أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد مسافير - بؤساء القرن الواحد والعشرين!















المزيد.....

بؤساء القرن الواحد والعشرين!


محمد مسافير

الحوار المتمدن-العدد: 5638 - 2017 / 9 / 12 - 01:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


فترة الجامعة، كان يرى الواقع بنظارات مختلفة عن العامة، فبعد أن تَشبَّع بالقيم الماركسية، كان يرى الثورة قاب قوسين أو أدنى، كانت الكاريزما التي تفيض بها شخصيته تهز أركان الكلية، يدلف إلى المدرجات ثم يلقي بكلماته التي تستقر بسلاسة في أذهان المستمعين، وقبل أن يُتِمَّها يغادر الطلاب مقاعدهم ليلتحقوا بالمعارك النضالية... كما كان يتردد على المعتصمات العمالية ليذكي فيهم الحماسة ويذكرهم أن ما لا يأتي به النضال، لن يأتي به إلا المزيد من الصمود والنضال...
وكم عجِب لأولئك المستسلمين الذين ينزعون إلى السكوت عن حقهم خوفا من طردٍ تعسفيٍّ يُشرد أبناءهم، ومن رأيه أنْ لا شيء في هذه الدنيا يستحق أن نُذِلَّ - في سبيل الحفاظ عليه - أنفسنا ونبيع ضمائرنا... وما لدى الطالب من شيء يخسره حتى يخشى عليه...
غادر الجامعة بإجازة في اللغة العربية، لكنه لم يستطع إيجاد عمل، ولم يكن الأمر لِيصدمه، بل كانت عطالته من أرجح توقعاته... ضحى بسنتين إضافيتين ليتوجهما بدبلوم في المعلوميات، انتظر بعد ذلك طويلا ليستطيع في آخر المطاف أن يصيب وظيفة في إحدى المؤسسات الخصوصية، اشتغل بها أستاذا للمعلوميات، تزوج في منتصف السنة الدراسية واكترى شقة تزيد عن نصف أجرته، إلا أنه لم يجد نفسه في مهنة التعليم إلا مجبرا على ضمان الكفاف، فقد كان يجد نفسه في مواجهة ثلاثة تحديات: تحقيق أهداف العملية التعليمية التعلمية ثم إرضاء الآباء ثم إرضاء الإدارة التي تتاجر بأحد الحقوق الأساسية لأي مواطن!
كانت تجربة عسيرة، لأن مرتادي المؤسسات الخصوصية لم يكونوا من الطينة التي خبر بها، يدخل إلى القسم بحذاء وألبسة رخيصة، ليدرس تلاميذ يكتسون من آخر الموضة، ربما جواربهم فقط بإمكانها أن تفوق قيمة كل ما يمكن لجسده أن يحمل من ملابس... ولأن المؤسسة التعليمية كانت تعتمد التوقيت المستمر، فقد كان التلاميذ يتناولون وجبة الغذاء داخل القسم، ليجد نفسه يأكل في حضرتهم ما أعده في البيت، طعاما رخيصا مكونا في الغالب من بيض مقلي في الزيت يحشوه في خبز البارحة، وكي يتجنب نظرات التلاميذ المتطفلة، فقد كان يحرص على الأكل خلف محفظته المهترئة، بينما يستمتع التلاميذ بأكل ما لذ وطاب من أطباق...
ولأنه كان يُدرس المرحلة الإعدادية، فقد كانت مصاعب مهنته مضاعفة بشكل مهول، فالتحدي الأعظم هنا ليس تمكينهم من الدرس، وإنما ضبط حماسة المراهقين وشغبهم غير المتحمل، وإلا فقد يعرض نفسه لتوبيخ الإدارة، عليه أن يضع أعصابه في الثلاجة وألا يحاول التعرض لاستفزازات التلاميذ بأي نوع من التهور الذي قد يكون لفظيا أو ماديا، وإلا فقد يعرض نفسه لاحتمال المقاضاة! وفي نفس الوقت، فالإدارة التي تتلقى الكثير من الشكايات ضد التلاميذ (على شكل تقارير)، فقد تقود بصاحبه إلى التسريح، وبالتالي خسارة الوظيفة!
