أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حيدر مكي الكناني - مشكل القرآن في منة المنان















المزيد.....



مشكل القرآن في منة المنان


حيدر مكي الكناني
كاتب - شاعر - مؤلف ومخرج مسرحي - معد برامج تلفزيونية واذاعية - روائي

(Haider Makki Al-kinani)


الحوار المتمدن-العدد: 6214 - 2019 / 4 / 28 - 09:41
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


هذه المباحثة المتواضعة مهداة للدكتور الفاضل (أحمد علي حنيحن) في كلية الآداب جامعة ذي قار
استهلال
يشكّل النص في الحضارةِ الإسلامية الومضة الروحية الأولى للتبشير المحمدي , فأركان أي رسالة , تستند على المرسل والمرسل أليه (المتلقي , المتابع , المهتم , الراصد) ومرّ علينا أنه قد سُمع في الأثر أن سؤالا طرح من أحد العرفانيين الروحانيين المحلقين في سمو الروح الخفيفة حين سمع أحد المؤمنين ينادي لصلاة الجمعة مكررا قوله تعالى في سورة الجمعة (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ )) فسأل ومن المنادي ؟ هو سؤال يحمل في ثناياه أسئلة أخر متجها للبنية العميقة في الآية الكريمة فهذا التساؤل ينزاح بنا إلى ماهية النداء وكيفيته وتتفرع وتتناسل أسئلة أخرى لتنجب استفهامات أُخر تبحث عن أجوبة أخر تحلق في النص وما ورائياته باعتبار أن النصوص السماوية هي حقائق مطلقة لاشك فيها ولا جدال إلا من ذوي المعرفة والتخصّص فأن إثارة أي شبهة تتطلب الوصول إلى برّ الحقيقة وعلى صاحبها أن يجمع اكبر مقدار ممكن من القرائن والدلائل على صحتها لكي يرجح بالتدريج على إنها الجواب الصحيح , لأن إثارة ( المشكل , الشبهة , التساؤل) دون التمكن من الوصل إلى إجابات شافية ستنتج شبهات أخر باعتبار إنها تخضع للاحتمال الذي يبحث عن استدلال فأن الحوادث تحدث لكننا لا نعلمها وفي حالة إثارتها سنظل نبحث عن مسبباتها لنصل إلى نتائجها التي انطلقنا منها ولعل الفكر الإنساني مجبول بطبيعته على معرفة الأشياء ففضوله في البحث عن ما ورائيات الأجوبة المنبثقة من أسئلة عميقة لا تنتهي لأن الإجابات الشافية والوافية والكافية والدامغة لا تشغل الفكر البشري بقدر الشبهات وما تحتويه أنثيالات الأسئلة خصوصا الفكرية والعقدية منها ولعلنا في الطرقات العامة لا نتعرف على الماهرين في قيادة عجلاتهم لكن تبرز الحوادث وتثيرنا, فتشدنا من مقاعدنا لإلقاء نظرة ومعرفة ما حدث , وكيف حدث ؟ ولِمَ حدث ؟ فالحوادث أيا كانت أسبابها تظهر على الطرقات , لكننا لا نشاهد المتمكنين من قيادة عجلاتهم , فهم لم يرتكبوا أي حادثة لذا لا يثيرونا بشيء ولا يعنون لنا شيئا , فهم يطبقون معايير السلامة فيمرون من قربنا ولا نستشعر بجودهم ولا نرى آثارهم, لكن صور الحوادث تظل عالقة في أذهاننا وتثير فينا أسئلة حبلى بالتأويل اللامتناهي بل بعضنا يضيف ثيمات افتراضية يعتقد بتوالفها مع ذهنية المتلقي الباحث عن إجابات شافية لذا يختفي الماهر في قيادته و لا تحكى عنه الحكايا فهو عنصر غائب غير مرئي وسيحضر في قصصنا حين يرتكب الحوادث ويفقد مهاراته , نحاول أن نصل من هذه الشطحة الفكرية الواقعية إلى بعض المسارات في خيال الفكر البشري البسيط قبل المركب , إلى أن الإنسان مجبول في البحث عن الأسئلة والحوادث الغريبة لأن الجيدين والماهرين يختبئون خلف إتقانهم ومهارتهم فتغيّبهم عدم ارتكاب الحوادث عنّا .وليس كل سؤال يمكن عدّه سؤالا فهنالك أسئلة تموت قبل الإجابة عليها فهي غير مجدية وهناك أسئلة كونية مثيرة وهناك أسئلة فلسفية كبيرة ولعل ما يمتاز به الإنسان المتفلسف عن غيره هو استمراره في طرح الأسئلة والمواظبة عليها للوصول للحقائق لا لطرحها فقط , وتعد هذه العملية الجدلية النفسية بداية لنمو جنين فلسفي في داخل رحم الفكر البشري الذي يولد فينا , ونحن في أيدينا قبره أو نموه , ذلك الكائن المتسائل. ولعل أغلبنا قد تعرض إلى طرح أسئلة غريبة في بداية نموه الفكري والفلسفي فمنّا من ارتكب الحوادث الفكرية فصار حديث المسافرين في عالم التأمل , وأُلّفت حوله الحكايات والأقاويل برغم أنه لم يقصد تلك الحوادث , ومنّا من أتقن منطقه وفِكره وظلّ ماشيا على خطا مرسومة جاهزة له , و" من المرجح أنّ الفيلسوف وعالم الرياضيات (فيثاغورس) مبتكر ذلك اللفظ المنهج الفلسفي يتضمن التساؤل، والمناقشة النقدية، والجدال بالمنطق، وتقديم الحجج في نسق منظم" فهو من المكثرين في ارتكاب الحوادث المنطقية وفق السياق الذي نحن فيه "(1).
ومن أمثلة تلك الحوادث نقصد الأسئلة الفلسفية التساؤل مثلا عن إمكانية معرفة أي شيء وإمكانية إثبات تلك المعرفة، عن الوجود وعمّا هو موجود حقاً، عن الصواب والخطأ، عن كيفية عيش حياةٍ ذات معنى، وعمّا إذا كان الإنسان مخيّراً أم مسيّراً. ونجد أن الحوادث الفكرية تكبر وتتفاقم في فكر (سارتر) في (أدبه الملتزم ) حين يطرح أسئلة مثيرة للجدل حتى اللحظة, طرحَ أسئلة حول (الأدب)وعن سبب كتاباتنا والماهية والكيفية التي نكتب فيها ولمن نكتب ؟ فطرح أسئلته كاشفا عن أدبه الملتزم فقال : " لمن نكتب ؟ وكيف نكتب ؟ وما معنى الكتابة , وأي مظهر من مظاهر العالم نريد الكشف عنه ؟ وأي تغيير نريد تحقيقه من خلال هذا الكشف ؟ " (2)
..........................................
(1) مدخل إلى الفلسفة العامة جامعة محمد البشير الإبراهيمي. نسخة محفوظة 17 مايو 2017 على موقع واي باك مشين.
(2) ما الأدب – جان بول سارتر – ترجمة وتقديم وتعليق (محمد غنيمي هلال ) – ص23 - دار نهضة مصر للطباعة والنشر .

