أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - عن الجبهة الوطنية الفلسطينية وتجربة الاعتقال والإبعاد















المزيد.....



عن الجبهة الوطنية الفلسطينية وتجربة الاعتقال والإبعاد


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 6223 - 2019 / 5 / 7 - 14:10
المحور: الادب والفن
    


1

تشكلت الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأرض المحتلة بتاريخ 15/08/ 1973، وتبنت برنامجًا واقعيًّا مستندًا إلى قرارات الشرعية الدولية لحل الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، ورفعت بعد حرب تشرين شعار إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، أي في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 وحق العودة للاجئين الفلسطينيين بحسب القرار الأممي 194.
كان البيان الذي أصدرته الجبهة في التاريخ المذكور أعلاه هو الإعلان عن ميلاد الجبهة المكونة من تنظيمات سياسية فلسطينية هي: فتح، فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية المحتلة، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومن شخصيات وطنية مستقلة (كنت أعرف أن حوارات جرت مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للمشاركة في الجبهة الوطنية، وحين اعتقلتني سلطات الاحتلال لم أعد أعرف شيئًا عن نتيجة هذه الحوارات).
أذكر أن الرفيقين؛ عربي عواد مسؤول فرع الحزب في الضفة الغربية، وسليمان النجاب عضو مكتب قيادة فرع الحزب في الضفة الغربية كانا ممثلين للحزب في قيادة الجبهة، وكان الدكتور مصطفى ملحم ممثلًا لحركة فتح في القيادة. وأذكر أن عبد الجواد صالح رئيس بلدية البيرة (الذي لعب دورًا بارزًا في تأسيس الجبهة بالتنسيق مع الحزب الشيوعي)، والمهندس المقدسي إبراهيم الدقاق كانا من أبرز الشخصيات الوطنية المستقلة في قيادة الجبهة.
وكان المحامي عبد المحسن أبو ميزر مؤيدًا للجبهة من دون أن يكون ملتزمًا بعضويتها، لكنه كان أحد المبعدين الثمانية إلى الأردن بعد حرب تشرين 1973 الذين وصفوا بأنهم من قادة الجبهة الوطنية. أذكر من المبعدين الثمانية: عبد الجواد صالح (مستقل)، عربي عواد وضمين حسين عودة وجريس القواس (الحزب الشيوعي)، عبد المحسن أبو ميزر (مستقل).
وأذكر أن إبراهيم الدقاق كان مكلفًا بالإشراف على الجريدة السرية للجبهة، وكنا أنا والصحافي غسان طهبوب الذي كان ينشر مقالاته في صحيفة "القدس" آنذاك، عضوين في هيئة تحرير الجريدة التي كان اسمها "فلسطين".
وحين تزايد نشاط الجبهة السياسي في أوساط الجماهير بعد حرب تشرين، تزايد في الوقت نفسه التأييد لها ولبرنامجها من جهات سياسية وإعلامية ومن تجمعات وشخصيات وطنية وتقدمية، وعلى سبيل المثال فقد كان الدكتور خليل البديري، وهو من أوائل الماركسيين المقدسيين، وكذلك الشخصية التقدمية فهمي الحموري من المؤيدين للجبهة، وكانت جريدة الشعب ورئيس تحريرها الصحافي علي الخطيب، وكذلك صحيفة الفجر التي تقلّب عليها عدد من رؤساء التحرير من أبرز مؤيدي الجبهة من خلال تغطية أنشطتها ونشر أخبارها.
كذلك؛ ازداد نشاط الجبهة في أوساط الشباب، وتشكلت خلايا عديدة تابعة لها، ولم يلبث كثيرون من أعضاء هذه الخلايا أن اعتقلوا في شهر نيسان 1974 ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت عددًا كبيرًا من كوادر الجبهة وأعضائها، وقد طالت الحملة أعدادًا غير قليلة من قيادة فرع الحزب الشيوعي وكوادره.
أذكر من معتقلي القدس: سليمان النجاب (كان مختفيًا في بيت سري في القدس) محمود شقير، محمد أبو غربية، فاروق السلفيتي، حسين أبو غربية، إبراهيم الجولاني، خالد الأشهب، أسعد سنقرط، إسماعيل عنيزات، يحيى أبو شريف، سرحان السلايمة، بسمان أبو رميلة، عبد الكريم الشلودي، طاهر الشلودي، سمير الجعبة، نبيل أبو سنينة، صالح الشويكي.
ومن معتقلي رام الله: بشير البرغوثي، غسان حرب، تيسير العاروري، عادل البرغوثي، عبد الله البياع، خضر العالم، راغب البرغوثي، ميسرة الشعيبي، أحمد سمارة، حسين فرح الطويل، عدنان داغر، عايد عيسى، خضر عيسى (استشهد في سجن نابلس في العام 1976).
ومن معتقلي بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا: عبد المجيد حمدان، عطا الله الرشماوي، خليل توما.
ومن معتقلي نابلس: خلدون عبد الحق، خليل حجازي، جمال فريتخ، عباس عبد الحق، راجح السلفيتي، لبيب فخر الدين، عبد الله السرياني (كان مختفيًا في بيت سري في نابلس).
ومن معتقلي الخليل: محمد محمود سعادة.
ومن معتقلي أريحا: الشيخ داود عريقات.
وفي الأشهر التي تلت شهر نيسان 1974 قامت سلطات الاحتلال بإبعاد العشرات من أعضاء الحزب والجبهة الوطنية، وكذلك من أعضاء التنظيمات الفلسطينية الأخرى، من بينهم: حسني حداد، داود عريقات، علي الخطيب، د. مصطفى ملحم، عزام عبد الحق، حسين أبو غربية، محمود قدري، وآخرون.
وفيما بعد، تم إبعاد بعض المرشحين لانتخابات البلدية في العام 1976، من بينهم: د. أحمد حمزة النتشة، فهد القواسمي، محمد ملحم، د. عبد العزيز الحاج أحمد.
وجرت بعد ذلك محاولة لاغتيال رؤساء بلديات نابلس (بسام الشكعة) رام الله (كريم خلف) البيرة (ابراهيم الطويل).

