أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - خضير ميري: ابتهالات آخر الصعاليك















المزيد.....



خضير ميري: ابتهالات آخر الصعاليك


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5046 - 2016 / 1 / 16 - 12:10
المحور: الادب والفن
    


خضير ميري: ابتهالات آخر الصعاليك

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
يُنبئني شتاء هذا العام
أنني أموت وحدي
ذات شتاء مثله، ذات شتاء
يُنبئني هذا المساء
أنني أموت وحدي
ذات مساء مثله، ذات مساء
صلاح عبد الصبور
*****
الدرويش خضير ميري وإرهاصاته الأولى
في مجموعته الشعرية "أغاني الدرويش" يقول الشاعر الشعبي عزيز السماوي
أريدك طيف
وإبنومي تفيض دموع
ولو حزني ثجيل أو ما تبرده دموع
مو كَلبي عراق التنبض أنهاره حزن وإشموع
إوتلمع عالقميص دموع
وأحزن يضحك الصفصاف
ولك حزني ظلام ولا درب ينشاف
أخاف
أخاف
أخافن حتى من روحي..."
ومن يكن ذاك غير خضير ميري، الذي بدأ فتوته الأولى مع الخوف والقلق والأرق والأسئلة والدموع، ولو لم يكن خضير ميري صغيراً حين كتب السماوي قصيدته، لقلنا إنه لم يقصد سوى ميري، الذي ظلّ يتطلّع إلى مجالسة الكبار.
في واحدة من اعترافاته عند تعارفنا قال لي: كنت أتلصّص عليكم وأحسدكم، وأنتم منشدّون في "مقهى عارف آغا" يتوسّطكم الشاعر عبد الأمير الحصيري، وعلى يمينه عزيز السيد جاسم، الذي كان له فضل كبير في توجّه خضير ميري، وعزيز السماوي وشاكر السماوي، وأضفت إليه وفي المقعد المقابل عزيز حسّون عذاب وتعليقاته اللاذعة والعميقة وآخرين.
ورويت له تلك النكتة التي شاعت حينها حيث كانت المقهى تقف ولا تقعد، تناقش بين سياسة العزيزين: عزيز محمد (اللجنة المركزية) وعزيز الحاج (القيادة المركزية)، وكيف ينحاز هذا إلى جانب ذاك وهذا ضد ذاك، وفي إحدى المرّات احتدم النقاش الذي كان يستمر أياماً ويتم معاودته كأنه بدأ الآن، والجميع يدورون في ذات الدائرة، هنا علا صوت سلام مسافر قائلاً: كلّ عزيز (كذا)، وانتبه المتناقشون أن أسماءهم هي عزيز: عزيز السيد جاسم وعزيز السماوي وعزيز حسّون عذاب وعزيز خيّون، وضحك الجميع. كان ذلك خلال انشقاق الحزب الشيوعي العام 1967، حيث كانت الأجواء تسمح بمثل تلك الجلسات العلنية والحوارات شبه العلنية.
قد يتبدّل الحاضرون لكن الحصيري هو الثابت الوحيد في المكان والزمان (نسبياً حسب التعبير الفلسفي) وهو الجليس الأساس وحوله تتجمّع الشلّة، أو قلْ الشلل قبل الظهر أو بعده، أما عند المغرب، فهو الزائر لموائد الشراب، المتجوّل في الحانات، وضيف الأصدقاء، سواء كان مرحّباً به أو ثقيلاً. في المقهى يجلس الحصيري خجولاً مهذباً وكل ما يطلبه أحياناً من الذين يعرفهم (ويمون عليهم كما يقول) أن يدفعوا أثمان عدد من أقداح الشاي، حيث يتجمّع له في آخر النهار بين 30-40 شاياً، ويكون قد احتسى خمسة منها، فيأخذ الباقي نقداً، ويتّجه إلى أقرب حانة ويعطي ما عنده إلى النادل، ليقدّم له عرقاً بثمنها، وهكذا يبدأ مساؤه بالشراب حتى يثمل، خصوصاً عندما تراه يترنّح في شارع أبو نواس، فيبدأ جولته من بار بلقيس ويمرّ ببارات سرجون وكاردينيا وآسيا والجندول والشاطئ الجميل وغيرها.
يثقل الحصيري على نفسه وعلى من يصادفهم في تلك الحانات، حيث يكون ثملاً متّسخ الملابس والهندام، وفي آخر الليل يعود إلى الحيدر خانة وحيداً، حيث يعيش في غرفة بائسة، وهكذا كان يومه ونهاره وليله، ينتهي إلى وحدة لعينة " متدروشة" لا مكان فيها للنساء أو للمسة حنان ظلّ يفتقد إليها طيلة حياته، مع إنه محاط من الصباح بعدد من الروّاد، لكنه لم يكن له من صديق أو رفيق أو أنيس واحد، سوى الشعر.
"الدرويش" في داخل خضير ميري كان يكبر بسرعة خارقة، وكأنه كان يريد أن يسابق الزمن. وكانت بعض شواغله آنذاك تتّجه إلى الأدب وإلى نظم شيء من الشعر، أو كما قال عنه هو "شعر بلا روح" مع هلوسات من أفكار خليطة بين فلسفة وجودية وعدمية وتشاؤمية فيها شيء من الماركسية بصورة مشوّشة ومهابة كبيرة، لكن رؤيته بدأت تتجذّر، حين اتجه إلى قراءة الفلسفة، وهو ما أطراه في وقت لاحق مطاع صفدي، حيث كان ميري يحظر ما يقيمه من فاعليات وأنشطة بغدادية.
استدعاه مرّة عزيز السيد جاسم وقرصه من أذنه محذّراً وقائلاً له: ابتعد عن الأدب ولا تحاول كتابة الشعر، الدور طويل أمامك والشعراء الكبار آنذاك يملأون الدنيا، بل ويفيضون : عبد الوهاب البياتي، حسين مردان، بلند الحيدري، سعدي يوسف، يوسف الصائغ، كاظم السماوي، فاضل العزاوي، رشدي العامل، سامي مهدي، حميد سعيد والقائمة تطول! وخاطبه بشيء أشبه بالأمر: اتّجه إلى الفلسفة، ليس لدينا مهتمّون بالفلسفة. قد يكون لدينا أساتذة جامعة وأكاديميون، لكن الفلسفة بمعناها الحياتي التفكيري الثوري، تحتاج إلى صعاليك أيضاً. كان السيد جاسم قد قرأ لميري بعض محاولاته الأولى، ولاحظ فيها إلتماعات فلسفية ورؤى غير تقليدية، ونشر له بعض النصوص بوقت مبكر.
ربما فكّر عزيز السيد جاسم وهو صاحب فلسفة، إن عشقه للفلسفة لا يتجسّد إلاّ بالدراويش، مثلما كان مولانا جلال الدين الرومي قد وجد في الدرويش "شمس" تماهياً وطريقاً إلى الله. فمن بين كل الطرق إلى الله اختار جلال الدين الرومي، العشق طريقاً لا متناهياً إليه، وطريق العشق هو طريق اللاّنهايات، وإذا انغمر فيه الإنسان ذابت نفسه، في نفسه وأخذته رحلة من نفسه إلى نفسه.
لم يخالف التلميذ كلام استاذه ولم ينسَ قرصة الأذن، فاتّجه إلى الفلسفة يغرف منها وصولاً إلى الجنون، إحدى محطات التجلّي والاختلاق والتعبير عن مكنونات خضير ميري ومخيلته الخصبة التي تشكّل ركناً مهماً من أركان شخصيته، لدرجة أقرب إلى الوهم.

الدرويش ميري والماركسية والحوار
لم أعرف خضير ميري من قبل ولم أسمع عنه، ربما مرّة واحدة ورد ذكره على لسان الشاعر والإعلامي عبد الحميد الصائح عندما كنّا في لندن، وذلك قبل الاحتلال بسنوات، حيث كان الصائح قد عمل معنا في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان كعضو في اللجنة التنفيذية، ومحرّراً لمجلة الضمير التي كنّا نصدرها حينها، لكنني نسيت الاسم والمناسبة، فلم يعلق بذهني.
وفي مرّة أخرى في إحدى المناسبات في اتحاد الأدباء بعد العام 2003 خلال إحدى زياراتي قال أحد الأصدقاء، اللّهم أبعد القادم الجديد عن طاولتنا،ولكنني لم أعرف من هو، وافترضت إنه من النماذج "المتكورثة" كما كانت تسمّى، فبعد ربع العرق الأول، على طريقة الحصيري تبدأ التقاسيم تتوزّع بصورة منفردة وجماعية، ولكن بعد حين عرفت أنه شاب كان في مستشفى الأمراض العقلية، لكنني لم أسأل عن اسمه.
وحصل في العام 2008 كنت في القاهرة في اجتماع الخبراء المستقلين في جامعة الدول العربية، وإذا به يفاجئني، شاب حليق مائل إلى بياض البشرة يطيل شعره ويلبس قبعة وترتسم على شفتيه ابتسامة جميلة موشّاة بحزن عميق، فيحييني في فترة الاستراحة ويأخذني بالأحضان، وبعد احتساء القهوة في أروقة جامعة الدول العربية، قرّرنا اللقاء بعد انتهاء الجلسات.
كنتُ قد عرفت زوجته إسراء خليفة قبل ذلك وأجرت معي أكثر من مقابلة، وذكرت اسم زوجها، وقالت إنه يودّ أن يتعرّف عليك، لكنني لم ألتفت إلى الاسم، وفي هذه المرّة اتصلت به وطلبت منه الحضور ورتّبت طريقة لدخوله إلى جامعة الدول العربية، حيث كانت تغطّي الأخبار الصحفية لجريدة الصباح ولإسبوعية كردية كذلك، أو لوكالة أنباء كردية.
عانقني خضير ميري بحرارة، وكأننا عشنا دهراً قبل ذلك، ثم التقينا بعد فراق، وهنا أقتبس ما قاله هو في الكتاب الحواري الذي صدر لي بعنوان "تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف" والذي حاورني فيه، وتلك قصة أخرى. يقول خضير ميري في مقدمته لكتاب تحطيم المرايا، وهنا أتقصّد نقل فقرات ضافية ومطوّلة منها وليعذرني القارئ، ولكن هذا الاقتباس فيه الكثير من الإضاءة على المواضيع التي سأتطرّق إليها:
"... وأصل هذه الحوارات علاقة قديمة بيني وبين عبد الحسين شعبان تمتدّ لعشرات السنين وهي علاقة الغياب بالغياب والترحال والعمل من بعيد. لم أتعرّف عليه شخصياً إلاّ بعد أن استنفذت المنافي نفسها، وضاقت على قدمي الرجل وعقله وفكره الذي لا يعرف حدوداً، فالتقيته مشاركاً في مؤتمر داخل أروقة جامعة الدول العربية في القاهرة.
