أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2















المزيد.....


رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4970 - 2015 / 10 / 29 - 02:43
المحور: الادب والفن
    


الرسالة الثانية
محمد أبو الزيت: الأردن
أولا: أنا من مدينة أربد. وأهلي ممن هجروا من فلسطين سنة 1984.
أقول لتجار الحروب، وعشاق الدماء: كفانا قتلا، وتهجيرا. نريد لأطفالنا أن يعيشوا بسلام كباقي شعوب العالم. فلم لا تتوحد العقول والقلوب على المحبة، والأخوة، لكي ننعم بالسلام.؟
ثانيا: أما عن الفرضية وملاكها النازل من السماء، فلا داعي لا فتراضها، طالما أنها حقيقة وموجودة بيننا. وملائكتها أنتم وما تمثلون من محبة للإنسان. لأنه إنسان، لا لأي اعتبارات أخرى. وأنا لا أجامل.
وأما عن الأماني والرغبات للعالم كله، وللعرب خاصة:
1- على الناس أن تعلم أن الدين ليس إيديولوجية فكرية، تصنف الناس على هواها، فمن تبعها، كان على صواب، ومن لم يفعل، وجب قتله. (إما معنا، وإما ضدنا.)
2- أن يعرفوا أن أساس الاختلاف، هو للتعارف وإحداث التوازن على هذا الكوكب، لا التنافر، وبسط نفوذ فئة على أخرى. فكما يعلم العلمانيون، ويقر الموحدون، أن تضاريس الأرض على سطحها وفي جوفها متطابقتان، ومتساويتان. لأن بينهما اختلاف في الشكل، (جبل، واد، سهل.) وتوافق بالمضمون. وما بين موحد يقول: إننا خلقنا من طينها، وملحد: إننا بنوها. عليهم أن يتعلموا منها اتزانها، ودورانها. وإلا دارت علينا، وقلب سافلها، وعاليها، وواطيها..
وأما عن الأمنية: فهي السلام، السلام. وسلام عليك، وعلى رقيك كل الاحترام .
لم أرغب في أن أغمس يدي في ذاكرة مترعة بالأوجاع، ولا أن أنبش قبرا ثوى بين طياته حلما انهار أمله بين المطالع، لكنني سأضطر اضطرارا إلى إحياء تلك الذكرى التي احتفلنا بها في لحظة من اللحظات، وانتشينا بعشقنا بين ديار تكتب من وراء جدرانها قصة اجتياحها، واغتيالها. تلك الذكرى التي نبتنا في تربتها، ونشأنا على قشها، ولم يكن لنا من خلاص عنها، ولو حاولنا أن ننفيها إلى قمطر التاريخ، وننسى ما كتب عليها من سطور الأمل، والألم. لأننا كنا في جوف الأحداث محصورين بين طرفين يتنازعان العلاقة مع الملمات التي أكدت بأمتنا: طرف غالى في القضية، وهو يدس في بطنه عسل امتداد الصراع. وطرف كان يستكنه القضية بعقيدته، فرأى الوفاء لها جزءا مما تقتضيه الديانة. لكنهما، وإن اتفقا في المقدمات الصغرى، وهي الإحساس بالقضية، فإنهما قد اختلفا في غايات النتيجة. فالأول يريد أن تكون النتيجة صراعا بعد إيقانه بأننا ننازع أوجاعنا، لكي نحرر فلسطين. والثاني، يريد أن يحمل التاريخُ لغة انتصارنا على من اغتصب أرضا من أراضينا، وظلا من ظلالنا. لم نكن في الطرف الأول الذي فتح قرطاس النزاع، ولم يرد أن يغلقه، لأن آبائي كانوا رجال دين، ولم يكونوا رجال سياسة. بل تغذينا بحلم الانتصار العقدي، ولم نعرف ما سواه من دروب الانتصار باللغة، والعرق، والأرض.