2
حين اندلعت حرب تشرين 1973 كنت بالصدفة في بيت أحد أبناء عمومتي. سمعنا أصوات سيارات تجتاز الشارع المحاذي للبيت. سارعَ صاحب البيت إلى مفتاح الكهرباء، أطفأ النور. توقفت سيارات الجيش في ساحة بئرنا الغربية. بعد نصف ساعة تقريباً، غادرت السيارات المكان.
عدت إلى البيت؛ أخبرني أهلي أن الجنود ورجال المخابرات فتشوا البيت، واستولوا على جواز سفري، ثم تركوا لي أمراً خطيًّا بالمثول بين أيديهم صباح اليوم التالي. كنت أخشى أن يداهموا البيت مرة أخرى. اتجهت إلى بيت العم عايد الذي يقع في منحدر وعر غير بعيد من بيتنا. نمت فيه حتى الصباح، ثم غادرته في ساعة مبكرة إلى القدس، ومنها إلى نابلس. هناك؛ التقيت عربي عواد، مسؤول الحزب الأول في الأرض المحتلة، وكان يتنقل هو الآخر سراً بعد أن جاء الجنود لاعتقاله ليلاً، ولم يعثروا عليه في البيت.
مضينا معاً نصعد طريقاً في جبل جيرزيم، دخلنا شارعاً تنهض على حافته بيوت متلاصقة، انعطفنا نحو اليمين، وسرنا في طريق جانبية مسافة عشرين متراً، وقفنا أمام باب حديدي مغلق، في طرفه العلوي طاقتان صغيرتان. كانت إحدى الطاقتين مفتوحة، فلم نعد بحاجة إلى قرع الباب الذي انشق بسرعة. وجدتني وجهاً لوجه أمام عبد الله السرياني الذي اختفى منذ العام 1968، إثر التظاهرة التي قمنا بتنظيمها انطلاقاً من الحرم الشريف بعد صلاة الجمعة، فلم يعد عبد الله إلى القدس بعد ذلك، ولم يخرج من البيت السري إلا إلى السجن حينما ألقي القبض عليه في العام 1974.
مكثت في هذا البيت مدة أسبوع لم أغادره إلى الخارج لحظة واحدة. بقي عربي عواد معنا عدة ساعات، ثم خرج. أما عبد الله، فقد كان يخرج لأداء بعض المهمات الحزبية في ساعات محددة ثم يعود، ليلازم البيت لا يخرج منه، ولا يدع أحداً من الجيران يشك في شيء غير عادي من حوله.
بعد أسبوع، انتقلت إلى مدينة البيرة للإقامة في بيت سري آخر، بقيت فيه إلى أن توقفت الحرب. أثناء إقامتي في هذا البيت كان أحد قياديي الحزب من البيرة، يأتي لتفقّد أحوالي مرة كل يومين. صاحب البيت الذي أقمتُ فيه عجوز يمشي على قدمين واهنتين ينز منهما الدم، وكان وحيداً معذباً يقضي وقته جالساً في أحد أركان غرفته يتحدث مع نفسه بصوت عال، وطوال ساعات الليل لم يكن يجرؤ على إشعال النور، استجابة لتعليمات قوات الاحتلال التي أمرت الناس منذ ابتدأت الحرب، بأن يطلوا مصابيح الكهرباء في بيوتهم بألوان غامقة لأسباب تتعلق بالأمن. لم يقم بطلاء المصابيح، فاستعاض عن ذلك بعدم إضاءتها. كان يصرخ محتجاً كلما أضأت مصباح غرفتي لكي أقرأ شيئاً، فأضطر إلى تغطية المصباح بكيس ورقي يقلل من تسرب الضوء إلى الخارج.

3
غادرت البيت السرّي ذات مساء عائداً إلى بيتي.
أقلتني سيارة أجرة إلى جبل المكبر، فوصلته بعد المساء.
كان البيت يربض على مرتفع من الأرض في الظلمة، شعرت بشوق غامر نحوه وأنا أقترب منه. إنه وطني الأصغر الذي شهد كل التقلبات التي عشتها وعاشتها العائلة.
ارتبك أبي وارتبكت أمي وزوجتي، واعترتهم الدهشة حينما رأوني، إذ لم يكونوا يعرفون شيئاً عن مكان إقامتي طوال الأسابيع الماضية. أصابهم فرح مشوب بالقلق، لكنهم أخذوا يتلفتون بخشية عبر باب البيت، نحو الظلمة التي تتكاثف في الخارج. كانت أمي هي أكثر أفراد الأسرة حذراً، أذناها تصغيان لكل نأمة في الخارج، فهي تخشى أن يباغتني الجنود فيلقوا القبض علي.
عدت إلى ممارسة حياتي في القدس متوخياً الحذر إلى حد ما. وصرت بين الحين والآخر أذهب ومعي حسيب النشاشيبي (أحد كوادر الحزب في المدينة) وأصدقاء آخرون إلى بيت الدكتور خليل البديري، للاستماع إليه وهو يتحدث عن فكرة الدولة الفلسطينية. ثم نغادر إلى مقر فرقة بلالين. كانت الفرقة بعد نجاح مهرجانها المسرحي الذي أقيم في قاعة بلدية رام الله ، تشعر بمزيد من الثقة، وقد أخذ وطنيون مرموقون، ورؤساء بلديات، ومثقفون بارزون، يساندونها ويترددون على مقرها.
وكنا، أنا والصحافي المقدسي غسان طهبوب، نكثر من التردد على الفندق الوطني في شارع الزهراء للقاء بعض الوطنيين ممن داوموا على الجلوس في صالته، أو في شرفته المطلة على الشارع. كان المرحوم المحامي عبد المحسن أبو ميزر من أبرز الشخصيات الوطنية التي تتردد على ذلك المكان، وكذلك المهندس إبراهيم الدقاق. وقد انخرط عدد غير قليل من هؤلاء الوطنيين المستقلين في الجبهة الوطنية الفلسطينية وأصبحوا أعضاء في قيادتها المركزية.
ذات يوم، قبل الغروب، كنت أجلس في شرفة بيتنا، وأنا أتابع الأخبار التي تتحدث عن مؤتمر السلام الذي انعقد في جنيف، لعله يتوصل إلى حل لهذا الصراع، الذي استنزف من دمنا وأعمارنا الشيء الكثير. فجأة، وأنا غارق في تصوراتي، شاهدت رجالاً بملابس مدنية يقتحمون البيت، أدركت أنهم من جهاز المخابرات الإسرائيلية.
طلبوا مني أن أرافقهم إلى سجن المسكوبية. اتجهت معهم إلى ساحة بئرنا الغربية. كانت هناك سيارتا تاكسي لهما لون أبيض، ركبت في إحدى السيارتين، ومضوا بي صاعدين طريق الجبل. راح أحدهم يتحدث عما أقوم به من أنشطة سياسية تحريضية، وأخذ يخيرني جراء ذلك بين السجن والإبعاد.
وصلنا المكاتب المجاورة لسجن المسكوبية. جلست أنتظر وأنا متوجس من هذا الاعتقال. بعد نصف ساعة أدخلني الضابط إلى مكتبه، سلمني جواز سفري الذي كان استولى عليه حينما جاء لاعتقالي أثناء الحرب قبل شهرين. أخبرني أنني أستطيع العودة إلى البيت، ثم أتبع كلامه بتحذير غامض.