عرفت بوجوده فحضرت سريعاً ليقع بصري عليه من مسافة كافية لأن أبصر قامته المتوسطة وشعرة الأبيض الفضي، وكان يرتدي سترة مخالفة للون بنطاله، وهو يجلس في طاولة حوار مستديرة، ممثلاً لتاريخ طويل وعويص من قضايا اليسار العربي ومطارحات الماركسية، وهموم السلام والديمقراطية وحقوق الانسان.
لم يكن رسمياً كماهي العادة في المؤتمرات المنضبطة الرسمية . وعندما تقدّمت منه كان بشوشاً وهادئاً، وقد كان اللقاء حاراً والأشواق تكبر على اللحظة، وتستطيل على الزمان والمكان وتتماهى مع تاريخ الفكر في العراق وكميّة الدماء التي تكحّل حروفه وتغتال معناه ومبناه.
وكنتُ قد فكّرت من قبل، بأن أضع كتاباً عنه وعن تجربته الحياتية وأعماله في الفكر والنقد السياسي وحقول الإنسانيات والقانون الدولي والمجتمع المدني، لاسيّما في منهجه الماركسي النقدي، وكان ما ينقصني هو مكتبة وأرشيف نظامي ومرجعيات ناجعة، كان يتعذّر الحصول عليها أو الوصول إليها في العراق حيث كانت كُتبه ممنوعة، باستثناء ما كان يهرّب منها حيث تصل بعض النسخ "مصوّرة" إلى شارع المتنبي، وكانت بعض المكتبات التي تختصّ بتلك "الثروات الدفينة" تعرضها على بعض الزبائن من زوارها الدائمين، كما لم يكن ممكناً تحقيق فكرتي، لاسيّما في مناطق الترحال والشتات وهدم مكتباتنا بعد الاحتلال، ثم اعادة بناء ما تيسّر منها، هنا وهناك في القاهرة وعمان ودمشق وغيرها.
الاّ أن مصر وفّرت لي فرصة لقاء طال انتظاره، فرحتُ أنتهز الفرصة لفتح حوار مع الدكتور شعبان، وكان عليّ أن أغتنم وقت إقامته القصيرة في القاهرة ، فكان اللقاء مزيجاً من مراجعات وتنظيرات وقراءات نقدية تأملية ورؤى، هي أقرب إلى خلاصات العمل منها إلى شطحات أو شذرات ارتجالية، يغلب عليها طابع سجالي بعض الشيء، فشعبان مازال مخلصا لنقديته الماركسية، وهو يرى أن ماركس لم يُقرأ بعد قراءة ماركسية صحيحة، وإن مفاهيم ماركسية قابلة للعمل في ضوء كشوفات الفكر الحديث وتقلباته وتسارعاته اللسانية والنقدية والإنثروبولوجية وغيرها، من ممارسات إنسانية وأخرى أدبية، شريطة أن ننقد الماركسية السائدة بمنهج ماركس، لا أن نتوقّف عند القوانين التي اكتشفها ماركس، بل نحن نعيد اكتشاف قوانينا."
ويضيف ميري:
" لا يحجم فكر شعبان من الانهمام بتلك الإشكاليات و" التخالق" معها واستخراجها ضمن عملية "وضعية نقدية تحليلية" أقلّ ما يُقال عنها أنها تتمتع بالجرأة الذاتية والشجاعة الموضوعية والضرورات العملية والمعرفة العلمية والخبرة الوفيرة، ولا يهمّ شعبان إنْ اعتبرها مغامرة وتراه يردد: ألسنا نغامر حين نبحث عن الحقيقة؟ وهو ما رحنا نفتقده في كتب الفكر الرائجة ضمن تشابكات الخطاب العربي وضعضتعة بين الفكر الترجمي والاجتهاد الشخصي المحدود."
وعن الجانب الشخصي يقول ميري:
"أعترف بالمتعة والفائدة في ضوء تجربتي مع شعبان في الحوارات القاهرية ولياليها الساهرة العنيدة، الأمر الذي دعاني لمواصلتها حين ذهبت شخصياً إلى بيروت لاستكمال عمل هذه الحوارات والحرص على استحلاب ما تبقى من استكمال وتعميق واستخراج المزيد من فكر شعبان وفرادته في النقد الموضوعي والذاتي للآخر ولنفسه، أو معارضته للمنهج الفكري السائد دون تردّد ودون مجاملة، فالحوار اليوم نص أدبي ومنجز فكري قائم بذاته، وهو غالباً ما يكون مخزوناً ثرياً لايمكن ان يستهان به.
والحوارات بطبعها نوع من الاستبطان الذاتي والتخارج الموضوعي الذي يستثيره فكر القراءة بالدرجة الاولى، وهي نوع من الجذب والصد والأخذ والرد، وغالباً ما يفسح الطريق للمجذاف أن ينطلق عكس اتجاه القارب في بحر لا يكون له شاطئ نهائي. الحوارات أيضاً، نوع من السباحة التي لا يمكن حسمها أو تثبيتها في حركة تيارات الأعماق أو تقاطعات الأمواج مع نفسها، وهو ما حاولت استكماله في قسم مستقل وخاص أطلقت عليه حوارات بيروت، بعد أن شكلت حوارات القاهرة لديّ خزيناً أساسياً حاولت البناء عليه."
وفي تقييمه للتجربة الفكرية يضع خضير ميري خلاصات قراءاته حين يكتب:
" وكان شعبان ومازال مثيراً للجدل في تجربته الفكرية العراقية والعربية، عصيٌّ على التصنيف أحياناً، لاسيّما في الاصطفافات والاستقطابات السائدة، ولعلّ هذا ما حاولت إضاءته بحيث نصغي إليه مفكراً وناقداً وإنساناً، استثمر الفكر بالعمل وغامر وجاهر وانقلب وتمرّد لأكثر من مرة، وما زال متمسكاً بصميميته وهاجسه الأول والأخير هو الوصول إلى الحقيقة!
ولعلّ هذه الحقيقة هي أول الاشياء والمعتقدات التي لا يحتملها شعبان، أو لنتحدث بشكل أدق، أنه لا يأخذها على علاّتها. ولا يمكن الحديث بالطبع عن حقائق أو حقيقة واحدة في فكر متعدّد ومتنوّع، بل وشاسع، وهو فكرٌ ناضل وجاهد واختلف وتمرّد وتمرّس حتى تعدّدت وجوهه وأشكاله، وتقلّبت همومه ومشاغله، وصار جمعه نوعاً من العناء الذي لابدّ منه والذي كنت قد مررت به وأنا أسجل وأساجل وأحاور وأحاول وأشاكس، على طول جلسات غذّتها سماء في القاهرة وأخرى في بيروت، وعليّ أن أعترف بأن الكثير مما قيل هنا هو استعادة لما كان عبد الحسين شعبان قد فعله في قراءاته وبحوثه واطروحاته التى لا تعدُّ ولا تُحصى بسهولة، ولكنها استعادات تنظيرية تقع في مجال المنهج الوضعي النقدي الذي كان شعبان يمارسه على مراحل ودفعات ليست كلها مشفوعة بتنظيرات كافية، لهذا المنهج الذي مازال قابضاً على جمرة الماركسية الحيّة، وهو يريد أن يستخرج الأخطاء الثمينة من داخلها غير مكترث بنقد ذاته، بل والاسراف في نقدها نظرية وتطبيقا، مثلما لا يتوانى من نقد الآخر فكراً وممارسة، حتى وإنْ كان من داخل الماركسية، بل إنه يفعل ذلك على نحو "متطهّر" من "إثم" الماضي! ".
ويمضي ميري مستعرضاً الكتاب الحواري " تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف" حيث يقول:
" قد يستغرب القارئ عدد المحاور واختلافها في متن هذه الحوارات وغزارة الأسئلة والموّجهات النظرية التي حرصت على تفجيرها مع شعبان، وذلك عملاً بروح الفائدة العامة التي توخّيت من خلالها نوعاً من التداعيات الفكرية لشخصية شعبان المعرفية، ومحاولة أن أجلب من تجربته الطويلة والعريضة ما يقدّم من خلالها توازياً بين العيش والمشاهدة والقراءة والكتابة والفكرة والنظرة، دون أن أحجم السؤال البحثي أو أقطع التسلسل القولي والمنطقي.
ولابدّ لي أن أنوه بأن معظم هذه الحوارات، جاءت في بداية الأمر لدعم جهدي النظري الخاص للكتاب الذي مازلت أعمل عليه والذي يتناول "عبد الحسين شعبان: في النقد الماركسي للماركسية- من الراديكالية الانقلابية إلى الوضعية النقدية " وهو ماكنت عازماً على انجازه أولا، لولا إن فرصة الحوارات المباشرة ومانجم عنها من إطروحات خصبة ومهمة، وفرّت لي فكرة اصدار هذه الحوارات في كتاب مستقل يُيَسر للقارئ أن يطلّع على شعبان، بل يواجهه وجهاً لوجه، من خلال مشغل حواري يجمل الكثير من آرائه وأفكاره بأحوال الثقافة وأهوال الفكر ومتغيّرات الخطاب والآيدولوجيا والتاريخ الماركسي ونظريات القمع وفكر ما بعد الحداثة وصولاً إلى المرأة والجنس والدين والهوّية والاختلاف والمسألة القومية بشقيها العربي والكردي، وغيرها من هموم المشهد الثقافي العراقي والعربي والعالمي. وذلك من خلال انطولوجيا الحوار: معناه ودلالاته، ونظائره وتمثّلاته، ثم عبر أصواته وديناميته، وصولاً إلى الذات والتاريخ من خلال مقارباته، وهي الأقسام الثلاث التي تضمنها حواري مع شعبان في القاهرة وبيروت واستكملتها من خلال مراسلات واتصالات استمرت على مدى ثلاث أشهر."
ويختتم ميري مقدمته للكتاب الحواري بقوله:
" ولابدّ لي من الإشارة إلى أن الحوار مع شعبان لا يكاد ينضب أو يتحدّد أو يجفّ معينه، وما هذه الحصيلة إلاّ ما سمح به الوقت وما ساعدتني به الظروف المكانية والزمانية على استحصاله، وكنت قد حملت حقيبتي راحلاً عائداً إلى القاهرة، وحين مرقت السيارة التي تقلّني إلى مطار بيروت بمحاذاة شقته الكائنة في الدور السادس من بناية جانبية تلحظ من شرفتها الصغيرة الأنيقة بحر بيروت وألوانه المتميّزة، فشعرت بدقات قلبي تتسارع، فهذا الرجل الذي تجاوز الستين وعانى ما عانى، ما يزال يكتب كل صباح حيث يجلس على طاولة عمله منشغلاً كلياً بكلماته وحروفه ومعانيه، غير مبال بالتعب والسهر والانشغالات الكثيرة التي اختارته، لأن يكون واحداً من المفكرين القلائل الذين لا يصدّقون بالفكر على حساب الحياة، ولا يريدون للوهم أن يكون لهم صديقاً!!"
