أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - سوّر مدينتك بالعدل















المزيد.....

سوّر مدينتك بالعدل


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5084 - 2016 / 2 / 24 - 20:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


سوّر مدينتك بالعدل
د. عبد الحسين شعبان
أثار شروع حكومة بغداد في بناء سور يطوّق المدينة الكثير من التداعيات وردود الأفعال، لدرجة وصف بعضهم سكان العاصمة كأنهم يعيشون في أمكنة مسيّجة أشبه بالمعسكرات، لا يدخل إليها ولا يخرج منها إلّا بإذن خاص وتحت المراقبة. فالمعسكرات دائماً ما تكون مسوّرة بأسلاك، وأحياناً بأسلاك شائكة أو حتى مكهربة، خصوصاً إذا كانت المناطق المحظورة والممنوع الوصول إليها مهمة أمنياً، أو ممنوعة عسكرياً.
استذكرت في غمرة انهماكي وأنا أسمع مثل ذلك الخبر، رواية الصديق عبد الرحمن مجيد الربيعي «القمر والأسوار»، وكنت قرأت له مؤخراً روايته التي أهداني إياها عنوانها «نحيب الرافدين»، وهي يوميات مكتوبة بحبر أقرب إلى الدم عن الحرب العراقية- الإيرانية. وكان المخرج محمد جميل شكري أخرج فيلم الأسوار، الذي لم تتسنّ لي مشاهدته، لكنني قرأت عنه بعض التقريضات النقدية المهمة، حيث شارك فيه نخبة من الفنانات والفنانين العراقيين الكبار في الثمانينات.
ثم استعدتُ سور النجف القديم، حين كنّا صغاراً نلعب كرة القدم خلفه، وحين نكون بالقرب منه تكون المدينة قد ابتعدت عنّا، ونرى من البعد كيف تتلألأ قبّتها الذهبية. السور الذي كانت بقاياه قائمة كان يستهدف الدفاع عن المدينة، فيما إذا تعرّضت لغزو خارجي. لم نكن نتصوّر أن مدينة ما يمكن تسويرها، حتى زرت الصين، فرأيت سورها العظيم، وهو ما أعادني إلى العصور القديمة، وكذلك إلى العصور الوسطى، حين كانت المدن تسوّر، والأبواب تغلق ويُعرف من دخل ومن خرج من المدينة ومتى. يبلغ طول سور الصين 2400 كم، وهو من عجائب الدنيا السبع حسب "اليونيسكو"، ولعل كيسنجر حين حاول تذويب الجليد بين واشنطن وبكين في مطلع السبعينات، وضع نصب عينيه عبور سور الصين العظيم، باستعادة قراءة التاريخ.
لم يكن لديّ أية حساسية إزاء الأسوار، لأنني اعتبرتها من تراث الماضي، خصوصاً في القرون الوسطى، وبفعل ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية «الديجتال»، لم يعد العالم بحاجة إلى بناء الأسوار، حتى جاء السور الذي بنته «إسرائيل» لتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية وتمزيق شمل العوائل والمناطق وعزل بعضها عن بعض، وزاد الأمر قسوة ولا إنسانية، حين تُتّخذ مثل تلك الإجراءات الرادعة والعقوبات الغليظة بمضاعفتها، عند كل عمل مقاوم ضد الاحتلال «الإسرائيلي» والمستوطنات «الإسرائيلية».