أما لماذا التركيز والاهتمام على كتاب (منة المنان في الدفاع عن القرآن ) في مباحثتنا المتواضعة هذه , يرجع ذلك لعدة أمور ولكن من أهمها كون (السيد محمد صادق الصدر) استعمل أسلوب الاحتمال وتعدد القراءات في أغلب كتبه، كــــــ( موسوعة الأمام المهدي، وأضواء على ثورة الأمام الحسين ، وفقه الأخلاق، و ما وراء الفقه(، إلا انه قد نَظّر في قراءة النص بشكل تفصيلي وخاصة في ( منة المنان في الدفاع عن القرآن) فقد اعتمد (السيد الصدر ) السؤال بوصفه إشكالا فلسفياً ،للوصول إلى غايات النص القرآني ومقاصده وكذلك لاعتماده (أسلوب الأطاريح) المعتمد على إثارة الأسئلة فقد ربط (السيد الصدر) السؤال المعبئ بأِشكال فلسفي للوصول إلى غايات النص القرآني ومقاصده أو توضيح المعنى بمرآة الدلالة.
يبدو أن غاية (السيد الصدر) من إثارة السؤال ليس للحصول على جواب محدد بل هو فتح باب التفكر والتأمّل للحصول على إجابات كثيرة تطل على المعاني التي تتوزع على(الأطاريح) التي أقترحها سماحته إذن الغاية هي، "ليس تحصيل جواب سريع، جواب قطعي وناجز، وإنما خلق جو مشحون بإمكانية المعرفة وفضاء ثقافي حواري، يتولد من خلاله سؤال جديد، وبذلك تتوالد المعرفة ويتناسل الفكر " (1).

............................................
(1)مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء، بيروت، ط6 -9:2005 :9.


