أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر عبد زيد - الارهاب والقوة الناعمة في الفن في أعمال صفاء السعدون















المزيد.....

الارهاب والقوة الناعمة في الفن في أعمال صفاء السعدون


عامر عبد زيد

الحوار المتمدن-العدد: 5871 - 2018 / 5 / 13 - 22:13
المحور: الادب والفن
    



الوقوف على قدميك يمنحك مساحة صغيرة في هذا العالم، لكن الوقوف على مبادئك يمنحك العالم كله.
l- راهنية الخطاب التشكيليّ العراقيّ والإرهاب :

يشكل الإرهابُ اليوم خطابًا ضاغطًا يهدد التماسك المجتمعي ويفجِّر العقد الاجتماعي ، فهذا التحدي الخطير لابد له من مقاومة بشكل مختلف عن أشكاله الحادة الصلبة، وأكثر تأثيرًا من شكل القوة الناعمة التي يحتل الفن أحد أشكالها البارزة على الرغم من غلبة جانبه الشكلي على المضموني في جماليات ما بعد الحداثة ، والفن الرقمي، أي هيمنة جماليات الشكل، واستقلال العمل الفني عن المبدع يؤدي إلى موت المبدع الذي يتجلى إبداعه في النص أو اللوحة . ولكن هذا لا يعني عدم وجود قدرة على خلق توظيف للفن في مقاومة الإرهاب بوصف الفن واحدًا أشكال القوة الناعمة ، التي تحتل اليوم مكانة مميزة في المسرح السياسي والعراق والعالم العربي يستطيع توظيفها في خلق وعي مقاوم للكراهية والعنف اللذانِ يخلقهما الإرهاب، ويمثلان تهديدا يخلق أنواعًا من الفوضى الخلاقة التي لابد من خلف أشكال متعددة من المقاومة لها ومنها الفنون التي تمثل مظهرا من القوة الناعمة. فنحن دول ليس لها مكانة وقوة الدول الكبرى ولكنَّ ( البلدان الأصغر والأضعف ، على الرغم من أنها لا تمتلك مصادر قوة شاملة تضاهي أكبر البلدان .تستطيع أن تشكل تحديات أكبر مما قد يوحي به حجمها العسكري )
فأطروحة هذا المقال تقوم على التأكيد على فعالية الفن بوصفه واحدًا من أشكال القوة الناعمة في مقاومة الأفكار الصلبة والعنيفة للإرهاب الذي يهدد العقد المجتمعي في العراق والوطن العربي بشكل عامة ، وهذا يتطلب أن يكون هناك دور للفن والأدب والفكر في محاربة كل الانتهاكات بحق الانسان وحقه في الحياة والاختلاف والكرامة ، فإنَّه من الجمال أن يحمل الإنسانُ فكرًا ، وأن يقاتل من أجله ؛ ولكن من القبح أن يحمل فكرَ غيره و يقتل من أجله (لا يكون الإنسان على نحو ما يتصوّره عن نفسه ، كما يريد ، لن يكون الإنسان شيئًا آخر سوى ما ما يصنعه بنفسه.) وهذا يتطلب مقاومة كل أشكال التضليل والإجبار بالتلقين عبر أجهزة الدول التعليميَّة التي يفترض أنَّها تعمل على خلق أشكال متنوعة من التواصل بعيدا عن الإكراه والتلقين من أجل خلق أفق أكثر حرية يرسم أشكل متنوعة من الحراك المجتمعيّ يكون للفن فيه دور من أجل تأسيس ذهنية متسامحة متعايشة حواريَّة .

