه في الصحراء حتى لا يطاله عقاب الجلد مع من جلدوا .. فنحل جسمه لسوء التغذية وكاد أن يموت جوعا، لو لم تهاجمة بعض الضباع ليلا وتفترسه.
أحد الجدائليين الآخرين كان من قادة جيش موسى بن نصير الذين أوكل إليهم قيادة الجيش المرافق لثلاثين ألف بكرمن بنات ملوك القوط وأعيانهم، أرسلهن موسى سبايا إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك لينعم بجمالهن ! وكان هذا الجدائلي يختاركل يوم ثلاث أبكارعلى الأقل ليضاجعهن ،وحين وصل إلى دمشق بعد قرابة شهرين كان قد افتض بكارة أكثر من مائة عذراء من أجمل الفتيات ، وراح يتمنى أن لا يقع اختيار الخليفة على إحدى اللواتي افتض بكاراتهن ، فتخبر عنه ، ولحسن حظه أن الخليفة مات قبل أن يجتمع بأي من السبايا .. فتحولن للورثة ! وحين استلم سليمان الحكم بعد أبيه عزل موسى بن نصير، لأنه كان على خلاف معه ، فاتهمه باختلاس الأموال ووضعه في السجن ،ولم ينقذه سوى شفاعة يزيد بن المهلب لدى سليمان ، ليقضي باقي حياته بلا مجد ، وبرفقة بعض الأصدقاء ومنهم ذاك الجدائلي!
معظم الجدائليين الآخرين كانوا أقرب إلى الجدائلي الاخير محمود أبو الجدايل ولو بطموحهم الفلسفي . حتى أن أحدهم ادعى أن أرسطو كان جدائلياً ! وأول عقلاني وقف إلى جانب المعتزلي واصل بن عطاء، وقدم العقل على النقل، والتفكير قبل السمع ، ورفض الأحاديث التي لا يقرها العقل، ومعرفة الله بالعقل، وجعله حاكما على النص، لا مجرد وسيلة لفهم وتأويل ما هو مسطور في النصوص، كان جدائليا أصليا من نسب الجدائليين الاوائل الذين اكتشفوا النار والزراعة والصناعة فيما بعد واخترعوا العجلة وبناء السفن ، وألفوا الأساطير حول الخلق في بلاد الشام والعراق وفارس ومصر ، وجاءوا بالفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات المثالية وشبه المادية في الهند والصين والأمريكيتين ، وأستراليا وبعض دول افريقيا .. ولم يكن معظم من جاءوا فيما بعد في بلاد المسلمين وغير المسلمين إلا من هؤلاء الجدائليين ، الذين اعتمدوا العقلانية في فهم الوجود والغاية من الخلق ليتوجها محمود أبو الجدايل باجتهاده المميزكما يعتبره ، وهو أن الوجود هو الواجد وأن الغاية منه هي بناء الحضارة وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال بين بني البشر.
ومن الجدائليين من كانوا من أتباع أشهر المتصوفة كالحسن البصري ورابعة العدوية والبسطامي والحسين بن منصور الحلاج وذي النون المصري والغزالي وابن عربي والسهروردي وجلال الدين الرومي والشيرازي والشمس التبريزي وابن الفارض وعبد القادر الجيلاني وابن عطاء السكندري وعبد الكريم الجيلي وغيرهم ..
ومنهم من كانوا من أتباع العلماء والفلاسفة كابن رشد وابن خلدون والفارابي والكندي وابن سينا وابن الهيثم وابن باجه والخوارزمي والبيروني والخازني وغيرهم.
وقد ساهم معظم هؤلاء في فهم وتطوير فلسفة وعلوم اليونان لتنتشر في العالم . ويروى عن هؤلاء أن الغرب لم يفهم فلسفة أرسطو إلا عبر شرح ابن رشد لها .
*****
يوم الغداء الملكي على شاطىء البحر الميت، أعادت لمى محمود أبو الجدايل إلى البيت وانصرفت .. أحس برغبته في نوم عميق بعد هذا اليوم الحافل . استلقى في السريرمتمنيا أن لا يداهمه كابوس ما من أكثرالكوابيس التي يراها في نومه ، كرؤية بيتيه في دمشق وعمّان منهوبين من كل شيء ، حتى من بعض الجدران وهو نائم ! أو مطاردة مخابرات وجيش الاحتلال له ، أو فقدان حقيبة الكتف التي تحوي الهوية وجواز السفروبعض النقود ، أو كوابيس ثمن التحرر الجنسي الذي منحه لبعض من أحبهن في حياته ، كأن يراهن يمارسن الجنس مع آخرين! أو كابوس فقدان الطريق إلى بيته ، ورؤية نفسه محشورا في جرف شاهق من الصخور لا يعرف كيف يخرج منه، والحلم بالطيران الذي رافقه لبضعة عقود لم يعد يظهر للأسف ، وإذا ما ظهر فلن يكون قادرا على الطيران كما من قبل . كوابيس كثيرة يداهمه أحدها بين فترة وأخرى خلال النوم ، وأكثرها رؤية له هو سرقة بيتيه ! وكي يضمن ولو بحدود أن لايرى ايأ من هذه الكوابيس في نومه ، ابتلع حبة دواء منومة واستنهض شخصية الملك لقمان من دخيلته ، وتخيله نائما على صدر الملكة نور السماء ، وما لا يصدق أنه تخيلها في شخصية لمى ، ليغفو دون أن يدري كيف غفا ، ليرى أجمل حلم شاهده في حياته ، فقد رأى نفسه يواقع نور السماء في شخصية لمى وهو بشخصية الملك لقمان ، لينام أطول وأجمل نوم نامه في حياته ، وحين استيقظ قبيل الفجر لم يصدق أنه نام قرابة ثماني ساعات .. فقد كان يحسد نفسه حين ينام أربع ساعات دون أن يستيقظ !غسل وجهه بماء بارد ، وحضر كأسا من الشاي الأخضر، وجلس إلى طاولة الكومبيوتر وهو يفكر في كتابة مقال عن الخلق والخالق ، لينشره على الفيس بوك وفي المنتديات المشترك فيها .
مسائل فكر فيها كثيرا خلال تأمله ومطالعاته للفلسفة والتصوف وما بلغته علوم الفيزياء، فكتب :
*الوجود الوهم تمظهرمجسّد للوجود !
"كان بودي أن يكون مقالي إجابة عمّا توقعه علماء الفيزياء حول إمكانية أن يكون العالم وهماً وأنه ليس إلا صورة ليزرية ثلاثية الأبعاد نراها حقيقية ، لكن وللأسف أجلت الأمر لكثرة الأفكار التي تتصارع في دماغي فارتأيت أن اورد مقولات مختصرة حول الأمر نفسه دون الغوص في متاهة المقدمات المؤدية إليها ، على أمل أن أتمكن من ذلك في وقت قريب ، وهي بالتأكيد مقولات نتاج تأمل في الثصوف والفلسفة والعلوم الفيزيائية :
جدائليات :
1322- لو أن خالق الكون أقصر توظيف الطاقة في جسد الإنسان على أفعال محددة ، لما كان هناك ابداع ، وبالتالي ، لما كان هناك شيء اسمه حضارة !
1323- محنة عقل الإنسان حتى اليوم أنه لم يدرك الغاية من وجوده .
1324- حين يدرك الإنسان ، أن الغاية من وجوده هي مشاركة الخالق في عملية الخلق ، بتحقيق قيم الخير والمحبة والعدل والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية ، يكون قد وضع عقله وعمله وقدمه على الطريق الصحيح لإقامة الخلق الكامل . وهذا يعني أن عملية الخلق الحقيقية التي ينشدها الخالق ، لم تبدأ بعد !
1325- الوجود حتى اليوم ما هو إلا صورة متمظهرة لمتخيّل الخالق ، أراد لنا أن نراها مجسدّة وحقيقية ، لكي نقوم بدورنا في إغناء تصوّر المتخيّل الإلهي ، نحو الأمثل والأجمل والأكمل ! فذات الإنسان من ذات الخالق ، حسب رأي أسلافنا المتصوفة ، وما أثبتته علوم الفيزياء بوحدانية الوجود دون التطرق لوجود إلهي !
1326- المتصوّفة وخاصة في بعض مدارس مذهب وحدة الوجود ، ساروا حسب ثقافة زمنهم على ما يمكن أن نعتبره الطريق الصحيح نحو المعرفة الوجودية ، لكنهم تعثروا كثيرا، وكثيرا جدا، خاصة حين اعتبروا أن الخالق خلق الخلق وانتهى الأمر ، وهو الآن مستريح في امتداد اليوم السابع ... وثمة عثرات أخرى كثيرة جدا، بحيث لم يستطيعوا الخروج بالمطلق عمّا سبقهم من أفكار حول الوجود والغاية منه .
نشر المقال على الفور بعد الانتهاء منه . لتنهال الردود . منها ما هو مؤيد ومنها ما هو معارض . لكن بعض المعارضين من استعانوا حتى بالعلوم الفيزيائية لاثبات وجود ألوهة ، ما اضطر محمود أن يباشر بكتابة مقال يرد فيه على بعض الآراء :
*هل يصبح وجودنا يوما حقيقة واقعية ؟!
أسئلة كثيرة خطرت لي وأنا أتابع الردود في المواقع المختلفة ، وكدت أن أذهب في رحلة مع الفيزياء الكمومية ، انسجاما مع فلسفتي القائلة بأن الخالق طاقة سارية في الخلق ولا شيء غير ذلك ، كون الوجود مكون من مادة وطاقة ، وكلما تحركت المادة أو تفاعلت أو انطلقت بسرعات هائلة تفوق كثيرا سرعة الضوء تحولت إلى طاقة وكلما أبطأت من حركتها تحولت إلى مادة .ورغم أن هذه ليست أكثر من نظرية عامة إلا أن علوم الفيزياء لم تنقض صحتها .
تطرق أحدهم ردأ عليّ إلى الطاقة الهولوغرامية التي رأى مكتشفوها أن الوجود وهم وأن ما نراه بأعيننا ليس الحقيقة ، فنحن حين نرى ، نرى الوجود الإفتراضي الوهمي المقررأن نراه وليس الوجود الحقيقي الذي لا نعرف ما هو ! وهذا ما ذكرني بقول ابن عربي الذي رأى أن الوجود وهم انطلاقا من فكر صوفي يرى أن الوجود الحقيقي هو لله وحده وما تبقى هو حالات افتراضية وهمية ليس لها أي وجود حقيقي.
لقد سبق وأن خالفت ابن عربي في ذلك رغم أنني قلت في بعض شطحاتي " حياتنا كلها افتراضية وحين يتوقف الله عن خياله الإفتراضي سينتفي وجودنا " النظرية الهولوغرامية في الفيزياء تكاد تقول أننا لسنا موجودين حتى افتراضيا !
إن مسألة تخيل أن تكون موجودا وغير موجود في الوقت نفسه مسألة عصية على العقل البشري أن يستوعبها ولا نعرف ما تبطنه الفيزياء من أسرار قد تتكشف للبشرية في العقود المقبلة ونأمل أن يكون ثمة خطأ في النظرية يتقبل وجودنا أوعلى الأقل وجودنا المؤقت كحقل تجارب لمستقبل خلق حقيقي أكثر تحضرا وإنسانية وجمالا وكمالا ..
لم أغص في متاهات الفيزياء وتحولات المادة والطاقة حين وجدت نفسي مدفوعا للكتابة عن الموضوع . فكتبت سابقا في صفحتي على الفيس تحت عنوان " يكفينا ما فينا من جنون " ما يلي :
أنا في رحلة مع الفيزياء الهولوغرامية وهذه مسألة تجنن فلا تسألوني عنها لأنني لا أريد لأصدقائي أن يجنوا..من يتصور مثلا أن أقول لحبيبة قلبي أنت لست موجودة يا حبيبتي وأن وجودك لا يتجسد إلا عندما أنظر إليك بعيني الثاقبتين وأشكلك في دماغي بسرعة هائلة تفوق أضعاف سرعة الضوء ، وما أن أزيح نظري عنك حتى تختفين وتذهبين في العدم الهولوغرامي ! في الفيزياء الهولوغرامية ؟!
اقتباس من صاحب المقال الذي كنت اقرأه في منتدى اللادينيين ( بقلم السرداب ) :
"لقد أصبحت أطروحات الكون الهولوغرامي من القوة بمكان بحيث أن أطباء الاعصاب بدأوا يتعاملون مع مرضاهم على أساس أن الكون الهولوغرامي حقيقة لا تقبل النزاع وأن أدمغتنا صُممت لترى كونا هولوغراميا وليس كونا حقيقيا.
يقول ستانيسلاف جروف Stanislav Grof أنه على مستوى الهولوغرام تستطيع استيعاب كل مباحث الباراسكيولوجي "
( الباراسيكولوجي) علم ما وراء الطبيعة !
اقتباس من مقال السرداب أيضا :
"ما هو الهولوغرام ؟؟ الهولوغرام هو صورة ليزرية ثلاثية الأبعاد مجرد صورة شبحية ..."
تعقيبي على المقال في منتدى اللادينيين :
" المقال يريد أن يثبت وجود خالق بطرقه للنظرية الهولوجرامية التي لا تثبت ولا تنفي وجود خالق . إنها تثبت وجود طاقة هائلة خلف الوجود وهذا أمر ليس جديدا . فالوجود مكون من مادة وطاقة ولا شيء غيرهما. وهذه الحال ليس بالضرورة أن تكون إلها أو بفعل إلهي ، وهي بالتأكيد ليست دينا ، فلا علاقة لها بالديانات البشرية التي أنتجها العقل البشري ، حتى لو ثبت أنها طاقة إلهية .وسنظل نقول إن الحقيقة المطلقة لم يتوصل إليها العقل البشري بعد وقد لا يتوصل على الإطلاق ، لأن الحقيقة المطلقة قد لا تكون ثابتة وقد لا تكون موجودة "
وعلق الصديق أمين صدقي بما يلي:
"أذكر كدارس فنون عندما تطرقنا لفلسفة الفن و علم الجمال فى الدراسات العليا أن الحديث امتد بنا الى هذا الموضوع وأن مانراه بعيوننا وتترجمه عقولنا ليس مطابقا لما هو موجود في الواقع والحقيقة ، وحتى لمس الأشياء وتحسسها باليد انما يترجم فى العقل الى ما عرفناه ذهنيا، فلا المكعب مكعب ولا الكرة كرة وحتى الخط المستقيم لا وجود له فى الحقيقة بالفعل لأنه ليس مستقيما بل خط منحني فى الواقع ...
وحتى الجمال ليس له تعريف فيزيائى ثابت وإنما هى نسب متفق عليها تختلف مع الزمن ومن حضارة لأخرى ومن شخص لآخر، وكلها صور للأجسام تتكون داخل عقل الفرد يشعر بها عند النظر اليها (يحسها) أكثر من أنّه يراها فعليا بشكلها و حجمها الحقيقى! فعلا موضوع معقد جدا "
وعلق الصديق مازن شنارعلى الفيس بوك بما يلي "
"أتيت إليك محمود المثير دائما للعقل: كلام بمنتهى الدقة ، والأصل هو طاقة، وتكاثف الطاقة هو الذي يمكننا من التعامل مع المادة المتشكلة والتي نحن جزء منها، نحن نرى الأحمر ليس لأنه أحمر، بل لأن كوده أو كول موجته بحدود الميكرومتر، فالألوان هي أمواج، والأمواج هي طاقة تتناسب مع ترددها ، وكل تردد يخلق عالما مختلفا من اللون أوالصوت أو المعلومة، في النهاية هناك وعي إنساني هو الذي يصنع المعنى أوالحقيقة النسبية، والوجود ليس كما نعتقد، بل هو معلومات مكودة من خلال ترددات ذات قيم تنقل إلى أدمغتنا كودات المعلومات من المشاهد والأصوات والإثارة والجنس والحب والحنين وغيره... مجموع الأمواج وتكاملها يشكل مايسمى القوى ويرسل إشاراته إلى وعينا لنراه كما أراد المصمم أن نراه ، والوعي يعتمد على الاستجابة الزمنية، فلو أن استجابتنا الزمنية تضاعفت لتضاعف اليوم وأصبح بمقدار 48 ساعة، ولو نقصت الاستجابة الزمنية للنصف لنقص اليوم لدينا إلى 12 ساعة... يعني هذا أن شعورنا بالوقت هو الذي سيتغير وإنجازاتنا هي التي ستزداد ، أو ستنقص..... وبالتالي هناك لعبة كبيرة تتحكم بكيفية وجودنا ، مؤثرة على نظرتنا وتفاعلنا مع الكون.. فالوجود هو وهم وهو ليس حقيقة بل إخراج لحقيقة .. وتحيتي لك"
واختتمت أنا بعد شكر المعقبين بالقول:
"سأحتفظ برأيي الذي يشير إلى أن الطاقة الكامنة وراء الخلق ما تزال في مرحلة تجارب لخلق الإنسان الحقيقي الكامل . وآمل أن لا يطول انتظار ذلك الزمن "
*****












