أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - المدن كوجبات سياحية














المزيد.....

المدن كوجبات سياحية


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6248 - 2019 / 6 / 2 - 13:56
المحور: الادب والفن
    


المدن والمناطق والبلدان تتحول إلى معلبات سياحية تقدمها مكاتب السياحة إلى السائحين كوجبات سياحية سريعة في فترة إجازتهم السنوية. إذا زرت مدينة أفينيون الفرنسية مثلاً، يجب أن ترى قصر البابوات وجسر أفينيون. وفي مدينة أورانج القريبة، هناك مقصد سياحي لا بد من زيارته هو المسرح الروماني. وفي مارسيليا يجب أن تزور المرفأ القديم وكنيسة نوتر دام دو لاغارد وأن تتذوق أكلة السمك الشعبية المسماة بوليابيس ومشروب الباستيس ..الخ، وكذا في كل بلاد.
يبقى للسائح، رغم كل شيء، موقع خارجي لا فكاك منه، حيال كل ما يرى ويسمع ويتذوق. جدار سميك من الزمن، يعادل عمر الانسان، يحول بين السائح وحقيقة ما يرى. جدار لا يمكن تخطيه.
يتفرج السائح على الإنجاز المعماري القديم الذي شق طريقه عبر الزمن إلى يومنا، كما يتفرج المرء على ذئب في قفص، كلاهما غريب، كلاهما مقطوع، الأول مقطوع في الزمن، والثاني مقطوع في المكان، وهذه القطيعة تعزل السائح عن حقيقة ما يرى. كلاهما رؤية منزوعة عن بيئتها، كلاهما واقع منقوص المعنى. الذئب في قفص ليس هو الذئب، والمبنى الأثري ليس سوى أثر بارد من تاريخه. وإذا كان السائح يتساوى مع الأهالي أمام الآثار الغريبة زمنياً عن الجميع، فإن الأمر يختلف حيال التقاليد: الطعام والشراب واللباس وطرق العيش التقليدية ..الخ.
ماذا يعني للسائح الطبق التقليدي الذي يحرص على تناوله حيثما يسوح؟ مجرد طعم جديد، غير مستساغ غالباً، قيمته الوحيدة أنه يسمح للسائح أن يقول إنه تذوق الطبق التقليدي للمنطقة الفلانية، مفترضاً أن هذا يزيد من رصيده السياحي. الطبق التقليدي ليس تقليدياً إلا بالنسبة للأهالي الذين يفتح لهم طعمه نافذة في الذاكرة لارتباطه بطفولتهم ونشأتهم، ولأنه جزء ملتصق بحياتهم، بالنسبة لهؤلاء يكون هذا الطبق باباً ينفتح على عالم غني. أما بالنسبة للسائح فهو طبق جديد مقطوع عن التقليد، هو إذن جدار وليس باباً، أو هو باب لا ينفتح إلا على جدار. الطعم الذي يتذوقه السائح لا يشبه الطعم الذي يتذوقه أهل الطبق التقليدي.
كذا الحال فيما يخص اللباس التقليدي لمنطقة ما، فهو بالنسبة للسائح، أو للزائر الخارجي الذي لا صلة له بالمكان، شكل معين من اللباس، بلا عمق، بلا ارتباطات شعورية، بلا ذكريات وبلا جماليات صنعتها العين مع مرور الزمن. اللباس التقليدي بالنسبة للأهالي هو شكل مشبع بالشعور والألفة وانعكاسات الذات. معنى التقليد، سواء في الطعام أو اللباس أو الرقص أو أي نشاط، هو أنه مدخل في الذاكرة إلى عالم مليء بالمعاني والانطباعات والجمال والشعور بالنفس، وحيث لا يوجد هذا الباب عند السائح فإن التقليد ينتفي وتصبح الأشياء التقليدية غير تقليدية، أي بلا عمق نفسي وبلا جمالية خاصة.
الإشارب التقليدي البسيط الذي يوضع على الرأس بطرق مختلفة لكل طريقة منها انعكاسها الشعوري المختلف، لا يمكن أن يعني للسائح سوى غطاء للرأس، مجرد شكل يرتبط بمنطقة أو جماعة أو ثقافة. بالنسبة لي مثلاً، الإشارب المعقود تحت الذقن يعني الرسمية، وحين كانت أمي تستعد للعمل، كانت تمرر طرفي الإشارب إلى الخلف من تحت الشعر وتربطهما على النقرة، وكان يسعدني حين لا تعقد طرفي الإشارب بل تعكسهما من تحت الذقن وتدس كل طرف تحت الجهة المقابلة بجوار الأذن، عندها كان يبدو لي وجهها طفولياً وأكثر راحة وطمأنينة، أما حين كانت تترك طرفي الإشارب حرين دون عقد فقد كان هذا يعني أنها متعبة أو في ضيق. سوف يبقى السائح خارجياً تماماً أمام اللباس التقليدي المختلف عن بيئته.
بالقرب من "جسر أفينيون"، وعلى حافة الطريق القريبة من النهر، عثرت فجأة على مجموعة من نباتات العبيتران التي لم أتوقع رؤيتها هناك، وشككت أنها النبتة التي أعرفها حتى شممت رائحتها. أخرجني العبيتران من موقع السائح الخارجي إلى موقع ابن البلد. وجدت ذاتي في العبيتران، كما وجد ذاته بي دون كل السائحين الغافلين عنه والمعلقة عيونهم على قناطر الجسر. بورقه الناعم ورائحته الودودة الخاصة، أيقظ عالماً نائماً في ذاكرتي، رائحة محيط بيتنا البسيط في القرية، صورة النساء اللواتي يرقصن في الأعراس وهنّ يحملن باقات العبيتران في إيديهن، أو يغرسن فروعها في شعورهن. في ذلك العالم كان أبو جمال يمزمز كأس العرق وهو يتكئ على وسادة سارحاً بنظره، ومن حين لحين، يأخذ فرع العبيتران من فوق أذنه ويمرغه على أنفه قليلاً ثم يعيده إلى فوق أذنه من جديد؛ وفيه كان أبو مطيع يمشي عاقداً يديه خلف ظهره يتقدمه العبيتران الذي يضعه في جيب قميصه العلوي. ذوت في نفسي عظمة الجسر أمام بساطة تلك النبتة الأهلية والتقليدية، ووجدتني مشدوداً إليها أكثر.
الموقف السياحي يفصل الشيء عن تاريخه ولا يستطيع تناوله إلا كشيء معزول. هو إذن رؤية أخرى، يكون فيها الشيء غير الشيء. رؤية خارجية طارئة عاجزة عن رؤية التقليد في التقليد. الموقف الأهلي موقف داخلي جماعي مهما تفردت الانطباعات فيه، والموقف السياحي موقف خارجي فردي مهما كثرت أعداده.

أيلول 2018



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين فرنسا وسورية
- السترات الصفراء، بين الشعب والمؤسسة
- أفعال مشينة
- مراجعة في الثورة
- الحرب في إدلب، لا عزاء للسوريين
- الطائفية و-الرماد الثقيل-
- اللجوء بوصفه تهمة
- متحف للدم الحار
- أخرج من سوريا كي أعود إليها
- مواطنون وأعداء
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 2
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 1
- أسئلة عن الثورة السورية
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 4
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 3
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 2
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 1
- تمرد المرأة السورية على الأطر السياسية الذكورية
- جرائم شرف في الثورة
- نجاحات ومخاطر في السودان


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - المدن كوجبات سياحية