فمن الممكن أن يكون الفن - كما قلنا - أحد أبرز أشكال القوة الناعمة ، والفن التشكيلي في العراق يحتل مكانةً رائدة عربيًا إذ ( غرق الكثير من الفنانين العراقيين في جمالية الألوان، ولعبة الأضواء والظلال، بداية من الفنان الراحل والمؤسس فائق حسن وحافظ الدروبي ونوري الراوي إلى أجيال مبدعة ومدارس فنية متعاقبة. وبرزت مدرسة النحت العراقية الشهيرة بأساطينها الكبار مثل جواد سليم ومحمد غني حكمت، ففي بلاد الرافدين ظهرت أبرز التجارب التشكيليَّة العربية، ولم تخل بيوت العراقيين وساحات بغداد - ومدن العراق الأخرى- من لمسات فنية بعضها لكبار الفنانين العراقيين. ولئن اختلف حول مضمونها ورسالتها الفنية فإنها تشي في النهاية بمدرسة تشكيليَّة عراقيَّة قائمة الذات (.
وقد تتسم التجربة الحداثيَّة في الفن العراقيّ ببعض السمات الذاتية ، ومرد هذا قد يكون إلى إيمانها بالإنسان والمستقبل وبإرادة التغيير والبناء، واتسمت أيضا بانفتاحها على الآخر الحداثي من خلال سمة الحركة والجدل وفقاً لمتغيرات العصر ومتطلباته ، واحتضان كافة الوان التجريب الأصيل النابع عن ضرورة فنية ، ولكن من دون أن يستحيل الهاجس الشكليّ والتجريبيّ إلى غاية نهائية ومطلقة. بل إنها حاولت الجمع بين الانفتاح الحواريّ على الآخر الحداثيّ أو الآخر التراثيّ عبر اطلاق قوى التجديد والابتكار في الإفادة من الدلالات الرمزيَّة للموروث الشعبيّ. وهذا الأمر جعل هذا الفن التشكيليّ العراقيّ يؤسس لمعرفة بصرية تتسم بالطابع المحلي.
ولكن إلى جانب هذه الرحلة الجماليَّة التي واكبت التحولات السياسيّة والاجتماعيَّة في العراق حيث كانت هنا علاقة بين فعاليات الإبداع والعمل الجماهيري الذي يمارسه الفنان وسط جموع المحتجين من التيارات المدنية اليوم ، وهي تعلن رفضها للإرهاب ، والتخويف ، والفساد بأصواتها ، وأجسادها ، وكأنَّها لهيب من الغضب الممتد من الحدود إلى أقصى الحدود حيث الوطن يسوَّر بالموت ، ومنه تلتهب الحناجر غاضبه على الإرهاب ، والقتل المغيب للإنسان وحريته وحقه في الحياة الكريمة بعد أن تم تحويل الانسان من ذات الى غيرية مطلقة ، فيتم تغيب الذات من أجل إبراز الجهات المذهبيَّة، والقوميَّة ، والاثنية على حساب الذات ، ويتم تغليب الغيرية ،(وعي جهوي لف كينونته و وجوده ، حتى اخرجه من (إنسان) فيه ، وبذلك فهي تعني العودة إلى (إنسان) الإنسان الذي ضاع في متاهات التعبير عن ذاته بأنظمة تفكير تستند إلى هويات جهوية ،جعلته مغتربا عن حقيقته كونه إنسان). ولعل يخلق اشكال من القلق كان ايضاً من البواعث على اكتشاف مالم يكتشف من قبل. ( لكن هذا القلق وحده هو الذي اثمر تأسيس حداثة جعلت من الفن لغة للحرية ، وليس لغة للمحاكاة والتقليد ). وهذا التصميم على المغايرة يتجلى لدى الكثير من الفنانين الذين لهم تواجد في الحراك الاحتجاجي ، وعلى صله قوية بالرهانات المجتمعية ، يرسم ، ويناقش ، ويعبر عن أفكاره ، اذ يتواجد في أنشطة ثقافية مخطط لها سواء في مواقفه الاحتجاجية ؛ أم نشاطاته المكملة لها، اذ يشارك في معارض حيث يعرض أعماله ؛ أو في مجال التدريس ، والكتابة .

هذا الأمر ظهر لدى الكثير من الفنانين الذين اظهروا اهتمامهم بقضايا مجتمعهم ، في علاقة طرديه تثير عدداً من الأسئلة..هل للفن التشكيلي دور في إبراز القضايا الاجتماعية ،وهل ساهم في علاجها، و هل الفنان يرسم للجمال فقط؟ أم يحمل رسالة يعتني بكيفية اختيار الوسيلة لإيصالها؟ هل الفن التشكيلي وسيلة للتنفيس عن الأفكار والرؤى والآمال؟ ، وهل نجح الفنان التشكيلي في إبراز قضايا مجتمعة ؟ ومعالجتها ؟ وما هذه القضايا؟ هل هي قضايا تتصل بالسياسة أم بالدين أم بالثقافة أم بالوطنية أم بالتعليم والتراث والسياحة وغيرها؟، ماذا يشغل الفنان؟ وهل الفن لذاته ؛ أم لمجتمعه الفن للفن ؛ أم الفن للمجتمع؟
أسئلة سوف نبحث عن اجابات لها ، من خلال استعراضنا بعض أعمال الفنان العراقي ، وأستاذ الفن الحديث ، في جامعة بابل، كلية الفنون الجميلة ، دكتور صفاء السعدون .