كم من الحبر سال، وكم من الجهد بُذل لإثبات عدم شرعية جدار الفصل العنصري؟ الأمر الذي تم عرضه على محكمة العدل الدولية في لاهاي التي أصدرت قراراً ببطلانه ودعت إلى هدمه ووقف بنائه، وتعويض السكان العرب الفلسطينيين، مادياً ومعنوياً عما تعرّضوا له من غبن وأضرار، لكن «إسرائيل» أدارت ظهرها لهذا القرار ذي الطبيعة الاستشارية، الذي كان يمكن الاستمرار فيه، خصوصاً بعد قبول فلسطين عضواً مراقباً في الأمم المتحدة العام 2012، وانضمامها إلى العديد من المنظمات الدولية والإقليمية، ومنها المحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الأساسي) مطلع العام 2015، وهي التي تشكلت في العام 1998 ودخلت حيّز التنفيذ في العام 2002.
بناء جدار عنصري في فلسطين وجدار لاحق مع الأردن، كانت مبرراته وقف «الإرهاب» الفلسطيني، والمقصود المقاومة ضد الاحتلال «الإسرائيلي»، والأساس في ذلك هو الشعور بعدم الطمأنينة، والخوف، وعدم القدرة على ضبط الأمن، ومنع تسلّل الفلسطينيين المقاومين للاحتلال، فضلاً عن أن ذلك جزء من عقلية الغيتو «الإسرائيلية»، ف«إسرائيل» هي مشروع حرب دائمة ومستمرة، وأنها لا ترغب في أي نوع من أنواع السلام الحقيقي، حتى إنْ كان بمعيار الحد الأدنى، لأنها قامت على القوة، وعليها وحدها تحيا، ولذلك فهي تمارس الحرب تلو الحرب، والعدوان تلو العدوان، وتبني نفسها خلف أسوار وخنادق وتحصّنها بالعزلة والانعزال.
في العراق ما بعد الاحتلال، شرع الأمريكان ببناء مناطق عازلة، فتم عزل المنطقة الخضراء عن بغداد التي تم تقطيع أوصالها، لدرجة إنك لا تعرف المداخل والمخارج، حتى إن كنت تعرف أزقة بغداد شبراً شبراً، لكنك تضيع في شوارعها المقسّمة والمحجوزة والمُحتجبة عن بعضها بعضاً، الخراسانات الكونكريتية العالية، كأنها أسوار للقرون الوسطى.
الأسوار والحواجز حجبت «عليّة القوم» في المنطقة الخضراء عن سكان بغداد، الذين لا يرونهم إلّا عبر الشاشات الزرقاء، ولا يدخل إلى تلك المناطق إلّا «المحصّنون» الذين يمتلكون دمغات (باجات) بألوان مختلفة، تبدأ من الأدنى حتى الأعلى ولكل دمغة (batch) درجته، حسب الموقع وحسب القوة التي تمنح صاحبها الامتيازات. لكن ذلك لم يمنع المنظمات الإرهابية، (القاعدة و«داعش») من اختراق المناطق المسوّرة أحياناً والدخول إلى مواقع خطرة.
ليس هذا فحسب، بل إن "داعش" احتل مدناً كما حصل لمحافظة الموصل في 10 يونيو/حزيران العام 2014 وتمدّد نحو محافظتي صلاح الدين والأنبار، وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، وعلى الرغم من الخسائر التي مُني بها والهزائم التي لحقته، لكن الشعور العام لا يزال هو الخوف منه ومن عمليات إرهاب وعنف وانفلات وفوضى.
ولهذه الأسباب بدأ إقليم كردستان ببناء خنادق تمتد من منطقة ربيعة على الحدود السورية، إلى خانقين على الحدود الإيرانية، والحجة هي الحماية من هجمات "داعش" المحتملة، في حين هناك من يعتقد أن هذه الخنادق ستكون حدود الإقليم ما بعد «داعش»، وهو ما عبّر عنه بعض التركمان وبعض العرب في المناطق المختلطة، ابتداءً من سنجار ومروراً بتلعفر، وأطراف الموصل، وسهل نينوى، والحمدانية، وتلكيف، ومخمور، وغرب كركوك، وتازة، وداقوق، وطوزخرماتو باتجاه قرة تبّة وجلولاء، انتهاءً بخانقين على الحدود الإيرانية، وإن كان الإقليم أكد أن الهدف ليس ترسيم الحدود بقدر ما هو خطة أمنية وعسكرية لصدّ احتمالات هجوم «داعش».