في خصائص الصعلوك
ليس بإمكان أي امرئ أن يكون صعلوكاً، أو درويشاً، فالصعلوك أو الدرويش يمتاز بموهبة، مثلما هو ذكاؤه، إنه محكوم بالظرف الدائم، قد يكون صعب المنال، لكنه في الوقت نفسه سهل ويمكن التواصل معه، حتى وإن كان أحياناً سهلاً ممتنعاً، بحضوره وبغيابه.
هذا هو خضير ميري يتحدّث بلغة أحياناً خارج طنين البلاغة، وهو يصطنع المبالغة أحياناً أخرى فيدهشك، وأحياناً يرجوك ألاّ تعترض على اختلاقاته وتوليفاته، فذلك ضمن عدّة العمل ودع الأمور تمشي. إنه يعرف محدثه على نحو بارع ولديه جرأة مبهرة، ولكنه في الوقت نفسه يعرف المزاج، سواءً اتفاقاً أو معاكسة، سلباً أو إيجاباً، إنه يشكّل نموذجاً كاريكاتورياً جديداً وقديماً للمثقف الصعلوك الدرويش، والمسكون بهذا الهاجس، والمحكوم بقواعد غير مألوفة وأحيانا غريبة، وبسرعة بديهة.
إذا استشعر خضير ميري على تواضعه وبساطته وتسامحه، ثمة استهداف فيميل إلى الصمت أو إلى الانسحاب، قد يداري أو حتى يداهن، ولكن كل ذلك لحين، ثم سرعان ما يشاكس ويتغالظ، بل ويبتكر التنغيص. وقد حدّثني عن جلسة قاهرية شبه رسمية دخل عليها بعض الدخلاء، فقرّر ميري أن يقلبها نكداً.
وبقدر إخلاصه في الود، فإنه لا يقبل الاستغفال أو الاستغلال أو الإذلال، وللأسف حاول بعضهم استثمار سماحته وطيبته للنيل منه أو لتحقيق مآربه، لكنه ظلّ عند مواقفه متسامحاً ولا يميل إلى العنف ولا يسعى إلى القطيعة، حتى وإنْ جاءته إساءة بالغة، فسرعان ما يغفر وينسى.
وحين ترسخت مكانته في القاهرة على الصعيد الثقافي والفكري وتعزّزت صداقاته مع أدباء كبار مثل محمد عفيفي مطر وجمال الغيطاني، حاول وزراء وسفراء ومسؤولون عراقيون استدراجه بوسائل مختلفة للكتابة عنهم أو الإشارة إليهم في عمود أو صحيفة أو مقابلة ووعد بعضهم أحياناً، ولكنه يعرف كيف يزوغ وكيف يتملّص، وكيف يخلف المواعيد، ولديه عشرات الحجج الجاهزة، خصوصاً إذا شعر إن ثمة في الأمر ضرورة، وأحياناً كتب بالضد وبعد حين كتب بالإيجاب، فقد أثّر فيه بعض العتب، ولكنه لم يبتعد عن النقد. ولأنه كان مقروءًا، فقد كان هناك من يسعى إليه، أو يحاول معه أو يقدّم له وعود وإغراءات.

القاهرة والصعلوك
تستمر معرفتي بالقاهرة لأكثر من نصف قرن، فقد زرتها أول مرة في العام 1965 في شهر شباط (فبراير) في إطار سفرة جامعية، ثم في العام 1969 ضمن وفد طلابي، وبعدها في مطلع العام 1971 لحضور مؤتمر بمناسبة ميلاد جمال عبد الناصر بعد رحيله بأربعة أشهر، وفي العام 1974 كانت زيارتي شخصية باستضافة من الصديق حازم النعيمي، وبعدها انقطعت حتى أواخر الثمانينات، بسبب الأوضاع العامة، وما كتبته عن كامب ديفيد والصلح المنفرد وزيارة السادات إلى القدس.
ولكن زياراتي منذ أواخر الثمانينات لا تعدُّ ولا تُحصى، فقد كنتُ أحياناً أزورها في الشهر مرتين وصادف أكثر من ذلك، وعلى نحو تقريبي كانت زياراتي كل عام بين 4-5 زيارات، كما أقمت فيها عاماً ونيّف خلال عملي كمدير عام لقناة البغدادية الفضائية، ولهذا أستطيع أن أجزم بحكم معرفتي بالقاهرة وبالأجواء العامة والثقافية بشكل خاص، أنه لم يكن لشخص حضور في القاهرة، بل ونفوذ فيها مثل خضير ميري، والأساس هو صعلكته المحبّبة التي استهوت أوساطاً غير قليلة ثقافية وأدبية وفكرية وسياسية ، رسمية وشبه رسمية وشعبية، من الأعلى وحتى القاع، وبالعكس. وقد لا يكون غريباً والحالة هذه أن تنعي وزارة الثقافة المصرية رحيله. ويكاد يكون الوحيد من العراقيين الذي حصل على عضوية اتحاد كتاب مصر وعضوية أتليه القاهرة وعضوية الجمعية الفلسفية المصرية.
انطلق ميري في القاهرة، وخلال سنتين أو ما يزيد على ذلك، حتى أصبح نجم المحافل الفكرية والثقافية، خصوصاً بعد أن عرف خفايا القاهرة وخباياها. والقاهرة وإنْ كانت مدينة مفتوحة، لكنها صعبة وليس من السهولة الوصول إلى عمقها ومكنونات روحها. إنها تختبر القادم جيداً وتمحّصه وتقلّبه وتستفزّه، وإذا ما استطاب لها تصالحه وتصادقه، بل وتؤاخيه . كل ذلك بعد أن تتأكد أنه جدير لكي تكشف له عن جميع مفاتنها وتطلعه على أسرارها، ثم تتبسّط معه، بل وتفتح ذراعيها لاحتضانه، وتداعب شعره وتتغزّل به، ليتماهى هو في عشقها الأسطوري.
وبقدر ما أعطت القاهرة لخضير ميري، وهو كثير، فقد أخذت منه، وهو ليس بقليل، حيث زادت عادته السيئة سوءًا، وإذا هو كان يسهر في العادة، فإن القاهرة لا تنام، بل تشعر معها وكأنها تحتقر عادة النوم أو ضرورته، لدرجة أنها تهجوه. وإذا كان يدخن علبتين سكائر فقد أخذ يدخن ثلاثة ،وإذا كان لا يتعاطى بعض أنواع "الكيف" إلاّ نادراً لأنه كان محرّماً في العراق وتصل عقوبته إلى الإعدام في النظام السابق، فقد أصبح مثل هذا الأمر متاحاً لاحقاً، مثلما هو في القاهرة، أما المشروب فقد كان يتغنّى به لدرجة، سألني ألا يمكن وضع مخصص من العرق أو الخمور في الحصة التموينية، أو تأسيس وزارة للعرق؟!
تردّد خضير ميري على على مجالس الظرفاء وأوكار الفكاهة والمجتمع الجوّاني، مثلما عرف النخبة ومجتمع الهاي لايف. ولم يكن يبالي باللقاء بنجم مشهور أو مفكّر أو أديب أو فنان من كبار القوم أو شخص عابر أو مجهول في مقاهيها وحاناتها، من المطعم اليوناني الذي عرّفته عليه واستهواه كثيراً، إلى مقهى ريش الذي كان يتردّد عليه مع آخرين، إنْ وجد من يغطي طلباته، لأنه غالي نسبياً، إلى لاغريون La grillon وهو مطعم طريف وحانة شبه شعبية يعرفها مثلما أعرفها وتردّدنا عليها مراراً لاعتدال أسعارها، ولحضور الفنانين والفنانات إليها كل يوم ثلاثاء مساءً، إلى الفيش ماركيت Fish Market الذي كنت أدعوه عليه مرّة على الأقل خلال وجودي في القاهرة، وعندما عرّفته بأحد الأصدقاء السعوديين وهو يوسف مكي، اصطحبه إليه وتكرّرت الحالة.
لكننا فوجئنا ونحن نأخذ قنينة العرق اللبناني " البران" اللذيذ معنا وعلى سطح المطعم، إن المطعم امتنع عن تقديم المشروبات الروحية واكتفى بالغازية، والأمر لا يتعلّق بفترة حكم الأخوان المسلمين، وإنما قال لنا أحد الشغيلة: إن الله هدى صاحب المطعم إلى الطريق القويم، فنظر كلٌ منا ومن معنا بوجه الآخر، ولا أتذكّر من علّق بأن طريقنا لا زال طريق الرذيلة، فاعترض خضير ميري، بقوله لاحظ كيف فرغ المطعم، فقد كنا نحجز قبل ذلك ولا نحصل على الطاولة التي نريد، أما الآن فالنادل قال لنا أين تريدون الجلوس فيمكنكم ذلك؟ وكانت العادة قد جرت على إننا نأتي بالمشروب وندفع عنه رسوما للمطعم.
قرّرنا مغادرة المطعم وألغينا الطلب الذي اخترنا فيه أنواع السمك والمقبّلات، وذهبنا إلى حانة أخرى، لكن خضير ميري لم يكتفِ بتلك السهرات التي كانت تنتهي قبل الحادية عشر مساءً في أكثر الأحوال، فيتسلّل بزعم إن طريقه غير طريقي، ليعبر الشارع لكي يأخذ تاكسي بالاتجاه المعاكس، وينتظر مغادرتنا ، فيعود للبحث عن بارات رخيصة تقدّم الخمور الرديئة والسكائر المحلية الزهيدة الثمن، وكنتُ أخمن ذلك، وقد اختبأت مرّة وسرتُ بعيداً عنه، وعرفت إلى أين اتجه، وحين دخل إلى حانة متواضعة، انتظرت لخمسة دقائق، فلم يخرج منها، وعرفت أنه بعد ذلك بقي فيها حتى الثالثة صباحاً.
قلتُ له في اليوم الثاني، لقد اضطررت بعد عدم حصولي على تاكسي، المشي لعدّة مئات من الأمتار ووصلت إلى حانة، ليس لها اسم، ولكنها قريبة من ميدان طلعت حرب، وطلبت لنفسي كأساً وجلست فيها لنحو ساعة. نظر في عينّي وحرّك نظارته وارتسمت على وجهه ابتسامة فيها شيء من المكر، وقال صحيح، لكنك أخطأت، قلت له: كيف؟ قال: لقد بقيت أنت إلى الساعة الثالثة، وليس إلى حوالي الثانية عشر، وطلبت ثلاثة كؤوس، ثم أخذت بالغناء لأم كلثوم وعبد الوهاب. وقد كنت آخر من غادر الحانة.