(30) انفضاح غداء البحر الميت !
كان محمود أبو الجدايل يتناول فطوره البسيط في الواحدة بعد الظهر حين رنّ الهاتف . كانت لمى هي المخابرة :
- مرحبا حبيبي!
- أهلا لمى .
- ماذا تفعل ؟
- أفطر !
- الآن ؟
- أجل!
- على ماذا ؟
- كعك وشاي!
ضحكت لمى .
- هل لديك الوقت لتسمعني ؟
- أكيد !
- غداء البحر الميت منشور على الفيس وغيره من المواقع مع صور وفيديوهات .
- يا إلهي !
- إذا يشكل الأمر مصدر خوف لك أوخطراً عليك احضري إلى عندي فوراً ، فربما لا يعرف عنواني ، مع أنه لا شيء صعب في زمن النت.
- لا عليك ، ليس هناك أي خطر ، أبي وأخي عرفا كل شيء . أخي اتصل بي وخاطبني قائلا : " شو ما لقيتي واحد تعشقيه غير هذا العجوز محمود أبو الجدايل ؟" قلت له " هذه مسألة تخصني وليس من حقك التدخل فيها " اعتذر وأخبرني بما رآه على الفيس ثم أقفل الخط . لقد بحثوا عبر صورتك على النت ، كما أن كثيرين عرفوك وذكروا اسمك وعملك في تعليقاتهم على الفيديو والصور .
- وماذا عن ردة فعل أبيك ؟
- جاء ودخل دون أن يتفوّه بكلمة . وجلس على أريكة ضاما قبضة يده اليمنى إلى راحة يده اليسرى ليضعهما على فمه ، وظل ينظر إلي في مواجهته بنظرات ساكنة دون أن يتفوه بكلمة . وحين طالت نظراته دون أن يتكلم تخوفت .. هتفت متعاطفة معه " أبي !" لم يتكلم ، لكن الدموع راحت تنزلق من عينيه دون أن يبدو عليه أنه يبكي ! لم أر دموعه منذ أن رحلت أمي ، كانت دموعه حين ذاك تعبر عن حزن عميق. اقتربت منه وضممت رأسه إلى صدري وألقيت رأسي على رأسه وشرعت في البكاء وأنا أهتف " أبي .. حبيبي ، أفديك بروحي " ورحت أمسح دموعه .. احتاج إلى بضع دقائق ليهدأ ويقول ما يريد ، معلقا على ما رآه وسمعه وعرفه :
" لمى ! "
" بابا حبيبي "
" أنا سبب مأساتك وآن لي أن أنسحب من حياتك مهما كان ثمن هذا الانسحاب ، لعلك تعيشين حياة سويّة طالما تمنيتها لك ، تشعرين فيها بسعادة ما . هنيئا لك بمحبة هذا الرجل ، الذي عرفت أنه أديب ومفكر ، متمنياً أن يبادلك الشعور نفسه ، وأن يحقق لك ولو الحد الأدنى من السعادة التي حرمتِ منها طوال عمرك " وشرع في معانقتي .
أحسست وربما لأول مرة في حياتي أنني أعانق أبي كأب بعيدا عن أية نوازع أخرى ، وهذا ما كان شعوره ، دون أن تفارق الدموع عينيه ، ودون أن يبدو عليه حزن ، إنها دموع أقرب إلى الرضا ، ربما لإحساسه بالتطهر من اثمه ! تأكدت من ذلك حين أبعد وجهي قليلاعنه لينظر فيه ، لأرى ابتسامته عبر الدموع ، ولأبتسم بدوري عبر دموعي ، لنغرق في عناق طويل ، ولينصرف بعد ذلك دون أن يقول كلمة ، ما أشعرني أنه ذاهب إلى حيث لن أراه ثانية . محمود أنا عاجزة عن شكرك .. أنقذتنا من وضع شاذ لم نعرف كيف نخرج منه . هل يمكنني أن أحضر إليك في المساء إذا لم يطرأ ما هوغير متوقع ؟
- طبعا لمى .. ممكن .
- رجائي أن تأكل طعاما مغذيّاً وتترك الكعك والشاي! ولا تفكرفي أن نقودك ستنفد.
- سأفعل ولا يهمك !
- إلى اللقاء!
- إلى اللقاء!
*******
راح محمود يطالع أخبار الغداء والصور والفيديوعلى صفحة االمنتزه على الفيس بوك . وبدا واضحا أن الخبر قد صيغ بعناية بحيث لا يسيء إليهما وليبدو وكأنه دعاية للمنتزه ! فقد نشر الخبرتحت عنوان : "ملك وملكة يتناولان طعام الغداء على مائدة ملكية في كازينو البحر الميت " مرفقا بصور وفيديو. ومما جاء فيه :
فوجئ العاملون في الكازينو بقدوم رجل وسيدة ظهيرة أمس لتناول طعام الغداء في الكازينو ليكتشفوا فيما بعد أنهم أمام ضيفين فوق العادة ، بعد الطلب غيرالعادي لأنواع الأطعمة التي طلبتها السيدة، والتنبه إليها وإلى الرجل وهما يتحدثان إلى بعضهما كملك وملكة ، وبعد تكهنات وتساؤلات بين العاملين والادارة حولهما ، خرج الجميع باعتقاد أنهّما ممثلان يجريان تمريناً على مشهد سيقومان به للسينما أو للتلفزيون ، فصدرت توجيهات الإدارة بالتعامل معهما كملكين وعدم توجيه أي أسئلة لهما لإنجاح مسعاهما ..وهكذا تحول المطعم بإدارته والعاملين فيه وحتى رواده إلى الإحتفاء بالملكين وتوفير كل ما يسرهما ، وشارك روّاد الكازينو الملك والملكة الرقص. ليعيش الكازينو يوما تاريخيا لن تمحوه الذاكرة . وودع الضيفين كملكين من قبل الإدارة والعاملين .
واختتم الخبر بانتهاز الفرصة وشكر الضيفين لاختيارهما كازينو البحرالميت لتناول طعام الغداء فيه .
وبعد أن اطلع محمود على الفيديو والصور راح يستعرض التعليقات المختلفة على الخبر. علق أحدهم ممن عرفوا محمود:
" هذا الرجل ليس إلا الكاتب محمود أبو الجدايل .. أما السيدة فربما تكون صديقته . وعلى الأغلب أن هذه الوليمة قد أقامتها السيدة على شرفه ، كما يتضح من الخبر، إذ يبدو أنها سيدة ثرية ، وربما من قراء محمود أبو الجدايل "
آخر علق على التمثيل :
" أعتقد أن محمود أبو الجدايل تقمص شخصية الملك لقمان وهي أهم شخصيات أدبه، وربما ما يزال محمود متأثرا بها ، وقررت السيدة الدخول معه في الحالة ، ربما لإظهار مدى محبتها له أو لأدبه وفكره "
آخر:
" لكن ما الداعي لهذه الوليمة التي يبدو أنها تكفي لما لا يقل عن عشرين شخصاً؟"
رد أحدهم مجيبا :
" لكي تبدو وليمة ملكية كما أرادت السيدة "
آخر:
" منذ بضعة أعوام ومحمود أبو الجدايل يشكو من التشرد والتخوف من أن تنفد نقوده ، فهل هبطت عليه هذه الفتاة الثرية من السماء ؟"
تعليق سيدة :
" ألف صحة أستاذ محمود يا ملك .. تستحق كل المحبة والتقدير "
آخر :
" يبدو أن السيدة واقعة في حب الأستاذ محمود "
أحدهم يجيبه :
" مع احترامي للأستاذ محمود تبدو الفتاة شابة وجميلة وأشك في أنها تقع في حب كهل بعمره "
فتاة:
" الحب أعمى "
فتاة أخرى :
" الحب لا يعترف بالأعمار "
صديق:
" ألف صحة أستاذي دامت لك أيام الفرح والسعادة "
سيدة :
"ألف صحة عزيزي محمود . رقصتك مع الفتاة مدهشة "
صديق آخر :
" من شان الله قل لنا ماذا جرى ومن هذه الفتاة ؟ "
صديقة :
" صحتين استاذ محمود . دخلت على صفحتك ولم أجد ما يشير إلى هذا الخبر، فهل صحيح أنكما كنتما تتخاطبان كملك وملكة ؟"
صديق آخر متسائلا :
" ما أعرفه عن محمود أبو الجدايل أنه متصوف وشبه زاهد ، فكيف يقبل أن تقام على شرفه مائدة بهذا الحجم والتنوع وكأنها مائدة في الجنة ، لا ينقصها إلا بضع فتيات لتصبح مائدة مع حور العين "!
راح محمود يضحك وهو يتابع رد صديق على التعليق:
" زهد محمود أبو الجدايل مختلف حسب فلسفته ، فهو مع أن تعاش الحياة بجمالها والتنعم بها ، بعيدأ عن قسوتها وعثراتها.. وأعتقد أنه لم يُسأل عما يريد أن يأكل ، وأن المائدة فرضت عليه من قبل السيدة المضيفة "
آخر مازحا :
" الله يبعت لنا سيدة ثريّة وكريمة من هذا النوع ، بلكي الواحد يعيش كم من يوم حلوين "
سيدة :
" هل نفهم من هذا أن محمود أبو الجدايل ودع التشرّد والفقر ؟"
رد :
" أعتقد أن السيدة ستدعمه مادياً ولو بابتياع بعض لوحاته "
فتاه :
" نأمل ذلك ، محمود يستحق كل خير "
توقف عن متابعة التعليقات وأغلق الكومبيتر، وجلس مسترخياً على أريكة ، متفكرا في أمر لمى وماذا في مقدوره أن يفعل لها ليخرجها من عالمها السابق ويسعدها ..
******