المباحثة الأولى
الأطروحة في منة المنان

في زمن حصار الرغيف والكلمة وتكميم الأفواه كان التأمّل في الفكرة يهيئ رقبتك لحبل مقصلة قد عدّت مسبقا لك , كان (النظام البعثي الفاشي) يمارس احدث وأرقى طرق التضييق الفكري والجسدي على شعبه والشيعي منه بشكل خاص وعلماء الدين والمفكين منه بشكل أخص , كان الحصار كعملة ذو وجهين احدهما كان حصار الرغيف والآخر حصارٌ فكري دامغ أمّا الخطاب الديني أيا كانت وجهته فهو (تهمة جاهزة) لمن يقع تحت طائلة الشك فهو كائن لسجن أعدّت أحكامه مسبقا وفي كل هذا الركام المعرفي والفكري كان ثمّة ضوء يلوح في الأفق انطلقت شرارته من (صلاة وخطبة ومنبر) في يوم جمعة حتى صارت (الجمعة) ذلك القبس لتلك الفكرة التي بثّت شعاعها ونشرت ضيائها في وعي لم يسبق له مثيل , فالمتتبع للمحيط السائد في تلك الحقبة يجد أن (السلطة البعثية ) قد فرضت على الشعب حصار داخلي غير الحصار الكبير المفروض اصلا من قوى غاشمة فالممنوعات لا متناهية من الداخل والخارج فمن الصعب لأي شخص أن يتبنى فكرة تمس من بعيد أو قريب للدين او التدين في ظل نظام قمعي بعثي فاشي وإذا بالسيد (الشهيد الصدر) يؤسس منبرا ثقافيا توعويا متحديا الحصارين الأول والثاني بإمكانات في حينها كانت محدودة خصوصا أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تولد بعد فكان تصوير الفيديو المعتمد على كاسيتات تسجيل تتناقلها محال التسجيل بين المحافظات هي الوسيلة الأولى للتواصل ونشر (الأطاريح ) الخاصة منها والعامة كخطب الجمعة المسجلة في الكوفة بأعتبار أن الأعلام المرئي والمسموع والمقروء رغم انه اعلام مدفوع الضريبة لكنه ليس ملكا للشعب فهو يمجد شخصا واحدا ونظاما واحدا ولا يسمح بغير هذا الخطاب السلطوي ألبعثي الفاشي أن يظهر على وسائل الأعلام الثلاث فكانت هذه الوسائل الإعلامية تتغنى (بالقائد الضرورة) فلا مجال لأي رسالة أو خطاب إعلامي آخر للظهور أو بث رسالته.
كان( المنبر ) يقابل هذا كله فالــ(الكاسيت الصوتي ) يقابل آلة أعلام السلطة وطباعة الكتاب رغم السماح لبعضها بالنشر تقابل هذه الطباعة آلة إعلام السلطة , مع العلم أن اقتناء أي كتاب أو حمله هو كأنك تحمل مقصلتك بيدك , وبعد هذا الاستهلال المختصر عن واقع ربما اغلبنا لفحته نيران حصاراته وبعد تسليط بعض الضوء على واقع معتم , يتبين لنا مدى أهمية المنجز وصعوبة انجازه وإظهاره والجهر به ومدى تأثير هذا المنجز على مجتمع محاصر بالكلمة والرغيف , في زمن فقد الإنسان فيه رغيفه وحريته , فكيف بكتاب كــ(منة المنان ) وهو يعرض أطروحات غاية في الخطورة لتعالج واقعا مركبا تركيبا غريبا , فكان للأطروحة في فكر(السيد الصدر)مفهوما ودلالة وفهماً واعياً مدركاً باعتبار أنها تجيب عن كثير من المشكلات والمصاعب التاريخية والعقائدية لأنهــا تفتح عيـــن ( القارئ والمتتبع والراصد والمتلقي )على كثير من الأمور الغامضة والملتبسة وألفاته إلى إمكان تجاوز الفكر التقليدي , ولا ننكر أن هذه الأطروحات قد غيرت وطهّرت من أفكار المتلقي حتى لو كان (متلقي السلبي) وفي الوقت نفسه قد غيرت هذه الأطروحات بعض من أفكار (الراصد) (المتربص) فهو متلقي ليس سلبيا بل متلقي واعي غايته رصد (السلبيات والإخفاقات والهفوات ) باعتبار أن المتأثرين بهذه الأطروحات يختلفون حسب شكل الرسالة المرسلة فمرة تكون الرسالة من خلال منبر صلاة الجمعة فتتعدد مستويات المتلقي الثقافية ومرة أخرى تكون الرسالة مرسلة من خلال كتاب أو إصدار وهنا تكون الرسالة موجهة إلى صفوة الصفوة وفي كل مرة تستهدف الرسالة فئة معينة فكانت رسائل (السيد الصدر ) شمولية تخاطب البسيط والمركب وحسب الوسيلة الأعلامية المتبعة والمتاحة سواء كان من خلال تسجيل صوتي او تسجيل فيديو أو مباشرة من خلال خطبة الجمعة الجريئة الحاثة على النهوض ورفض كل أوجه الاستبداد والناقدة للعادات والتقاليد البالية ولعلنا الآن في (منة المنان) نجد الجرأة والشجاعة في الطرح في إثارة المشكل القرآني التي لم يسبق أن طرحها شخص قبل (السيد الصدر ) ولا بعده فأسلوب (الأطروحات) " قائم على أساس فكري رصين ومقنع ومرتكز على دليل متين أو ركن ركين بخلاف ما ذهب إليه كثير من المفكرين في مختلف حقول المعرفة التي وصلت إلينا ناقصة المعلومة أو تكاد بل لا ترقى إلى مستوى فهم الأحاديث والوقائع والأحداث لما يناسب حداثة مجريات الأمور ومسايرتها للواقع بماضيه وحاضره ومستقبله وإنما الذي نجده بهذا الأسلوب انه فتح باباً للتفلسف والتفكير والدراسة والتدقيق والتحليل بما يناسب معطيات العصر فالأطروحة مكانها الفكري في المراتب العليا فبعد الاطلاع على تعريفها ومقارنتها بالاحتمال والاستدلال نجد التسلسل الآتي :
1.الأطروحة 2.الاحتمال 3.الاستدلال "(1)
فإننا نلاحظ أن الاستدلال يأتي في المرتبة الثالثة كما هو واضح واغلبنا يفقه القاعدة الفقهية أو سمع عنها (إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال ) .
.......................................