4

أمطار كثيرة هطلت في ذلك العام.
أخرج في الصباح تحت المطر، أنتظر باص "أيجد" رقم 44 ، التابع لشركة الباصات الإسرائيلية غير بعيد من بيوت المستوطنة الجديدة التي شرع الإسرائيليون في بنائها على قمة جبل المكبر وعلى أطرافه الجنوبية (لم يكن مسموحاً للباصات التابعة للشركات العربية بالسير على هذا الشارع، وظل الأمر كذلك حتى اندلعت الإنتفاضة الشعبية في العام 1987، فتوقفت الشركة الإسرائيلية عن تسيير باصاتها على الشارع مرغمة، بسبب ما كانت تتعرض له من حجارة يقذفها نحوها الفتية والشباب). أمضي في الباص إلى المحطة المركزية بالقرب من باب العمود.
أجلس في مقهى الشعب، وأنتظر فرصة لانقطاع المطر، أتأمل سور المدينة المواجه للمقهى، وتعبر سيارة لجيش الاحتلال بين الحين والآخر فضاء الشارع، تشق بعجلاتها ما تجمع فيه من ماء المطر، أعود للتحديق في السور الذي يجثم ساكناً مبللاً تحت المطر، وأدرك أن السور وحيد رغم ما يحيط به من حركة وضجيج، وأنه لم يعد قادراً على حماية المدينة من الغزو في زمن الطائرات.
أغادر المقهى في لحظة صحو مؤقتة.
أمضي إلى البلدة القديمة عبر باب العامود، يبدأ المطر عزفه من جديد. أجتاز البوابة التي تسح من قوسها خيوط رفيعة من المياه كأنها الدموع، أنعطف نحو طريق الجبشة، متجهاً إلى خان الأقباط، إلى حيث يعمل الرفيق محمد أبو غربية. هذا اليوم، تصل جريدة "الوطن" السرية التي يصدرها الحزب، وعلي أن أستلم حصتي منها. أمضي وقتاً غير قليل في الخان، حيث الدفء وأحاديث الرفاق الذين جاءوا لاستلام حصصهم من الجريدة.
أغادر الخان إلى شارع السلطان سليمان.
أجلس في محل جروبي، أتبادل مع "أبو عطا" الصامت المتأمل دائماً، بضع كلمات. أشعر بأن مواجهات قادمة ستقع بيننا وبين الغزاة. قبل أيام، أبعدوا ثمانية من قادة الجبهة الوطنية. مشاعر عديدة تتنامى في صدري، يأتي عدد من الأصدقاء إلى "جروبي"، نمضي فيه وقتاً غير قليل والحديث يأخذنا من فضاء إلى فضاء.
وكان لا بد من إجراء وقائي ما، ففي ضوء عمليات الإبعاد التي طالت عدداً من قادة الحزب العاملين في إطار الجبهة الوطنية، والاعتقالات التي شملت بعض النشطاء الذين شاركوا في تنظيم التظاهرات والإضرابات، قدّرت قيادة الحزب أن سلطات الاحتلال لن تكتفي بما اتخذته من إجراءات، ولا بد من أنها ستقدم على عمليات تعسفية أخرى. لذلك، قررت توفير عدد من البيوت السرية في مختلف مناطق البلاد، واقترحت أسماء مجموعة من الرفاق، للاختفاء في هذه البيوت، لضمان استمرار نشاط الحزب، حتى لو تعرضت كوادره الرئيسة العاملة في أوساط الناس إلى النفي أو الاعتقال.
وكان يتعين عليّ إزاء هذا القرار أن أختفي في مدينة نابلس، ثمّة أسرة من الأسر المنتمية للحزب، وليس لها ملف أمني لدى سلطات الاحتلال، تتأهب للانتقال إلى البيت السري الذي سأختفي فيه باعتباري أحد أفرادها. لم يكن البيت جاهزاً بعد، وصاحبه طلب فترة شهرين لإجراء التشطيبات النهائية عليه.
صرت أهيء نفسي كل صباح لتجربة العمل السري الذي قد يستمر سنين طويلة، ولن يكون بوسعي الظهور مرة أخرى إلى العلن إلا بعد زوال الاحتلال. شعرت بأنني أقف أمام منعطف جديد في حياتي.
غير أنني لم أنخرط في تجربة الاختفاء، لأنني اعتقلت بتاريخ 19/ 4/ 1974، أي قبل أن يكون البيت السري جاهزاً للسكن بشهر واحد فقط.