لم يجد لنفسه عزاءً إلا الصبر، أو المزيد منه، وتضاعف حقده على المهنة حين بلغه أخيرا أن أستاذة قد جنت في إحدى السنوات الفارطة، حادثة قادته إلى خلاصة مفادها أن العمل في المصانع أرحم كثيرا من العمل في مهنة التعليم خاصة داخل المؤسسات الخاصة، ففي رأيه أن الإنهاك الجسدي قد تذهب به سكينة الليل، بينما الإنهاك العصبي قد يقود حتما إلى أمراض شتى منها السكري أو ارتفاع ضغط الدم، أو في أسوء الحالات... إلى الجنون!
كان الأساتذة يتعرضون لأسوء معاملة، لعدم احترام، لتعامل بغيض، لكن بطلنا لم يكن قادرا أبدا على الاعتراض، فكلما حضرته الرغبة في الاحتجاج، تراءت أمام عينيه تلك المرأة العجوز التي تأتيه أول كل شهر لتقبض تكاليف الكراء، تذكر شباك دفع فواتير الماء والكهرباء، تذكر أمه المريضة بالقلب والتي كان يرسل إليها ما تيسر له كل شهر، تذكر الشوارع الممتدة التي قطعها مرتجلا بحثا عن وظيفة! ليقرر في الأخير ضبط النفس، دون أن يدري أنه بذلك قد انتزع إلى الأبد جلبابه الماركسي البالي، ليستبدله بالجلباب التقليدي المغربي!
بعد انتهاء الموسم الدراسي، وجد نفسه أمام ضائقة مالية صعبة، فكيف له أن يدفع ما ينتظره من تكاليف، والمؤسسة الخاصة ترفض أن تدفع له أجر شهر يوليوز وغشت اللذان تغلق فيهما أبوابها، لن يتسلم الأجرة لأنه لن يعمل بهما، فقرر حاسما أن يبحث عن عمل آخر في المصانع التي لا تكف أبدا عن العمل، على الأقل أن يشتغل بها مؤقتا، مدة شهرين، ليعتبرها أيضا فرصة لاكتشاف عالمها وسبر أغوارها...
قادته الأقدار إلى معمل النسيج، تحمس إليه أول الأمر، رغم أن ساعات العمل بها كانت تزيد كثيرا عما ألف أن يعمل، فقد كان يشرع في العمل ابتداء من الساعة السابعة والنصف إلى حدود الساعة الخامسة والنصف، وغالبا تنضاف إلى هذه المدة ساعة أو ساعتين أو حتى ثلاث ساعات أحيانا، حسب الضغط الذي تفرضه ارتباطات أخرى، هذه المدة تتخللها ساعة الغذاء، تبتدئ على الساعة الواحدة زوالا!
قانون اللعبة في هذا العمل الجديد، يفرض على الشغيلة التي تجلس إلى آلات الخياطة ألا تبرح مكانها إطلاقا، ألا تقف من مكانها مجرد وقفة قصيرة، فترى النساء – معظم الشغيلة كانوا نساء – يحركن مؤخراتهن بحركة دائرية أو يرفعنها قليلا دون أن يقفن، لأنها ربما كادت تلتصق بالكراسي التصاقا من فرط ما جلسن، وكذلك للآلام التي يسببها الجلوس مطأطئات الرؤوس من ألم في العمود الفقري، أما الآخرون الذين يعملون في التغليف أو الفصالة أو ربط الخيوط أو الرقابة وفحص الأثواب... فقد كان ممنوعا عليهم إطلاقا الجلوس، يتسمرون واقفين طيلة النهار، حتى تحترق أقدامهم من الألم، فقد كان صديقنا هذا يغطس قدميه في الماء الساخن المملح كلما عاد إلى البيت، عل ذلك يسكن اهتياجهما بعض الشيء!
بالإضافة إلى ذلك، فلا مجال للتكاسل هنا أبدا، فإضاعة ثانيتين من العمل تعني بشكل مباشر المساهمة في تدني مستوى الإنتاج، وذلك ما حمل المشغل على تكليف مراقبين دورهم حث الشغيلة على الإسراع وعدم التهاون، فقد كانت أيديهم لا تتوقف عن الحركة إلا لتستأنفها مرة أخرى، ولكم أن تتخيلوا مستوى الهلع الذي كان يصيبهم كلما أشرف رب العمل نفسه على المراقبة، كانوا يعرفون اقترابه منهم دون أن يلتفوا جهته، فقد كانت تسبقه إليهم رائحة عطره التي تقطع أنفاسهم وتجمد الدم في عروقهم...
