أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - مملكة الذباب الموحش















المزيد.....

مملكة الذباب الموحش


محمد بقوح

الحوار المتمدن-العدد: 5603 - 2017 / 8 / 6 - 22:12
المحور: الادب والفن
    


رغم أن الوقت شتاء فالجو حار عندنا. قد تكون الطبيعة قد جنّت وفقدت صوابها الآن. الأمطار معطلة في موسمها الفعلي إلى أجل غير مسمى. لا أفهم، كيف تحدث الفيضانات في الصيف وتشتد الحرارة في فصل شتائي ؟ لهذا، كثر طلب الأدوية من الصيدليات التي باتت شبيهة بالدكاكين في مدينتنا. أدوية الحساسية، والزكام، وآلام الرأس والشقيقة.. إلخ. طلعت وزارة الصحة ببلاغ جميل تقرّ فيه في التليفزيون بأن لا خوف على صحة المواطنات والمواطنين، وإن الفيروس الخبيث المتحدث عنه لدى الرأي العام، هو فقط فيروس عادي وطبيعي كباقي الفيروسات المنتشرة في أجواء أرض الوطن. إنها كذبة جديدة. وأضاف البلاغ أن الوضع الصحي للمواطنين متحكم فيه للغاية، بحيث أن التلقيح الفعال موجود ومتوفر بكفاية في المستشفيات العامة والصيدليات الوطنية. أما الذين يروجون لخطورة الوضع، فهم يحاولون عبثا أن يشوّشوا على أذهان المواطنين، ويقومون بحملة سياسية انتخابية ضدّ الحكومة قبل الأوان. هذا كل ما في جوهر الموضوع، لا غير.
لكن الأكيد، هو أن هذه الأجواء الملتبسة التي تكاد تسود الحالة الصحية لكل كرتنا الأرضية غير طبيعية، وتدل عن وجود علامات استفهام كبيرة تنمو معنا وفينا في حياتنا اليومية، لكن يحاول البعض منا تجاهلها أو إخفاءها بكل الوسائل. هذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها السياسيون، بشهادة الخبراء والمختصين في ميدان علم الطقس والمناخ. يتحدث العلماء عن مناخ الأرض والاحتباس الحراري.. ولا أحد منهم يجرأ على الحديث عن نوع الاحتباس في مناخ جيوب المواطنين البسطاء والأجراء.. إنه اكتساح اجتماعي وجليد غلاء الأسعار التفقيري الذي تفرضه الحكومة "الملتحية" كما تسمى، تتعرض له اليوم جيوب المغاربة ودون علم العلماء ولا خبرة المختصين. لا علم، ولا زفت ولا هم يحزنون !!
حقيقة، لم يحدث أن عاشت ساكنة مدينة "المدْر" مثل هذا الجو الحار والخانق في حياتهم بمنطقة سوس العالمة..، في مدينة ساحلية تشرف على محيط بحري هادئ تقريبا طيلة العام. حتى الحشرات الصغيرة أحست بالاختناق، وبحثت عن أمكنة بديلة غير القمامات المهملة على الأرصفة لإشباع حاجاتها البيولوجية.
في مطعم عصري كبير اسمه "تافرْنوت"، وبين جدرانه المحملة بلوحات تشكيلية رفيعة النوع، بتنسيق ألوانها وتداخل أشكالها، يصول ويجول ذباب كبير أشقر وأسود كثيف. ينهب كل ما يجده أمامه وخلفه من خيرات متاحة. جراثيم مكدّسة كحبّات الرمل في الوادي، لا تعدّ ولا تحصى، متوارية خلف قناع "فيتامين" بقايا الطعام الظاهرة على المائدة المستديرة. قشور بكل الألوان والأحجام، قليلة مشتتة. أنصاف فاكهة كثيرة لم تمسها الأصابع الآدمية. سكاكين حادة، ومغارف ملونة المقابض ملقاة، وشوكات بمختلف الأشكال والأنواع منتشرة جميعها بطريقة عشوائية على البساط الأحمر الحريري المحاط بالمناديل المطوية الخضراء، والذي يبدو كساحة حرب شرسة وضارية. أوساخ ظاهرة متروكة. فوضى عارمة بين أشياء المائدة المعزولة في الصالون المؤثث ببعض التحف القديمة، والموجود في أقصى زوايا مطعم "تافرْنوت". هذا المكان الأنيق حتى الإفراط الذي يضم أنواعا أخرى من البشر غير الآكلين طبعا. قيل لي أن المطعم المعني يعود إلى ملكية برلماني غني إلى درجة التعفن..
أما جيوش الذباب الدخيل، فتبدو ككائنات أليفة جائعة، تلتهم الأخضر واليابس وما تبقى من طعام المائدة المستديرة التهاما كبيرا قلّ نظيره. انكسار النور الذهبي الذي ينعكس كشظايا ضوئية على المائدة، والمنبعث قسرا من النافذة الخلفية للمطعم الأنيق، والمشقوق زجاجها الشفاف إلى نصفين غير متساويين، جعل جند الذباب الجشع ينقسم بدوره على سطح المائدة الأحمر والمنير إلى ما يشبه معسكرين كبيرين. فبعد حرب صغيرة بينهما لم تدم سوى دقائق قليلة، حسم فيها الذباب الأسود المعركة لصالحه، فتأتى له أن يسيطر على الوضع ويختار موقع يسار المائدة المستديرة الغني بمكسرات الطعام، والبعيد إلى حد ما عن ثرثرة زبائن المطعم، غير المبالين بما يجري حولهم في المكان من حروب خفية للذباب الموحش للحصول على بقايا ونفايات طعام المائدة.
تشبث فريق الذباب الأشقر الأقل خبرة ونحافة الجسم بأهداب الأطباق البيضاء الكثيرة، والمصطفة كبرج بابل ضجر في موقع يمين المائدة. في حين، اختار الذباب الأسود والكبير في حجمه كالوحش الذي لا يرحم الموقع الأفضل. كان يبدو كالحاكم الآمر الناهي، لأنه يتزعم كل العمليات الجارية، والتي سيأتي دورها فيما بعد. يأكل الأخضر واليابس على المائدة المستديرة. تبدو بعض أجزاء الخبز القليلة، المتناثرة هنا وهناك مهملة ولا يهتم بها أحد. ينقضّ الذباب الأشقر على ما علق بحدّ السكاكين الرفيعة النوع، والمطروحة كالجثامين الجريحة على البساط الأحمر. يلحسها عن آخرها بنهم فريد، وبأزيزه المنفر، وبشراهة ملفتة يلتهم ما تبقى وسقط منها على المائدة.