5

بقيت معتقلًا إداريًّا مدة عشرة أشهر، ثم أبعدت من سجن بيت ليد إلى لبنان.
أدلي بشهادتي عن ذلك اليوم وما تلاه، أمام لجنة تابعة لمجلس السلم العالمي في هلسنكي، أدلي بالشهادة والمحامية فيليتسيا لانجر تصغي بتأثّر، ويقوم مراسلو وسائل الإعلام المختلفة بتسجيل ما أقوله بالعربية ويترجمه إلى الانكليزية الرفيق مازن الحسيني؛ ممثل الحزب في مجلس السلم:
كان ذلك اليوم من شهر نيسان رائقاً معتدل الطقس. صعدت إلى قمة جبل المكبر، وجدت أحد أقاربي واقفاً على رصيف الشارع ينتظر الباص، وثمة على مسافة مائتي متر تقف سيارة فورد بيضاء. الساعة تقترب من العاشرة. أطل الباص من خلف الجبل. تهيأنا للصعود إليه، غير أن سيارة الفورد سارت أمام الباص وتوقفت بالقرب منا. فجأة، انتبهت إلى أن أشخاصاً يقبضون علي، ويدفعونني إلى داخل سيارة الفورد، وقد فعلوا الشيء نفسه مع قريبي، ثم انطلقت بنا السيارة قبل أن نتمكن من تحليل المشهد ومعرفة دوافعه.
جبل المكبر يبتعد، ولم أكن أعرف أنني أراه للمرة الأخيرة من نوافذ السيارة التي تمتلئ من حولنا بأفراد من جهاز المخابرات الإسرائيلية (إنهم يغيرون تكتيكهم، فبدلاً من مداهمة البيت ليلاً، فإنهم ينصبون لي كميناً في وضح النهار). أصابني قلق بسبب نسخ جريدة الجبهة الوطنية السرية التي أحملها في جيبي. تتجه السيارة بنا نحو ساحة باب الساهرة، ثم تنطلق في شارع السلطان سليمان، وتواصل انطلاقها نحو مكاتب المخابرات المجاورة لسجن المسكوبية.
رجال المخابرات يهبطون من السيارة، ويتركوننا مقيدين إلى بعضنا بعضاً أنا وقريبي أحمد. أمدّ يدي الطليقة إلى داخل جيبي، وأخرج نسخ الجريدة منها، وأدسّها تحت كرسي السيارة، ما يجعلني في حلّ من المسؤولية عنها.
أفراد المخابرات يعودون إلينا، يعصبون أعيننا، ثم يقودوننا إلى مكان ما. بعد دقائق، يفتحون باباً موصداً، ينزعون العصبة عن عيني، ويقذفون بي إلى داخل الزنزانة إياها التي أقمت فيها ليلتين أواخر شهر تموز العام 1969 في بداية اعتقالي الأول الذي دام عشرة أشهر، ثم يغلقون الباب الحديدي عليّ. أنادي أحمد لعله موجود في الزنزانة المجاورة، فلا يجيبني أحد.
بعد ساعتين، جاءوا ثانية، أخرجوني من الزنزانة، اقتادوني إلى الساحة الخارجية لسجن المسكوبية، أمروني بأن أصعد في سيارة جيب عسكرية تابعة لحرس الحدود، ولم يعصبوا عينيّ هذه المرة لسبب لا أدريه. صعد إلى جانبي عدد من الجنود. سارت السيارة بنا نحو الباب الجديد.
بدا الشارع مكتظاً بالسيارات، ما اضطر سائق سيارة الجيب إلى التوقف كل لحظة. ولم يكن هذا الأمر سارًّا بالنسبة لي. فقد انتبه إليّ، وأنا أجلس مكبلاً بين الجنود، مواطن إسرائيلي يركب سيارة تزحف ببطء خلفنا، فأخذ يصرخ محرضاً ضدي بصوت ممجوج، ثم همَّ بالنزول من السيارة للاعتداء علي. تكفل الجنود بالمهمة نيابة عنه، فانهالوا علي يصفعونني على رأسي ووجهي، وهو يطلب منهم مواصلة الصفع كلما توقفوا عنه.
اتجهت السيارة بي نحو مدينة رام الله، وأنا غير متيقن حتى تلك اللحظة من السبب المباشر لهذا الاعتقال.
في سجن رام الله حيث بقيت موقوفاً ثلاثة أشهر، عرفت السبب. ثمة اشتباه بأن الحزب شرع في تشكيل خلايا سرية مسلحة لمقاومة الاحتلال، فقامت أجهزة المخابرات بحملة اعتقالات، شملت المئات من قادة الحزب والجبهة الوطنية وكوادرهما في كل أرجاء البلاد.
اقتادني الجنود إلى داخل السجن. قام أفراد من رجال الشرطة بضربي مستخدمين أيديهم وأرجلهم بعد أن عصبوا عيني، ثم اقتادوني إلى زنزانة رحت أتمشى فيها بخطوات عصبية. ارتفع صوت من زنزانة مجاورة، عرفت فيه صوت خالد الأشهب الذي اعتقل قبل أيام، أثناء وجوده في محله التجاري في سوق العطارين بالقدس.
