أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - عينُ الطائر... والزّمارُ البدين














المزيد.....

عينُ الطائر... والزّمارُ البدين


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5162 - 2016 / 5 / 14 - 17:58
المحور: الادب والفن
    



إنها ترقبُ. إنها ترصدُ وتُسجّل. ترى ما لا يراه العابرون. فخدوا حذرَكم في كل ما تصنعون، ودقّقوا في كل ما تفكرّون، فهي كذلك قادرة على قراءة الأفكار. كل ما نفعل من مُخزياتٍ ومعرّاتٍ وآثامٍ ومظالمَ وأكاذيب يرتكبُها بنو الإنسان، تحت وهم أن أحدًا لا يرقبهم، مرصودٌ في دفاتر الطير. انظروا، عين الطائر ترقب من علٍ وتسجّل في ذاكرتها كل شيء، ثم تذهبُ إلى أعالي الجبال لتدوّن في دفاترها المغروسة فيشقوق رؤوس الجبال ما صنعنا من خير طوال يومِنا، وما ارتكبنا من شرور، ثم ترفعُ تقاريرَها إلى السماء. فاحذروا.
بالأمس كنت أجول في بريةٍ جدباء، فوقع بين يدي دفترٌ من دفاترها. سقط من إحدى قمم الجبال، فتلقّفتُه وخبأته بين ثنايا ثوبي. عندما يأتي المساء، أقرأ حكايةً كلَّ يوم، ثم أقصُّها عليكم، لتتلصّصوا مع الطير على ما تيسّر من أسرار البشر والحكايا.
(1)
دوّنتْ عينُ الطائر ما حدث للبنت الجميلة التي كانت تحمل جرّتها كل نهار لتملأها من النهر، ثم تجولُ بين الحقول تسقي النارنج والسوسن وزهور القرنفل. وفي رحلة عودتِها لكوخِها، تُعرّجُ على بيوت الفقراء تمنحهم شيئًا من نبات الحقل، وتقفُ عند أبواب المجزومين، تُمسِّد جلودَهم الممزقة بنُسغِ الصبّار الطيّب، فإذا هبط المساء، ألقت بجسدِها المنهك في حضن أمِّها الملاكة التي احتضنتها بعدما ماتت أمّها. في أحد النهارات، انتبهتِ اليتيمةُ إلى صدح نايٍ حزين يبكي من البعيد. حزَّ قلبَها شجوُه وجذبها شدوُه. لكنها خافت أن تدخل الدغل الموحش حيث صوت الناي الخافت، وحيث الضواري التي تنهشُ القلوب والأوصال. كل يوم عند الخامسة فجرًا كان صوتُ الناي يأتي وقد ازداد وجعًا يكادُ الدمعُ يتفطّر من بين نغماته. بعدما أتمّت رحلة النهار وروت الحقول العطشى، رأت من بعيد شبح زمارٍ نحيل يقترب. ويقترب. كانت تجلس تحت شجرة التوت تُطعمُ دود القزّ الوليد، وتجدلُ من سعف النخيل إكليلا ستفاجئ به أمَّها عند المساء. حين وصل ظلُّ الزمار إلى حيث تجلس، ما عاد النحيلُ نحيلا، كما كان يبدو عن البعد. كان ضخمًا موجوعًا جريحًا يقطر الدمُ من أعطافه.
قالت البنتُ: ظننتُك من بعيد عصفورًا.
قال: مادمتِ رأيتني عصفورًا فأنا عصفور. صدقي نفسك أيتها البريئةَ، ولا تصدقي الحياة. فالحياةُ كذبةٌ. ومنذ متى والجميلات يصدقن الحياة؟!
قالت: لكنك كنتَ تبكي! عزفُكَ كان مصدوعًا بالوجع، فكيف للضخام أن يبكوا كما يبكي الضعفاء؟!
قال: أنا ضعيفٌ ومسكين لا أجدُ من قوت يومي إلا ما يحّن به عليّ الشجر، وما يُسقُطه الطيرُ المسافرُ من فتات قوتِه. لا أليفَ لي ولا وَنَس، ولا يقبلني أحدٌ. كلما حطّ بيَ الترحالُ على أبواب مملكة، طردني الحرّاسُ كما يُطرد الدخلاءُ المتسولة. وليفتي هزمتني وقهرتني وطردتني من كوخي لأنني فقيرٌ، ولفظني أطفالي الذين لا يُطربهم شدوي. فجئتُ إلى حيث هذا الدغل الموحش، لأن الضواري لا تطرد المطرودين. فهل تُطعمينني من سلّتك، وتسقيني من جَرّتك، وتأنسي إلى مزماري؟ أنا ظامئ وجائعٌ وأحتاجُ من يسمع عزفي.
قالت: لكَ كلُّ ما في سَلتي من ثمار وزهر يانع. وما في جرّتي من ماء وخمر. هاتِ مزمارَك أصقلُه لك وأنظّفه من أدران الزمن، وأجلو عن عودِه الغبارَ، ريثما تأكل وتشبع، وأنت تستمتع بمرأى الزهر وهو يرقصُ إذا غنيت.
قال: لكِ الزهرُ ولي الثمر. مثلي لا يروم إلا أن تشبع بطنُه حتى يقوى على الغناء الذي يجلبُ الحظّ والرغد. أما الزهرُ فلا يُطرب إلا ذوي القلوب النابضة مثلكِ. أما قلبي فما عاد ينبض ولا خفقٌ يهزُّ أوتاره إلا ليعيش، لا ليحيا.
قالت: صدقت. لولا صوتك ما عرفتك ولولا غناؤك ما منحتك ثمري وطيبي وزهري. ولكنْ، أما تريدُ بعض الورود لترقص على نغم مزمارك فيفوح شذًا وطِيبًا؟!
….
لم يُجِب. وحين انتهى من التهام ما في سلّتها واجتراع ما في جرّتها، التهمها، وألقى فستانَها الفارغَ في النهر. ثم أشعل النار في الحقل، ومضى يُغنّي.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهنتي الكتابة | كُن كاتبًا تمشِ في الطرقات حُرًّا
- بناءُ الإنسان في الإمارات
- اليماماتُ مذعورةٌ في بلادي!
- قراءة في كتاب -دفتر العمر-
- تحت شرفة عبد الوهاب … كَم تُرتكب من جرائم!
- السير يعقوب وليلى ابنة الفقراء
- الإمارات تكسر شرانقهم |الأسبوع العالمي للتوّحد
- تعالوا نمشيها نكت
- حُلم | قصيدة للشاعرة فاطمة ناعوت
- دعاء خصم فاطمة ناعوت | كيف ندعو على ظالمينا؟
- أجدلُ السعفَ لأنني أحبُّ
- ما الهزيمة؟
- القطة .... التي كسرت عنقي
- العصفورُ المتوحّد
- أولاد الوزّة
- سامحيني يا سمراء | أم الشهيدة والأرنب المغدور
- أيها الشعراء غنّوا وأُسجنوا!1
- قفص العيب
- مَن هُم خصومُنا؟
- اسمُها زَها حديد


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - عينُ الطائر... والزّمارُ البدين