ضحكت، فقال كنت أقول مع نفسي: هل هذا المتمرّس بالعمل السري الذي ينصحني بعدم الإفراط في الشرب، ويدفعني للعودة إلى المنزل قبل الساعة الحادية عشر، يخفى عليه إنني كنت أتسلّل من وراء ظهره لأستكمل المقسوم، وفي كل مرّة كنت أتلفّت خلفي، فلربما لم تنطلِ الحيلة عليك، حتى وصلت إلى قناعة منذ حين، فطمأنت نفسي، إلى أن ذلك قد لا يكون اهتمامك، وإنك لا تعرف دروب الدراويش والصعاليك، وإذا بك تكتشف الحيلة.
وقال لي حين جئت إلى بيروت وهي سفرة الإبداع والانتاج والجمال كما يطلق عليها، كنت توصلني بالسيارة إلى الفندق وتوصيني بعدم مغادرته خوفاً من حوادث قد لا تحمد عقباها، خصوصاً وإنني لم أعرف البلد من قبل، وكنت تأتي في الساعة الحادية عشر صباحاً، لاصطحابي إلى حيث عملنا بصورة مشتركة في تلك الحوارات الرائعة، قد تكون أنت مطمئنا إلى أنني لم أغادر الفندق، ولم يمس أحد عذريتي، لكنك ما إن تحرّك السيارة ، حتى أستدير أنا من التوجّه إلى الفندق الذي وضعتني في بابه، إلى حانة بالقرب من شارع السادات، كنت قد عرّفتني عليها، ويقصد "جدل بيزنطي" أو بار ايلي (اليساري التاريخي) المعروف، والذي يتردّد عليه يساريون من ذلك الزمان كما قلت لي، لأقضي وطراً من الليل، حتى يحين الهزيع، فأغادر وكل رئتي مملوءة برائحة الخمر والبحر.
قلت له أيها الملعون كل ذلك كان يحصل وأنا المغفّل.. قال إنها حياة الصعاليك، عشق الحياة بكل مساماتها وبكل دقائقها وتفاصيلها. مثلما كان النيل يسحره فقد سحره البحر المتوسط، البحر الشاسع والممتد والأزرق والعذب، سواء حين كان هادئاً أو عندما يهيج، كان خضير ميري يلوذ به.
لم يترك مجالاً في القاهرة إلاّ وطرقه، لقد أصبح أحد فرسان القاهرة الذين لا يشقّ لهم غبار، فمن الصحافة والتلفزيون إلى السينما والنقد السينمائي، ومن الأدب والفن والفلسفة، إلى السياسة والحدث اليومي، لدرجة أصبح مرجعاً لكثير من هذه الأمور. ولم يكن ميري محاطاً بعشرات الأصدقاء، بل كان الكثير منهم ينتظرون دورهم في صداقته، سواءً عرفوه أو سمعوا عنه أو قرأوا له... كل ذلك في غضون سنتين ونيّف. ومن يصل إلى القاهرة من العراقيين ولم يلتقِ خضير ميري، كأنه لم يشاهد ركناً من أركان القاهرة. علّق أحد الأصدقاء قائلاً أربعة معالم في القاهرة، لا بدّ من زيارتها: الأهرامات وبرج القاهرة (والأزهر وخان الخليلي وهما متجاوران مع سيدنا الحسين) وخضير ميري.
كان الكثير من الأدباء والإعلاميين المصريين يتقرّبون منه ويتودّدون إليه لبساطته ولحديثه الذي له مذاق لذيذ مع مبالغات شائقة. وقد أجاد اللهجة المصرية، وأخذ أحياناً يناقش فيها. وكان الأصدقاء الذين يتعرّف عليهم، سرعان ما يدعون أصدقاء جدد، وهكذا كانت دائرته تتّسع، حتى إنه في مرّة من المرّات عند تجديد إقامته سأله الضابط، من أين لك كل هذا العدد من المحبين والندماء؟ قال له بسرعة بديهة: إن المصريين جميعهم ندماني، لأنهم جميعهم ظرفاء وودودين و"جدعان"!
لم يكسب ميري أصدقاء لنفسه، بل كان في كل زيارة يجلب لي أصدقاء جدد، هو يعتقد إنه سيكسبهم لي، حتى وإنْ لم أرغب، بل كنت أمانعه أحياناً، وفي مرّة اعتذرت منه بزعم موعد طارئ عنّ لي، فأحياناً يحرجني ببعضهم، معدّداً صفاته ومزاياه، ولكن بعد فترة يطلب مني أن أنساه ولا أضعه في مفكّرتي، خصوصاً للوسط العراقي. وفي أحد المرّات وبعد الانتهاء من ندوة لي في القاهرة اصطحبني إلى بيت سيّدة لبنانية، وقال لي إن بنتها شاعرة، وهي تريد أن تقرأ على مسامعك ، ولا أدري كيف تخلّصت من هذا المأزق بعد نحو ساعة أو أقل من تلك الزيارة التي وضعني فيها أمام الأمر الواقع، وكان قد دعا واحداً من معارفه أو أكثر إلى تلك الأمسية. هكذا يتصرّف ميري بطريقة عفوية أو مقصودة، وأحياناً بدلاً من أن يكسب لك أصدقاء جدد، فإنه قد يجلب لك أعداء أحياناً.
مجلة الحداثة وما بعد الحداثة
دعاني مرّة مع مجموعة من الأصدقاء في مكتب أحدهم وهو ناشر وإعلامي يُدعى إلهامي لطفي بولس، وفاجأني حين طلب مني إدارة الجلسة، والموضوع إصدار مجلة الحداثة وما بعد الحداثة، وهو ما كنّا قد ناقشنا في أهمية وجود مجلة تعنى بذلك، وقد نسيت الأمر لأنه كان في سفرتي السابقة إلى القاهرة، فما كان منه إلاّ أن هيأ لمجموعة تبنّت الفكرة وأقنعهم بأنني صاحبها، وأبدوا هم استعدادهم للتمويل الذاتي، واقترح هو في نهاية المطاف مع أحد الأصدقاء هيئة تحرير بإشرافي، وأن يكون هو رئيسها وبولس رئيس مجلس الإدارة وعبد الناصر الدشناوي مديراً للتحرير وأشرف عزمي سكرتيراً للتحرير .ووضع نائباً له (الكاتب حسن متعب – العراق) وعدداً من المستشارين بينهم عراقيين ومديراً للشؤون الثقافية الدولية (الشاعر سعد جاسم). لم أستطع أن أنبس ببنت شفة، فقد كان قد هيّأ كل ذلك واعتراضي سيعني خذلاناً له.
لكن ملاحظاتي الاعتراضية أوردتها بطريقة أخرى، هو أننا إذا لم نستطع إيجاد تمويل لستة أعداد على الأقل (كل أربعة أشهر عدد، أي لسنتين) فالأفضل ألاّ نبادر إلى إصدارها، وتعهد هو وبلغة الواثق بأن التمويل ليس مشكلة، ولكن المهم أن نصدر العدد الأول، وكتبت افتتاحيته، وزخر العدد بموضوعات مهمة ومثيرة وساهمت فيه نخبة متميّزة، ولقي اهتماماً مصرياً كبيراً لدرجة أقرب إلى الاحتفالية، وبدرجة أدنى عربياً ونشر عنه في العراق كذلك، لكننا لم نستطع الحصول على تمويل، وليس بالإمكان إصدار عدد مع الحصول على سلفة، وهكذا توقّفت المبادرة المهمة، كما هو متوقّع.(علماً بأن العدد الأول واليتيم صدر في حزيران /يونيو العام 2010).
ليس مألوفاً وليس مقبولاً مصرياً، بل أكاد أقول من معرفتي بالجو المصري، يكاد يكون الأمر مستحيلاً أن يكون عراقيان في صدارة مجلة ثقافية وفكرية تصدر في مصر، والأغرب أن يموّلها مصريّون. قد يكون ممكناً ثمة سعوديين أو كويتيين مع إدارة مصرية، ولكن التمويل سيكون خليجياً والوظائف مصرية. كان الأمر استثناءً، ولكنه استثناء لا أظنه يتكرّر، وهو استثناء لخضير ميري وحده دون سواه، وأقول ذلك من تجربتي مع العديد من المنظمات العربية والدولية العاملة في القاهرة،والتي ساهمتُ فيها لسنوات، فكل شيء يمكن أن يكون مقبولاً إلاّ إدارتها وموظفيها وتمويلها.
الحرفوش وعناقيد السخرية
كان خضير ميري صعلوكاً على غرار الصعاليك الشعراء النبلاء عروة بن الورد وصحبه، خفيف الظل، متوقّد الذهن، لا يكلّ ولا يملّ عن اللف والدوران، ويجد في ذلك متعة أحياناً، يوقع في شركها بعض " الجادين" المزيفين، أو كما يسمّيهم الذين يلبسون وجه الجدّية، مع أن وجوههم لا تعبير فيها، وهم فارغون بامتياز.
يحبّ خضير ميري التجريب والتغيير، ويميل إلى التقريب، وليس إلى التخريب، وإلى التواصل والتفاعل، بدلاً من التباعد والتنافر، ومع ذلك فهو مع الشيء وضدّه أحياناً، إنه حمام شارد من سرب الطيور، فقد خرج على المجتمع وقوانينه وأعرافه، ويريد أن يظلّ هائماً حد التيه، وكلّما عنّ عليه عش إلتجأ إليه، ولكن سرعان ما يملّ ويجزع.
إنه أحد الحرافيش المسكونة بالادعاء والهوس والهوى، وهو عدو النمطية والرتابة والوقار، ويتحايل أحياناً على قدره الغاشم، ويتغافل مع حظه التعيس، ولكن ببهجة وفنون من الضحك، بل وعناقيد من السخرية، حتى وإنْ كانت حزينة، وهل توجد سخرية حقيقية دون الحزن، ستكون سطحية وجوفاء، وحسب ماركس فإنه هو القائل" إنني أقف مما هو مضحك موقفاً جاداً".
خضير ميري لا يصطنع الضحك ولا يتكلّف بإنتاج السخرية، إن ضحكته الصافية النقية كانت تمزّق الوقار وتفضح الزيف، يلقيها حتى وإن كان باستهتار وبمروق وبوهيمية وفوضوية، لكنها مؤثرة وهادفة، وكان كثيرون يتحاشونها. لا يتحوّط في بعض الأحيان فيلقى ما يغضبه، حتى وإنْ كان فطناً، ولكن تفوته أشياء كثيرة، وأحياناً يستخف بما هو سائد.