انفتح باب الزنزانة، ظهر محقق في ملابس مدنية، له وجه قاس، وفي يده عصا غليظة. أمرني بالخروج. اتجهت معه نحو مكاتب التحقيق. في نهاية الممر، رأيت عادل البرغوثي، أحد قادة الحزب، يقف حافي القدمين، ومن حوله مياه، يبدو أنهم كانوا يدلقونها على جسمه كلما أغمي عليه تحت التعذيب. تظاهرت بأنني لا أعرفه، فلم أكلمه، وتظاهر هو بأنه لا يعرفني، فلم يكلمني.
في مكتب التحقيق، وجدت محققيْن آخريْن، أحدهما هو "الكابتن" الذي تولّى التحقيق معي في سجن صرفند العسكري العام 1969، سألني الآخر مشيراً إليه: هل تعرفه؟
قلت: أعرفه، إنه الكابتن.
قال المحقق الذي أخرجني من الزنزانة: المعتقل الذي رأيته واقفاً قبل لحظات، هل تعرفه؟
قلت: لا.
قال وهو يهز العصا في يده: نحن متأكدون من أنك تعرفه، اذهب الآن، وسوف نستدعيك فيما بعد.
أعادني المحقق إلى الزنزانة. بقيت فيها أربعة أيام.
بعد منتصف الليلة الرابعة بقليل، انفتح باب الزنزانة، ظهر شرطي وفي يده زوج من الكلبشات، قيّد يدي الاثنتين، واقتادني إلى جهة خارج الزنازين، اجتزنا باباً حديدياً محصناً بشبك كثيف، ودخلنا بهواً، جعلني أنتظر في البهو ومعي معتقل آخر لا أعرفه. كان الطقس بارداً، وثمة هواء حادّ يتسرب إلى عظامي. بعد ساعة من الانتظار، أخذنا الشرطي إلى غرفة في آخر البهو، سلّمنا بطانيات تفوح منها رائحة الفونيك، وطلب منّا التوجه إلى زنزانة لها باب من شبك حديدي، وبجوارها عدة زنازين أخرى ظلت تستقبل خلال أيام، أعداداً غير قليلة من المعتقلين من منطقة رام الله، عرفت من بينهم بعض قادة الحزب وكوادره. وُضعتُ في زنزانة واحدة مع سبعة آخرين، من بينهم غسان حرب، أحد قادة الحزب.
بعد ذلك بأيام، جاء السجانون، ربما بسبب تزايد عدد المعتقلين، والحاجة إلى الزنازين، فأمرونا بالتوجه إلى ساحة تحيط بها حيطان صفراء عالية، ثم فتحوا باب إحدى الغرف، وطلبوا منا الدخول إليها. الغرفة غاصة بعدد كبير من المعتقلين المنتمين إلى مختلف التنظيمات الوطنية الفلسطينية، والمعتقلون أفسحوا لنا أمكنة للنوم فيها.
وفيما بعد، صدر قرار بتوقيفي إدارياً مدة ثلاثة أشهر، تمكنت خلالها من مقابلة المحامية الإسرائيلية فيليتسيا لانجر التي جاءت لزيارتي، وقابلت كذلك زوجتي وأطفالي وأبي وأمي وعدداً آخر من أقاربي، ورحت أشغل نفسي بقراءة بعض الكتب الأدبية المتوفرة في مكتبة السجن.
جاءنا ذات صباح أحد السجناء غير الأمنيين، ممن يخدمون في مطبخ السجن، ويقومون بتوزيع الطعام على المعتقلين، وأخبرنا أن سليمان النجاب معتقل في إحدى الزنازين. عرفنا فيما بعد أنه خرج في الصباح الباكر من بيت سري كان مختفيًا فيه منذ العام 1969 في حي الثوري بالقدس، متجهاً إلى أحد الاجتماعات الحزبية، فإذا به يجابه بكمين من رجال المخابرات الذين جاءوا به دون ضجيج إلى سجن رام الله.
أخضعوه لتحقيق فوري، وهددوا بتصفيته سراً، حيث لا أحد يعرف شيئاً عن اعتقاله، إذا لم يقدم لهم كل ما لديه من معلومات. لم يبح بكلمة واحدة، وظلوا يعذبونه عدة أيام دون أن يدري به أحد. إلا أن الصدفة المحضة أنقذته. كان مربوطاً ذات يوم إلى باب حديدي يفضي إلى مكاتب التحقيق. جاءت المحامية فيليتسيا لانجر لمقابلة بعض المعتقلين الجدد، فإذا بها تسمع صوته من مسافة قريبة، فلما نادته ردّ عليها، فتأكدت من وجوده في السجن، وأذاعت خبر اعتقاله في كل مكان.
غير أن التحقيق معه، المصحوب بعمليات تعذيب شديدة، لم يتوقف، باعتباره مسؤول الحزب الأول (بعد إبعاد عربي عواد إلى الأردن) الذي يعرف كل التفاصيل. ومع ذلك لم يتزحزح عن موقفه، فأخرجوه من الزنزانة إلى غرفة السجن التي كنا نقيم فيها، ثم ما لبثوا أن استدعوه من جديد للتحقيق، ولم يعد مرة أخرى إلى الغرفة، ثم استدعوا غسان حرب للتحقيق، ولم نعد نعرف عنه شيئاً.