ll - استجابة الفنان :

إنَّ أعمال العنف التي تصل إلى حد الإبادة لابد أن تستثيرنا على الرغم من أنَّ عملية التفاعل معها ضعيفة بل غائبة ؛ لتغيّب المواقف من عمليات القتل اليومية هذه ، في ظل صمت ثقافيّ وسياسي واجتماعي . وهو أمر يثير الكثير من الأسئلة منها أنَّ ثقافتنا لم تعرف بعد ثقافة التسامح والاختلاف وحقوق الإنسان في ظل غياب الوعي الفرديّ والحريَّة الفرديَّة نتيجة هيمنة الغيرية التي تمثلها الجهوية المذهبيَّة والقبليَّة والطائفيَّة .على حساب المواطنة والحريَّة وحقوق الإنسان . نجد أنَّ الاستجابات التي تقف بإزاء تلك الانتهاكات الخجولة وضعيفة ومنها الفنون وخصوصا الفن التشكيلي في مقاربة استجابة صفاء السعدون نجد أنَّ الأمر يتطلب مناقشة بعدين : الأول: توصيف جمالي ومنهجي له كمبدع، و الأمر الثاني: استجابته وتصديه عبر الفن لموضوع الإرهاب

الأمر الأول :التجربة الجمالية لدى صفاء السعدون :