في العشق
قال لي مرّة ألا تتعب من العقلانية والإتزان والاعتدال؟ قلت له أتقصد أن أتجه إلى الصعلكة؟ قال لي لم أرغب أن أقولها، فأنت في داخلك صعلوك، لكن ظروف حياتك وانخراطك المبكر بالعمل السياسي والفكري قد حال دون ذلك... وكان ينتظر الجواب مني ... قلت له: الصعلكة نمط حياة ومنهج فلسفي ورؤية وجودية، أتريدني أن أكون صعلوكاً مدّعياً أو متكلّفاً أو مزيّفاً، حينها سوف لا أكون صعلوكاً حقيقياً، لأنني سأكون طارئاً وملفّقاً. ولكنني فاجأته، بل وأرحته حين قلت له نعم في أعماقي شيء صعلكة: إنني صعلوك في العشق، فالعاشقون أمة واحدة ودين واحد،وهذا هو الله حسب المتصوّفة.
"انظر بقلبك
وستعرف إن كل ذرّات الكون في رقصة عشق أبدية
ستعرف أنها تتلمّس العاشقين فتعرفهم"
وأضفت مناوراً معه في لعبة يستحليها ويستطيبها: قلبي هو دليلي كما يُقال، لكنني حسب محمود درويش: لا أتذكر قلبي إلاّ إذا شقّه الحب نصفين أو جفّ من عطش الحب. وأقول الآن: إن قلبي لم يتعب من فعل الحب، بل أراد أن يجدّد نفسه ويفسح في المجال للعشق، ليكون قادراً على استعادة حيويته المعهودة.
في العشق أنت صعلوك، عليك أن تذهب إلى النهاية، أن تمضي دون توقّف ودون التفات، فنور العشق تسلّل إلى داخلك وبنوره أنت تهتدي. حين تدخل بستان العشق تتعطّر بالبهجة والحبور، وتزدان بكل الأطايب وتنغرس فيك المحبّة بلا حدود.
وفي العشق لا توجد أنصاف حلول أو مساومات، أنت عاشق يعني إنك متماهيٌ مع المعشوق في وحدة لا انفصام فيها، ليس هناك نصف عشق أو نصف حب، هناك حب وهناك عشق، وليس هناك أنصاف حب أو أنصاف عشق أو نصف تماهي. تلك هي صعلكتي الحقيقية، بل ذوباني، وهو نوع من التمرّد على المألوف، حين تجد صورتك في صورة المعشوق، فهو أنت ولكنك فيه، وهو فيك ولكنه هو.
قال بعد أن استمع لي وأنا مندمج: كأني أراك تريد منافستي على الفلسفة أيضاً، يكفيك القانون والدساتير والأديان والحقوق والعلاقات، أتلحقني على فقري وبؤسي؟.
عن باقة الصعاليك
حكيت له القصة التي رواها لي الشيخ الجليل حسن النهر، وكان جليساً أنيساً ومحدّثاً وإنساناً كريماً وراقياً.. جالسته منذ مطالع السبعينيات في الشام حين كان يتردّد عليها. وكنّا نلتقي في مقهى الفاروق بصحبة تلك الأيام، ففينا من اللجنة المركزية والقيادة المركزية وجيش التحرير الشعبي الذي تأسس في العام 1974، والحركة الاشتراكية والبعثيين اليساريين وآخرين، كنّا نتحلّق حول حسن النهر (الذي قتل نجله معين في مواجهة مسلحة مع السلطة وأعدم نجله الثاني ظافر). قال النهر: في يوم من الأيام شعر حسين مردان إن صحته ليست على ما يرام بل أخذت تتردّى، فأخذه النهر إلى الطبيب،وبعد التحاليل والفحوصات، كانت النتيجة إن حسين مردان يعاني من فقر الدم، فضحك حتى كاد يختنق وعندما سأله الطبيب لماذا فأجاب: لأن الفقر لحقه إلى الدم. ثم أعطاه وصفة طبية وبضع نصائح منها : عليك بالإكثار من أكل الكبدة (المعلاق) واللحوم والزبدة والحليب والعسل والفواكه والخضروات، لكي تتخلص من الدوخة وفقر الدم، فضحك مرّة أخرى، قائلاً لو كنت أتمكّن من تناول كل هذه المأكولات، أتظن إن فقر الدم كان سيتربّص بي ، لكنه وجدني خالي الوفاض فتسلّل إليّ ليكمل الحال: فقير في كل شيء.
ويعتبر ميري فقير في كل شيء، مع حظوظ تعيسة، وقد روى لي إن خليفة ما أقطع أحد الأدباء أو الفلاسفة قطعة أرض، فنزلت صاعقة عليها وأحرقتها، وقال إن المصريين ينكّتون: "الليّ يخاف من العفريت يطلع له" (يطلعلو). ثم علّق: عمّي أنا قابل اعطوني قطعة أرض ولتنزل عليها صاعقة، فعلى الأقل أقول كان لديّ قطعة أرض.
هكذا كان يشعر أن سوء الحظ حليفه، وإن طالعه منكود، وأيامه مطعّمة باللعنة، وإن الدهر لا يتركه حتى يصرعه. قلت له لا يهمّك فسوء الحظ والصعلكة سمة العباقرة، فهذا هو المتنبي ألم يكن ساخراً وصعلوكاً ومغامراً، ألم يكن الجواهري يعاني وعاش حياة أقرب إلى الصعلكة والعشق والتماهي مع الشعر. أليس رامبو صعلوكاً؟ كيف جاب البلدان ووصل إلى عدن، حين ردّد قبل أن يترك باريس: لقد بُليت سراويلنا من مقاعد الدرس.
وهذا بيكاسو أحد أهم الصعاليك وكذلك سلفادور دالي، تم تذكّر معي من المصريين ألم يكن عبد الرحمن الخميسي صعلوكاً ومحمود السعدي وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم . هل تنسى عزيز السيد جاسم، وقد أخبرني صلاح عمر العلي، بأن أبا خولة (السيد جاسم) كان يأتي لمنزله، يسكر ويتعشى، ثم يبدأ بشتم التكارتة حتى النفس الأخير قبل أن يغادر .
وبلند الحيدري، كان عمّه وزيراً، وقد أراد إحراجه، فأتى بطاولة ونصبها مقابل الوزارة ليعمل عرضحالجي (كاتب عرائض ) كجزء من التمرّد، والبياتي كان صعلوكاً على مستوى عالمي من دمشق إلى القاهرة ومن موسكو إلى مدريد وحتى عمان ودمشق ليدفن بالقرب من ابن عربي، وقد جرّب كل فنون الصعلكة، ثم هناك الصعلوك الكبير الحصيري وهو القائل:
أنا الإله وندماني ملائكة
والحانة الكون والجلاّس من وجِدوا
وكانت مقالبه ومقالب الآخرين معه، حديث بغداد في الستينات وحتى أواسط السبعينات. ولديك سعدي يوسف أحد كبار الشعراء الصعاليك النبلاء. ألا تعرف الشاعر وليد جمعة فقد كان حمل فيروس السل في صدره لعقود من الزمان، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ قد يكون مبدعون آخرون، لكنهم لم ينالوا شهرة مثل هؤلاء الصعاليك. وبالمناسبة فقد رحل وليد جمعة قبل بضعة أشهر وأعدُ القراء بأنني سأتوقف عند حياته وإبداعه وصعلكته، فهو شاعر مبدع وهجّاء كبير وأحتفظ بعدد من الرسائل له أحاول نشرها.
كان خضير ميري بصعلكته همزة وصل بين كثيرين، وأحياناً بين أعداء يجمعهم على طاولة واحدة، فقد كان ريحانة المجالس وزهرة الحضور أو مزهرية الموائد، ولأنه لم يسع إلى منصب ولم يفكّر في مكانة، وهو لا ينافس أحد فقد كان الجميع يريدونه، حين وإن كانوا يريدون خصومته، لأنهم يريدون أن يكون إلى صفهم، وهو إلى صف نفسه يسخر من الحياة والزيف ويتعقّب السأم والرتابة، بالمقالب والسخرية.
يمتلك خضير ميري حافظة هائلة، فهو يقرأ ويردّد أحياناً مع نفسه ويكون أقرب إلى التهجّي وبعدها تشعر وكأنه حفظ جملة أو قام بتوليفها عند نسيانه، ولأن جزءًا كبيراً من ثقافته سمعية، وشفاهية، وهو ما يبدو في مرحلتها الأولى، فقد انطبعت الحروف والكلمات في ذهنه من خلال الأذن، وإذا كان السيد المسيح قد قال في "البدء كانت الكلمة"، "فأول الفلسفة سؤال"، وهذا يعني الانتقال من النطق إلى الأذن، والأذن حسب فيورباخ الذي كان حسيّاً هي الأولى، التي تنقل من اللسان إلى الدماغ، وهذا هو الذي يصدر الأوامر، وبالتالي يكوّن المنظومة السلوكية للإنسان ومعه القلب، وهكذا كانت ثقافته.
وحين يكتب يسترسل، وأحياناً بدون توقّف وبجمل طويلة، وكأنه يستكمل موضوعاً برأسه، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة صياغة وتقطيع للجمل ووضع الفوارز وعلامات التعجب والاستفهام، وتلك هي دالاّت على المعنى والمضمون، بقدر ما هي جماليات للكتابة وتناسق وهارموني في المبنى والشكل.ولهذا ابتُدِعَ في الغرب وظيفة خاصة بالتحرير، فحتى كبار المؤلفين، هناك يوجد من يحرّر لهم ويقوم بوضع اللمسات الأخيرة في كتبهم وكتاباتهم وأعمالهم.
أحياناً يوحي خضير ميري لمستمعه، وهو محدث لبق ومعلّق وناقد في المؤتمرات والندوات ومقدّم لبرنامج وإدارة جلسات، ما تختلط فيه الحقيقة والاختلاق، وما يتداخل فيه الجد والهزل، والوقار والفكاهة. وكان بحق المغرّد الصدّاح في المجالس الأدبية والفكرية والثقافية وبجلسات السمر، خصوصاً إذا لا يوجد هناك من يناكفه ويحاول إطفاؤه.
خضير ميري وأيام العسل والجنون
عاكسته مرّة حول السجن والجنون بالقول: أتراك كنت تقلّد بطل فيلم نسيت اسمه؟ لرجل ضاقت به سبل العيش وأضناه البحث عن عمل في الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينات، فقرّر دخول السجن والقيام بعمل غير مشروع، فيلقى عليه القبض متلبساً بجريمة، لتكون مسوّغاً له للحصول على المأوى والمأكل وفق مبادئ المساواة.