(31) محبّة وأمل !
" قصة أشبه بأسطورة . هل يعقل أن تعاش حياة مثل هذه بين أب وابنته .. وهل يعقل أن لا يستطيعا الخروج منها ، ليعيشا حياة سويّة . رغم أن حياتنا كلها ليست سويّة وإن بدت كذلك . بشر يضحكون ويكذبون على أنفسهم وعلى الله. أيهما أكثر قبولا وعقلانية يا محمود ، مما عرفته في حياتك، علاقة حميمة بين أب وابنته ، أم ناكح أولاد يؤم المصلين في رمضان ، وحاج يزني بحاجّة خلال آداء فريضة الحج ، وشاب يغتصب ستة من اخوته وأخواته ، وأب يغتصب ابنتيه ، وغير ذلك من آثام يكذبون بها على الله . أليست العلاقة بين لمى وأبيها تبدو مقبولة أمام هذه الفظائع ؟ ألم يضاجع نبي ابنتيه وينجب منهما طفلين يكونان أجدادا لقبائل ؟ أبو لمى ليس نبيّاً ، وهي ليست قديسة . آه يا محمود .. وماذا عن تدميرالمدن وقتل الشعوب، وقطع الرؤوس في سبيل الله والحظي بحور العين ؟ هل هناك عالم أسخف وأكثر إجراما من هذا ؟"
حاول أن يخرج من هذا العالم باستنهاض شخصية من دخيلته ، أو من خياله ، ليعيش معها بعض الوقت في استرخائه ، فلم ينجح .. نزع ثياب البيت وارتدى شورتا وقميصا للخروج .. راح يتمشى في حارات اللويبدة إلى أن تعب . جلس على أحد الأرصفة أمام بناية . خرج قط جميل أبيض من مدخل البناية . توقف على الباب وراح ينظر إليه . أشار إليه أن يحضر إليه . نادرا ما يألفه قط حين يتحدث إليه . معظم قطط اللويبدة تهرب من الناس ، حتى ذاك القط الجائع الذي أطعمه ذات يوم لم يعد يراه . ظل القط واقفا يحدق إليه بعينيه الجميلتين . ابتسم محمود وهتف له " تعال لا تخف " اقترب القط على مهل . مد يده وملس على رأسه . اطمأن القط وتقدم ، وراح يتمسح بساقه وهو يملس على رأسه وظهره .
رن الهاتف .. كانت لمى على الخط ، وما أن فتح هاتفه حتى جاءه صوتها :
" أين أنت أ أنا على باب بيتك ؟"
"أنا في الحارة الثانية الموازية لحارة البيت . سأحضر خلال دقائق "
ودع القط بأن ملس على رأسه وهو يهتف "باي صديقي" ! وعاد إلى البيت . وجد لمى تقف على مدخل البناية ، صافحها مقبّلا ..
****
جلسا في الصالون . بدت لمى منشرحة .
- جميل أن أراك منشرحة ! وآمل أن تظلي كذلك دائما !
- ثمة أمر أقلقني وإن أفرحني !
- ما هو ؟
- تلقيت اشعارا من البنك بوضع نصف مليون دينار في حسابي!
- أوه ! مبروك !
- لكن هناك ما هو مقلق !
- أكيد أبي من وضع الفلوس. ولم يضف هذا المبلغ على ما وضعه من قبل لي إلا ليضمن مستقبلي.
- هذا جيد ! وما هو المقلق ؟
- المقلق أن أبي قد لا يعود لرؤيتي أبدا ! فوضع هذا المبلغ في حسابي ، يشير إلى ذلك .
- أين سيذهب ؟
- لا أعرف . ربما سيهاجر إلى بلد ما ..وآمل أن يكون الأمر كذلك .
- هل تتوقعين شيئا آخر؟
- أجل ! خائفة من أن يقدم على الانتحار!
- معقول؟
- معقول جدا . واحتمال الانتحار هو المرجح أكثر من احتمال الهجرة .
- هل حاولت الاتصال به ؟
- حاولت . الهاتف مغلق أو معطل كما يبدو .
- ماذا في وسعنا أن نعمل ؟
- لا شيء . أمام انسان صمم على أن يضع حدا لحياته.
- هل عرف أخوك بالأمر؟
- لا . لم يعرف حتى الآن . قد يعرف إذا ما احتاج أبي في أمر واتصل به ولم يجده .
- هل يعرف بعلاقتكما .
- هو يشك وربما شبه متيقن من شكه ، لكنه يحاول أن لا يصدّق شكّه! فأن أقيم أنا وأبي وحدنا في بيت لبضع سنوات أمرقد يدعو للشك .
- ما العمل إذن ؟
قالت لمى بعد اطراقه :
- سأشرع في حياتي الجديدة وأعتبر كل ما جرى وسيجري تمهيدا لها ، بل تطبيقاً ، وكان يمكن أن يجري من قبل .. لكن الظروف شاءت أن لا يجري إلا بعد أن تعرفت إليك ..
- آه يا لمى !! لا أعرف كيف سأوفق بين فرحي بك ، وقلقي على أبيك وعليك وعلى نفسي أيضا. أبوك انسان ، وهو ليس الوحيد بين بني البشر الذي أخطأ في حياته ، وكم من االخاطئين يعيشون بيننا ، ويرتكبون الخطايا كل يوم .. وكان بإمكانه أن يقطع العلاقة ويبقى في البلد وحتى يطمئن عليك .
- ربما اختار الأمر الذي يريح نفسه أكثر من غيره . آمل أن يغير رأيه .
- والآن ؟
- ليس امامنا إلا أن ننتظر ما ستسفر عنه الأيام القادمة . والآن عندي أمر هام لك .
- هذا رائع ما هو ؟
- أريد أن أبتاع بعض لوحاتك فبيتنا يكاد يخلو من اللوحات . ويسعدني أن أزين جدرانه بلوحاتك .
- ياه ! هذا أجمل نبأ سمعته منذ أن غادرت سوريا وخاصة أن المشترية أنت ! وهذا يعني أنني قد لا أعود إلى التفكير في الانتحار!
- ألم تنته من قصة الانتحار بعد ؟
- للأسف لم أنته !
- كم تتوقع المبلغ الذي سأشتري به ؟
- يا عزيزتي طالما انك دفعت ألف دينار ثمن غداء ، فأتوقع أن تشتري لوحات بعشرة آلاف على الأقل !
- كم تعيّشك أل عشرة آلاف ؟
- دون تبذير ودون الأكل والشرب في مطاعم ، تعيشني سنة بشكل جيد !
نظرت لمى إلى أكبر وأهم اللوحات في البيت . تساءلت :
- كم ثمن لوحة الأساطير هذه ؟
- عرضتها ب 25 ألف دينار في أول معرض أقمته هنا في رابطة الكتاب قبل قرابة سبعة أعوام .
- والآن كم سعرها ؟
- بما أنني لم أبع لوحات بهذا السعر يعني أن سعرها باق على حاله وخاصة لك .
- واللوحات الأخرى كم أسعارها ؟
- هذه ب 25 أيضا ، وهذه ب 20 ، وتلك ب 15 ، وهاتان ب 5000 للواحدة . وثمة لوحات كثيرة أرخص بكثير .. ثمة لوحات صغيرة اللوحة ب 100 أو خمسين دينارا فقط "
فتحت لمى حقيبتها وأخرجت أربعة رزم من النقود كل رزمة تحوي 25 ألفاً ، ووضعتها أمام محمود على المنضدة وهي تردد :
- هذا المبلغ مائة ألف دينار . أريد كل اللوحات التي أشرت إليها !
أطبق محمود بيديه على خديّه وأذنيه وقد اعترته الدهشة وما لبث أن هتف :
- ما هذا يا مجنونة ؟
- أعتقد أن لوحاتك أهم بكثير من هذا الثمن البائس !
- أشكرك ، لكنك ستفرغين البيت من أهم اللوحات ! لو أنني أستطيع أن أحضر لوحاتي من دمشق لما أسفت على هذه .
- يمكنك أن تعطيني غيرها لا تهتم .
- أرجوك لا تتسرعي لتندمي فيما بعد !
وكان بود لمى أن تقول أن محبتها له ومحبته لها أهم من المال كلّه ، غير أنها تخوفت من أن يشعر محمود أنها تريد أن تشتريه بفلوسها ، لذلك قررت أن تبتاع لوحات منه ، وأن لا تعطيه النقود دون مقابل ، كما أنها تجنبت مخاطبته كحبيب حتى حينه وأبقت على هذه المسافة بينها وبينه .
- لم أتسرع ولن أندم على هذا المبلغ البائس مقابل لوحات لفنان وأديب ومفكر عظيم !
- لكن هذا في نظرك فقط ، وفي نظر آخرين قد أكون مجنونا أو ملحدا أو ما شابه!
- يكفيني أن تكون في نظري ولا يعنيني رأي هذا العالم السخيف!
- أيه ! سأعطيك ثلاثين لوحة متوسطة بدلا من أربع لوحات كبيرة من التي اخترتها .
- وأنا قبلت !
ولم يعرف كيف وجد نفسه يفتح ذراعيه ويشرع صدره لها ، لتلقي نفسها عليه ، وليدخلا في عناق انساني حارأعمق من أي عناق عرفته الحياة بين أب وابنته ، أو بين حبيب وحبيبته.
*****
همست وهي ما تزال تلقي رأسها على صدره :
- عدني أن تنسى قصة الانتحار البائسة هذه !
- نسيتها حبيبتي ! وهل يعقل أن أتذكرها بعد الآن ، وبعد أن انتفى الداعي لها ؟!
تنبهت إلى أنه خاطبها حبيبتي، فهتفت من أعماق جوارحها " حبيبي" وراحت تلتصق به لتبدو وكأنها قطعة من جسده .
******
ظلا متحاضنين لبعض الوقت . استعادت لمى جلستها إلى جانبه .سأل محمود :
- ماذا لديك هذا اليوم ؟
- لا شيء!
- طيب . سنختار معاً اللوحات ، ونأخذها إلى محل تأطير ونختار الإطارات ونوع الزجاج ، ومن ثم قد نذهب للعشاء في مكان ما .
- جيد .
أخذ محمود النقود ووضعها في كيس نايلون أسود ألقاه في خزانة الملابس ، ثم قام بإخراج كميّة من اللوحات من الحقائب . أحجام مختلفة بينها مجموعة 80 ب 60 سم وأخرى 70ب 50 ، وأخرى 50 ب 35 .
اختارت لمى 20 لوحة فقط من مجموع اللوحات .
- تكفيني هذه .
- لكن هذه سعرها أقل !
- هل سنعود إلى الأسعار ؟ سأرى، إن بقي متسع في البيت ، سآخذ لوحات اخرى .. إذا تريد أن تبروز بعض اللوحات لك فلنأخذها .. لديك جدران فارغة!
- فكرة ..
انتقى محمود عشر لوحات لنفسه لتأطيرها .
حملا اللوحات إلى السيارة وذهبا إلى حدرج للبراويز .. اختارا الإطارات والزجاج .. وانصرفا ..
*******