وصفه واحدٌ من النقاد بأنه كان يختار أغلب موضوعاته في مضامين الرسم من مصدرين مهمين :الأول: ذاته بكل خصوصياتها النفسية الإنفعاليَّة الصادقة التي تتصف بالشفافية المفرطة التي تنعكس على موضوع اللوحة وشكلها حيث يمـتلك السعدون حساً مرهفاً ووجدنا متقداً لا يستطيع التحكم فيه حتى لصالح صياغة اللوحة من جهة القيمة الفكرية أو الفنيَّة فهو يندمج ويذهب مع انفعالاته وأحاسيسه لدرجة الانفصال عن وعي الفـنان المحترف الذي يعتمد أدواته المعرفيَّة في الصيـاغة النهائية للوحة .ومع كل هذا نجد عمله عملا احترافياً . وهذه الصفة الشخصيَّة إذا نظرنا لها من زاوية نفسية على أنها ميزة فرديَّة في الفكر أو الشعور أو الفعل فهي من الخصائص المميزة لحضارة من الحضارات. فالسِمَة نهج من السلوك يتميز به الفرد أو الجماعة. والثاني: هو المجتمع الذي يعيش فيه والذي يأخذ منه ويعطيه ويتصارع معـه تارة ويتصالح تارة أخرى. ويغلب على الأعمال الأخيرة للسعدون تناولها موضوعـات وقضايا راهنة انتهى بعضها منذ زمن قصير ولازال بعضها قائماً ..
أي إنَّه كان يجمع بين تجارب الذات وانفتاحها على المجتمع ، ولا شك أنَّ الفن التشكيليّ ، هو الجامع بين حس الفنان الرهيف والواقع المعاش، الذي يتم مقاربته جماليا ، حتى يغدو تشكيلا جديدا ،عاكسا لقدرة الفنان ، ورؤيته في الابداع ، والتشكيل في العمل الفني ؛ لأنَّ الفن ars ،artis ، ( هو تطبيق الفنان معارفه على ما يتناوله من صور الطبيعة فيرتفع به إلى مثل أعلى تحقيقاً لفكرة أو عاطفة يقصد بها التعبير عن الجمال الأكمل تلذذاً للعقل والقلب ).
فمن سمات المشهد التشكيليّ الحداثيّ أنَّ لكل فنان أُسلوب خاص يتميز به وهذا كله يقع تحت خيمة الفن الحديث.فثمة دوافع لا شعورية خاصة بالفنان تدفعه إلى أن يجد أُسلوباً يعبر من خلاله عمَّا يدور في خلده.
ولعل تجليات تلك السمات متحققة لدى صفاء السعدون اذ تجلت راهنية تجربته الإبداعيَّة من خلال الواقعية التي ارتقت للتعبيرية الفنية من خلال الاختزال والرمز والتجريد الجزئي وارتقت ايضاً في بعض مفاصلها أو مفرداتها من دون أن تخرجها إلى عالم التجريد الكامل ولم يستطع المجتمع ولا البيئة العراقية بكل هيمنتها على الفنان أن يمتلكاه بالكامل اذ استطاعت بعض التجارب والمعارف والأيدولوجيات أن تشغل حيزاً واضحاً في عمل السعدون وكـان ذلك على مستوى المضمون الرمزيّ والصريح بالإضافة إلى الشكل والأُسلوب والرؤية .. ولكنها ظلت اطاراً لكل هذه المستويات .. لذلك نرى الشكليَّة الروسيَّة ونتلمسها في الأعمال كما نتلمس الفكر الاشتراكـي المنفتح الذي يتجسد بالتقشف والبساطة في الشكل والمضمون معاً واختيار نـوع الموضوع ..ومن خلال وجود هذه المفردات ومعرفة حجمـها نحدد مقدار انتمائه لهذا الفكر وإيمانه به وقد تكون دراسة الفنان في روسيا عامـلاً قويا في ترسيخ هذا النهج الفني والفكري.فهذه هي القواعد الأساسيَّة التي ينطلق منها صفـاء السعدون في صياغة أعماله الفنية عامة ولكننا نلاحظ صدمته القوية في معرضه الأخير الذي أقامه في قاعة الحلة للثقافة والفنون مع انطلاق كرنفال بابل عاصمة العراق الثقافية .. تلك الصدمـة التي أخرجته من الحلم والخيال والتنظير والرومانسية والأيديولوجيا إلى واقع مفرط بالقسوة والظلم والوحشيـة واقع كان يراه ويتلمسه ويحس قسوته ووحشيته متجسداً بالأعمال الإرهابية التي يذهب ضحيتها الإنسان ذبحاً .فرأينا تلك اللوحـات الكبيرة التي صاغها بأُسلوب الواقعيَّة التعبيريَّة وهي تجسد حفلات عشاء يكون فيـها دم الضحية خمر الحفلة, والوليمة رأس مقطوع يتوسط الطاولة.. وبلا وعي ـ حتى لحظة العرض ـ رسم السعدون بعض تلك الوجوه الإرهابيَّة بشكل غريب إذ استطال الوجه والأنف حتى كأنَّ تلك الوجوه الآدميَّة هي وجوه حيوانات متوحشة أو كلاب .لم يكن السعدون عند الرسم قد استعد بوعية وتقنياته لأن يرسمهم بهذا الشكل. بل كان وعيه الكامن وراء وعيه العامل هو الـذي صاغ هذه الاشكال التي بفعلها الشنيع صاغت شعور الفنان هكذا على الرغم من إرادته..

الأمر الثاني :
راهنية أعماله الفنية الأخيرة والإرهاب :

قد كانت له ، مجموعة مميزة ، من الأعمال الفنيَّة التي تناقش الإرهاب ، ومعاناة الإيزيدين ، منها لوحة تتعلق بالمزاد ، وهو موضوع ظهر في أكثر من لوحة ، تجسد السبي الداعشيّ ، والبيع عبر المزاد ، والتجمهر الذي يعكس رغبة غير انسانية ، لدى بعض الناس بشراء تلك الفتاة وهم بهذا يتقبلون الإرهاب ، كأمر مقبول ، ويشكلون حواضن له .
وهنا نجد أنَّ الفنانّ التشكيليّ السعدون يحمل رسالة لمجتمعه ، و يواكب الحدث ، ويتزامن معه حيث يجد العنف والكراهية التي أحدثها الإرهاب ، وكيف غرس آثاره عميقا في روح المجتمع العراقي ولاسيَّما الأقلية الإيزيديَّة التي تتجسد هنا ، وقد تحولت الى "سبيّة " ، وهذه المفردات من المعجم الوسيط ، وهو يذكرنا بالعبيد ، والتجارة بهم على أثر الحروب الدمويَّة التي تخلّف المآسي ، ويكون وقودها الضعفاء ، وقد تركوا وحيدين مقابل الموت ،والسبي .