6

كانت لحظة انتهاء توقيفي الإداري تقترب. وكنت أبدي شوقاً للإفراج عني حيناً، وأتشكك في الأمر حيناً آخر، غير أنني فوجئت في ذلك الصباح الذي انتهت فيه فترة توقيفي الإداري، بأحد رجال الشرطة يردد اسمي منادياً علي، حملت ما لدي من ملابس وحاجيات، وحملت بطانيات السجن، سألت الشرطي: هل هو الإفراج؟
فلم يجب.
غادرت الساحة الداخلية، سلّمت البطانيات إلى أحد السجانين، واتجهت مع الشرطي إلى ساحة أخرى محيطة ببناية السجن، وجدت سيارة عسكرية تنتظرني. قام أحد الجنود بربط عصبة على عيني، ثم صعدت إلى صندوق السيارة الخلفي. سارت السيارة بي إلى جهة لا أعلمها، مدة تجاوزت الساعتين، تخللتها بعض فترات توقف هنا وهناك. دخلت سجناً تبيّن لي فيما بعد أنه سجن الجلمة، القريب من مدينة جنين. وُضعت في زنزانة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران. كنت أستطيع المشي فيها عدة ساعات كل يوم. لكن تبادل الأحاديث مع الحرّاس أو مع نزلاء الزنازين المجاورة كان ممنوعاً.
كنا رغم ذلك نغافل الحراس ونتبادل تحية الصباح، فنشعر بعد طول انقطاع عن الكلام بأن لحروف التحية وقعاً يستحق الاهتمام. كان في الزنازين المجاورة كل من سليمان النجاب، خلدون عبد الحق، خليل حجازي، وجمال فريتخ. وقد علمت أن غسان حرب أقام في الزنزانة التي أقيم أنا فيها الآن، ثم نقلوه إلى مكان آخر صبيحة اليوم الذي وصلت فيه إلى هذا السجن (مات غسان وأنا في المنفى، بعد معاناة طويلة من مرض عضال).
بعد ستة وثلاثين يوماً، نقلت من الزنزانة إلى غرف السجن، التي بقيت فيها مدة أسبوعين مع معتقلين آخرين، ثم نقلت بعد ذلك إلى سجن "بيت ليد"، القريب من مدينة طولكرم، وبقيت فيه ستة أشهر، معتقلاً إدارياً.
كان الإبعاد خارج الوطن يشكل هاجساً مرًّا للمعتقلين الإداريين، وكانت فترة توقيفنا الإداري -أنا ومعتقلين آخرين- على وشك الانتهاء. وكنا غالباً ما نذرع ساحة السجن الداخلية أثناء "الفورة" نتأمل حيناً قطعة السماء الزرقاء المطلة علينا من فوق حيطان السجن العالية، ونناقش حيناً آخر فرص الإفراج عنا، أو تمديد اعتقالنا ستة أشهر أخرى. كنا نميل إلى الاعتقاد بأنهم سيفرجون عنا، وأحياناً أخرى، نتوقع أن يمددوا فترة اعتقالنا، وحينما يخطر الإبعاد ببالنا، كنا نقول: نقبل أن نظل قابعين في السجن على أن نتعرض للإبعاد.
وذات مساء، أعلمْنا إدارة السجن أننا قررنا خوض إضراب مفتوح عن الطعام، احتجاجاً على اعتقالنا الإداري (تم الاتفاق على الإضراب عبر الزوار من أهالينا، بحيث شمل كل المعتقلين الإداريين في السجون الإسرائيلية، وقد استمر ثمانية أيام، وكان له دور في الإفراج عن عدد غير قليل من المعتقلين فيما بعد).
لم نتمكن، أنا وعبد الله السرياني، من الاستمرار في الإضراب. جاءنا ذات ليلة أحد ضباط السجن، وطلب منا أن نغادر غرفة الإضراب، مصطحبين معنا كل ما يخصنا من ملابس وأمتعة. اقتادنا الضابط إلى زنزانة صغيرة، بقينا نحدق في جدرانها الصماء ونحن نستعرض مختلف الاحتمالات، فتوقعنا أننا منقولان إلى سجن آخر، أو أننا مطلوبان للتحقيق، ربما في سجن الرملة، أو في سجن المسكوبية، بخصوص هذا الإضراب الذي مضى عليه خمسة أيام.
فجأة؛ ينفتح باب الزنزانة في ساعات ما بعد منتصف الليل، يخرجنا الجنود من الزنزانة، وأمام سيارة عسكرية، يقومون بربط عصبتين على عيوننا، نجلس في صندوق السيارة دون أن نعرف شيئاً مما حولنا، السيارة تمضي بنا زمناً. فجأة، يرتفع صوت: إلى أين تأخذوننا؟
فلا يجيبه أحد.
لكنني أعرف هذا الصوت، إنه صوت سليمان النجاب (أمضى في الزنازين وفي مكاتب التحقيق فترة طويلة، ولم تثبت عليه أية تهمة، فلم يُقدم للمحاكمة، ثم صدر قرار بتوقيفه إدارياً في زنزانة انفرادية في سجن الرملة، ظل معزولاً فيها حتى لحظة إبعاده).
أخيراً، تتوقف السيارة، نهبط منها، ينزع الجنود العصبات عن عيوننا، أحدق في من حولي: ثمة خمسة معتقلين فلسطينيين، يتحلق من حولهم ضباط وجنود إسرائيليون. يقول أحد الضباط بعنجهية: أنتم الآن على الحد الفاصل بين لبنان وإسرائيل، ثم يتلو علينا قرارات مدونة على الورق، في ذلك الصباح المكفهر لآخر يوم من شهر شباط 1975.

7

كان عليّ أن أعيش المنفى بكل تفاصيله المؤلمة والسارّة.
وكنت مضطراً في كل مدينة أرحل إليها إلى أن أبدأ في تأسيس الشروط اللازمة لحياة قابلة للعيش. أبحث عن بيت للإيجار، وعن مدارس للأطفال، وعن عمل يؤمّن للأسرة القوت والكساء وبقية مستلزمات الحياة، أبحث عن جيران طيبين، وعن أصدقاء جدد، وأبدأ في اقتناء كتب جديدة، لا ألبث أن أتركها ورائي حينما أكون مضطراً إلى الرحيل، فأغادرها، وأنا غير قادر إلا على اصطحاب القليل منها، فيترسّب جراء ذلك في قلبي ألم مقيم، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فثمة في البيت أشياء كثيرة، تراكمت مع مرور الزمن: أصص الورد، نباتات الزينة، المقتنيات التي اشتريتها من بعض مدن هذا العالم الفسيح، أو من الأسواق الحرة في المطارات، فأين أذهب بكل هذه الأشياء الحميمة التي يراكمها الزمن في البيت؟! البيت المتحرك على الدوام، لأنه قائم في المنفى، هش، غير مستقر على حال.
حينما غادرت بيروت بعد ثمانية أشهر من الإقامة القلقة، وسط القذائف ولعلعة الرصاص، لم أصطحب معي سوى حقيبة واحدة استطعت حملها، فأودعتها ملابسي، ومسودات قصصي، وبعض كتب عزيزة علي، وكان لا بد لي من أن أبدأ حياتي من جديد في عمّان.
أمضيت في عمان أحد عشر عاماً، انخرطت خلالها في كتابة القصة القصيرة، وفي كتابة الدراما التلفزيونية، وفي العمل في سلك التدريس، علاوة على العمل الإضافي في الصحافة. وكنت إلى جانب ذلك من نشطاء الحزب، ومن ثم عضواً في لجنته المركزية.
غادرت عمان ذات صباح لحضور المؤتمر التوحيدي للكتاب والصحافيين الفلسطينيين الذي انعقد في الجزائر العام 1987، شاركت في اجتماعات المؤتمر الذي انتخب محمود درويش رئيساً للاتحاد، ومعه أمانة عامة من عشرين عضواً، وكنت واحداً من أعضائها. ثم غادرت الجزائر إلى تشيكوسلوفاكيا للحصول على فترة استراحة ونقاهة قبل العودة إلى عمان. قابلت نعيم الأشهب في براغ، وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أبعدته إلى الخارج بعد ثلاث سنوات من الاعتقال الإداري، العام 1971، ثم أصبح ممثلاً للحزب في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية" التي كانت تصدر في براغ، بأربعين لغة من بينها اللغة العربية.
جاء سليمان النجاب (غادر بيروت إلى عمان بعد فترة قصيرة من إبعاده، ثم استقر فيها حتى العام 1982، وبعد ذلك ذهب إلى دمشق وأقام فيها، ثم أصبح مسؤولاً عن فروع الحزب في بلدان الشتات)، وجاء مسؤولون حزبيون آخرون من مواقع عديدة، وعقدنا اجتماعاً في براغ، ثم تقرّر بعد هذا الاجتماع أن أبقى في براغ.
بعد ذلك بفترة وجيزة انتخب سليمان النجاب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للحزب، في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في الجزائر العام 1987، وأصبح نعيم الأشهب مسؤولاً عن التنظيم الحزبي في الخارج، ولم تعد له علاقة بمجلة قضايا السلم والاشتراكية، غير أننا بقينا معاً في المنفى، وكنا نستذكر في لحظات الهدوء أيامنا في الوطن.
وآنذاك، تقرر أن يبقى الرفيق محمد أبو شمعة في براغ لقيادة لجنة التنظيم التابعة لفرع الحزب في الخارج، فيما تقرر أن يقيم الرفيق عبد الرحمن عوض الله في قبرص ليشرف على إدارة مجلة صوت الوطن الناطقة باسم الحزب، التي كان يرأس تحريرها الرفيق الدكتور ماهر الشريف.