(1) رد الشبهات – أبي محمد الصدر – إحياء فكر الصدر – موقع الكتروني

ولعل هذا ما ميز فكر (السيد الصدر ) فأين الأطروحة من الاستدلال الذي التزم به الكثيرون ولم يرقوا إلى هذا الأسلوب الفكري العملاق الذي لم يأت به احد إلا ( السيد الصدر) ولم يسبقه احد قبله .
فأسلوب الأطروحة أمتاز به (الصدر) ولم يدانيه أحد إلى هذا الأسلوب , ومن هنا يتضح " أن الأطروحة ليست مستوحاة من وحي الآراء الشخصية كما يذهب إليه أصحاب الفكر الساذج بل من الرأي الإسلامي الصحيح القطعي والمرضي لله عز وجل من زاوية القواعد العامة لأنها تشرح وتعطي الصورة الحقيقية لأقوال المعصومين (ع) الناطقين عن الخالق تبارك وتعالى بما أرادوا أن يكون ابتعاداً عن الجهل بالقواعد الشرعية والعقلية الموضوعة لمعرفة الحق وتشخيص الصواب " (1) .
وقد أوضح السيد الصدر مفهوم الأطروحة وبين منهجيتها وذكر طريقين شرعيين هو اتبعهما واستبعد (السيد الصدر ) أن تكون الأطروحة عبارة عن آراء شخصية وذكر ذلك في موسوعته ( تاريخ الغيبة الكبرى- الجزء الثاني - ص 196) حيث قال :
" إننا وان كنا جهلاء أمام العلم الإلهي الأزلي اللامتناهي, ويستحيل اطلاعنا عليه بدون إخباره عز وجل لنا وإعلامه إيّانا. إلا انه عزّ وجل جعل لنا طريقين أساسيين مشروعين لحصول العلم:
أولهما: الحقل المتمثل بالقضايا الواضحة التي يحكم العقل السليم بصدقها بشكل لا يمكن أن يرقى إليه الشك.
وثانيهما: النقل المتمثل بالكتاب الكريم والسنة الشريفة (2).
...............................
(1) رد الشبهات – أبي محمد الصدر – إحياء فكر الصدر – موقع الكتروني .
(2) ( تاريخ الغيبة الكبرى- الجزء الثاني - ص 196) .
ومن المستطاع اخذ القواعد العامة, بل الاطلاع على كثير من التفاصيل في هذين الطريقين بشكل مؤكد الصحة والمطابقة للواقع, ومرضٍ لله عز وعلا. ونحن إذا طبقنا هذه القواعد, لا نكون قد أخذنا بآرائنا الشخصية, وإنما نكون قد أخذنا بالرأي الإسلامي من زاوية القواعد العامة, في تمحيص خصائص الروايات وتفاصيلها, وتكون القواعد العامة العقلية والشرعية مقدمة على هذه الروايات ومحكّاً لفهم صحتها وصدقها "(1).
ووفق الواقع المحاصر والمتشظي بين مطرقة السلطة وسندان الفكر المغلق كان لابد أن تلاقي أسلوبية (السيد الصدر) في طرحه للأطاريح الكثير من النقد و القبول فهنالك من ادّعــى " أن أسلوب الأطروحات الذي ابتكره السيد الشهيد(قدس) هو مجرد احتمال قابل للقبول أو الرفض ـ حسب زعمهم ـ وما علموا بان السيد الشهيد ( قدس). قد عرّفها تعريفا شاملا ووافيا وشافيا . مستندا إلى الأدلة التي ذكرها في تعريفه لمعنى الأطروحة هو معنى شامل لكل حقول المعرفة "(2) .
وللمتلقي (الراصد أو المتابع أو المتلقي السلبي أو المتخصص ) أن يطّلع على هذا التعريف فقد ورد في (منة المنان ) في الصفحات التالية من (الجزء الأول .. ص 37 ـ 38ـ 39)

.................................

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ..... الجزء الثاني ..ص 196.
(2) رد الشبهات – أبي محمد الصدر – إحياء فكر الصدر – موقع الكتروني



وأضاف (السيد الصدر ) تعريفا آخر في كتابه ( ما وراء الفقه الجزء الرابع . ص 33) وذكر هنا معنى الأطروحة وتطرق إلى أن معناها هو إيجاد فكرة من الحقول المعرفية فمن الصعوبة بمكان أن نكون جازمين فيما نصل إليه فنقول انه لعله كذا وكذا هذه هي الأطروحة ثم علينا بعد التشكيك أن نجمع الأدلة والقرائن على صحة ما طرحناه وقد ذكر (السيد الصدر) أنه يمكن للمفكر أن يطرح عدة أطروحات محتملة أي هنا يجب يتحقق الاحتمال وعلى المفكر أن يجد الدلائل لأطاريحه و إذا صحّت فقهيا تكون حجة معتبرة شرعا وان لم يتم شيئا من الأطروحات فأطلق عليه (السيد الصدر) ( عدم التكييف الفقهي للواقع الحاضر ) خصوصا أن الواقع يخالف الفقه بكثير وقليل وهذا نص ما قاله ( السيد الصدر ) حول معنى الأطروحة كما ورد في كتابه ( ما وراء الفقه الجزء الرابع . ص 33) حيث قال : " ومعنى الأطروحة ، هو إيجاد فكرة متكاملة عن حقل ما من حقول المعرفة ، يتصف هذا الحقل بأنه من الصعب الحصول على أمر جزمي بصدده فنقول : انه لعله كذا وكذا ، وهذه هي الأطروحة . ثم نحاول جمع القرائن والدلائل على صحتها مهما أمكن . وقد يكون للمفكر أن يطرح عدة أطروحات محتملة يحاول أن يقيم عليها الدلائل . وأي من هذه الأطروحات صحت فقهيا وقامت عليها الدلائل التي تكون حجة ومعتبرة شرعا ، كانت هي الصحيحة ،وان لم يتم شيء من الأطروحات ، كان معنى ذلك بطلان التكييف الفقهي للواقع الحاضر ، وان الواقع يخالف الفقه بقليل أو بكثير " (1).

