أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود كلّم - ذاكرةُ الثّلجِ : أوراق من على رصيف الذاكرة!














المزيد.....

ذاكرةُ الثّلجِ : أوراق من على رصيف الذاكرة!


محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)


الحوار المتمدن-العدد: 5668 - 2017 / 10 / 13 - 14:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ربّما هي المصادفات العمياء التي اخذت بيدي، وقادتني في مهالك ما كان لي بعدها أن أنجوَ بجلدي، وأصلَ برَّ الأمان لولا تميمةُ الحظ.
كان شيئاً من مناخ القبور يشيع في تلك الاجواء وفي تلك الليلة بالذات ، وطائر الموت يحلق في سمائي ناشراً جناحيه كنسر . كانت دروباً جرى تفخيخها بانتظار الضحية ! فمَنْ سيكون؟!
إزاءَ صورةٍ كهذه، وحالةٍ من عدم الوضوح واللا استقرار، يظلُ السعي صوب تحقيق الحلم، وتطمين الأمنيات مجرد هرولةٍ في المجهول، وسعياً خلف سراب.
فالبدايات هي ذاتها التي تَرسم النهايات، وهي التي تؤشر درب الحظ، وتحدّد شكل الحصاد ونوع الغلّة.
تعود علاقتي بكل هذا، وعلى وجه الدقّة والتحديد، منذ هُجّر أهل فلسطين قسراً عن أراضيهم وأهلي فيهم، فتقاذفتنا الدروب في ليل المنفى والأحزان، جعلتني الدمعات كمنديل العرس طرياً، لا أجرح خدّاً. أبحث في المجهول عن شيء لا أعرف سره ولا حتى شكله ! ما هو ؟ أين أجده ؟ وعندما أجده، كيف سيكون شكله؟
فليس من باب الغرابة في شيء اذا ما تنكبت الدرب وحيداً، من دون أن أسأل معونةً مِن أحد. فقد كان من السهل على الآخرين، أن يتخلّوا في نصف الدرب عني. يستوي في ذلك الأهل والمعارف والأصدقاء والزوجة والحبيبة. ربما لأنني أحمل روح العناد في داخلي والمقاومة والرفض. صعب قيادي لهذا، فالمسير وسط رياح الثلج بلا هدف ليلاً وأنت مُكرهٌ لا بَطَراً، وليس من وجهة أمامك تخطو صوبها أو سقف به تحتمي، أو جدار إليه تتكئ ، يرسم موقف كهذا في ذاكرتك ملمحاً لا يُنبئ عن خيرٍ ولا يفضي إلى سعادةٍ. فمن حق أي إنسان في الكون أن يكون له ملجأٌ ولو كانت مغارةً أو خيمة أو حتى بيتاً من صفيح.
إن قسوةً كهذه، وجدت طريقها نحو قلوب مَن هم مِن دمك ومن لحمك، كانت المقاربة لا تقبل شراكة، إما الحياة والبقاء على الأرض، وذلك يقتضي الابتعاد عنك وحتى التنكر لأبوتك لو تَطلّبَ الأمرُ، وإما الذهاب في طريق العدم واللاعودة.
ثمة مقايضة في مثل هكذا مواقف، تفرض بقسوةٍ ظلها عليك.
نحن أمام عدالةٍ اجتماعيةٍ عرجاءَ ومشوهة.. نُطلق أحكامنا دون وازعٍ من ضميرٍ أو محاججةٍ في الأسباب، ونقسو في أحكامنا حدّ اللعنة. ندين كل شيء ولا ندين الأنظمةَ والحكّامَ والمجتمعَ. ومَن هو المسؤول الذي تتوجب محاكمته في حالةٍ كهذه عن جريمةٍ كتلك ؟ أليست هي القوانين؟!.
ولولاها، تلك المرأة التي صادفتني على حدود التشيك - ألمانيا بعدما أُجبِرت ومعي ولدي أحمد وهو ابن العاشرة على النزول من الباص دون أي مبرر يبيح ذلك الفعل اللا إنساني واللا أخلاقي لكانت لنا في الثلج شواهد وقبور.
كالدمى تحرّكنا مساءً (الأربعاء 16 كانون الثاني/ يناير 2008) تحت حراسة الشرطة الألمانية صوب بناية لهم. نزلنا بأوامر منهم إلى الطابق الثالث تحت الأرض، وهناك جرّدونا تماماً من كل ملابسنا كما خلق الله آدم أول الأمر. وضعونا في زنزانة لوحدنا، هكذا تُعاملُ الطفولة في دولة عضو مؤسس للاتحاد الأوروبي تنادي بحقوق الإنسان وتدّعي زيفاً وباطلاً احترام الديمقراطية وحرية الأفراد.. وبهذه الطريقة اللا إنسانية ترمي بالأطفال وراء القضبان لتزرع في نفوسهم وهم صغار الحقدَ والكراهيةَ والمقتَ الشديدَ لكل الذين أعطوا لأنفسهم الحق في اضطهاد الاخرين تحت ذرائع وحجج واهية.
فتشوا الحقيبة والملابس يدوياً وبالأجهزة الكاشفة، وكأن كل خيط فيها وكل زرار يخفي وراءه سرّاً عصيّاً على الكشف.
مرّت اثنتان وسبعون ساعة ونحن رهن الاحتجاز ، أُخْلي بعدها سبيلنا مخيّرين بالذهاب إلى برلين أو أية جهة أخرى نريدها.. رفضت كل شيء وقررت العودة إلى التشيك قاصداً العاصمة براغ، كانت آخر حافلة قد تحركت منذ وقتٍ وما علينا سوى المبيت عند الحدود.. وعلى غفلة انفتحت أبواب السماء وبدأ نزول الثلج ليس بغزارةٍ، وإنما كجبال جرى تسييرها ودفعها نحو الأرض، في ليلة صبّت السماءُ فيها كل حقدها الأرعن فنزل الثلج جبالاً وكتلاً جاوز سمكهُ نصف المتر على الأرض.
نزلتُ وليس في ذهني مكان أتجه إليه، فالفضاء مزروع بالثلج وليس سوى منظر الثلج وهو يكبر ويزداد حجماً، سرتُ صوبَ نقطة ضوءٍ خافتٍ تلمعُ من بعيد وسط فضاء اتّسم بكل قسوةٍ. كانت نقطةُ الضوء بعيدةً، لم نقوَ على السير وسط الثلوج، خاصة وأنا أسحب ولدي أحمد وأجرّه معي بكل قوتي.. وفجأة وجدتني أمام إمرأةٍ تَشُقُ بصعوبةٍ مثلي طريقها في الثلج. إمرأة وفي مثل هذا الليل المشبوهِ؟! فما عساها تفعل وسط هذا الركام من البلوى ؟! إمرأة.. إنسانة ! عاهرة ! عرفت ذلك فيما بعد، ولا أدري من اين جاءت ؟ ومن الذي دفع بها ؟ ولولاها لكانت لنا قبور في الثلج.
كانت العاهرة الشريفة تتكلم معي بلغة لا أفهمها وهي تساعدني في حمل ولدي صوب نقطة الضوء التي أخذت تكبر وتتسع كلما اقتربنا منها. وبعد حوالي ساعة من المسير وصلنا.
هناك رأيت وجهاً إنسانياً تتجسد فيه طيبة أهل الأرض جميعاً. فلولاها لكنا في الثلج أجساداً مجمدةً محنطة.
ليست القيمة في ما ندّعيه، بل القيمة فيما نعمله، ونضعه على الأرض قدّام الآخرين.