افترقت الأحلام كما افترقت الأجساد، ولكننا وإن لم نكن أقدر على درك الحقيقة بمفاهيمنا المحدودة، فإن كامن العقيدة يقودنا إلى أن نرى اغتصاب فلسطين قضية دينية، لا قضية قومية، وأمر مشتركا بين المسلمين، لا شأنا محليا يخص الفلسطينيين. لأننا نعتبر القدس قبلة أولى لصلاتنا، قبل أن نتجه في متجه مكة. وهذا أولا، وثانيا، كنا نعتقد أن تلك الأرض الإسلامية يجب أن تحرر من فئة غازية، ومحتلة، لم تكن الأرض أرضها، ولا التاريخ تاريخها. وقد فجر ذلك فينا ما شبت عليه قرانا من كره عقدي لليهود، وحقد، وضغينة. وإن أنس فلن أنس كبار رجال قريتنا، وهم إذا تحدثوا عن اليهود، كانوا يقولون: أعزك الله. بل الأغرب أن يوصف أهل الدهاء والمكر والخبث منا بأنهم يهود، ولو عاشوا بين ترانيم المعابد، وأناشيد المحاريب.
تلك هي البداية التي قادتنا إلى منتجعات كثيرة، تمرغنا على عشبها سنوات طوالا، ولمَّا نعثر فيها على مفتاح لهذا الباب الموصد في وجوهنا. لكن أين حدثت المفاجأة.؟ لم أكن أظن أنني سأكتشف في تاريخ شكي حقائق أخرى، لم أكن أعرفها بين زمن تزداد فينا شحنة الاحتقان على أوضاع تطلب من يضمد جراحها، ويخفف آلامها، بل تراءت لنا بعد أن فقدنا فترة الشباب في أوهام تقودنا نحو التشاؤم، واليأس، والإحباط، وتدفع بها إلى أوصاب تشل حركتنا، وتعطل جزءا كبيرا من تفكيرنا في حقيقة ما نحن عليه، وما نحن سائرون إليه بلا إرادة، ولا رغبة. كان ذلك ممضا لي حين أتذكره، لأنني رأيت كيف اتقدت حماستنا إلى شيء لا سبيل إليه فيما هو حاصل عندنا من أفكار، وأقدار، ولا نهاية له فيما نحلم به من إصلاح لم تتوافر لدينا شروطه، ولا وسائله. وكيف بدأنا نفقد ثقتنا به مع طول الغربة التي أوجعتنا بنكباتها، ونكساتها، وأردتنا بين الشعوب، والأمم. فما الذي نطيقه، وقد أفل نجمنا من سماء الصفاء، لكي يتحول إلى نيزك حارق يذر في عيوننا رماد الفاجعة، والكارثة.؟ تلك هي الحقيقة التي نداريها، ونجاريها، وكأننا نخفف من علتها، ونهون من رزئها، ولو أظهرنا تماسكا في آرائنا، وتصالحا مع مواقفنا، لأن كثيرا منا لم يجد بعد أن صدمته الحقائق المؤلمة إلا أحد الطريقين: طريق النفير، وهو أعسر الطرق، وأصعبه، لما فيه من مفارقةٍ للكُن القديم، ومنازلةٍ لواقع آخر، لا نعرف خبيئته، وسريرته. وذلك ما هزم لحظة الماضي عند بعض، وأغرقه في لجة الحاضر الذي يقرأ طالعه بعين غير عينه، ونظر غير نظره، ويتطلع فيه إلى شيء ينسيه علة توجعه بتاريخه، وعرقه، ولغته. بل تراءى له بهرج الحضارة الفاقدة لإنسانيتها وأخلاقها مغريا، ومطريا، فأخلد إلى فتنة تلك الغيداء، وزعم أن التخلي عن وخز التاريخ، هو السبب الأوحد الذي لا سبيل بعده إلى التقدم، والرقي. وطريق التصبر، والتوجع، وهو مؤلم، وأثيم، لأنه يكلفنا كثيرا من جهدنا في صناعة الهدوء بين جوانحنا الكسيرة، لئلا تنساب منا لوعة الوجع، ودمعة الحزن، وفكرة الخوف، ولمسة الضياع. فما أقساه من طريق عانينا فيه الأمرين، ولازمتنا فيه غوائل الشقاء، لما يختزنه من لواعج بائسة، وقروح دامعة، ندفعها عنا بقوة، وحدة، ولكنها تغمرنا في بعض الأحيان بصديدها، وفحيحها، فينزف الفكر، ويبكي اليراع، ويسود بياض الصفحات، ونكتب ما لا نطيق قوله في لحظة التناسي التي تطبعنا بطابعها الراكد، والساكن.