في اللوحة الاولى ، يظهر أماما الفتاة وقد تحولت الى أسيرة ، بين يد أفراد من الإرهابين ، وهم يحيطون بها ، وقد ساقوها والحبل برقبتها وقد فقدت حريتها ، وأمانها في حياتها الأولى. وبقدر ما تعكسه ثيابها البيضاء تعكس عيونهم ووجوههم وثيابهم الداكنة أرواحهم الشريرة القاسية ، وهذا التناص يظهر الجانب الآخر من حروب الفتح ، وما فيها من سبايا وضحايا ، وهي تقوم على اقتصاديات الرِّق ، وكيف بعثها من جديد الفقهاء أمثال "الحويني" ، وغيره من فقهاء الإرهاب ، وهي كتب مسكوت عنها ، بانتظار فتوحات جديدة ، وها هي جاءت في هذه اللوحة ، وكان الفنان قد عمل على ضخِّ أفكاره ، وممارسة نشاطه الجمالي ، ونقده الاجتماعي ، والسياسي ؛ لهذه المظاهر التي تعبر عن بلاغة عالية ، في القسوة ، واللاإنسانية اتجاه الحرية وارهاب الانسان المسالم ، ممثل هنا بهذه الفتاة ، التي تذكرنا بصور مطاردة تجار عبيد في افريقيا للبشر وسوقهم و كأنَّهم حيوانات بلا رحمة في حراك كونيالي غربيّ متوحش لا إنسانيّ .

ولم يُهيمن الموضوع على جمالية اللوحة بكل واقعيتها وتقنياتها العالية ، فالسعدون عرف بعشقه ، للواقعية يوم درسها في موسكو ، ولعله مازال يتذكر أعمال الروسيّ فاسيلي، ولاسيَّما لوحته “أنا طائر في السماء”، والتي تصوّر تلة كبيرة من الجماجم البشرية المرعبة كنتاج للحروب، وتعتلي الجماجمَ مجموعةٌ من الجوارح والغربان السوداء.
ولعلنا هنا ونحن نقف بإزاء هذا العمل الفني نجد نفسنا بإزاء دور مقاوم للفن في تعرية العنف والقسوة والإرهاب ، فإن (الفن ظلّ مصدراً مهماً للمقاومة، وشاهداً على المآسي التي خلفتها الحروب، فأصبحت الأعمال الفنية وثائق بصرية دائمة تتحرك في وجدان الأجيال، عبر الحوار والمشاهدة والكتابة عنها.)
فان هذا الفن المقاوم يتجلى في أعمال السعدون ، وحواراته ، و رهان الحاضر بعمق في سلوكه ، وقوله ، وفعله اذ وجدته شديد التعلق بموضوعاته بكل محليتها على الرغم من أنَّه ايضا على تواصل مع ما يدور في حوله من انتاج جمالي سواء كان عراقي أم خارجي، ولكنَّه كان على تماس عميق ، مع الأحداث الأخيرة ، وفضحهؤ لجوانب لا إنسانيَّة عند الإرهابين، وحاضناتهم .
واللوحة الثانية (المزاد) تمفصل مع السابقة في تشاكلها مع سلسلة خطابية تعكس صورًا من العنف الجسدي: كالقتل بحق الرجال ، وأسر النساء ، وممارسة أشكال متنوعة من القسوة ، والاعتداء تجاه جماعات ؛ أو عقائد محددة تجمعها مع الإيزيديَّة الاختلاف الديني ، والمذهبي مثل الشبك والتركمان الشيعة والمسيحيَّة ، وغيرهم، فهؤلاء مورست أشكال متنوعة من الانتهاكات من العنف الرمزي ضدهم ، ولكن كيف تم تقبّل هذا العنف؟! إنَّه يعود إلى شبكة خطابية تراثية ، أو تعليمية تربوية (السائد ، والمتقبل على نطاق واسع ، في الدول ، والمجتمعات ، وفي وسائل الإعلام ، والمناهج التعليمية ، والثقافة والفنون، وهكذا تتشكل معتقدات دينية ، أو وطنية تمجد القتل ، والموت ؛لأجل قيم الكراهية(.
وكما هي موضوعات الفنان بكل تفاصيلها التي ذكرناها .كانت كذلك تقنياته ومواده التي استخدم فيها الكريلك والألوان الزيتية ومواد أخرى مختلفة .واستطاعت الألوان بخصائصها المتوافقة مع الموضوعات أن تعمل باتجاه تكامل اللوحة على وفق رؤية الفنان وفلسفته وثقافته ومزاجه الفني وتركيبته النفسيَّة والاجتماعيَّة وتكفي تلك الألوان الصفراء والزرقاء والخضراء والحمراء القوية تعبيرًا عن البيئة الريفية وكذلك فعلت الألوان المعتمة مع موضوعات الإرهاب والأحزان وما ماثلها.