8

أقمت في براغ ثلاث سنوات ممثلاً للحزب في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، وانطلقت منها إلى بلدان وعواصم عديدة لحضور ندوات سياسية ومؤتمرات، وانضمت زوجتي وابنتاي إلي. وكان أبنائي الثلاثة الذين يدرسون في جامعات الاتحاد السوفياتي يأتون لزيارتنا بين الحين والآخر. يجتمع شمل العائلة الصغيرة في المنفى، فنشعر ببعض طمأنينة وسرور.
وكنت أراقب من بعيد الانتفاضة التي انفجرت في الأرض المحتلة، وأكتب بوحي منها بعض القصص، وأشارك مع غيري من الرفاق في إطلاق التكهنات حول المستقبل الذي ستقودنا إليه، فأبدو متفائلاً حيناً، متشائماً في بعض الأحيان.
وكنت أتابع في الوقت نفسه ما تشهده براغ ومدن تشيكوسلوفاكية أخرى من تجمعات ذات طابع سلمي، جموع الناس تندفع إلى الشوارع كل يوم تقريباً، والحزب الشيوعي الذي يقبض على زمام الحكم يعجز عن كسب ثقة الناس، بسبب الأخطاء التي اقترفها قادته البيروقراطيون. انهار النظام ببساطة متناهية، وجاء إلى الحكم فاتسلاف هافيل وهو كاتب مسرحي معارض، مرتبط بالغرب الذي لطالما سلط الأضواء عليه وعلى غيره من رموز المعارضة.
ونتيجة لذلك، لم تعد ثمة فرصة لاستمرار مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، فتوقفت عن الصدور، وكان لا بد من مغادرة براغ، غادرتها مع أسرتي عائداً إلى عمّان. غادر معنا كذلك إلى عمان الرفيق محمد أبو شمعة وأسرته.
أسّسنا في عمان هيئة حزبية قيادية كانت صلة الوصل بين الأرض المحتلة والخارج، من: سليمان النجاب الذي عاد من تونس إلى عمان، تيسير العاروري الذي أبعد من الأرض المحتلة في العام 1988 ، الدكتور وليد مصطفى الذي عاد من الخارج ليعمل أستاذًا في جامعة بير زيت، لكن سلطات الاحتلال أبعدته إلى عمان بعد بضعة أشهر من عمله في الجامعة، محمد أبو شمعة ومحمود شقير.
بعد ثلاث سنوات من الإقامة في عمان، أخذت تتوارد أخبار عن احتمالات عودة عدد من المبعدين، فاستبد بي الفضول، وظللت أتحرّى الأمر، حتى تأكّد لي أن اسمي مدرج ضمن قوائم المرشحين للعودة إلى الوطن، فانتابتني فرحة ممزوجة بألم، وتولاني ألم ممزوج بفرح، فها هو ذا الوطن يتداخل مع المنفى على نحو حاد، وها أنذا أتهيأ لإعطاء ما للوطن، للوطن، وما للمنفى، للمنفى.