كان "الكبران"، وهو كبير الذباب الأسود، يمشي مرحا ومترنّحا كما لو كان سكيرا ثملا، ومتنقلا، كقيصر الروم بعنفوانه الشامخ، كما يشاء من عظم لحم إلى شوك سمك. فالمائدة، بكل خيراتها وأشيائها الصغيرة والكبيرة، وبكل طعامها وذبابها له، وفي خدمته القصوى دون غيره. وبين الفينة والأخرى، كان الزعيمُ "الكبران" يتوقف عن الأكل واللحس والنهب، وعن ابتلاع والتهام ما تيسر من خيرات المائدة. يطلق عنانه، فيحلق تحليقة قصيرة فوق المائدة وفوقهم. أما غفير الناس في المطعم فغير مبالين ولا منزعجين بما يحصل حولهم، بل ظلوا صامتين، خاضعين، ينظرون إلى سواد الذباب حولهم، والدهشة تشلهم، كأنهم ممغنطون لا يرون.
لا يسمع أزيز الذباب حين تتوقف الكائنات الجائعة عن الأكل تماما، كما لو أمرها شيخُها الكبير بالوقوف الإجباري عن فعل الالتهام، وقراءة آيات الولاء له، ثم تؤدي ما يشبه طقس الصلاة لجلالته. ليتأكد بالفعل أنه شيخ الذباب، وما يزال حاكمه المقدس العظيم الذي يرهب ولا يعصى له أمر، ولا تقهر له إشارة عين. فيحلّق "الكبران" عاليا بأجنحته الواسعة والوسخة، في فضاء مطعم "تافرْنوت" الأنيق. في حين، تتابع جيوش الذباب الأشقر فعل التنقيب والتشذيب والتهذيب والامتصاص في بقايا طعام ضيعة مملكة الذباب العظيم !!
في المقابل، يكتفي الذباب الأسود الكبير الحجم، في موقع يسار المائدة المستديرة، بلحس ما علق بداخل وخارج بياض الأطباق الفارغة، والمطروحة، والمتروكة على شكل طوابق عالية تطل في المقهى، خارج زجاج النافذة، على قامات المارين على رصيف مقهى "تافرْنوت" المقابل للشارع العام.
يأتي النادل الشاب بخفته المعهودة لمسح المائدة. يختفي مجموع الذباب بأكمله بسرعة متناهية، كما لم يكن موجودا قبل وصول النادل بقليل. يختار زعيمه الكبير، هاربا محلقا صاعدا، مكانا مرتفعا على ثريا الكريستال المذهبة الكبيرة، المعلقة من نقوش سقف الصالون الرفيع الذي يوجد في الركن الأقصى للمقهى البديع. ظل "الكبران" يتنفس، واقفا ثابتا يترقب، ويراقب هيئة النادل في وزرته الزرقاء وقبعته الزيتية اللون، يرحّب بالزبون الجديد الذي تتقدمه بطن منتفخة، يحمل باقة ورد ملونة بين يديه، والمرأة المحجبة بالسواد الكثيف بجانبه تتأبط حقيبتها الصفراء..
تبدو عينا ذباب "الكبران" من أعلى الثريا عينا الصقر الجريح من فوق صخرة في قمة جبل، تنفثان شرر اللهب الحارق، وأطرافه ترتعش بتوتر حاد. جسده الكبير كهيئة بطة، يأخذ في التقلص والتمدد الشديدين، كما لو أنه ماض في تجريب خطة خاصة، يختزن بها قواه الداخلية. قدماه النحيلتان صلبتان كالفولاذ، مثبتتان على العمود الأفقي لهيكل الثريا البهية.
حين انتهى النادل من تنظيف سطح المائدة، حمل الأطباق البيضاء بطريقته المألوفة البديعة، فعاد جنوبا بين صفوف موائد ثرثرة زبائن المطعم الواسع، متجها إلى داخل فجوة المطبخ في أقصى المطعم. لم يكن زعيم الذباب "الكبران" وحيدا هذه المرة، لأن باقي جند الذباب الأسود والأشقر اتحدوا معا وانضموا إليه، مشكلين جسد واحد، فوق كريستال الثريا الضخمة للصالون المعزول في زاوية المطعم. يبدو الرجل الضخم والأصلع الرأس الذي يوجد في عمر الستين أو يتجاوزه بقليل، في حديث حميمي مع الفتاة المحجوزة وراء اللون الأسود، بدءا بوضع اليد على اليد العارية، والسيجارة الرفيعة في المطفأة تنفث الدخان، ثم تلته الأشياء الأخرى. استسلمت الأنثى لنشوة اللحظة بمساعدة مظلة ركن المكان الداكن الظليل. لم تمر دقائق قليلة على غياب النادل الخفيف الظل حتى جاء محمّلا بطابق سمك باذخ من أحسن أطعمة مطعم "تافرْنوت". تحركت أجنحة الذباب الجشع على الثريا حركة خفيفة، قبل أن ينطلق خفاقا، يهاجم كقذيفة نارية موقع النادل، وهو يضع طابق الطعام على المائدة المستديرة أمام الشخصين المعنيين. بُممممم .. سقط طابق السمك من يدي النادل المرعوب، فاندفع صارخا إلى الوراء، ليسقط على زجاج النافذة المزين بألوان وشعارات تهانئ العام الجديد. تكسّر الزجاج بالكامل، وأصبح مجرد شظايا تناثرت على أرضية الصالون. هرول النادل الجريح مرتعشا وخائفا وهاربا إلى خارج مقهى ومطعم "تافرْنوت". تشتتت وتطايرت مكونات الطعام في فضاء المكان، واختلطت بدم النادل وبشظايا الزجاج على البساط الأخضر للمقهى، وانتشرت أجزاء لحم السمك الطازج تحت المائدة المنقلبة على وجهها. فأغمي على الرجل الزبون الضخم الذي حملته سيارة الإسعاف بعد دقائق من حدوث الواقعة. في حين، قيل إن الفتاة العشرينية التي كانت معه فارقت الحياة قبل وصول السيارة إلى المستشفى، بسبب الهلع وعدم تحملها صدمة ما رأت عيناها، وما عاشته من ذعر رهيب على إثر واقعة الذباب الأسود والأشقر، وبينهما إمارة الزعيم "الكبران".