لقد جسد تلك القسوة ، والترويع حين جعلها تجلس في الوسط ، وتحيط بها الوجوه بكل قساوتها، وشراهتها تجمعها اللهفة ، والشوق بالوجه ، والمشاركة الفاعلة في مزاد البيع .
و نود أن نذكر ما أثارَ انتباهنا بدقة ، على قدر ما استطعنا في أثناء هذا المقال ، اننا وجدنا أنَّ الفنان في أعماله الثلاث ، كان يحاول على نحو تلقائي ، توظيف الواقع بانتقائية تظهر فيه ذاتيته وأشكال تعبيره الفني التي توزعت على زوايا اللوحات بإتقان جمالي ملموس ،وقد أثبت من خلال لوحاته الثلاثة التغريبةَ المعاصرة للإنسان العراقي : المهجَّر ، والمقتول ، والمسبي ، والمباع ، في الأسواق العامة ، فاقدا مكانته الإنسانية في اغتراب لافت في وجوه فقدت أُلفتها وتحولت إلى غربة مفارقة ، ولعل هذه هي الرسائل التي نستشفها من انفتاحنا على عوالم لوحاته بأشكالها المتنوعة ، وهي لوحات منفتحة على التلقي ومن الممكن القراءة بأشكال وصيغ متنوعة بتنوع القراء ، فاللوحات موضوع بوح مستمر نستشف من خلاله مظلومية الإنسان وهو يواجه أشكال متوحشة من الدوغمائيَّة المنغلقة ، وكل هذا البوح بعوالمه مكننا منه الفنان باستخداماتها الجماليَّة التي نستشف منها روحه الإنسانية وهي ترسم لنا معالم خارطة طريق في كيفية الانتقال من الظلمة إلى النور .
وهنا تتجلى أهمية الفن في كونه قوة ناعمة مهمة في تربية الحس المقاوم لكل أشكال التوحش الصلبة مع اختراف جهاتها ومرجعياتها .



#عامر_عبد_زيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكارمُ الأخلاقِ - قيمةٌ العدلِ أُنموذجًا -
- الشك المنهجي لدى فلاسفة اليونان
- المعرفة عند افلاطون
- المعرفة عند أرسطو
- المعرفة في الفلسفة الاسلامية
- الهويّة وتحوّلاتها في السرد مقاربة في روايّة (يحدُث في بغداد ...
- التأويل ورهانات السياسة في التراث الإسلامي
- الانسان الكوني مقاربات في فضاء التواصل
- الاطروحة المرفوضة والاطروحة المقبولة
- تأويل اقبال للنص - في ضوء العلوم المعاصرة -
- راهنية الفساد وتجلياته في العراق
- مقاربات في الاخلاق
- عودة الدين الى الفضاء العمومي في الغرب
- القول اليوتوبي علاقته بالتاريخ ورهانات الحاضر
- حزب العدالة والتنمية -اشكالية التواصل والفراق -
- لكل عصر رهاناته وتحولاته الكونية
- مفهوم العقل قد شهد تحولات
- شاعرية الاغتراب عند حسام الدين الالوسي
- قبول المختلف، ورهانات التنافس
- اغتراب الوعي وهيمنة الخطابات الشمولية


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر عبد زيد - الارهاب والقوة الناعمة في الفن في أعمال صفاء السعدون