(32) العنب الأبيض !
كانا في حاجة إلى مطعم هادئ وفيه كنبات مريحة لحاجتهما إلى جلسة مطولة وأحاديث قد تطول أيضا . توقع محمود أن يجدا في مطعم دخلا إليه . كان هناك ما توقعاة .. ولم يكن في المطعم إلا روّاد قلائل . اختارا زاوية بعيدة نسبيا عن ضيوف المطعم وجلسا إليها ..
- ماذا نشرب ؟
- أكيد وسكي !
- أعدتيني إلى زمن الخمر !
- مصيرنا إلى الموت ، وطالما أنه لا يوجد حياة أخروية فيها جنة وأنهار خمر وحورعين حسب فلسفتك ، فلنشرب في الحياة الدنيا !
- ليكن ! رغم أن رؤيتي الفلسفية إذا ما صحّت سيكون فيها أجمل حياة وأطيب خمر، وأجمل نساء !
- أوه ! هذا اكتشاف جديد لا أعرفه في فلسفتك الطاقوية ! فهل سنشرب الخمرونمارس الحب ونحن طاقة متحدة بطاقة الخالق ؟
- في البدء لا بد من توضيح مسألة في جنة الدين . فحور العين للرجال فقط وليس للنساء !
- أليس هناك حوريون للنساء؟
- للأسف لم تتطرق النصوص إلى ذلك ، هذا من ناحية ، أما من ناحية أخرى فقد لا يوجد حورعين على الإطلاق حسب ما توصل إليه بعض الباحثين . فحور العين لسن إلا العنب الأبيض حسب النص الآرامي للقرآن ! كما سبق وأن تطرقت إلى الأمر.
- وهل هناك نص آرامي للقرآن !
- نعم، رأى بعض الباحثين أن القرآن الأول كتب بالآرامية لأنه لم يكن هناك حرف للغة العربية، في المنطقة التي ظهر فيها الاسلام . حتى أن الباحث السعودي لؤي الشريف رأى أن 85 % من نصوص القرآن هي آرامية ! وحين نقل القرأن أو ترجم إلى العربية فيما بعد، تم ترجمة مفردات كثيرة خطأ، ف (حورو عينو) الآرامية التي تعني (كرمة العنب الأبيض على نبع الماء) ترجمت إلى حور العين العربية التي تعني النساء البيض اللواتي في عيونهن حوّر ! وأن مجمل الآيات الواردة في النص تتحدث عن وصف الجنة كبستان يعج بأشجارالفاكهة وصفاتها ، وليس بالنساء!
- وماذا عن الولدان المخلدين ؟
- حسب الباحثين عصيرعنب، أي خمر!
- يا إلهي ! هل هذا يعني أن النصوص في حاجة إلى قراءة جديدة وفهم جديد مختلف عمّا وصل إلينا ..
- مهما فعلوا أظن أن أحداً لن يتوصل إلى الحقيقة .. لأن أخطاء وتحريفات وإضافات كثيرة قد طرأت على النص الاصلي . وثمة مفردات كثيرة حتى الآن لا يعرف أحد معناها .. أعتقد أن الفكر البشري سيتجاوز في زمن غير بعيد نسبيا فهم الأديان كلها ، لأن العلوم تكتسح العالم بشكل سريع جدا، وأعتقد أن الدين القادم للبشرية سيقوم على مذهب وحدة الوجود بمفهومه الإنساني الخيراني العلماني. وهو ما آمن به آينشتاين وغوته وسبينوزا وقبلهم ابن عربي ومئات المتصوفة .
- إذن ، لنعد إلى مفهومك . كيف سنشرب الخمر ونمارس الحب في الحياة الآخرة ونحن في حالة طاقوية حسب فهمك !
-أيوه ! الحقيقة إن شرح المسألة صعب ! فنحن سنكون في تحولنا المادي من الطاقة ، أو الطاقة بشكلها المادي الطاقوي في الوجود . أي أننا سنكون مجسدين بكل ما في الكون والكائنات ، سواء في الفضاء الكوني ، أو على الكواكب ، أو في أعماق البحار . وبمعنى آخر سنكون في الألوهة بمفهومها الشامل . وبما أن الألوهة شمولية التجسد والمعرفة والإحساس فإنها ستتمتع بما يفعله كل كائن وبشكل خاص الإنسان ، فستتمتع بشرب الخمر مع من يشربه ، وتتمتع بممارسة الحب مع من يمارسه ، والامر ينطبق على كل ممارسة أو عمل ينتج عنه متعة ما أو محبة ما ، أو عواطف انسانية.
- هل هذا يعني أن الألوهة تتمتع معنا بشرب الخمر في جلستنا هذه ؟
- أجل ! هذا ما أسميه الشعور الكوني.
- ماذا يختلف هذا الإحساس عن إحساسنا الحالي في الوجود ؟
- يختلف بشموليته . فأنا وأنت الآن لا نرى ونحس إلا بوجودنا نحن ، وربما من هم في مواجهتنا ، وإذا ما شربنا الخمر فسنتمتع وحدنا ولا نشعر أو نحس بما يتمتع به الآخرون ، الألوهة وحدها هي التي تتمتع بما نشربه ويشربه الآخرون ، وهذا هو الفرق بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة . فحلول الألوهية الآن فينا حلول فردي محدود ، أما في الآخرة فسيكون حلولها فينا أو حلولنا فيها، شموليّا . ولذلك لا يوجد موت في الحياة الأخروية ، لأننا سنكون في الألوهة نفسها بشموليتها :
" عشق الأحبة متبادل
بنبض القلوب
وآهات الروح
ورعشة الجسد
لا يكتمل الحبيب
إلا بالحبيب
فلا اكتمال ، بحب منفرد !
سعي الخلائق إلى الكمال
بسعي الخالق ، يتحد
فإما كمال يعم الخليقة
وإما انتهاء إلى الأبد !!
- قرأت هذا الشعر لك على الشبكة في قصيدة لك عن مذهب وحدة الوجود !
- أنتِ أهم قارئ لي كما يبدو .
- آمل أن يكون الامر كذلك . في الحقيقة يصعب استيعاب هذا المفهوم رغم تبسيطك له . ما الفرق بين مفهومك هذا وبين مفهوم الحلول عند المتصوفة .
- المتصوفة لم يقدموا لنا مفهوما واضحا عن ماهية الخالق ، وأبقوه في تعريف غامض ، ليس كمثله شيء. ولم يقولوا لنا إن كان مكوّنّاً من مادة وطاقة أم من ماذا. ومعظمهم أبقوه منزها عن الوجود، ودون أن يتحدثوا شيئا عن ماهيته أيضا وهل له شكل محدد ؟ الإله التوراتي الذي أخذه الاسلام وطور في مفاهيمة كان ربّا للجنود يقود الجيوش في الحروب ، ويمشي ويأكل ويظهر حتى في عمود من نارأو دخان.. وآخرون من المتصوفة لم ينفوا وجود الجنة وجهنم ، وواجب العبادة ، وإرسال الرسل والأنبياء ، وجميعهم على الأغلب يرون أن النصوص الدينية ، إلهية أو بوحي إلهي .. والأهم من كل ذلك أنهم يرون أن الغاية من خلق الإنسان والكائنات الحية هي عبادة الله ! طبعا وجميعهم يقرون بوجود الجن والشياطين ! ثم إنّ الحلول فيه أو حلوله في الوجود محدد بفئة من البشر دون غيرهم كحلوله في المسيح أو حلول بعض المتصوفة فيه كالحلاج والبسطامي. المسافة بيني وبينهم كبيرة جدا . فلسفتي أو صوفيتي إن شئت واضحة في كل شيء، ولم تترك مسألة وجودية دون إجابة تستند إلى المنطق والعلم وليس إلى الخرافات والتأمل السطحي !
" فكل كائن كان في
وفي كل كائن كنت
فانا الكينونة دون حد
وآفاقي لا تحد
فليس للحد مني حد
ولا حد حيث كنت
انا " الله " أل بلا حد
لا غنى للخليقة عني
ولا غنى لي عن الخليقة
فنحن الواحد في الكل
والكل في الواحد يتحد !"
هنا الحلول الإلهي في كل شيئ في الوجود وليس في شخص واحد أو نخبة من البشر .
- أحب شعرك هذا .. والأجمل في صوفيتك أنك لا تعتبرها حقائق مطلقة ، بل مجرد اجتهاد يستند إلى المعرفة المعاصرة . بينما المتصوفة لا يقبلون الشك في أفكارهم .
- صحيح . لذلك لن يكون من السهل دحض فلسفتي في المستقبل البشري، خاصة وأن الفكر والعلم يتجهان نحوها في تقدمهما .. فنحن الآن نعيش في عصر المادة والطاقة بكل معنى الكلمة .
جاء النادل يسألهما ما يشربان .
" هات لنا نصف زجاجة وسكي بلاك ليبل وموالح فقط .. واترك المقبلات والعشاء إلى ما بعد .."
- شو حبيبي بعدك محافظ على التوفير ؟
- شو بدك إياني أصير مبذّر مثلك ؟ لن يبعث الله لي صديقا ثرياً كل يوم ! ثم إنني أتعب كثيرا للحصول على ما يدرأ عني العوز !
جاء النادل بالوسكي والثلج .. وسكب لهما في كأسيهما ..
- في الحقيقة لم أبذر من قبل كما فعلت يوم غداء البحر الميت ! لأن اليوم كان حياة جديدة بالنسبة إلي .. ثم إنني أردت أن أحتفي بك !
- تشكري حبيبتي .. بصحتك !
- بصحتك حبيبي !
لاحظت لمى أن لفظ حبيبتي بدأ يدخل قلبه ويُنطق على لسانه . وتمنت في سريرتها أن يظل كذلك رغم إدراكها أن محمود لم يوغل بالمعنى إلى حد الحبيبة المعشوقة غراميّاً !
تذكر محمود أباها ، كان قلقا مما سيقدم عليه ،وربما بقدر قلق لمى نفسها .
- ما رأيك أن تتصلي بأبيك لعله يجيب !
سارعت إلى الاتصال وكأنها كانت تفكر في الأمر .
- للأسف لاشيء .. حتى عبارة قد يكون الهاتف مغلقا . لا تُسمع .
- ماذا يمكن أن يكون في حال عدم وجود أي إشارة من الخط !
- لا أعرف ! يفترض أن يكون الرد أن الهاتف مغلق !
- ماذا لو أنه حطّمه ؟
- لا أعرف لم يسبق لي أن اتصلت برقم هاتف محطم أو معطل لأسمع الإجابة !
- سأتصل بأخي !
" مرحبا مفيد .. هل اتصلت بأبي اليوم أو الأمس ؟ "
ظل محمود صامتا إلى انتهت المكالمة .
- للأسف اتصل ولم يحصل على شيء مثلي !
تنهد محمود متأسفا ..
- أمر مؤسف . آمل أن تكون العاقبة أفضل مما توقعته .
- آمل ذلك .. لنتناسى الأمر يا حبيبي طالما أنّه ليس في وسعنا أن نغير فيه !
- بصحتك ! حدثني عن الله ! أحب أن أستمع إلى فهمك له !
- لكن فهمي له مختلف ، فهو قد لا يرى نفسه إلها ، فأنا لم أتوصل إلى امكانية وجود ألوهة إلا عبر تحليل فلسفي لماهية اللغة كونها من نتاج ألوهة مجسدة في الإنسان وسارية فيه . فاللغة بعد اختراعها هي من جاء بالله والألوهة بكافة أشكالها القديمة والحديثة ، وإذا ليس هناك ألوهة سارية في الوجود ولها علاقة باللغة وكل ما ينتجه الانسان لن يكون هناك إله !
- لكنه تحليل جميل ومنطقي ، أنا أحبه ومقتنعة به ، لا أتصور الوجود دون ألوهة !
- لكنه مجرد اجتهاد قابل للخطأ والصواب . فقد يكون هناك ألوهة منزهة عن الوجود كما في بعض الفكر الديني .
- وسنتعامل معه كصواب طالما لم يثبت أنه خطأ ، فالخالق المنزه مسألة بعيدة عن العقل والمنطق .
- هذا ما أفعله أنا ، فتنزيهي يختلف عن التنزيه الديني الذي يجعل لله وجودا مستقلا عن الوجود . أي هناك وجودان : الخالق والخلق . عندي الوجود واحد كما هو عند بعض المتصوفة . وتنزيه الخالق حسب هذا المفهوم هو تنزيه عن كل سوء أو أي عمل شرّاني.. فهو خير مطلق . وجمال مطلق . ومحبة مطلقة . وعدل مطلق . وهذا ما يسعى الخالق لتحققه في خلقه ، لبلوغ الكمال المطلق الذي يطمح الخالقفي أن يتجلى ويتجسد فيه .
- بصحة إلهك أو إلهنا حبيبي !
- صحة !
******
- ماذا سنأكل؟
- بدأت أكره الأكل مع أنني لا أتناول إلا وجبتين في اليوم . غداء مقبول وعشاء بسيط. قبل أن أعرفك كنت أتعشى على اللبن والجرجير والتمر وأحيانا مع نصف تفاحة وموزة صغيره .. لو كنت آكل ثلاث وجبات كالناس لأصبحت كالفيل ! غير معقول ان يأكل الانسان ثلاث وجبات في اليوم .
- لذلك أنت نحيف !
- وزني في العادة يقف على 72 أو 73 كغم . لكن منذ أن بدأت بتناول العشاء الخفيف على أثر مرضة بالتهاب القولون ، نزل وزني إلى الخامسة والستين ، وما زال ينزل .
- يجب أن توقف هذا النقص في الوزن حبيبي وتأكل لتستعيد ما فقدته .