......................................
ما وراء الفقه الجزء الرابع . ص 33

أما ما ذكره السيد الصدر حول الأطروحة وتعريفها في كتابه (منة المنان ) (الجزء الأول .. ص 37 ـ 38ـ 39) فقد ذكر (السيد الصدر) كلمة (ضرورة ) ومن خلالها نستطيع أن نلاحظ مقدار الضغط الهائل الذي يمارس ضده فكان لابد (للسيد الصدر) من ضرورة لتعريف الأطروحة فقال : " بقي لدينا الآن ضرورة تعريف الأطروحة وإنَّها ليست مجرد احتمال مهما كان حاله, ولكنَّها ذات أهميَّة معينة وقد سبق في عددٍ من أبحاثي أن عرفتها بتعريفين منفصلين كلاهما صادق، إلاّ أنَّ الثاني أدق من الأول " (1).
ونلاحظ هنا أيضا جملة ( كلاهما صادق) وهذا يبين ويوضح أن هناك من شكك في أطروحات (السيد الصدر) فبدء كلامه بالضرورة وكلاهما صادق ثم أكمل (السيد الصدر) تعريفه فقال :" فقد عرّفتها أولاً: بأنَّها فكرة محتملة، تُعْرض عادة فيما يتعذر البت فيه من المطالب، ويحاول صاحبها أن يجمع حولها أكبر مقدار ممكن من القرائن والدلائل على صحتها لكي يرجح بالتدريج على أنَّها الجواب الصحيح.
وعلى هذا، لا يتعين أن تقع الأطروحة في مجال الجواب على السؤال، بل يمكن أن يُبيِّن بها الفرد أيَّ شيء يخطر في البال.
ولكن لا ينبغي أن ندعي أن كل المحتملات بالتالي تصلح أن تكون أطروحة بهذا المعنى، بل ما يصلح لها هو ما يمكن للفرد تكثير القرائن على صحته وتجميع الدلائل على رجحانه, وإلاّ لم تكن أطروحة، بل احتمالاً ومن الواضح جداً إنّه ليس كل المحتملات على هذا المستوى" (2) .


أذن (السيد الصدر) ميّز بين الاحتمال والأطروحة فهي ليست جواب على سؤال فحسب بل على صاحب الأطروحة أن يكثر من القرائن الصحيحة والدلائل الراجحة وقد أكّد ذلك , حين أكّد معنى (الأطروحة ) فقال : " وهذا هو معنى الأطروحة الذي سرتُ عليه في كتب موسوعة الإمام المهدي.(ع)، في ما كان يعنُّ من المصاعب التاريخيَّة والعقائديَّة والحديثيَّة، وغيرها.
...........................................
(1) (منة المنان ) (الجزء الأول .. ص 37 ـ 38ـ 39) .
(2) نفس المصدر .

إلاّ أنني عرفتها ثانياً: بأنَّها الاحتمال المسقط للاستدلال المضاد من باب القاعدة القائلة: إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.
من حيث أنَّ الاستدلال لابدَّ وأن يكون قائماً على الجزم ومنتجاً لليقين بالنتيجة " (1).

وهنا تكمن خطورة ما تم طرحه , فأن فكر(الصدر) يطلب منّا التحرر مما هو سائد وموروث وعلينا بالتفكر والتفلسف وبناء احتمالات معتمدة على الأدلة والقرائن الصحيحة لا أن نقبل كل شيئا دون التفكير فيه والتمحيص فيه والفهم الحقيقي له فأن الأفكار التي يزيل يقينها دليل واحد في احتمالية إعطائها معنى آخر مقرونا بالأدلة والقرائن يسقط استدلالها الذي عرفناه ويؤكد ذلك (السيد الصدر) بوضوح فيقول " إذن, فأيَّة فكرةٍ طعنت في ذلك واستطاعت إزالة اليقين به، كافيَّة في الجواب على السؤال وإسقاط الاستدلال" (2).
ويتخذ (السيد الصدر) من كتابه (منة المنان ) مثالا لقاعدته في الاحتمال والاستدلال فهو بهذا يمثل مثالا ساميا لكتاب ذو منهجية جديدة أصلا في طرحه وبنيته ومنهجيته فهو غريب على الذهنية السابقة واللاحقة خصوصا أن البحث في الاحتمال لم يتخذ الصورة الفلسفية التي دعا إليها ( السيد الصدر).
باعتبار أن الواقع لم يألف بعد هذا التغيير في المفاهيم الموروثة أي إننا لم نألف بعد هذا التغيير في الأفكار والسلوكيات الموروثة حسب الأطاريح الجديدة (للسيد الصدر) , لذا كانت الأطروحة مادة فكرية دسمة فكريا والمقارنة أكثر غنا وأكثر إمتاعا , فطرح السيد الصدر شبهة خطيرة وكبيرة حول كتاب هو أصلا يثير الشبهات في منهجيته وذكر (المشكل القرآني ) لذا وضع ( الصدر) شرطا و حدده لمن يمكنه أن يقرأ (منة المنان ) ومن يمكنه السفر عبر أطاريحه فجعل ( الصدر) التمكن اللغوي والدراية اللغوية نقطة عبور إلى (منة المنان) لأننا يمكننا إثارة الشبهات لكن الصعوبة تكمن في الرد عليها وكما ذكرنا في بداية مباحثتنا ان الحوادث تقع وهي التي تظهر لنا وتتضح أما الأمور المتقنة والطبيعية فهي ساكنة ومنسابة ,فذكر السيد الصدر شيئا غاية في الخطورة .

............................................
(1) (منة المنان ) (الجزء الأول .. ص 37 ـ 38ـ 39) .
(2) نفس المصدر .