أخذ بطل الفيلم السيارة من سائق ووجهها نحو زجاج متجر هاروتز الشهير في حي نايتسبريدج Knightsbridge في لندن، لكن الزجاج لم ينكسر، فلم يغادر المكان ولم يهرب وظل بانتظار وصول الشرطة لإلقاء القبض عليه، ولكنه فوجئ بالمدير يشدّ على يده، ويقدّم له الشكر وسط استغراب مثير، مع تعليق ظريف من مدير المتجر الذي خاطبه: شكراً، لقد أنقذت المتجر من الغش لأنه أراد أن يجرب هل يمكن كسر زجاج المتجر الجديد ولم تكن لديه وسيلة لذلك، حتى جاءت صدمة السيارة لصاحب الحظ العاثر. أكانت تلك بالنسبة لخضير ميري بالفعل أيام العسل والجنون أم ماذا؟. جدير بالذكر أن المتجر امتلكه المصري محمد الفايد العام 1983 الذي قتل ابنه دودي الفايد مع خطيبته الأمير ديانا والدة الاميرين ويليام وهاري من زوجها جارلس.
قال لي: يا رجل أتنكر عليّ فعل الجنون؟ هذه التجربة ساعدتني على الانتشار والدعاية لنفسي وما زلت أعتاش عليها، ثم أردف بالقول: إن العقل العربي هو أقرب إلى الجنون، لكن جنوني جنون أبيض، في حين أن هناك جنوناً أسوداً متوحشاً وقاسياً. استذكرت هنا كتاب ميشيل فوكو " تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الذي صدر في العام 1961 وفيه انتصار للجنون والمجانين، وكتاب ممدوح عدوان "مقدمات دفاعاً عن الجنون".
يقول ممدوح عدوان :" نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين . وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكرّرة ... ومملّة " ثم يدافع عن الجنون والحاجة إليه بقوله :" نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقّل والجبن واللاّمبالاة ، فالجميع راضخون ينفعلون بالمقاييس المتاحة .. ويفرحون بالمقاييس المتاحة .. يضحكون بالمقاييس المتاحة .. ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة... لذلك ينهزمون بالمقاييس كلّها ولا ينتصرون أبدا. " ولعل ذلك يذكّر بأسطورة الملك العاري الذي طلب ممن حوله امتداح ثيابه فأطنبوا وحين خرج إلى الناس صرخ طفل ولكنه عارٍ.. عارٍ تماماً، ولو كان الطفل كبيراً لاتهم بالجنون.. "كانت صرخته فاضحة للملك وللحاشية وللمتملقين وللخائفين.
صنع خضير ميري من الجنون أدباً وفلسفة حياتية، ويقول هو أنها ساهمت في رفع معنويات المرضى النفسيين. لقد كتب ميري عن الجنون مدافعاً ومنافحاً، لم يكتب عنه من الخارج، كتب عنه من الداخل كتابة كارثية فوق المألوف. مروّجاً لحريته في مستشفيات الأمراض العقلية، حيث لا يخاف من أحد، وحسبما يقول عندما تفكر بالجنون نفسه ستكون آمناً، لأنك حيث يكون الجنون موجوداً، تكون أنت.
يقول إنه بعد الجنون زادت شهوة الحياة لديه، فأخذ يدخن كثيراً ويشرب كثيراً ويتزوج كثيراً، بل أخذ يتطرّف حتى في كتابته وقراءته. ويتناول ميري العالم التحتاني وما هو معلن وسري بكل شرائحه وأطيافه الاجتماعية، من اللوطيين والقوادين والسماسرة إلى المهربين والمكبسلين في مقهى السيكوتين، وهو عالم التسعينات العجيب، كما يصفه.
إن شخصيته البوهيمية بقدر إهمالها بعض الأساسيات فقد كانت تنشغل بنفسها أيضاً، وتبحث من حيث لا يدري الإنسان عن الشهرة بازدراء بعض القضايا، وخضير ميري عاش ظروف حياة متقلّبة من ترك الدراسة إلى السجن ومنه إلى مستشفى الأمراض العقلية، وفي السجن وفي الشماعية اكتشف ميري حياة أخرى، كان هو الممثل الأوحد فيها، فإما أن يكون هو المجنون في وسط عقلاء ثقلاء، أو العاقل الظريف وسط مجانين حقيقيين. هو المجنون ذو العقل الكبير أو بدونه.
تذكّرنا حياة ميري بفيلم "طيران فوق عش الوقواق" وهو قصة لمؤلفها كين كيسي تتحدث عن معاناة العاقل وسط جنون عام، لكنه بعد حين اكتشف إن الذين في المستشفى هم العقلاء، أما من هم خارجها فهم المجانين. كيف كان هؤلاء يعانون من ظلم واضطهاد بعد الممرضات، وكيف يحتالون عليهن وعلى الأطباء، ويتظاهرون عكس ما يبطنون، وهو بالضبط ما عاناه خضير ميري، حقيقة واختلاقاً، لكن الطبيب الذي كان مشرفاً على المستشفى والمقصود بذلك باهر سامي بطي، بعثه الله له هديّة من السماء، فتفهّم ظروفه وقدّر ملاحقته واستوعب قسوة حياته الصحية والشخصية، وقام بمصادقته حيث أخذ يجلب له بعض الكتب وأعطاه غرفة تحت الدرج، بل وأخذ يأتي إليه بأرباع قناني العرق بين الفينة والأخرى. وكلّما كانت تشتدّ حملة الاعتقالات أو السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، حيث كانت الحروب مشتعلة طيلة الثمانينات والتسعينات، كان خضير ميري يزور المستشفى ليبقى فيها عدة أشهر أو عدة أسابيع لتنجلي الأزمة.
وإذا كان قد زار بصحبة والده مستشفى ابن رشد ولم يتجاوز عمره الأربعة عشر عاماً، حين كان يشكو من قلّة النوم والأرق المزمن والأسئلة الكبيرة، بل والحارقة، الأمر الذي اقتضى عرضه على إحدى مستشفيات الأمراض النفسية، واتّضح أن كثرة مطالعاته والتساؤلات المزدحمة في رأسه هي التي تحول دون استرخائه ونومه، خصوصاً وهو مراهق ومحروم وفي مطلع شبابه، ولذلك فإن الزعم بكونه مجنوناً عند اعتقاله وهو طالب في الكلية كان أمراً يقترب من التصديق، فما بالك حين لعب دور المجنون ببراعة وحنكة طيلة نحو ثلاث سنوات قضاها في زنزانات الأمن العام ، خصوصاً وقد أقنع اللجنة الطبية المعتمدة بذلك، حين حاولت فحصه، فتوجه ليمسّ سلكاً كهربائياً، ألقاه أرضاً، الأمر الذي أعفته اللجنة من المعاينة بعد أن تأكدت إن ما يقوم به أكثر من مجنون، ومثل هذا الدور رافقه حين مكث في مستشفى الأمراض العقلية الشماعية، وشهادة ذلك موثقة من الدكتور باهر سامي بطي مدير المستشفى وقتذاك، وقد أدرجها في كتاب " أيام العسل والجنون" في طبعة القاهرة، عن دار المدبولي.
ويتحدّث الدكتور بطي عن توحّد الزمان والمكان في تلك البقعة من العالم (الشمّاعية) حيث حاصر الموت 1500 مريضاً حين اشتعلت الحرب ضد العراق في العام 1991، وكان القصف الأمريكي عشوائياً، ومرّت أوقات قاسية حتى وإن كان المرضى لا يدركون ما يحصل حولهم.
رواية "أيام العسل والجنون" مثّلت نموذجاً جنونياً لطائرات أمريكية تقصف مستشفى لمرضى عقليين، ولعلّ ذلك حدث جنوني بحدّ ذاته . وميري الذي وضع الرواية في تناقض من عنوانها "العسل والجنون" حاول تصوير العالم بالمقلوب، فالمجانين هو في النهاية أكثر عقلانية من الجنون الأمريكي الذي يقصف مستشفى الأمراض العقلية .
لقد عاش خضير ميري تجربة السجن مثلما عاش تجربة الجنون، ثم تجربة التسكّع الدائم والاغتراب الروحي والمنفى الكياني والجغرافي. وبعد أن عاش في القاع بدأ أصحاب المقاسات العليا " الزائفة" كما يسميها يلاحقونه، وخصوصاً بعد أن استقر بالقاهرة، لدرجة إن بعض المسؤولين والسياسيين كانوا يطلبون لقاءه، وبقدر ما كان متواضعاً، فإنه حرب على الجاهل والمزيّف والمغرور، وأظنّه مثل سعدي يوسف كان يقول: الغباء ينتقل بالعدوى، بمعنى إن الموهبة لا تنتقل عدواها، وهي تصيب أصحابها، بقدر ما تثير غضب أعدائها، وبعد كل ذلك هل يمكن للغباء أن ينتج شيئاً، وهو ما يردّده المصريون:"الله! تريد من الفسيخ أعمل شربات". وهكذا يريد البعض أن ينفخوا بأنفسهم، حين لو لم ينفخ الله بصورتهم، فالسلطة والمال والحياة وسائل جديدة للنفخ.
الجنون حسب تعريف ميري: هو التطابق الفعلي مع الذات، فعندما يتطابق العقل مع نفسه يصبح عدماً، وما عيشنا إلاّ تنازلاً عن العقل والعقلانية نحو الجنون، وحين سألته ما الجنون وفقاً لهذا التعريف؟ قال: نوع من الاحتجاج ولكن بلا بدائل، وقد وجدت في ذلك تعبيراً فلسفياً، يبحث فيه خضير ميري عن حريته المفقودة، حريته المشتهاة، حريته الجنونية التي هي ليست بحاجة إلى آخر.
وخضير ميري بقدر ما هو متمرّدٌ، فهو قانعٌ أيضاً وتلك إحدى تناقضاته، وهو يغني أو يبكي، في حالة انتشاء أو حزن، فهو لا يكره أحداً ولا يعرف البغضاء والحقد، ولم يتسلّل إلى قلبه، الكيد والانتقام والثأر، كأنه جاء من مجتمع آخر أو ربما عالم آخر. كل همّه كان أن يُسعَد بحريته، مثلما يُسعد الإنسان بالمرأة، ولكنه لا يغار عليها، إنه يريد أن يهبها للجميع، يريدها أن تعمّ على الجميع. وعلى الرغم من جرأته، فهو خجول جداً، وأحياناً متردّد حتى بالدفاع عن نفسه. كنّا نردّد: لله في خلقه شؤون: الناس أشكال وألوان، طيبون وخبثاء، أذكياء وأغبياء، أوفياء وجاحدون، جاذبون ومنفّرون.
مفارقات خضير ميري
لم يدرك خضير ميري الحكمة الشائعة التي تقول "العقل السليم في الجسم السليم"، فقد كان سقيم الجسم، واقترب من الشيخوخة سريعاً، وقبل أن يداهمه المرض تعرّض لحادث سيارة في القاهرة، اضطرّ لنحو أربعة أشهر أو أكثر المكوث في البيت، وبعدها أن يسير متكئاً على عصاه، ثم السير بصعوبة بعد ذلك.