- سأحاول طالما أنت دخلت حياتي وأعدتني حتى إلى الخمر الذي لم أتناوله إلا في المناسبات منذ قرابة ثلاثة أعوام .
- اذن سنأكل شواء ومقبلات !
رفع محمود يده إلى النادل .
" هات لنا طبق شواء مشكّل . ومقبلات سلطة ومتبل وحمص وبطاطا مقلية .
بدت لمى وهي تفكر في أمر ما .. تساءل محمود :
- في ماذا تفكرين ؟
- افكر في أن أسألك عن الإله التوراتي الذي طور الاسلام مفهومه كما قلت .
- يعجبني فيك تطلعك إلى المعرفة ، وثقتك العالية بمعرفتي . يا عزيزتي الإله التوراتي ( يهوه ) إله وثني لا يختلف عن الآلهة الموجودة في المنطقة آنذاك . حتى أنه أحيانا يأخذ اسم الإله إيل الكنعاني ( مع تحفظي على مفردة كنعاني ) حتى اسم اسرائيل نفسه متصل باسم الإله إيل . ويهوه كان إلها لبني اسرائيل وحدهم دون الأمم . والأمر نفسه كان لدى بعض شعوب وقبائل المنطقة . فالعمونيون مثلا كان إلههم يدعى ملكوم . والمؤابيون كان إلههم لكموش . والصيدونيون عشتروت وهكذا .. وهؤلاء وخاصة اليهود ، كانوا يرتدون عن عبادة إلههم كثيرا ويعبدون آلهة الشعوب الأخرى وحتى عبادة العجل ! والملك سليمان نفسه تخلى عن عبادة يهوه واتبع آلهة النساء الكثيرات اللواتي أحبهن من عمونيات ومؤآبيات وصيدونيات وغيرهن ، ممن كن يوقدن ويقدمن قرابين مذبوحة لآلهتهن . والقرابين في الغالب كانت من الأطفال . غير أن الإسلام رأى أن النصوص التوراتية وحتى الانجيلية حُرّفت لتشوّه صورة يهوه أو صورة الله كما يراه ، فدافع عن ارتداد سليمان وكفره بالقول حسب ما يرد في سورة البقرة 101" واتبعوا ما تتلوالشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان لكن الشياطين كفروا" وهذا الأمر ينطبق على جميع أجداد وملوك اليهود . فجميعهم كانوا مؤمنين مسلمين حسب الإسلام .
إذن نحن أمام إله وثني بكل ما تعنيه الكلمة ، عدا أنّه إله عنصري كان لبني اسرائيل وحدهم وفضلهم على البشر، وكثيرا ما كان يغضب عليهم وينزل بهم المصائب حين يرتدون عن عبادته ، والإسلام هو من رقى بمفهومه له حتى أصبح إلها توحيديا مع أنه لم يكن كذلك على الاطلاق . فالإله التوحيدي ينبغي أن يكون إلها للبشرية كلها وليس لفئة معينة من البشر . لذلك لم يتقبل اليهود الفهم الإسلامي فهم يريدون يهوه إلها لهم وحدهم . فما الذي فعله الاسلام :
لقد أفاد الاسلام من النصرانية التي سبقته ، وكانت بدورها تطورا للديانة اليهودية ، فرَقت بها من ديانة لفئة من البشر إلى ديانة أممية ، وجعلت من الرب الذي ليس إلا يهوه نفسه ، ربّا للبشرية كلها ، وأضفت عليه صفات ألوهية انسانية ، كالرحمن الرحيم. وهذا ما أخذ به الاسلام وطوره بدوره نافيا عنه الطبيعة الناسوتية والتثليث ، ممثلاً في الأب والابن والروح والقدس. حتى لو كان الثالوث يرمز إلى وحدانية في الألوهة . كما جعل من المسيح نبيّا وليس إلها . هذا إضافة إلى تعاليم أخرى وردت في المسيحية . كما أفاد الاسلام من عقائد أخرى كالزرادشتية ( الفارسية ) فزرادشت أول نبي يعرج إلى السماء في التاريخ ، وقبل الأسلام بما يقرب 1200 سنة .
المشكلة الأكبرالتي واجهت الاسلام هي عدم تخليه عن اليهودية ممثلة بالأجداد وبعض الملوك كسليمان وداود . فجعل من جميع أجداد وشيوخ وملوك اليهود أنبياء ، مع أنهم لم يكونوا كذلك . وكانوا يعبدون إلها وثنيا .. فأنبياء الاسلام من آدم مرورا بنوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وداود وسليمان وانتهاء بالمسيح ، هم من اليهود . ولا يوجد في الاسلام إلا النبي محمد من غير اليهود.
كما أخذ الاسلام من اليهودية بعض صفات يهوه كالغضب والانتقام وبعض العبادات كالصلاة وبعض التقاليد كالختان والحجاب . فالله حسب المفهوم الإسلامي يغضب ويعاقب وينتقم من كل من يرتد عن عبادته ، ولديه جهنم يحرق فيها الكفرة والمرتدين والخاطئين . وهذه من أهم صفات يهوه ، وإن كان مفهوم جهنم لم يكن واضحا في التوراة كما في القرآن .. فمعظم انتقامات يهوة من عباده اليهود كانت دنيوية !
- لكن ما الذي دعا الإسلام إلى جعل أجداد وملوك اليهود أنبياء ؟
- يبدو لي أن المسألة تتعلق بالعرق والقوميات ، فاليهودية ظهرت في اليمن وشبه جزيرة العرب ، حسب الأبحاث الحديثة ، والعرب يعتبرون ابراهيم جدهم كما هو جدّاً لليهود . واليهودية ديانة وليست عرقا أو قومية. وإذا كان العرب اليهود من نسل اسحق بن ابراهيم من سارة فالعرب المسلمون من نسل اسماعيل من هاجر. بغض النظر عن صحة النسب التوراتي الذي اعتمده العرب . و مسألة تقديس الأجداد وحتى عبادتهم كانت شائعة في عبادات المنطقة قديما . وهكذا اعتبر الإسلام هؤلاء الأجداد أنبياء مع أن التوراة لم تعتبرهم كذلك . كما أن العرب المسلمين يقدمون اسماعيل على اسحق ، ويرون أن ابراهيم قدم اسماعيل كأضحية للخالق وليس اسحق كما يدعي اليهود .
جاء نادل بالمقبلات .. شرعا في تناولها .. قالت لمى :
- ما يدهشني فيك أنك تبدو كأي انسان عادي . وأنك تعيش حياة عاديّة دون تكلّف ، ودون زهد ، ودون تكبّر . وحين يتعرف عليك المرء يكتشف أنه أمام انسان غير عادي ، لا ينتمي إلى عالمنا إلا بشكله المجسّد فيه . أمّا عقله ودخيلته فهما مختلفان تماما .
- هل تفضلين أن أبدو في شكل مختلف؟
- أحب أن أراك في شكل أقرب إلى القداسة رغم أنني أحب شكلك الحالي !!
- كيف ؟
- أود أن أرى الله فيك !
- لكنك ترينه !
- لكن ليس بالصورة التي يتركها انطباع فهمك لدي !
- ربما لخطأ في توصيل أفكاري ، أو خطأ في تفهمك لها .
- أعتقد أنني أفهمها إلى حد معقول ، يدفعني إلى أن أراك فوق مستوى البشر!
- لكنك ترين ذلك فيّ بشكل أو آخر !
- أريد شكلا يكون على المستوى الذي أرى عليه ثقافتك ، كأن أرى نورا يشع من وجهك وهالة تحيط برأسك !
يضحك محمود وهو يقول :
- ههه أنا لا أحبذ ذلك على الأغلب ! على أية حال الإنسان في تطور دائم ، وقد يحدث في الخلق القادم ما يميزشكل الفيلسوف أوالأديب أوالمتصوف عن الشكل البشري العادي، كأن يكون أكثر جمالا، ولا يشيخ ويهرم ، ويعيش عمرا أطول من الآخرين . ولا تنسي أن الخالق يتمظهر ويتجسد في كائناته ، وما التمظهر والتجسد في شكل الإنسان ، إلا أرقى ما توصلت إليه عملية الخلق ، كتمظهر للخالق نفسه ، وما تطمحين في أن تريه في تمظهرالإنسان بما في ذلك تمظهري ، هو ما يطمح إليه الخالق نفسه ، إلى أن يبلغ الكمال والجمال المطلقين ، اللذين يرغب في التمظهر فيهما ، واللذين لن يكون بعدهما تمظهر لكمال وجمال على الإطلاق . فعملية الخلق في فلسفتي ما تزال تحبو كما أشرت من قبل .
جاء النادل بطبق الشواء المشكل. كان طبقا مشهيّاً بالفعل لكثرة ما حوى من أنواع الشواء : شقف ، كباب، ضلع ، أفخاذ دجاج .
هتف محمود:
"يبدو أننا أمام مائدة ملكية ثانية" !
" ليكن أنا جائعة حبيبي .. لنأكل "
وشرعا في تناول االشواء..
لم تتوقف لمى عن طرح أسئلتها رغم انشغالها بتناول الشواء. سألت :
- ما الشكل الذي تتوقعه في المستقبل للإنسان الكامل الذي تتجلى في تمظهره الألوهة بأسمى تمظهراتها؟.