حين قال :" فمثلاً: فيما يخص كتابنا هذا, فإنَّ كلَّ سؤالٍ سيكون بمنزلة الاستدلال ضد القرآن الكريم، من حيث فتح فجوة في مضمونه أو الاعتراض على أسلوبه, وحاشاه"(1).

وهنا تكمن الخطورة في أن أي سؤال لغير المتمكن من اللغة وأصولها فهو سيحمل ضد آيات القرآن خصوصا (المتلقي السلبي ) أو ممن يمثل أفكارا أخرى تعارض ما يتم طرحه وقد ذكر السيد الصدر أهمية الأطروحة فقال :" ومن ثم تكون الأُطروحات كافيَّة لإسقاط ذلك الاستدلال وإماتة ذلك التفكير. وهذا هو المهم بغض النظر عن البتِّ بأيِّ وجهٍ من تلك الوجوه، والأخذِ بأيٍّ من الأُطروحات، إلاّ ما قد يحصل من ذلك صدفةً، مما واجهنا فيه ظهور معتبر ونحوه، وأيّ من تلك الأُطروحات تمت فقد تم الجواب وانتفى الإستدلال المضاد هذا ولا ينبغي لنا هنا أن نقارن بين هذين التعريفين، فإنه تطويل بلا طائل، بل نوكله إلى فطنة القارئ اللبيب.

وإنما نقتصر هنا على الإشارة إلى إمكان الجمع بين هذين التعريفين, من حيث أنَّ الاحتمال مهما كانت صفته وقيمته يكون مسقطاً للاستدلال لا محالة مادام مرتبطاً بموضوع السؤال كما هو منطوق التعريف الثاني، إلاّ أن هذا لا يعني تحول معنى الأطروحة إلى مجرد الاحتمال, بل تبقى الأطروحة هو ذلك الاحتمال المحترم الذي يمكن أن نجمع حوله أقصى مقدار متيسر من الدلائل والإثباتات, وبذلك يكون أشد إسقاطاً للاستدلال بطبيعة الحال"(2).

..................................................

(1) (منة المنان ) (الجزء الأول .. ص 37 ـ 38ـ 39) .

(2) نفس المصدر .






المباحثة الثانية
مشكل القرآن في منة المنان

كما ذكرنا أن الغاية من الأطاريح عند (السيد الصدر)،هو ترك باب الجواب والتفلسف والتفكير مفتوحا لزيادة في التفلسف والتفكير، وهذا كله يعطي ديمومة للسؤال وحياة وفاعلية لسؤال آخر وكما قيل أن "الجواب ليس نهاية مأساوية للسؤال" (1)
لذا أكد (السيد الصدر ) أن كتابه ( منة المنان ) لا ينتمي إلى كتب التفسير إطلاقا ، فهو يعد من الكتب التي تتحدث عن (مشاكل القرآن) ، وسبب ذلك أن التفسير يعنى بالمستوى الظاهر للنص ولا يتجاوز حدود اللغة أو معاني الكلمات ، ولا يهتم بالمستوى الاحتمالي، الذي يوازي المستوى التأويلي فمن المعروف أن التأويل يختلف عن التفسير في الوصول إلى أعماق المعاني في النص لذلك فأن كتاب ( منة المنان في الدفاع عن القرآن) لا يعنى بمعاني الكلمات، وان كان يأخذها باعتبار بل هو يعنى بما تشكله هذه الكلمات والمشكلات المنبثقة من سياق تقوم هي بتشكيله وهناك بون شاسع بين رؤية تكتفي بمعان ترد إلى الذهن ورؤية أخرى تبحث في ما وراء معاني الكلمات و ما تشكله مجتمعه في سياق عام يولد أفكار وصور وتأويلات ومشاكل تثار من خلال هذا كله .
فالانتقال من اللفظ إلى السياق هو بمثابة الانتقال من الجسد إلى الروح .

.............................................
(1) إستراتيجية التأويل الدلالي عند المعتزلة، هيثم سرحان، دار الحوار - سوريا، ط1 – 20036 .

