أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - يوم الإضراب العام















المزيد.....

يوم الإضراب العام


هيثم بن محمد شطورو

الحوار المتمدن-العدد: 5513 - 2017 / 5 / 7 - 09:19
المحور: الادب والفن
    


انه قصير جدا. الاشتهاء ارتهاب. فكرة ارتداءه في هذا الشارع تبدو سابقة لأوانها بسنوات.
تبتسم للبائع المنتصب في بداية السوق الأسبوعي في شارع "الطيب المهيري" بساقية الزيت. الشارع الذي يتحير المرء في وصفه بالجميل أم بعدم الجميل. عمارة "عمار" ذات الطابقين تبرز كمعلم من الثمانينات لنجار ذاك الزمن الذي كان بإمكانه شراء العقارات و إبتـناء العمارات الصغيرة، قبل تغول بعض الشركات في التسعينات و استيراد الجاهز و السير الحثيث نحو القضاء على الإنتاج المحلي.
أمام باب العمارة رصيف عريض. مازال في الثمانينات التـزام غير مركب باحترام المسافات بين الناس بغض النظر عن القوانين التي لا تـفرض تلك المساحة الشاسعة لرصيف عمارة.
"الطيب المهيري" أول وزير داخلية في دولة الاستـقلال و هو عنوان محاربة أنصار "صالح بن يوسف" المنافس لـ"بورقيبة" على الحكم. أسماء الشوارع عندنا عارية من أي تعريف. تجد شارع "أبو القاسم الشابي" لكن دون ذكر كونه شاعر تونس الحرة القائل:" إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر".
الشارع يأخذ معنى آخر و هو المشرع الذي يكون إذن فاتح الشوارع بما هي قوانين تأخذ معنى الربط بين المناطق و تسهيل الحركة و إنشاء المنازل و الحوانيت على جوانبه، و هو معنى مناقض لما تمارس به القوانين من تعسف و فرض. فمن يفتح شارعا لا يفرض على الناس السير فيه.
سألته قائلة و هي تمسك التـنورة السوداء بأصابعها البيضاء الرقيقة:
ـ هل تـتصور أن تباع هذه البضاعة هنا؟
قال و هو منـشغل بترتيب بعض الثياب على الطاولة العريضة أمامه:
ـ أكيد. يستعملونها للنوم أو للسهرات الخاصة..
رغم كون الرجل أربعيني الوجه و شعره جاف غير ملمع و يرتدي جاكتة ذات مربعات رمادية و بيضاء تبدو قديمة جدا، فان عدم اهتمامه بها أحزنها. قلبت التـنورة مرارا و هي تتخيل نفسها مرتدية إياها. أكان من الممكن اختراع وسيلة أكثر شيطانية لإيقاد النار في النفوس؟
" أتراه منشغلا بباب الرزق أم هو عفيف؟"
لم تكن الفكرة تخطر على بالها و لكن هذا التاجر العفيف البائع للملابس في سوق أسبوعي بأسعار منخفضة جدا، جعلها تـشتري الميكروجيب الأسود دون أي فكرة واضحة أيان ترتديها.
***
" كان في مرة طفل صغير.. عم يلعب بالحارة.. عم .. عم يركب طيارة..."..
و أمام تصفيق الأم و تـقبيلها له و هرجها الكبير، انبعث في داخله تيار عذب طار به إلى أعلى العلى، حتى كأن الأرض برمتها تصفـق له..
ربما من أنعام الله عليه انه لم يقرأ لـ"فرويد" القائل أننا نمارس الجنس منذ الرضاعة من ثدي الأم، و أن المراهقة تـشهد رغبة لذوية في الأم. أي آيات شيطانية هذه تمحو كل سحر في عاطفة ينظر إليها أنها جليلة.. عاطفة الإحساس بالسمو اللذيذ..
حين اختار آلة "الكمان"، لم يكن يعلم أنها من أصعب الآلات الموسيقية. عازفة للكمان شاهدها ذات مرة في التلفزيون أذهلته. للكمان خصر و كأنها امرأة بين اليد و الذقـن يمر عليها بإصبعه الطويل جدا لينبعث صوت حنون هو الأقرب إلى العاطفة الإنسانية من جميع الأصوات التي تصدر عن الآلات الموسيقية الأخرى.
كان قـرابة شهرين يكرر عزف " دو، دو ، ري، ري، مي، فا، سول.."، حتى خرج من غرفته ذاك المساء ليهل على أمه الجميلة الأنيقة ذات العطر الذي يدوخه دوما..
كانت النافذة البلورية الكبيرة تعكس أضواء الحديقة المعـشبة، و كانت الأضواء في الداخل خافتة، و الصمت يعم الصالون الشاسع المزدان بالأثاث الفاخر و اللوحات الفنية. كانت تـتمايل راقصة متـتبعة اللحن، أما هو فقد اعتـقد في تلك اللحظات أن الأرض هي التي خلقت سمائها..