- لا أحد يمكنه تصور ذلك حتى الخالق نفسه ، وإن كان الخالق قادرا أكثر من البشرعلى تصورشكل ما .
انظري إلى جمال المخلوقات من الفراشة إلى الإنسان مرورا بجمال النباتات والأشجار والورود والطبيعة ، لا يمكن تصرو جمال يرقى على هذا الجمال إلا الخالق نفسه . هل رأيت فنّانا يرسم شكلا لأي كائن في الوجود أجمل من الكائن نفسه ؟
- أكيد لا . حتى لو كان الكائن فراشة أو زنبقة أو انسان .
- الطفرات النوعية في الخلق تحتاج إلى ملايين السنين .. عمر الإنسان المطور عن القرد لا يتجاوز عمره 300 ألف عام ، هذا بعد قرابة أربعة عشر مليار عام على بدء عملية الخلق . وبعد 500 مليون عام على تشكل الخلية الحية . لم يظهر الإنسان المطور عن قرد إلا قبل بضع مئات الآلاف من السنين . ولنفترض أن الطفره القادمة ستكون أسرع نظرا لسرعة التطور فقد يستغرق الامر مليون عام !
- أوه ! لكن هذا كثير..
- مقارنة بعمر الوجود ليس كثيرا على الاطلاق .
- كيف تتصور الحياة حينذاك ؟
- قد تكون أشبه بعالم سحري .
- مثلا .
- قد يتحدث الانسان مع آخريجلس أمامه بشحمه ولحمه رغم أنه يبعد عنه آلاف الكيلو مترات . ضحكت لمى .
- كيف ذلك ؟
- بضغطة زر على صورة الآخر في جهاز الهاتف سترين الآخر جالسا أمامك !
غرقت لمى في الضحك.
- وهل سيفقد الآخر وجوده ؟
- لالا ما يتجسد هو نسخة حيّة منه !
- يا إلهي وبعد انتهاء المكالمة ما ذا يجري؟
- يغلق الهاتف . ليختفي المجسم !
- هذا سحر فعلا !
- بل عِلم ! سيكون البشر قد توصلوا إلى سر الخلق أو سر قوانين الفيزياء وطبقوها.
- هذا يعني أنهم صاروا مثل الله ؟
- إلى حد كبير ، فالألوهة تسري في أجسادهم كطاقة وتتجسد فيها كمادة .
- هل يمكن تصور عقد مؤتمر بهذه الطريقة؟
- أكيد ! فهذه مسألة بسيطة جدا .. لن يحتاج المؤتمرون إلى ركوب طائرات وسفر.
- الأمر يشبه نقل عرش بلقيس إلى سليمان !
- صحيح لكن بالعلم !
- وماذا غير ذلك ؟
- مثلا يمكن لإنسان أن يستحضر امرأة ما ويمارس معها الحب !
- غير معقول ! وماذا عن التنقل والسفر؟
- سيكون لحظيّاً!
- كيف ؟
- تكون هناك شريحة ألكترونية متطورة ملتصقة بجسد الانسان و متصلة بهاتفه المتطور جدا، بحيث في مقدوره أن يحدد أي نقطة في أي بلد في العالم على الخريطة . وما أن يضغط على النقطة على الخريطة حتى يجد نفسه في المكان المطلوب !
- حتى لو كان المكان يبعد عنه آلاف الأميال !
- أكيد !
- وماذا يكون لحظة انتقاله او اختفائه من مكانه ليظهر في المكان الآخر ؟
- يكون فوتون لا يرى بالعين المجردة والعملية لا تستغرق أكثر من جزء من الثانية !
- أي جنون هذا ؟ إنه فعلا يشبه اسطورة انتقال بلقيس إلى سليمان !
- صحيح رغم أن العلوم في خرافة بلقيس لم تكن متطورة !
- لكن ألا يمكن أن يصدم الناس في الفضاء لأن ملايين يتنقلون فيه .
الفوتونات تعرف طريقها .. كما أن الفوتون قد لا يحتاج إلى طريق مادي يسلكه ليصل إلى المكان المطلوب. يمكن أن تكون سرعة انتقاله لحظية دون أن يحتاج إلى سلوك طريق معين أو اجتياز فضاء. السرعة المكتشفة حتى اليوم هي سرعة الضوء، وهي سرعة ليست لحظية حسب فهمي . فشعاع الشمس مثلا يصل إلينا بعد ثماني دقائق وعشرين ثانية من انطلاقه منها .
- ما هو الفوتون ؟
- هو الوحدة الأساسية للضوء، أو حزمة الطاقة الدقيقة من الاشعاع الكهرومغناطيسي. والوظيفة الأساسية للفوتونات هي نقل الضوء للعين لتتم بذلك عملية الابصار. وتوجد في أمواج الأشعة الشمسية والبث الإذاعي والتلفزيوني ، وأجهزة التحكم عن بعد. العالم من حولنا مليء بالفوتونات ومن معجزاتها أنها لا تصطدم ببعضها أبدا ، ولو أنها اصطدمت لما تمكنّا من رؤية الألوان من حولنا ، ولما تمكنا من رؤية محطة بشكل واضح ودون تشويش.
- يا إلهي ! إذا كانت هذه توقعاتك بعد مليون سنة . فكيف ستكون بعد أكثر من ذلك ؟
- قد نكون في الألوهة !
- هذا يتعلق بمن رحلوا عن الدنيا .. وماذا عن الأحياء الباقين على كوكب الأرض .
- قد تشملهم الألوهة بقدرأكبر من وجودها !
- كيف ؟
- كأن تكون قدرتهم على الخلق والابداع أكبر من قبل .. لن يصبح عسيرا على الإنسان أن يدرك أن الألوهة تكمن فيه بقدر ما وأن يدرك تماما الغاية من وجوده .
- وماذا عن اللغات ماذا سيكون مصيرها ؟ هل ستلحق بالأديان ؟
- ستكون هناك لغة واحدة سائدة في العالم .. قد تدعم بلغات قليلة أخرى ، لا تزيد عن ثلاث أو أربع لغات من اللغات الأكثر شهرة .
- وهل سيفنى الوجود كأن تكون هناك قيامة ويوم حشر ؟
- وجود خالق مرهون بوجود خلقه . فإذا انتفى الخلق انتفى الخالق . وإذا أراد الخالق أن يقيم القيامة فهذا يعني الانتحار له نفسه . الوجود أبدي ولا يفنى ولن يفنى . قد تكون هناك دورات كونية . تنتهي كل دورة بانتهاء كل طفرة نوعية في تطور الخلق . نحن الآن ما نزال في الدورة الكونية التي بدأ بها خلق الإنسان . الدورة القادمة ستبدأ بالإنسان فائق التطور الذي تحدثنا عنه .
لم تعلق لمى، وقد فرغا من تناول العشاء .
أصر محمود على دفع الحساب هذه المرة . لم تمانع لمى ..
*****
تجولا قليلا في شوارع اللويبدة .. كانت لمى قلقة على أبيها ..مترددة بين النوم في بيت محمود أو الذهاب إلى بيتها .. قالت:
- أفكر في الذهاب إلى بيتي لكني متخوفة من البقاء وحدي . لن أستطيع أن أنسى أبي . معك قد أتناسى الأمر أو أنساه.
- يفضل أن تبقي عندي كي لا تشغليني عليك أيضا ، رغم أن بيتي لا يوفر لك الراحة المتوفرة في بيتك .. يمكنك أن تذهبي إلى بيتك في النهار إن أحببت ..
- أشكرك حبيبي لعدم تخليك عني في هذه الظروف .
- لن أتخلى عنك لمى طالما أنا على قيد الحياة .
ركبا السيارة وعادا إلى البيت . سأل محمود "
- هل نشرب قهوه أم أنك ستستأنفين تناول الوسكي ؟
- لكي أتمكن من النوم بعمق لا بد من تناول المزيد من الوسكي !
- الأمر نفسه ينطبق علي .. النوم مشكلة بالنسبة إلي كإنسان قلق دائما . أشعر أحيانا أن الدخول في النوم أصعب معضلة أواجهها في حياتي.. بحيث أرى أن التأمل والكتابة في مسألة ما أهون لدي من النوم .
- ما هو أكثرشيء يقلقك ؟
- بيتي في دمشق ولوحاتي ومخطوطاتي ومؤلفاتي ومقتنياتي هناك .. حين اتذكرها لا أستطيع النوم .. كان الجلوس في صالون بيتي على أنوار هادئة والاستماع إلى الموسيقى ، وسط اللوحات المعلقة على الجدرن والمنحوتات المنتصبة في أرجاء الصالون يشعرني أنني في جنتي.. وأنني لا أريد شيئا من الحياة غير ذلك ، رغم أن البيت ليس أكثر من ثلاث غرف وصالون .
- أرجو أن تتمكن من إحضار مقتنياتك ..
- آمل ذلك .. ليس هناك ما هو أصعب من أن يفقد الإنسان أعز ما يملك . نتاج أربعين عاما من الجلد والسهر والكد والتعب ، فجأة أجد نفسي دون ذلك كله.
- بصحتك حبيبي . حاول أن تنسى ! سأدخل الى الحمام لأغسل فمي وأغير ملابسي.
- ليس لدي ملابس نسائية للبيت !
- لا عليك سأنام بملابسي الداخلية!
- وأنا سأغير ملابسي وأرتدي شورت ..
****