قالت المنظفة ذات مرة لرفاقها في المحنة، والتي كانت طاعنة في السن، وفي نفس الوقت نشيطة جدا لا تتوقف عن الحركة: يجب علي أن أُظهِر ما باستطاعتي إظهاره من تفان حتى لا يحس رب العمل بوهني وشيخوختي فيصدني عن العمل!
ليس من حقها أن تشيخ، كما ليس من حق أحد منهم أن يمرض، كما ليس من حق أحدهم أن يتعب، كان الكل في حركة دائمة، بينهم حامل قد دنى أجل وضعها، إلا أنها لم يكن بوسعها الجلوس، خوفا مما قد لا تحمد عقباه...
ساعة رقمية ضخمة كانت تعلوا حائط المبنى الداخلي، وربما كانت أسوء تعنيف نفسي تتعرض له الشغيلة، ربما لو لم تكن لهان الأمر قليلا، فتسمع كل دقيقة سؤالا تهمس به إحدى اللواتي كن يدرن ظهورهن للساعة دون أن تستطيع مجرد الالتفات: كم الساعة؟ فتجيب الأخرى: 8:27، تنتظر مدة طويلة تحسبها ساعة من الزمن، فتسألها مرة أخرى: كم الساعة؟ فترد ثانية: 8:31... كانت كل اللعنات والشتائم والأحقاد تنهال على تلك الساعة الرقمية...
يقضون عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة في ترقب انتهاء اليوم، أي أن ذاك الزمن كان مخصوما من حياتهم، فهم لا يعيشونه أبدا، لأنهم يعيشونه على أمل انقضائه، لأنه لا يعني لهم سوى الألم، تعود أغلب العاملات لتستأنف العمل في أشغال البيت والانشغال بالأطفال لما يزيد عن أربع ساعات على الأقل، ثم ينمن ما تبقى من ساعات!
أما يوم الأحد الذي يتوقفن فيه عن الذهاب إلى المصنع – وليس دائما، فقد يحدث أن يشتغلوا فيه أيضا إذا استدعت ضرورة الإنتاج ذلك، فلم يكن أبدا يوم عطلة لهم، ففيه كن ينشغلن بالغسيل وترتيب البيت وأمور أخرى... فمتى تعيش هذه الكائنات المغلوب عليها أمرها إن كان كل وقتهم ضرورة اجتماعية لا تحقق لهم سوى الحد الأدنى المعيشي؟
كانت تجربة مهمة خاضها البطل القديم، فقد أحس فيها حقا بقيمة عمله داخل المؤسسة التعليمية الخاصة، فارتضى التضحية بأعصابه إلى أجل غير مسمى... كما ارتضت بعض الشغيلة عملها ذاك حين يتذكرون تجاربهم القاسية قبل ذلك تحت أشعة الشمس الحارقة في واضحة النهار! إنها على كل حال... أهون الشرور... وهذا قانون لا يفرض فصوله إلا على أحلام البؤساء!



#محمد_مسافير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار والجامعة!
- لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم!
- للملحدين أيضا طرائف!
- قصة صفية!
- آية وتعليق
- لعنة المسجد!
- الوطنية تلفظ أنفاسها الأخيرة داخل التكنات!
- الشيوعية... نهاية الإنسان! -في نقد الفكر الماركسي-
- اجتهاد في نصيب الزوجة من الميراث!
- اغتيال الطفولة!
- تجارة القلوب!
- كيف صعدت النجوم إلى السماء؟
- البادية بين الماضي والحاضر!
- دعارة مشروعة!
- لف ودوران!
- شذرات نورانية!
- حبيبي دائما!
- الثأر المسلوب!
- سيرتي!
- صناعة الجريمة... الضحية محسن!


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد مسافير - بؤساء القرن الواحد والعشرين!