البسملة العتبة ألأولى
قال السيد الصدر: "ما معنى الباء في البسملة؟ لماذا لم يستعمل غير الباء من حروف الجر؟ ما هو متعلق الباء في البسملة؟ لماذا قال: بسم الله، ولم يقل بالله؟ لماذا تبدأ سور القرآن الكريم بالبسملة؟ ما هو مضمون البسملة ومدلولها؟ لماذا خصت البسملة بهذه الأسماء الحسنى دون غيرها؟ لماذا تكررت مادة الرحمة في البسملة مرتين؟ لماذا خصت مادة (الرحمة) بالذكر في البسملة؟ ما معنى الاسم ؟ لماذا ذكر الاسم مفردا لا جمعاً مع العلم أن مدخوله ثلاثة أسماء "(1) .
نلاحظ أن (السيد الصدر) هنا قد أثار أسئلة ربما بعضها أو جزء منها قد أوردته مخيلتنا لأن الإنسان في مراحل حياته التأملية والمعرفية من عمره يمر بمرحلة استكشاف وتقصّي للواقع المحيط والمعاش الذي يحيى فيه وفي فترات أُخر يظل يتساءل عن كل شيء غيبي أو ما يتعلق به , فيدور الواحد منا دورة فكر فلكية ليرجع إلى نقطة انطلاقه خال الوفاض ,وهناك عدة أسباب لذلك ومن أهمها لعدم وجود فكر يحاكي ويفسر هذه الظواهر الفكرية والمشكل الموجود في النصوص القرآنية ولعدم وجود فكر يشبه فكر (السيد الصدر) ولعدم وجود أطروحة مبنية على البحث والأستدلال وفق القرائن والحقائق لأن الأحتمال فقط كان هو السائد فكان السائل قبل كتاب (منة المنان) يحبس أسألته في صناديقه السوداء خشية أن يقال عنا (سنٌ سؤول ) أو متشكك خصوصا من قبل العقول التي تؤمن بضلع واحد من مثلث (الأطروحة -الاحتمال -الاستدلال ) وفي زمنٍ خلا من فكر فلسفي واعٍ مدرك لهموم الناس وإشكالاتها الفكرية والعقدية , لذا بعض الأسئلة ربما ليست غريبة على بعضنا لكنها أن تطرح جملة واحدة مجتمعة معا هذا الشيء يحقق الغرابة الفكرية المتشككة خصوصا أن بعض إجاباتها صعب التحقق إلا من أوتي فضلا وعلما كبيرا .
.........................................................
(1) ينظر: منة المنان في الدفاع عن القرآن: السيد محمد محمد صادق الصدر,ج1,مطبعة الأنصار ,النجف الاشرف,1412هـ: 45.
فمثلا الشبهة التي طرحها (السيد الصدر) والمشكل في ( لماذا تبدأ سور القرآن الكريم بالبسملة) فمن الصعوبة الإجابة عن هذا السؤال سواء فهمنا السؤال ببنية عميقة أو بسيطة لأن الجواب سينجب أسئلة أخرى .
فمثلا على سبيل المثال الشخصي كنت دائما أتساءل لمَ إخوتنا (الصابئة المندائيين) يذكرون (بسم الحي القيوم ) ولماذا نحن نذكر (بسم الله الرحمن الرحيم ) و إذا بالجواب يأتينا ناصعا كبياض الثلج حين يخبرنا (السيد الصدر) في (منة المنان ) أن كل اسم من أسماء الله الحسنى له دلالة معينة وأما اسم الله ( الرحمن ) فهو دلالة لكل أسماء الله الأخر لأن الرحمة هي أوسع وأشمل , ولعلنا نتذكر هذه الجملة في دعاء كميل ( يا من رحمته وسعت كل شيء)
وهاهو (السيد الصدر ) بعد أن أجاب على كل الشبهات التي ذكرها من خلال أطروحته حول (البسملة ) يقول :"سؤال: ما هو مضمون البسملة ومدلولها ؟
جوابه: نحن لا نستطيع أن نحيط بالبسملة علماً، لأن علومها أوسع وأعمق من أن ننالها بعقولنا القاصرة،وإنما نلم بها إلماماً. والشاهد على عظمة البسملة ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) : "إن علوم الكون كلها في القرآن، وعلوم القرآن في السبع المثاني، وعلوم السبع المثاني في البسملة، وعلوم البسملة في الباء، وعلوم الباء في النقطة، وأنا تلك النقطة " (1).

..............................................

(1) منة المنان في الدفاع عن القرآن: السيد محمد محمد صادق الصدر,ج1,مطبعة الأنصار ,النجف الاشرف,1412هـ: 45.


المشكلُ النَّحوي
في منة المنان
لتواضع الإمكانات ومحدوديتها ولكون منهجية مباحثتنا مختصرة على ( مشكل القرآن في منة المنان ) تحتاج إلى سعة أكثر من هذا المقام سنركز على المشكل النحوي في (كتاب منة المنان ) مختصرين ذلك بمثال واحد من كتاب ( منة المنان) متناولين الشبهة وتفسيرها من قبل (السيد الصدر).
المشكلُ النَّحوي
في هذا الباب نحاول أن نركز على نموذج من النصوص القرآنية التي رصدها (السيد الصدر ) في منة المنان تحت عنوان المشكل اللغوي ( النحوي ) في القرآن الكريم ، وقد عمل (السيد الصدر ) على حل هذا المشكل اللغوي ولأن هذا المبحث في منة المنان قد اخذ حيزا كبيرا ومساحة واسعة من الكتاب فإننا سنأخذ نموذجا واحدا كما أسلفنا وللمتابع والمهتم أن يراجع كتاب (منة المنان) ليطلع ويتوسع لأن قراءة القرآن يجب أن تكون مصحوبة بفهم ووعي إضافة إلى مراعاة أحكام التلاوة ومبادئها . ففي قوله تعالى :
(( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) البلد : 1-2 والمقصود هنا بالبلد الأمين ( مكة المكرمة ) ، وقد أُقسم به في سورة ثانية هي سورة التين :
(( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ))
التين : 1-2-3 ويذكر (السيد الصدر )
أن ( هذا يدعو إلى التناقض وهو أمرٌ مشكلٌ , فكيفَ التوفيق )


وهنا نجد أن (السيد الصدر ) قد ألتمس ستة وجوه لدفع المشكل عن النص القرآني :
الوجه الأول : زيادة ( لا ) ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً ، وهذا ما أشار إليه أبو البقاء العكبري ( ت 616هـ) وابن عادل الدمشقي (880هـ) ، لكن السيد الصدر يعترض على هذا الرأي قائلاً: " والزيادة يعني أنها ملحقةٌ بالغير ، ولا معنى لها ، وهو بعيد عن سياق القرآن وحكمته " (1)، ونلاحظ هنا انه "بنا على أساس مقصدية المتكلم بمعنى أن هناك وحدة في السورة ، ذات نسيج عضوي مترابط ، على وفق تخطيط هندسي ، بحيث إذا نقلنا مفردة ووضعناها في محل آخر ، أو حذفنا أو قدمنا أو أخرنا بعضاً منها عن الآخر ، فسيحدث خلل في الموضوع وتشوه في الفكرة" (2) .
.........................................
(1) منة المنان 2/ 185.
(2) علي عبد الرحمن حلبوص. المشكل اللغوي في كتاب منة المنان في الدفاع عن القران للسيد محمد محمد صادق الصدر . مفهومه . علله . حلوله.