9

كنا ثلاثين من المبعدين العائدين.
وها أنذا أعود إلى الوطن بعد غياب قسري دام ثماني عشرة سنة.
أجتاز الجسر الذي لطالما تغنّت به فيروز لأقف وجهاً لوجه أمام الجنود.
وكنت أعود ومعي أول فوج من المبعدين العائدين، الذين تركت سنوات الإبعاد الطويلة أثراً بيّناً في نفوسهم، ونسجت شبكة معقدة من الروابط والمصالح وأساليب العيش التي يصعب بترها مرّة واحدة دون جراح.
حينما سألني الصحافيون على الجسر: ما الذي ستفعله بعد العودة؟ أجبتهم كما لو أنني أضع على نفسي شرطاً مسبقاً: سأكتب وأكتب وأكتب. كنت أحاول -ولو عن طريق نثر الوعود- تعديل التوازن المفقود، بين رغبتي في الكتابة، وانهماكي في العمل السياسي المباشر الذي جرته علي هزيمة حزيران.
وكنت أعود وأنا أعاني من هزيمة أخرى، تمثّلت في انهيار ما اعتبرته حتى وقت قريب، تجسيداً للفكرة التي آمنت بها. كانت لي أحلام كبيرة وتطلعات، فإذا كل شيء يتهاوى كأنه بناء من قش. كان أفق العدالة المنشودة يبتعد، وعلي الآن أن أمحّص كل شيء من جديد، للخروج من تحت هذا الركام، لعلّي أظفر بطمأنينة ما.
على الجسر، أعادتني رطانة الجنود إلى أجواء السجن التي تثير الأعصاب. حاولت تبديد الأحاسيس الناتجة عن ذلك، بالنظر إلى التلال الصامتة المحيطة بالمشهد. كانت التلال سادرة في صمتها ولم يكن المشهد متوازناً، رغم ارتمائنا على صدر الأرض، نقبلها.
نقترب من استراحة أريحا في ساعات ما بعد الظهر في الثلاثين من نيسان العام 1993.
في المدى الفسيح ثمة آلاف الفلسطينيين، ينتظرون وصولنا تحت الحرارة اللاهبة لشمس الأغوار، وهم يرددون الهتافات. كانت جموع الشباب المندفعة نحونا، تعيدني إلى أيام الشباب الأولى.
يستقبلني الأهل والرفاق والأقارب والأصدقاء بموجات متتالية من العناق، وأنا موزع المشاعر بين الفرح والدهشة والألم والذهول. ثمة دموع وأغان وزغاريد، ووجوه أراها للمرة الأولى، وقد احتجت إلى وقت غير قليل للتعرف إلى أصحابها، الذين لم يكونوا سوى أبناء إخوتي وأخواتي وأبناء عمومتي الذين ولدوا ثم أصبحوا شباباً وأنا في المنفى، ومنهم من دخل سجون الاحتلال مرة أو مرتين.
تنطلق بنا السيارات مخترقة شوارع أريحا، نصل جبل المكبر، وعلى الهضاب القريبة، تتبدّى أمام عيني القدس.
أتأمل، وأنا في الطريق إلى البيت، قبة الصخرة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة والأحياء السكنية المتجمعة على نفسها داخل سور المدينة. هنا كانت لي حياة قطعها ذلك القرار الذي قضى بإبعادي من فلسطين.

10

عدت إلى فلسطين حين كانت الانتفاضة الأولى تعيش آخر أيامها. تذكرت الجبهة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت في صيف العام 1973 ورسمت خطًّا واضحًا للنضال الشعبي ضد الاحتلال؛ وذلك اعتمادًا على الجماهير وعلى مبادرات الناس وإبداعهم لوسائل نضالية مناسبة لظروفهم وقدراتهم.
ورغم أن القيادة المركزية الأولى للجبهة تبدّدت جراء السجن والاعتقال والإبعاد، إلا أنها تجسّدت فيما بعد في شكل لجنة التوجيه الوطني التي قادت النضال الجماهيري ضد الاحتلال، وقد تمثلت ذروة نجاحاتها في الانتخابات البلدية في العام 1976 التي فازت فيها قوائم منظمة التحرير الفلسطينية؛ وتمثّلت كذلك في تصاعد النضال الوطني الذي كان عماده طلاب الجامعات والعمال والشباب والنساء وشرائح اجتماعية أخرى.
كما تجسدت الجبهة من جديد في القيادة الوطنية الموحدة التي كانت تقود الانتفاضة الشعبية 1987 ، وظلت تقودها بنجاح إلى أن كبّلتها الأوامر البيروقراطية المفروضة عليها من الخارج، ما تسبّب مع مرور الزمن إلى ترهل الانتفاضة وضعفها الذي أدى إلى ضمورها وانفراط عقدها في العام 1993 ، وهو العام الذي تم فيه توقيع اتفاق أوسلو.
ولعل الميزة الأساس لوجود الجبهة الوطنية الفلسطينية آنذاك أنها لفتت انتباه المنظمات الفلسطينية؛ وبخاصة حركة فتح إلى أهمية النضال الجماهيري وتعبئة الجماهير في هيئات ومؤسسات ونقابات ولجان، هذا النضال الذي انتبه إليه الحزب الشيوعي (حزب الشعب لاحقًا) منذ الأسابيع الأولى للاحتلال، فيما قلّلت من أهميته المنظمات الفلسطينية التي جعلت جهدها الأساس منحصرًا في الكفاح المسلح وحده، وحين شاركت هذه المنظمات في الجبهة الوطنية الفلسطينية أدركت أهمية النضال الجماهيري المنظم، وراحت منذ ذلك الوقت تعطيه الأهمية المطلوبة، ثم راحت تشتط في ذلك حدّ تأسيس أجسام نقابية ولجان عمل تطوعي موازية، بدوافع الهيمنة وتهميش القوى السياسية الأخرى، ما ألحق ضررًا بالغًا بالوحدة الوطنية، وبالمفاهيم الوحدوية التي حاولت إرساءها الجبهة الوطنية.
كانت الجبهة الوطنية الفلسطينية مدرسة للنضال الشعبي الجماهيري، ولتعزيز الروح الجبهوية الوحدوية، ولذلك فإنها تجربة تستحق الاحتفاء بها وتوثيقها لتكون زادًا للأجيال الجديدة، وللمناضلين من أجل الحرية والاستقلال تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا.



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكاليات التحديث الثقافي في فلسطين للباحث سعيد مضية.
- الفارس/ قصة
- زجاجة ماء/ قصة قصيرة جدًّا
- من دفتر اليوميات 24/3/2008
- عيد ميلادها
- من دفتر اليوميات23/03/2008
- من دفتر اليوميات/الاثنين17/03/2008
- من دفتر اليوميات11/03/2008
- يوميات/ الخميس 06/03َ/2008
- من دفتر اليوميات/ الثلاثاء/ 15/01/2008
- من دفتر اليوميات/ الخميس 03 /01 / 2008
- من دفتر اليوميات/ الثلاثاء 1/1/2008
- من دفتر اليوميات27/12/2007
- من دفتر اليوميات/ السبت8/12/ 2007
- من دفتر اليوميات/ الجمعة 23/11/2007
- من دفتر اليوميات/ الخميس 22 /11 / 2007
- قصتان قصيرتان جدًّا
- خمس قصص قصيرة جدًا
- صندل و..و ثلاث قصص قصيرة جدًّا
- عن أشواك البراري-طفولتي


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - عن الجبهة الوطنية الفلسطينية وتجربة الاعتقال والإبعاد