سخريته أحياناً مثل المدفعية الثقيلة، وخصوصاً إذا صاحبها بعض المقالب من الوزن الثقيل. مرّة أقنع أحد الصحفيين أن يكتب عنه قولاً على لساني: إنه يستحق أن يكون أستاذاً للفلسفة في جامعة السوربون. وبعد أن كتب الكلام ، عاد وكرّره بحضور الصحفي أمامي، ولم أعلّق على الموضوع، ثم عاتبته، فقال لي " مشِّي" أنت لم تقل ذلك، والمسألة تخصّني، والمغفل أو العاقل هو من يصدّق.
كان يربط المادية الجدلية بأكلة البامية وقد ذكّرته ما كتبه رفعت الجادرجي عن البامية، مثلما يربط بين الإشتراكية والتشريب، وبين الوحدة العربية والدولمة أو الشيخ محشي. نقلت له نكت عامر عبدالله في الأربعينات وبداية الخمسينات حين انتشرت كلمة الماركسية، فربطوها مع البيبسي كولا، وذلك دليل الحداثة.
قال في أحد المرّات وعلى نحو مفاجئ، عليك أن تتبنّى ملفاً خاصاً وتقيم دعوى ضد أصحاب الأغاني الرديئة والشعر الرديء والمسرح الرديء، قلت له ضد كل شيء هابط، فعلّق نعم ألا يفسد ذلك الرأي العام وذوقه؟ أنتم دعاة حقوق الإنسان مقصّرون في تنقية الذوق العام من الترّهات، بل إنقاذه وإنقاذنا. علّقت على ذلك والسياسة الرديئة ألا تستحق الذهاب إلى القضاء، حيث الفساد المالي والإداري المستشري والطائفية الطاغية والعنف والإرهاب ونظام المحاصصة؟ قال إبعدني الله يبعدك عن نار جهنم، ولنبقى بحدود الأغاني. قلت له الأمر ليس سياسة، بقدر ما هو مصير.
ثم عاد وكاد ينتحب بالقول: أهذه هي بغداد التي تعرفها؟ لقد أصبحت مدينة مخيفة، هل ضربنا الطاعون؟ لقد اختفى الصعاليك من المدينة؟ اختفوا مثلما اختفت الكلاب والقطط السائبة، وحلّ الذباب محلّ الفراشات.
تذكّرنا كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصبهاني، وكيف كان الطرب الجميل في عهد هارون الرشيد والمأمون بشكل خاص والخلفاء الآخرين، حيث كان فيه إرواء العقل وإنعاش الوجدان، لاسيّما بالعواطف الجياشة والمشاعر الجميلة والفن الأصيل.
كانت شطحات ونزوات خضير ميري كثيرة، وسبحان من ليس له شطحات ونزوات وأخطاء وعيوب، وأتحدث هنا عن نفسي قبل الآخرين، وبسبب بوهيميته وتوهانه عانت رفيقة عمره إسراء خليفة الكثير، لكن عذره كان إنه يكره القيود ويحنّ للصحبة الحلوة وسهرات الأنس والمؤانسة والنقاش، وكان منكّتاً من الطراز الأول، وقفاشاً نموذجياً، يقول النكتة دون أن يضحك، وينظر بعينيك، وإذا قرأ فيهما استحساناً وفهماً، سبقك إلى الضحك. كان حاذقاً بقدر غرابة أطواره.
مع المطرب حسين نعمة
في بغداد وفي اتحاد كالأدباء انتهت السهرة (الساعة التاسعة والنصف) العام 2013 (خلال مهرجان بغداد عاصمة الثقافة العربية) ، وكان خضير ينام عند أحد الأصدقاء في الفندق (المخصّص) – الشيراتون، ثم وصل بعد أكثر من ساعة، وكنتُ جالساً بصحبة عدد من الفنانين بينهم طالب القرغولي وحسين نعمة والياس خضر وسعدون جابر وجاسم الخياط وحميد منصور وأمل خضير وغيرهم، وسمعنا الحوار بينه وبين الحرّاس الذين أخضعوا الكيس الذي بيده لجهاز التفتيش، واتّضح أنه نصف قنينة عرق، فرفض الحارس إدخاله، وكان رد الميري: هل رأيت سكيراً فجّر نفسه أو قام بعملية اقتحامية أو لجأ إلى الإرهاب؟ نحن نسكر لنعيش ونستمتع، لاحقوا من هم في الجوامع وأصحاب اللّحى، فبعضهم يحضّ على الإرهاب، وذلك بغسل أدمغة بعض الشباب . ضحك الحارس وبعد تدخّلات من جانبنا أفرج عن القنينة ، فحيّانا خضير ميري منتصراً قائلاً: أفحمته.
هممتُ بعد قليل على المغادرة للنوم، فقام خلفي حسين نعمة وألحّ على اصطحابي إلى غرفته لتناول كأس ويسكي، وأفهمته أنني غير قادر على السهر، وبعد نصف ساعة طرق باب الغرفة خضير ميري، فأنقذني وسلمته إلى حسين نعمه ورحلت، وقد رويت الحادثة إلى صلاح عمر العلي الذي يعتبره حسين نعمه صديقه كما قال لي، وعند مجيئه إلى بيروت اتصل بي ودعوته مع صلاح عمر العلي وغنّى نعمة وسكر في منزلنا، ولكنه عرف المواقيت، فقبل أن تقترب الحادية عشرة، قال نعمة أظن أن أبو عمر هو الآخر لا يحب السهر، بل غير قادر عليه، خصوصاً وهو لا يشرب، وهكذا أنهينا السهرة وقام أبو عمر بإيصاله إلى فندقه، وألحّ في أخذ بعض الصور لنا. وهنا تذكّرت سهرته في بغداد حين بقي معه خضير ميري، الذي قال لي إن السهرة لم تنتهي حتى الساعة الثالثة صباحاً.
مع المفكر سمير أمين
في القاهرة وبغداد اصطحبت معي خضير ميري في أكثر من ندوة وفعالية ومناسبة. منها ما احتفت به القاهرة بذكرى الجواهري، حيث تم تنظيم مناسبتين أحدهما في أتليه القاهرة، والأخرى في اتحاد الكتاب المصريين (والعرب) الذي يرأسه محمد السلماوي الذي قدّمني في مقر الاتحاد ونشرت الصحف أخباراً مطوّلة عن ذلك.
وكان حزب التجمع برئاسة رفعت السعيد، قد احتفى بصدور كتابي "تحطيم المرايا" ونظّمت له مجلة أدب ونقد، التي ترأسها فريدة النقاش حواراً في مبنى التجمع أداره الشاعر والصحافي القدير حلمي سالم، وشارك في الحوار، حلمي شعراوي وصلاح الدين السروي وعدد من النقاد والمفكرين، إضافة إلى مساهمة خضير ميري، ونظم بعدها بشهرين مركز آفاق للدراسات الاشتراكية بإدارة صلاح عدلي (الحزب الشيوعي المصري لاحقاً بعد ثورة يناير 2011) حواراً شارك فيه عدد من الباحثين، بينهم يوسف مكي وبهيج نصار والسروي، إضافة إلى خضير ميري.
وأتذكّر أنني اصطحبته وزوجته السيدة إسراء إلى منزل الصديق حلمي شعراوي الذي اعتاد أن يكرّمني في كل زيارة للقاهرة، فإن لم يكن محاضرة في مركزه العتيد "مركز البحوث العربية والأفريقية" ففي منزله وبحضور زوجته توحيدة التي أعرفها منذ فترة طويلة، وكان قد دعا الصديق سمير أمين وزوجته والصديق المستشار طارق البشري وجرى حوار مطوّل حول آفاق اليسار العربي ومشروعه ومسألة التحديث، والنقد وإعادة النظر ببرامجنا وخططنا، والماركسية في العالم العربي، والثابت والمتغيّر باستعادة تعبير أدونيس. وكان خضير ميري صامتاً لم ينبس ببنت شفة، مستمعاً صاغياً، وبعد الجلسة استعاد معي استذكار بعض وقائعها.
سألني سمير أمين يومها عن كتابي الذي سبق أن أهديته له " تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف"، وعن الشاب الذي حاورني من هو؟ فهو حسب ما قال لم يسمع به، وهل هو مصري؟ أشرت باصبعي إلى الشاب المؤدب الخجول الصامت، وجرى تبادل كلمات مجاملة من جانبه، وإشادة بالمفكر الكبير سمير أمين، وهنا انتهزت فرصةً أعرف أن خضير ميري سيطير لها فرحاً، وهي أن أقترح على سمير أمين أن يجري ميري حواراً معه، فهو قرأ قسماً وافراً من كتبه، وسيقوم بمراجعتها قبل إجراء الحوار.
رحّب أمين بالفكرة، وسارع ميري بالاستئذان منه لتحديد الموعد أو طلب رقم الهاتف، وتم الاتفاق، وعندما خرجت قال لي لقد عبّرت عمّا كنت أتمناه، وصدر الحوار الممتع والشيّق، وفيه إشارة وإشادة بكتابي "تحطيم المرايا" من جانب سمير أمين، الذي أخبرني ميري أنه زاره ثلاث مرات في بيته ووجد كتابي كل مرّة في مكان من الطاولة ، مفتوحاً أو مغلقاً أو فيه إشارة. وكان خضير قد أجرى حواراً مهماً مع محمود أمين العالم كذلك. وبالمناسبة فقد كانت تعليقات ميري على شحّ العطاء الفكري بشكل عام للماركسيين العرب وللعراقيين بشكل خاص، مع تقدير لبعض الإضاءات المصرية واللبنانية والعراقية، وقد أخبرني أنه كان يجد هوىً خاصاً لتفهّم أفكاره وانتقاداته من جانب ابراهيم الحريري أحمد أبرز الصحافيين العاملين في صحافة الحزب الشيوعي ما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 والذي عمل بعد الاحتلال في صحيفة طريق الشعب.

تحطيم المرايا
قبل الحوار معي كان خضير ميري عند أول لقاء لنا، قد أبلغني أنه يكتب عني كتاباً كما ورد في مقدمة الكتاب الحواري لاحقاً، قلت له كيف يحصل ذلك أوليست تلك مبالغات عراقية " ملخيّات" حسب تعبير بغدادي كان يردّده عادل مصري (أبو سرور)، قال ولكنني قرأت كتابك عن الجواهري، وكتابك عن أبو كاطع، وكتابك عن النزاع العراقي – الإيراني، وكتابك بعيداً عن أعين الرقيب، وقلت له ذلك ليس كافياً لديّ كتابان أحدهما عن فقه التسامح والآخر عن جذور التيار الديمقراطي في العراق، آمل أن تقرأهما وعند ذلك سنجري حواراً استكمالاً لكتابك، وفي المرة القادمة سأجلب لك كتاباً أعتز به صدر في العام 1985 وهو بعنوان " الصراع الآيديولوجي في العلاقات الدولية"، عن دار حوار في اللاذقية.