#محمود_كلّم (هاشتاغ)       Mahmoud_Kallam#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشهيد مرعي حسن الحسين: أول شهيد فلسطيني من مخيمات جنوب لبنا ...
- ناجي العلي: عن أقدم لوحة معروفة!
- -نعمات قدورة- حكاية من حكايات تل الزعتر !!!.
- عشائر عرب فلسطين يفتتحون المقاومة اللبنانية بعد الاجتياح
- عن وداع قائد العمل الإنساني في مخيم شاتيلا
- عملية ميونيخ 1972.. الوقائع والأشخاص وتفاصيل الخديعة
- الحِبرُ جَفَّ
- وجَفَّ الحِبرُ
- زمن العقارب ... سفرهم طال !!!
- أوراقٌ ضائعةٌ
- ذاكرة الدم في صبرا وشاتيلا : عن ابو سلمان الذي لم يخذله حمار ...
- محمود سعيد أدار الى جهة الليل ظهره !!!
- أنيس صايغ... قامة لم تنحن يوماً
- ذاكرة الدّم ، في صبرا وشاتيلا
- اذا حان وقتها ، ستدكُ عروشٌ ويُداس طغاةٌ !!!
- ناجي العلي / لو غاب او تغيّبَ !!! من يمسك الريشة والقلم !!!
- ذاكرةُ الثّلجِ ...!!!
- أنْجزَ ما عليه وَرحلَ
- عندما لا يستمعُ أحدٌ لندائِكَ سِرْ بمفردِك !!!
- هان الرحيلُ حتى تساوى به النسيانُ !!!


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود كلّم - ذاكرةُ الثّلجِ : أوراق من على رصيف الذاكرة!