-













(33) الحب والموت!
خرجت لمى من الحمام يعبق جسدها برائحة عطر أخّاذ، مرتدية ثوبا داخليا أحمر شفافأ ينسدل إلى منتصف فخذيها ، يبدو من خلفه كيلوت أسود صغيرالعرض يستر فرجها ، فيما تالّق نهداها دون حمالة صدر .. بادلت محمود قبلة خفيفة وجلست إلى جانبه ، دون أن يبدو عليها أية رغبة في ممارسة الحب .
شرب محمود نخبها .. كان يستمع إلى عزف ناي على جهاز الكومبيوتر . سألها :
- هل تحبين الناي ؟
- أحبه .. لكني أحب حديثك أكثر .
- هل بقيت مسائل لم تعرفيها .
- ربما مسائل كثيرة ..
- مثلا ..
- كيف ندرك أن غايات الخالق من الوجود أو من الخلق، هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وليس العبادة مثلا ؟
- تطرحين دائما الأسئلة الصعبة التي ليس من السهل الإجابة عليها .. رؤية الجمال في الكون وفي الطبيعة وفي عملية الخلق برمّتها .. مؤشر إلى غايات الخالق الجمالية . يقف الانسان مشدوها أمام وردة أزهرت بجمال نسق وألوان أخاذة ، فما بالك بتنوع وتعدد أشكال الجمال في الورود كلها والنباتات والأشجار المختلفة ، إضافة إلى تعدد أشكال الجمال في الكائنات الحيوانية والبشرية ، والطبيعة بتضاريسها وأنهارها وبحيراتها وجبالها وسهولها . وجمال الكون بكواكبه ونجومه . إن تصور كل هذا الجمال ، يشير إلى ذائقة سامية لدى من خلقه وأبدعه ، وأن غاياته من ابداعه ليست إلا الرقي بالجمال إلى حدود الكمال . وما لا يقل أهمية عن ذلك ، بل والأهم ، أنه يريد أن يحقق ذاته ، أن يصوّر جمال روحه ، أن يظهر نفسه في أبهى وأكمل صورها .. والانطلاق من الناحية الجمالية في الوجود ، يشير إلى المسائل والغايات الأخرى . فالجميل لا ينتج إلا الجميل ، ولا يفعل إلأ الخير ، ولا يمكن إلا أن يكون محبّا وعادلا ، لأن أي شيء غير ذلك يتناقض مع الجمال الذي يظهر فيه وعليه الخالق . فلا يمكن لخالق بهذا الجمال أن يقدم على التعذيب أو القتل أو أي شيء آخر يخدش جماله ويسيء إليه .. وهذا ما يريده الخالق من مخلوقه الانسان المتمثل فيه . لقد مهّد الخالق الوجود لهذا الإنسان ، ومنحه طاقته ، لكي يكون مشاركا وأساسيا في عملية الخلق ، لتحقيق هذه القيم وبناء الحضارة ، ولو لم يكن الخالق يطمح في تحقيق هذه القيم ، لما خلق الإنسان . الخالق لا يبني مدناً ولا يحفر ويعبد طرقاً ويقيم جسوراً، ويصنع حافلات وطائرات، إلا عبر الكائن االمتجسد فيه وهو الإنسان . ومأساة الإنسان أنه لا يعي ذلك . الإنسان وحده هو من ينبغي عليه تمثل هذه القيم ويسعى إلى تحقيقها ، ليكون مكملاً للخالق ومحققا لوجوده فيه . ودون ذلك لن تكتمل عملية الخلق .
- يا الله لو أن البشر يدركون ذلك ويتفقون عليه لاختلفت الحياة .
- هذا الأمريحتاج إلى جهود هائلة .. تتلخص في معرفة البشرية للغاية من وجودها ، وأن تتفق على أن أمم الأرض أمّة واحدة ، وأن كوكب الأرض ملك لهذه الأمة ، وينبغي عليها أن تقيم نظاما عادلاً يقودها ، يقضي على الفقر والثراء الفاحش ويوقف الحروب والنزاعات مهما كانت، ويلغي الجيوش ، ويحوّل السلاح إلى محاريث وكل ما يخدم الحضارة ، ويحقق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال .. ليقيم حضارة انسانية حقيقية ، حضارة يفخر الخالق بها وبالإنسان المتمثل فيه الذي أوجدها .
- ما هي الصفات التي ينبغي أن تتوفرلمن سيقودون هذه الأمة في حال توحدها ؟
- أكيد سيكونون من النوابغ .. لن تقبل الشعوب بأي انسان ليقودها ويمثلها في قيادة الكوكب..
- رؤى جميلة .. من سوء حظنا أننا نعيش في زمن الخراب هذا !
- بل أزمان الخراب.. لم تنعم البشرية منذ أن وجدت بزمن لا يوجد فيه حروب وقتل حتى ضمن الشعوب نفسها ..
أرادت لمى أن تغير الحالة . قالت :
- دعنا نخرج من زمن الخراب.. بصحتك .
- بصحتك !
- اسمح لي أن أتمدد.
- تمددي !
استلقت على الأريكة ثانية ساقيها واضعة رأسها على فخذ محمود . انحسرت الشلحة عن فخذيها ليبدوا في أبهى جمالهما..
ملس محمود على شعرها محاولا قدر الامكان كبح جماح الرغبة التي بدأت تجتاحه .. قال :
- لقد رأيت في الحلم أنني أمارس الجنس معك !
- بجد ؟
- بجد !
- هل تمتعت معي ؟
- كثيرا .. أجمل حلم رأيته في حياتي .
- وأنا تخيلتك لأكثر من ساعة قبل نومي مساء يوم البحر ، رغم أن أبي كان في البيت، لكني وعدتك بأن أتوقف عن ممارسة الحب معه!
- وتمتعتي معي ؟
- لأقصى درجة .. شعرت وكأنني أمارس الحب مع الله !
- اوه ! أنا رأيتك ملكة في حلمي ! كنت رائعة إلى حد لم يتصوره عقلي.
- هذا عظيم! ستعيشه في الواقع معي وليس في الحلم .
انحنى عليها وأخذ قبلة خفيفة من شفيها.
- قد لا تصدقين إن قلت لك أنني لم أمارس الحب مع امرأة منذ خمسة عشر عاما !
- يا إلهي ! هذا كثير !
- لذلك أخاف عليك مني إذا ما مارست الحب معك !
- كلني إن شئت !
وانحنى عليها ليلتهم شفتيها ويولج لسانه في فمها ولتولج لسانها في فمه ليغرقا في الوله ! وحين غيرت من وضع تمددها لتجلس على فخذيه جاعلة جسده بين فخذيها ، مشرعة نهدها لتلقمه إياه ، بدأ يدخل في العالم الآخر ، وهو يقدم عليه كطفل شره حرم من رضع نهدي أمّه !
غرقا في الحب والسكر إلى أن أنهكا جسديهما ، فناما كيفما اتفق .. استيقظا قبيل الظهيرة على رنين لم ينقطع لهاتف لمى ، اضطرت لما إلى أن ترد عليه . كان المتحدث هو أخوها. لم يقل سوى كلمات قليلة :
- أبوك انتحر في البحر الميت !
وأقفل الخط .
أجهشت لمى بالبكاء . ضمّها محمود إلى صدره لتنتحب عليه ... وراح بربت على ظهرها ..
*******
حين أدرك أبو لمى أن ابنته أحبت أخيرا .. قرر أن يضع حداً للصراع المضطرم في دخيلته بين الاثم والتكفيرعنه .. ليتيح لابنته أن تحيا حياتها كما تشاء ، لعله بذلك يكفر عن اثمه ويطهر نفسه ، ويجد مغفرة عند الله في آخرته. حوّل لحساب لمى في البنك نصف مليون دينار ، وامتطى سيارته قاصدا الجنوب .. أمضى ليلة في فندق في مأدبا .. وفي الصباح حاسب الفندق وغادر بسيارته . قاد السيارة عبر شارع ترابي يوصل إلى هضاب البحر الميت ، وحين بلغ آخرمكان يصل إليه الشارع، راح يبحث عن مسلك في السفح يمكنه أن يقود السيارة عبره ليصل إلى أعلى الجروف المتصلة بالبحر . نجح في أن يقود السيارة إلى أقرب نقطة من الجروف ، وضغط على دواسة البنزين لتنطلق السيارة بأقص سرعة وتسقط من أعلى جرف لترتطم بالصخور ولتنطبق عليه وتنقلب لتتابع سقوطها وارتطامها بالصخور لتسقط على سطح أعمق نقطة ملاصقة للصخور حيث لا شاطئ هناك، لتستقر على عمق يقارب أربعمائة متر .
أحد الرعاة كان يسرح بقطيعه على سفح هضبة قريبة من المكان .. شاهد السيارة وهي تنزل المنحدرات ثم تنقلب وتتدحرج عبر الجروف لتستقرفي البحر.. كما شاهدها صياد وبعض المزارعين في المنطقة .. والجميع أدركوا أن سائق السيارة أقدم على الانتحار بسيارته . بلغ الخبر مسامع الشرطة فشرعت في البحث عن هوية المنتحر وعن إمكانية اخراجه من أعماق البحر .
همست لمى وهي تنتحب على صدر محمود :
- محمود لا تتركني!
- لن أتركك حبيبتي .. أفديك بعيوني وروحي !
******
تمّت .