#محمد_بقوح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعليم كمحرر للشعوب
- الوعي الديني والوعي الفلسفي
- قصة : الحمّى
- السياسيون الانتهازيون
- يسار حراك الريف ويمينه (مطلب اجتماعي وضرورة تاريخية)
- نظرية الدولة عند أنطونيو غرامشي، من خلال كتابه (رسائل السجن)
- مسألة المثقف عند بيير بورديو
- قراءة فلسفية لرواية ساق البامبو(1) (جدلية العلاقة بين تيمة ا ...
- الأنا الذي لا يفكر .. أو الطبيعة الصامتة و الطبيعة اللغوية
- من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الإغريق و علاقتهم بالفلسفة ( ...
- نقد مفهوم الحرية في فلسفة سبينوزا
- من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الفلسفة و التفلسف و الفيلسوف ...
- من دفاتر نيتشه الفلسفية : الفلسفة و الفيلسوف .. المفهوم و أي ...
- الفلسفة .. ضد سياسة التجميع
- محمد ابزيكا .. المثقف العضوي . أو صراع الأنساق : بين الحداثي ...
- الفلسفة و سياسة التكرار
- التقدم ضدّ خرافة الوصول .. في سبيل الصداقة الفلسفية
- المرتزقة الجدد ، وجهة نظر فلسفية
- أعشاش لاحمة
- مفهوم الدولة في مادة الفلسفة المقررة بالبرنامج الدراسي للباك ...


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - مملكة الذباب الموحش