الإنسان عديم التوقف. اختار أغنية أمريكية. ربما نكاية في أبيه المحامي الذي يعلن كرهه لأمريكا دون أن يكون على علم بقصة "اوديب" قاتل أبيه المتزوج من أمه و فـقـئه لعينيه، و التـفسير الفرويدي الذي وجد في تلك الأسطورة اليونانية تعبيرا واضحا عما وصل إليه من كشف عشق للام و غيرة من الأب، و العكس بالعكس عند "الكترا" أو البنت..
حين تخيل نفسه قد انتهى من حفظ عـزف الأغنية الجديدة، اختار مساءا آخر خافت الضوء، و لكن تصفيق الأم هذه المرة لم يكن قويا كما أنها لم ترقص و لم تهل عليه بعطرها.
ـ ألم تعجبك؟
ـ لا. بالعكس.. لكن المرة السابقة أفضل..
ـ أي مرة سابقة.. إنها أغنية جديدة..
قالت:
ـ لم استمع لجديد..
أحزنه أن تكون أمه سجينة اللحن الأول. الأول البدء و ليس البدء و المنتهى.
" أفسر الأمر انك ترفضين أي عزف آخر مني إلا ذاك. هذا الرفض يجعلك لا تستمعين إلى الجديد و على وقع العزف تـتخيلين انك تستمعين اللحن الأول.. هذا خيال و ربما مرض.. انفصال عن الواقع.. يجب أن تـزوري طبيبا نفـسيا.. أنت ترفضين أن تراني أتـقدم.. ترفضين أن لا أكون دوما إلا طفلا دون أن أتـقدم.. أنت رجعية مثلما يقول أبي و ترفضين فكرة التـقدم أصلا."
قالت و هي تبتسم :
ـ أنت حبيبي. طفلي الرائع دوما.. كان في مرة طفل صغير.. عم يركب طيارة.. سنذهب إلى اسبانيا هذا الصيف و ستركب الطيارة.. وعدني أبوك بذلك.."
أما هو فبكل حزن يردد:
ـ لماذا تريدين سجني أماه في الذي كان انعتاقـا نحو السماء ؟..
***
شوارع مركز المدينة طوفان من البشر. شوارع استحالت شعرا. النظام ينهار و الروح صاخبة. انفـسخ شارع النظام و القانون و هتف الروح الشاعري الصاخب الغاضب قائلا : "إذا الشعب يوما أراد الحياة ، فلابد أن يستجيب القدر"...
" التـشغيل استحقاق يا عصابة السراق".." الشعب يريد إسقاط النظام"..
كان يوم الإضراب العام. دكتور الكيمياء الذي كان يتحرج في المقهى من التحدث عن النظام. القاضي الذي لا يتحدث مع احد. الشباب المائع الذي لا يتحدث في أي مسألة عامة و يشك حتى في قدرته على التـفكير.. انقلاب فجائي. جميع أشكال الوجوه مشاركة في نداء الاتحاد العام التونسي للشغل في الإضراب العام ضد السلطة التي تعـسفت في قمع المحتجين في سيدي بوزيد و الرقاب و المكناسي.. الإضراب العام تحول إلى ثورة ضد النظام و ضد الدكتاتورية..
بعض النيران و شباب زاحف و شرطة عاجزة عن الردع..
كان هو في حديقة الأطفال يعزف مغمض العينين وسط هدير الجماهير القريبة جدا.. كان غائبا تماما إلا عن مخاضاته.. كانت هي تتمايل إلى جانبه كوهج من نار.. كانت تتمايل على هامش الجماهير الصاخبة.. تمكنت أخيرا من ارتداء الميكروجيب الأسود.. تمكنت من التعري وسط العيون و الحشود التي ليس لمثلها حشود.. تمكنت من كسر حاجز المجتمع الذي لديها في الذهن ليتولد مجتمع آخر..
و توقف عن العزف. و جلس على المقعد منهكا. و اندهش لوجود حسناء فائقة الجمال بساقين فاتـنـتين عاريتين إلى جانبه.
قالت:
ـ عزف رائع.



#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة الثورة
- الهجوم الصاروخي الامريكي على سوريا
- الثورة المخاتلة
- الإصلاح التربوي ليس من مشمولات الوزير
- سلفنا السعيد المفقود فينا
- قراءة في الإصرار على إقالة وزير التربية
- المشهد الثقافي التونسي يعكس حقيقة ما يدور بالمشهد السياسي
- تونس أمام نهاية الانتقالي ام الثوري أم كليهما؟
- طبول الحرب تقرع من جديد في تونس..
- بين الاحتجاج و دوافعه في تونس
- في الذكرى 31 لتأسيس حزب العمال التونسي
- علاقة -دستويفسكي- بالتحرر الفلسطيني
- في الانتقام ل-شكري بالعيد-
- رسالة الى السوريين حكومة و معارضة
- الصفعة الروسية لايران
- تونس بين ديدان الأرض و ثورتها
- نظرة تونسية للجزائر اليوم
- مساجد لعبادة الله أم الإمبريالية ؟
- المسرح الروماني ضد الإرهاب الاسلامي
- -بشار الأسد- و الناعقون على حلب


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - يوم الإضراب العام