الروائي والفنان محمود شاهين في سطور
من مواليد القدس 1946
درس الصحافة في القاهرة ( في معاهد إعلامية وصحفية )
ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية والفلسفة دراسة خاصة .
روائي . قاص . فنان تشكيلي . باحث . ناقد .مفكر. ويكتب الشعر كهواية .
*أعمال أدبية :
1- نار البراءة – قصص – دار ابن رشد – 79
2- الخطار – قصص – دار القدس – بيروت – 79
3- الأرض الحرام – رواية – وزارة الثقافة – دمشق – 83 ( ترجمت إلى التركية عام 2002 )
4- الهجرة إلى الجحيم – رواية – المؤسسة الجامعة – بيروت – 84
5- الأرض المغتصبة – رواية – دار الشيخ – دمشق – 89
6- غوايات شيطانية – رواية ملحمية - نثر وشعر (ترجمت إلى الألمانية عام 99 ) ( نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت) وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008)
7- موتى وقط لوسيان – قصص – وزارة الثقافة الفلسطينية – رام الله – 98
8- رسائل حب إلى ميلينا . دار البيروني -عمان . بدعم من وزارة الثقافة الأردنية
9- ألملك لقمان . ملحمة روائية .جزءان.نشرت على شبكة الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009)
10- أبناء الشيطان – رواية قصيرة دار البيروني . عمان 2014
11- أديب في الجنة . ملحمة روائية فلسفية تكمل ملحمة الملك لقمان . مكتبة كل شيء . حيفا أب 2017
12- أيوب التوراتي وفاوست جوته . بحث مقارن . مكتبة كل شيء .حيفا . 2018
13- عديقي اليهودي. رواية . مكتبة كل شيئ . حيفا .2018

* منشورات على النت:
13 مكرر- الخالق . الخلق . الغاية . دراسات في العقائد والأساطير الشرقية .وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهر الخالق،والغاية من الخلق.تخلص إلى أن الخالق محبة مطلقة وطاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه ، وأن الغاية من خلق البشرهي أن يكونوا خالقين ، لمساعدة الخالق في عملية الخلق ، فعملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق عند محمود شاهين ، وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية التي لن تكتمل عملية الخلق إلا بها .
14- شاهينيات : مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة والخلق والخالق ،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق والغاية من الخلق : 1370مقولة ومقالة منشورة حتى 30 آذار 2018
( نشرت في خمسة أجزاء في دار كتابات جديدة للنشر الالكتروني )

18- ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة . ( بحث تاريخي نقدي في عشرة فصول يتطرق إلى تاريخية شخصية
المسيح ونشأته ومن ثم رسالته ومن ثم إلى فلسفة الألوهة ومن ثم النظرفي شخصية المسيح من وجهة نظر صوفية )
28- قراءة نقدية للتوراة . ( عشرة أجزاء)
29- دفاعا عن محمد ( رد على كتاب العفيف الأخضر " من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ ")
30-- السلام على محمود درويش . ( أشعار عن ديوان محمود درويش ، لماذا تركت الحصان وحيدا )
- مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها :
31- تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
32- التحالف بين يهوة والشيطان
33- فصول من روايات
34- قصص قصيرة وأشعار.
* أبحاث أخرى نشرت في مجلات وعلى النت :

35- هيكل سليمان بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.
36- القدس تاريخيا بين منطق العقل ومنطق الجهل والخرافة .
37- القدس مدينة السماء في بعض النثر قديمه وحديثه.

*أعمال صحفية :

38- فلسطين أرض وحضارة – الدار الجماهرية – طرابلس – 85
39- حرب المواجهة في لبنان – الاعلام الموحد – دمشق – 83

*- دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية وفصلية أهمها :

40- التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
-41- الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية سميرة عزام
42- مقالات في الرواية الفلسطينية
43- مقالات في الرواية العربية
44- مقالات في الرواية العالمية
45- مقالات في القصة الفلسطينية

مخطوطات لم تنشر :

46 - الأرض المغتصبة – جبل المنطار, رواية
47- الأحزان المتعانقة – رواية
كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها, وبيعت بعض قصصه إلى السينما والتلفزيون .
- حولت قصته "نارة البراءة" إلى المسرح وعرضت في عمان عام 1991

*أقام محمود شاهين خلال سني حياته الفنية ما لا يقل عن ثلاثين معرضا شخصيا في العديد من مدن العالم منها باريس وبرلين وفينا والقاهرة ودمشق والناصرة والشارقة وعمان ووارسو ،عدا معرضه الدائم في دمشق لقرابة خمسة عشر عاما ، بحيث أصبح له ما لا يقل عن سبعة آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . و أقام معرضه الشخصي االرابع في عمان منذ أن عاد إليها منذ تموز 2012 ، في منتدى الرواد الكبار خلال شهري تموز وآب 2016

*مر شاهين بأكثر من مدرسة فنية خلال مشواره الفني إلى أن انتهى إلى أساليبه التي تنتمي إليه وحده . وأصبحت تقنيته في الرسم الجداري مميزة جدا ، فهو يمارس الرسم والحفر والزخرفة في معظم أعماله المستوحاة من الأساطير والتراث القديم والشعبي الحديث. وتزخر بعض لوحاته الكبيرة بما لا يقل عن أربعة وعشرين تشكيلا مختلفا ‘ فيما يزخر بعضها بقرابة أربعين .

لجأ شاهين إلى الرسم الذي كان هوايته ،حين تعثر نشر بعض أعماله الروائية لجرأتها وصداميتها مع الواقع . وقد نشر بعض أعماله التي كانت ممنوعة فيما بعد ، ك" غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس "و ملحمة ( الملك لقمان ) عن دار نينوى في دمشق .



*مقتنيات عامة لبعض الأعمال الفنية :
المتحف الوطني بدمشق – لوحتان (70*100 )
وزارة الثقافة الفلسطينية
صحيفة الأخبار – مصر
مكتب م.ت.ف – دمشق

المركز الثقافي السوري - باريس
متحف القدس
المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة – عمان
******















الفهرس: الصفحة
1- ما قبل كابوس الانتحار....................................................
2- الهروب ....................................................................
3- الحشر.....................................................................
4- الفراق ......................................................................
5- الرحيل........................................................................
6-القاهرة .........................................................................
7- عمّان............................................................................
8- أكعاب أحذية ..................................................................
9- أبو الجدايل الملك ..............................................................
10- الملك لقمان أبو الجدايل.....................................................
11- أبو الجدايل الأول يكتشف النار المقدسة....................................
12- ابن الله ........................................................................
13- قط جائع....................................................................
14- ربما ثمة أمل ..................................................................
15- نصابون ظرفاء...................................................................
16- جدائليون أنبياء ومتصوفه ..................................................
17- لمى ...........................................................................
18- الخوف من البوح بما يعتمل في النفس.........................................
19- بوح جدائلي ......................................................................
20- هواجس انتحارية وفلسفية ..........................................................
21- في الالوهة وشرط وجودها...........................................................
22- انتصار الخير...........................................................................
23- شواء جدائلي...........................................................................
24- لغة الله ................................................................................
25- وقع الأساطير.........................................................................
26- حالة صحو..........................................................................
27- عشق وألم .........................................................................
28- وليمة ملكية .......................................................................
29- الجدائلي الاخير: محمود أبو الجدايل...........................................
30- انفضاح غداء البحر الميت .....................................................
31- محبة وأمل ........................................................................
32- العنب الأبيض ....................................................................
33- حب وموت.....................................................................



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا يعقل أن يدمر الخالق ذاته!
- رواية زمن الخراب لمحمود شاهين
- - رعب - المشهد الثاني من رواية - قصة الله -
- الإيمان بين إلهين : إله مجهول الماهية ، وإله معلوم !!
- أنا لست ملحدا!!
- الدجاجة جاءت قبل البيضة1
- قصة - العبد سعيد - تعود إلى الحياة !!
- هل الوجود بحد ذاته عقل ؟
- قصة الله . رواية .
- شد الهمّة يا ختيار !
- هل أوجد الموجود بذاته ذاته ؟
- هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذه الرواية المدهشة
- الصوفية الحديثة : الطريق الثالث في الفلسفة!
- اسرائيل وفلسطين ، الجوار الصعب!
- الألوهية بين فهمي لها وبين فهم المسيحية والمعتقدات الأخرى!
- الفلسفة في تجربتي الأدبية
- (9) الحقيقة المحمدية سر ايجاد العالم !
- اسلاميات ابن عربي. (6) في كلام الله !
- وجود خالق مشروط بوجود خلق. شاهينيات 1405
- اسلاميات ابن عربي (5) الله والانسان !


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - زمن الخراب (رواية)