حين دعوته إلى الـ Lounge في فندق سميراميس الذي كنت أنزل فيه ضيفاً على جامعة الدول العربية، بدأ الحوار خجولاً وعمومياً، ولكنني شعرت إن شيئاً ما ينقص ميري فسألته إنْ كان يشرب ويخجل من طلب كأس له؟ أجاب كأس نبيذ، ولكن الكأس أصبح ثلاثة، وتدفّق الحوار لستة ساعات متواصلة، وهو يكتب ويسجل، وفي اليوم التالي جاءني بما دوّنه، ووجدت جمله طويلة، وهناك بعض الأخطاء النحوية الصارخة، فسألته كيف يحصل هذا معك، قال الضوء قليل، وظروف العمل غير ميسّرة، وإنه سهر الليل بطوله لكي ينجز ما تم بيننا قبل سفري. ولكنني لاحظت ذلك لدى بعض كتاب الثمانينات أو ما بعد فترة الحصار، وهو ما لا أعرفه من قبل في الستينات والسبعينات.
أعدت صياغة الكتابة مع تدقيق مضمونها وأعدتها إليه وأرسلها لي بعد ذلك إلى بيروت، وقمنا بطبعها وتعديلها، وطلب المجيء إلى بيروت لاستكمال الحوار للكتاب المنشود، وبعد شهرين كنت في زيارة عمل إلى القاهرة واصطحبته معي إلى بيروت عند عودتي وبقي فيها عشرة أيام . وكنا نجري حواراً يومياً لما لا يقل عن أربع ساعات وأحياناً ندوّن بعض جلساتنا الخاصة لاستكمال الحوار، وعندما انتهى منه أعدنا الكرّة بالتعديل والتدقيق والصياغة واللغة، وبعدها اقترحت عليه موضوعين لإثارة الحوار، واتفقنا على استكماله بالإيميل وهذا ما حصل، ولكن بعد أن استكمل المشروع قلت له، إن هذا سيضيع في كتابك، خصوصاً وإنه حوار مباشر، واتفقنا على نشره ككتاب مستقل، وهو ما حصل، أما كتابه عنّي فقد أنجز منه 100 صفحة وقد راجعتها، فلم أجد فيها سوى تلخيصات لبعض كتبي وأفكاري وآرائي، ولكن ظروف انتقاله إلى العراق، ثم مرضه حالت دون إتمامه، على أن النص الموجود وهو يصلح كرّاساً بحاجة إلى تدقيق ومراجعة فقط.
في الصعلكة
في الصعلكة كنت قد قرأت كتاباً مهماً واستعنت به هو للكاتب المصري يوسف الشريف، وقدّم له الكاتب والصحافي كامل الزهيري، وهو بعنوان "صعاليك الزمن الجميل"، والكتاب يلفت النظر إلى صعلكة الأقدمين أيضاً، وليس المعاصرين. إنه يذكرنا بالشطار والعيارين والمتع الحسية، وكتاب اللصوص للجاحظ وكتاب الفتوة لابن المعمار (ابن المعمار الحنبلي البغدادي) وكتاب الفرج بعد الشدّة للتنوخي (المحسن بن علي أبو علي بن أبي القاسم التنوخي) الذي سبق وأن حققه القاضي العراقي عبود الشالجي. كان ميري مغتبطاً بصعلكته وجنونه، فهما خلقا له اختلافاً مع الآخر، وهما مصدر حكايات لا تنضب بالنسبة له، والحياة في نهاية المطاف حكاية.
منذ القراءات الأولى بدأ ميري يتأثر بفلسفات الجنون والتشاؤم، ويقتبس من المفكرين وينقل عنهم ما له علاقة بالجنون والانتحار، وكثيراً ما استحضر نيتشه وشوبنهاور وسيبنوزا والبير كامو وفوكو وجان جينيه وفان كوخ وفرويد وبابلوف، وكل ما له علاقة بالأسئلة الوجودية الأساسية: الإيمان والله ومن أين أتينا؟ وإلى أين سنذهب؟ ما الوجود؟ كل ذلك كان يشكّل مصدر قلق للفتى، ويقول عن نفسه " لم أجلس طوال حياتي ثانية واحدة، كإنسان اعتيادي، فإما تجدني أقرأ أو أكتب أو أفكّر" والأمر قد يكون له علاقة بالعبث، بل والإسراف في التشتت والتذرّر.


صداقة الموت
واجه خضير ميري خصومه والذين تطاولوا عليه بالصمت في الكثير من الأحيان، وأضاف إليه السخرية، وقد كان آخر خصومه هو الموت، وهو لا يقبل به عدوّاً، بل حاول أن يتصالح معه بالصمت أيضاً. لم يراوغ أو يمكر أو يتحايل أو يلعب معه، بل استدعاه بطريقة أقرب إلى الانتحار. الموت ليس مزحة أو مقلباً، لكن ميري لعب معه وأغراه بطريقة لا تخلو من مكر وخديعة، وعندما حضر، احتفل به على نحو مبجّل وجليل.
بنصف ابتسامة هادئة أقرب إلى السخرية، واجه الموت الذي جاء عاصفاً وغضوباً ولئيماً، لكن خضير الذي كان يتألم لرحيل صديق أو أديب، لم يكترث هذه المرّة لهذا الزائر الثقيل، أدار له ظهره وتعامل معه باستخفاف، بل كان يستدرجه ليعجّل في النهاية حسبما علمت طلب من الشاعر شوقي كريم أن يسكر معه السكرة الأخيرة، ليرقد بعدها إلى الأبد، لكن صديقه رفض ذلك مؤملاً النفس بوقت أطول وتاركاً الموضوع للقدر.
حين توفي ميري كنت في رحلة استشفاء في براغ،وكان قد قال لي بعد أن سمع عن حالتي الصحية قبل بضعة أشهر: لا تذهب قبلي، انتظرني واصبر عليّ قليلاً. ، سمعت الخبر الذي نزل عليّ مثل الصاعقة، واستلمت عبر الموبايل رسالة قصيرة من زوجته إسراء، وكتبت لها بضعة أسطر. سألني الصديق عصام الحافظ الزند ما الذي ترك ميري؟ قلت له كيس نايلون أسود هو كل ثروته، جُمعت فيه مخطوطاته وكتبه، التي هي مصدر غنىً روحي وعقلي لا حدود لهما، فاستذكر الصديق موفق فتوحي في تلك الجلسة وفي جلسة لاحقة ما حصل للمفكر والفيلسوف والطبيب العظيم ابن رشد،(520 - - 595 هـ/ 14 إبريل 1126م، ولد في قرطبة وتوفي 10 ديسمبر 1198م، في مراكش) وكان محاصراً ومضطهداً، فلم يجتمع للسير في جنازته عند وفاته إلاّ عدداً قليلاً من الناس، فبادر أحد تلامذته بجلب بغل وعربتين، حمل في الأولى التابوت إلى مثواه الأخير، وحمل في الثانية الكتب والمخطوطات الفكرية والعلمية وهي كل ثروته، وسار إلى المقبرة، فدفنه واحتفظ بالكتب، وقد أصبحت مصدر إشعاع لأوروبا في وقت لاحق.
خضير ميري الذي لم يدرك كثيرون ظاهرته وحضوره ومدى الفقدان والفداحة في غيابه، سينصفه الزمن، فقد عاش ثالوثاً مرعباً هو السجن والمصحّة العقلية والشارع، الذي ألهمه، وقلب حياته من الحزن والكآبة إلى السعادة في الجنون. لو قدّر لميري أن يعيش في مجتمع آخر أكثر تسامحاً ورحمة وتقديراً للإبداع، لكان في مصاف مبدعين كبار الذين كرّمتهم بلدانهم بحياتهم واعترفت بتمييزهم وخصوصيتهم، لكنه للأسف عاش في عوز ومرض وقلق وعدم اطمئنان، بل وفي خوف دائم ومستمر حدّ الرعب. وكما يقول المتنبي الكبير
وهكَذا كُنتُ في أهْلي وفي وَطَني إنّ النّفِيسَ غَريبٌ حَيثُمَا كَانَا
اليوم وبعد رحيله نحن بمسيس الحاجة لإجلاء صورته الحقيقية ولملمة شتات حياته العريضة المبعثرة وإحياء أعماله الإبداعية، فقد رحل خضير ميري ومعه الكثير من الأسرار والأحلام والأوهام، لم يرغب أن يضعها كلّها بيد الغير، وبرحيله سقطت آخر حبّات عنقود الصعاليك وانهار ركن مهم ومحصّن من أركان حياتهم العاصفة وهوى سد منيع من سدود الصعاليك العالية. ظل خضير ميري، ولقبه هذا غريباً أيضاً، فهو من توليفاته الكثيرة، حائراً وكنت أردّد على مسامعه ما قال ابن عربي:
الهدى أن تهتدي للحيرة
والحيرة حركة
والحركة حياة!
وكانت كل حياته حركة لا متناهية للاختلاف، من الوجودية إلى الدين ومنهما إلى الماركسية والبنيوية، في إطار هارموني غير منسجم، هو وضعه لنفسه، بحيث أصبح مقبولاً له وللغير. لا أستطيع أن أعبّر عن حزني برحيله إلاّ باقتباس من جلال الدين الرومي:
الوداع لا يقع إلاّ لمن يعشق بعينيه،
أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه
فلا ثمة انفصال أبداً

بيروت في 15/1/2016



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيء عن هندسة التحالفات الدولية
- هل اقترب موعد تحرير الموصل؟
- عن المواطنة ومتفرعاتها
- مستقبل العراق ومثلّث الألغام
- هل ينجلي ليل الرمادي؟
- تركيا وعقدة عضوية الاتحاد الأوروبي
- هل القضاء على التطرف بات مستعصياً؟
- فكر التطرّف والتكفير : عالم على الحافة
- هل فقدت الدولة العراقية مقوّماتها؟
- رسائل الاجتياح التركي
- هل المجتمع المدني ضد الدولة؟
- فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان
- الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى
- آرا خاجادور وزيارة التاريخ!!
- هل سيبقى العراق موحداً؟
- العراق.. من الدولة الفاشلة إلى الكيان الهش
- ماذا يريد البرلمان العراقي.. وماذا يريد العبادي؟
- وماذا عن التجارة غير المشروعة ؟
- دستور وعقول وأقلام
- محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا!


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - خضير ميري: ابتهالات آخر الصعاليك