وعلى رغم مرارة هذا الطريق، فإننا قد التزمناه سنين طويلة، لئلا تمتزج الألوان في بواطننا، وتختلط الملامح بين أعيننا، فنعيش لحظة التيه التي عاشها كثير ممن استبطأ هلال ذلك الشهر الذي حددوه بحدود عدة، ووصفوه بأوصاف شتى. فهناك من رآه بداية للفرح الذي سيؤوب بالأمة إلى سالف مجدها، وزاهر عزها، وهناك من رتب له كفنا، وحفر قبرا، ثم عاش متألما بما تبقى من خفق قلبه، ونبض روحه، وهو ينتظر النهاية التي ستزيل الكون من هذا الوجود البائس. فهل أدى بنا طول هذا الطريق إلى مفارقة حجرات الظلام.؟ لم نعانق اللحظة التي تبشرنا بالمطلوب، ولم يف القدر بالأمل القريب، ولم يركض ذلك الطفل الذي يلاعب عصفوره بذكاء. كل ذلك لم يحدث، ولكننا لم نفقد الأمل، فقصارى الجهد أننا غدونا نميز بين الحقائق التي تنتجها أساليب الحياة المختلفة. فما أحتاج من ذلك إلى طول الزمن، فلا علينا إلا أن نقر به، وما احتاج إلى كلمة عابرة، أو عبارة سارحة، فإننا نقولها بمضض، ثم ننصرف في هدوء. لا لأننا صرنا سَلبيين في تفكيرنا، بل لأننا أدركنا أن الإقدام بين حروب مستعرة بضجيج لا غاية له إلا إغلاق الأفق على الفكر السوي، لا فائدة من دمائه، وغباره، ودخانه. فما الذي يفيد الحروف المتألم إذا هتف بصراخ غيره، وهو لا يعرف ما وراء الإبر من سموم الزمن الأغبر.؟
ربما في استكانتنا عنصر من الجبن، والخوف، والهلع، وربما فيها نوع من التبصر، والتعقل، والتودد، لكنها ولو ظنناها عين القرار الصائب في لحظتنا، فإنها تحمل شيئا من فيوضات وجداننا التي تدافعت إلى سوحنا بعد انهزام الإرادة في تحقيق شيء كنا نقدس زمنه، ونبجل ظهوره. أجل، فيها خوف، ووجل، لا نريد أن نزيل لذته، لما يمتعنا به من وجود نسبي بين الأشياء المخضلة بالعناء في حياتنا، وواقعنا. فإن ظهر لنا أن ما نرشف لعابه لا أمل في سيره، وظهر لنا طريق آخر غيره، فهل سنسلك مغبته، ومعرته.؟ أم سنبني قرارنا على ما تخلف عندنا من ندوب الماضي، وبثور الحاضر.؟ شيء لا أريد الخوض فيه، لأنني وإن تألمت في الماضي بالقضية، فإنني اليوم ما زلت أتألم لها بأنين، وحنين. لكن بالأمس كان لنا عدو مرئي في قطرات دموعنا، واليوم صار لنا عدو مختلط بسكون ذواتنا المحترقة بالجهل، والفقر، والتخلف. وكلاهما يحترف العداوة للزمان، والمكان. فلا علينا، فغريزة الألم التي تكونت عندنا من صعوبة المسير بين الرزايا، قد غدت مع الاختيار الصعب شيئا نناجيه، ولا نعاديه، لأنها في طور من أطوار تشكل المعرفة في كياننا، قد تحولت إلى تاريخٍ قديم ننهل منه رغبتنا في حياة الحاضر، وواقعٍ حديث نشدو فيه الحرية مع حزن طائره المقصوص الجناح. وكلاهما يمنحنا عدسة نشاهد بها الوقائع كما هي في عين الظامئ، أو الراغب، ولو تكالبت علينا كلمات الأغرار الذين رأوا الاستبسال في كسر الجرار، وسكب المياه، وغرق الأراضي. فلا حرج إذا شرحنا غوامض الألم بالصمت، وبينا مبهمات الحزن بالأمل، لأننا نرى جلاء الصورة بين غياهب المآسي أمرا شائكا، ووضوح الرؤية بين غيوم الشتات حقا غائبا. فكيف يمكن لنا أن نزيل غموض الأحاسيس ببن جمود الذوات عن الانفعال المتزن مع الأحداث الأليمة، وعقم العقول عن الإبداع، والابتكار، والنمو، والتطور.؟ لو غامرنا غرة بقبول ما ترشح به الذوات من نقد متطرف لكل القيم، والمفاهيم، أو سمحنا لأفكارنا بالركض وراء هذه المظاهر المتناقضة في المعالجة، والمواجهة. فما الذي سيؤول إليه أمرنا.؟ شيء اسمه الصراع، وهو المقولة التي ورثناها من أوضاع ضعفت فيها الثقة بالنفس، والنتيجةُ التي بلغتنا آثارها بلا رغبة في استظهار شخصيتها، وملامحها. فهل وُجدنا في الكون من أجل الصراع الذي نجهل مدلولاته، وغاياته.؟ إننا وجدنا في صراع يحتقن كثيرا من أنفاسنا، ولو لم يكن رغبة لنا، وكان فكرة عند غيرنا، وهو يستقرئ منه ضرورة وجود ذاته، ومحيطه النفسي، ومعناه الاجتماعي، لكننا ولو كتبت علينا العدواة في عالم الأرض، فإننا لن نبحث بسطحية عن الأمان بين دروب السماء. فغايتنا أن نعيش السلام بين غاب الضمائر الزنجة، والأحلام الوسخة، ولو تهاوى كثير منا عند جرن الإذلال، وتهافت بعض منا على خوان الإفلاس. وما نبحث عنه من سر الأماكن، قد يبحث عنه غيرنا ببوصلته، ومسباره، لكن لا يجوز لنا في لحظة التماهي مع سريالية القضية أن نعتبره غاية الغايات، ولا نهاية النهايات، بل هو القول الإيجابي عند من فضَّل سارق الدجاجة على سارق الجمل.
أجل، إن التاريخ الذي يكتبه محترفون على أرض فلسطين، هو التاريخ الذي تكتبه قريحة جافة في العراق، وفي سوريا، وفي ليبيا، وفي اليمن، وهو التاريخ الذي نكتب خصائصه بخنوعنا، وخضوعنا، وهو التاريخ الذي يكتب ذله كل من يقايض بحصته في تاريخه بما يناله من خطوات يمشيها بين نعماء الحضارة، وآلاء الصناعة. كل ذلك تتفاعل حقيقته في كتابة تاريخ هذه الأمة بمداد الدم، وحروف الأشلاء، ومعاني القبور. وسواء من أغرق الأرض في بركان الكراهية، أو من أوضع بأمل الفتش عن أماكن الصفاء. ولعلي لا أخالني بعد زمن سأقرأ سطرا أجمل مما نطقت به الموتى من ألغاز، ورموز، أو سأجد هدوءا في الكون أكثر مما تهبه لنا المقابر المجللة بالسواد، والحداد، والألم. قد يقول قائل هذا هو التشاؤم عينه. أجل، هو التشاؤم، وهو الاسم، أو الدلالة على المسمى المُعرَّب والدخيل علينا، لكن هل يمكن لك أن تدلني على صورة أخرى للكون، غيرِ تلك التي تجيدها عبارة الأديب عنه.؟ فليت العالمَ كان شاعرا، حتى نعيش تائهين في تخيل الصور التي نركِّب أجنحتها للكون، والطبيعة، والحياة، ونرسم لوحة واقعية لحياة لا ينزف منها الدخان مع شعاع الشمس المحتجب عنا بين غلالة الأوجاع الكثيفة. فيا ليته كان زهرة بين جداول هذا الرياض المبتسم، لعلنا نأخذ العبرة الكافية من المفردات المندثرة بين مألوف الحزن، والغربة! فآه، آه، لم يكن قصيدة كتبتها السياب على شاطئ البحر، ولا خاطرة نسجها درويش تحت ظلا ل شجرة. بل كان صوتا مجلجلا في قاع المجهول، وأنينا هاتفا بين الديار التي غادرها الحلم، وبقيت تستأنس بالتاريخ، وتقيم حوله المباكي، والمراثي.