الوجه الثاني :
هنا عكس الوجه الأول وهو وجه عدم الزيادة وان (لا ) ( ليست زائدة ، وإنما هي نفي للقسم بها ، كما نفى القسم بالنفس اللوامة ، وهذا ما أشار إليه الشيخ محمد جواد البلاغي ) ( ت 1352هـ) قائلاً :" هو للنفي والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)){ الواقعة : 75-67} ،" فكأنه بإدخال حرف النفي يقول : إن إعظامي له بأقسامي به ، كلا إعظام يعني أن يستأهل فوق ذلك " ( ) ، فلأهمية الموضوع يغدو بحاجة إلى أقسام متعددة ، وفيه إطناب بلا طائل ، فترك القسم أولى " بل هو نوع من القسم الشكل السلبي ، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره ، وهو أكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبي رائع والمعنى : إني لا أحلف ، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر فهو حقيقة قسم ، لكن بصورة سلبية أكثر تأكيداً من صورة الإيجاب " ( ) .
الوجه الثالث : إن ( لا ) ردٌ لكلام مقدَّر ، لأنَّهم قالوا : أنتَ مفتر ٍعلى الله عز وجل في قولك : نُبعَث؛ فقال : لا ، ثم ابتدأ؛ فقال : أقسم ، وهذا كثير في الشعر ( )، وأشار إلى هذا أبي زكريا الفرّاء ( 207 هـ ) قائلاً : " القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث ، والجنة ، والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم في كثير من الكلام ، المبتدأ منه ، وغير المبتدأ : كقولك في الكلام : لا والله لا أفعل ذلك ؛ جعلوا ( لا ) وان رأيتها مبتدئة ردّاً لكلام قد كان مضى ) ( 4)
الوجه الرابع : "ما ذكره العكبري أيضا من أنه قرئ : لأقسم (5) ، على أن تكون هي لام التوكيد دخلت على الفعل المضارع .
الوجه الخامس : " أن اللام لام القسم ( لأقسم ) ولم تصحبها النون ( لأقسمن ) ؛ اعتماداً على المعنى ولأنَّ خبر الله صدقٌ ، فجاز أنْ يأتي من غير توكيدٍ "(1)
الوجه السادس : " أنَّ المراد : لأقسم ، شبّهت الجملة الفعلية بالاسمية ( يعني : في ترك النون ) كقوله تعالى : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72 ]" ( 2) ، " ويبدو أنَّ السيد الشهيد الصدر, لم يخرج عن ظاهر القرآن هنا ؛ لأنّه تمسك بظواهر القرآن وأعدَّ حججاً في تبيان معاني الآيات ، ما لم يكن هناك دليل آخر يقتضي العدول عنها إلى التأويل ، فهو في حراكٍ دائمٍ ، وليس حراكاً تكرارياً منغلقاً بقدر ما هو حراكٌ جدلي مفتوحٌ ؛ لأنَّ المعرفةَ ليست حالةً ساكنةً "(3) .
لقدَ عمل (السيد الصدر ) على استعمال أسلوب "إذا قلت، قلنا" وهذا يعني أن السيد الصدر يجرد من نفسه آخر، ويجيب على تساؤلاته، وعملية التجريد هذه وسيلة من وسائل الحوار مع الآخر، أو عدم تغييبه، أو هو وسيلة من وسائل فهم النص المتوقف على فتح حوار مع الآخر.

.....................................
(1) منة المنان 2/ 184.
(2) علي عبد الرحمن حلبوص. المشكل اللغوي في كتاب منة المنان في الدفاع عن القران للسيد محمد محمد صادق الصدر . مفهومه . علله . حلوله.



#حيدر_مكي_الكناني (هاشتاغ)       Haider__Makki__Al-kinani#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ها أنا أتفحص ظلّي (مجموعتي النثرية – نصوص لا تستحي من البوح)
- أنا رمل الكلمات (م – الرقص مع الذباب) _______________
- صوت الظل
- -لن تكتمل الصورة- م- محاولات –
- أطلُّ من هزائمهم
- حبٌ: هي وحرب: هو , مجموعتي النثرية (نصوص لا تستحي من البوح )
- المنافقون والمنافقات بين ما كائن وما فات (م- احتمالات )
- مرَّ الخريفُ علينا
- جدليةُ أبوابُ المستقبل
- أعراب القرآن الكريم المنهج والتأليف- حواريات حيدر مكي
- جدلية هو وهي ..
- أمي .. دثّريني .. من زمن الخيبات
- – لملميني بشمسكِ –
- الأسلوب والأسلوبية - حواريات حيدر مكي- ج1
- ثوري مثلَ الكلمات
- (عباءة صمت طائر القطرس )
- نص (مجموعتي ماريا- قمري الأسود)
- يوميات قطط الحرب الأخيرة
- سيمفونية تناسل الطرق البعيدة
- ذكرى ثانية للغياب


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حيدر مكي الكناني - مشكل القرآن في منة المنان