أما سور بغداد فيبلغ طوله نحو 240 كم، وهدفه كما يقول المسؤولون، توحيد المداخل والمخارج للعاصمة، وليس عزلها عن سائر المحافظات لأهداف طائفية أو سياسية، بل إن الهدف أمني وعسكري لمنع هجوم «داعش».
ومهما كانت المبرّرات، فإن الحواجز الكونكريتية والسور الجديد ستزيد من تفاقم الحالة النفسية لسكان بغداد، وشعورهم بعدم الاطمئنان، بل والقلق، فضلاً عن الازدحامات والاختناقات المرورية، تضاف إلى ذلك التحفظات والمخاوف التي أبدتها أوساط غير قليلة بشأن الأهداف الطائفية والسياسية، ورسم خرائط وحدود جديدة للمحافظات لاعتبارات مذهبية.
لم يدرك المسؤولون عن بناء الأسوار والخنادق أن الأسباب الحقيقية للإرهاب ليست أمنية أو عسكرية، وإنما تعود بالدرجة الأساسية إلى نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، واستشراء الفساد المالي والإداري، وانتشار ظاهرة الميليشيات خارج القانون، بل وغياب حكم القانون والرقابة والمساءلة، وضعف المؤسسات القضائية وجهات إنفاذ القانون واختراقها، إضافة إلى تفاقم ظاهرة الفقر وتفشي البطالة والأمية، وشيوع ثقافة الكراهية، والإقصاء، والعزل والتهميش، وهي ظواهر سائدة في المناهج الدراسية والتربوية، وفي السياسات العامة، والثقافة الدينية السائدة بزعم ادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، تلك التي لا تنتج غير التعصّب والتطرّف والغلو، فضلاً عن قصور القوانين والأنظمة السائدة التي تحتاج إلى مراجعة وتغيير باتجاه تحريم الطائفية وتعزيز ثقافة المواطنة والمساواة والشراكة وعدم التمييز.
يُروى أن أحد ولاة الأقاليم طلب من الخليفة العادل كما كان يكنّى عمر بن عبد العزيز، أن يرخّص له ببناء سور لحماية مدينته من مداهمة بعض المتمردين، أو المعارضين، أو الخارجين على القانون بالمصطلحات الحديثة، وأن يرسل له دعماً مادياً ومعنوياً، فما كان من الخليفة، وبدلاً من إرسال الدعم المالي له ليستكمل بناء السور، إلاّ أن يخاطبه بالقول: «سوّر مدينتك بالعدل»، والعدل هو صمام الأمان لضمان سلم وأمن المواطن والوطن.
[email protected]

صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 24/2/2016



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحقاً وزارة للتسامح وأخرى للسعادة!؟
- - مستقبل التغيير في الوطن العربي- - تأملات فكرية في الربيع ا ...
- من الدولة العميقة إلى الدولة الغنائمية
- كردستان العراق.. جدل البنادق وحدود الخنادق
- عام الدستور في تركيا
- المجتمع المدني بين التوقير والتحقير
- العراق.. تراجيديا الموت أم أرقام إحصائية؟
- عن السبي «الإيزيدي»
- الجواهري والشباب وجامعة الدول العربية
- في فكرة التضامن الدولي
- اللحظة الفلسطينية يونانياً
- خضير ميري: ابتهالات آخر الصعاليك
- شيء عن هندسة التحالفات الدولية
- هل اقترب موعد تحرير الموصل؟
- عن المواطنة ومتفرعاتها
- مستقبل العراق ومثلّث الألغام
- هل ينجلي ليل الرمادي؟
- تركيا وعقدة عضوية الاتحاد الأوروبي
- هل القضاء على التطرف بات مستعصياً؟
- فكر التطرّف والتكفير : عالم على الحافة


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - سوّر مدينتك بالعدل