سأهجر معك تلك القرى التي عوت فيها الذئاب يا أخي محمد أبو الزيت، وسننطلق بين غموض الأماكن إلى نجد بعيد متغلغل في الطبيعة، نحمل إليه هموم الوطن، والهوية، والتاريخ، ونخطو إليه بخطوات الرغبة في الأمن، والأمان، لعلنا ننال تلك اللحظة الهاربة من أعماقنا، والشاردة بين أعيننا، وهي تعصرنا بالآلام التي تبني لنا بين الكروم عرشا، وتنسج لنا جبةً من الفضاء الذي يجللنا بظلامه الدامس، وترفع لنا لواء المجد بين أطلال أمنيات غدت حكايتها كفرا، وزندقة، وروايتها سموما، وأصلالا. هذا الحلم في الحياة اللذيذة الفتنة، لم يجعلنا نبخل بالذات في ملحمة الوطن، ولم يصيرنا نأنف من مواجهة الغازي الذي سطا على غصن الزيتون، وثمار التين، وأنغام الناي، وزغاريد الأطفال، بل نظرنا إلى المدى الذي جعلناه منتدىً للحلم، ومسرحا للأمل، فلم نعثر بين أدراجه إلا على الهباء، والعماء، ونظرنا إلى المساحة التي كانت مولدا تتدفق منه الأصوات الجذلانة، والمرحة، فلم يصلنا إلا نوح الثكلى، والبائسين، والمحرومين. فما الذي نطيقه في شفافية الأخيلة التي تتملك حواسنا، وجلاوزة الغدر يفرون بالأوداج، ويقدون الأجساد، ويقتلون الأرواح. شيء لم نكن نعرفه في انفعالات مناجاتنا للحقيقة، ولا في همسات مغازلتنا للطبيعة. لكنه حين دهمتنا خلجاته، وصارت لنا صنوا، وخدنا، لم نعرف كيف نجابهه، ونواجهه، ولم نختر الاختباء عنه بين الشعاب رغبة منا في البقاء، ولا رجاء في الحِباء، بل كان المسير مترعا بالفارين من النيران التي اختلط فيها عواء الذئاب، وشكوى الفراخ، وكان الرفيقُ الذي يؤانسنا جريح القلب، وعبوس المحيا، وحبيس الأفق. لكن إلى أي مكان نسير.؟ سنسير إلى حيث تحمينا أطناب الخيام من الأصوات التي استحالت أشباحا مخيفة بين الدروب، وألوانا فاقدة لملامحها الغائرة، والشاحبة. وهناك، سنستقر إلى أجل لا نعلم عدد أيامه، لعل صدمة الوجع تزول عنا، فيعود إلينا شيء من ذكرياتنا المجدبة.
في ذلك المكان الذي سافرنا إليه مرغمين، ومكرهين، نقتسم كسرة خبز بيننا، ونوزع نصيب الحظ من هبة الأزل علينا، لكي نحس بأننا قد عدنا إلى الماضي الذي فقدنا وطنه، ولكننا لم نضيع هويته. وتلك هي أعظم المصائب التي أبتلينا بها في زمن يجرنا إلى الحسرة، والملل، ويزج بنا بين أتون الحزن، والهوان. فواها، واها، لأن تفقد الوطن أخف وزرا من أن تفقد الذاكرة، والهوية، بل الأغرب أن يسكنك مارد ذلك الصوت الذي سمعته في حضن أمك لأول مرة، وأنت لم تطق بعدما تجدد من تطلبات المتع أن تنساه، ولو أطربت الأماكن في مسمعك بالأغاني الساحرة. أجل، فنحن ولو فقدنا التاريخ، فإننا لم نُعْدِم الذاكرة في الذوات الأليمة. فالذاكرة مترعة بالصور التي تعيد إلينا بسمة الجدة، ولمسة الأم، ونظرة الأخت، وجمال الطبيعة، وصفاء الكون، وبراءة الحياة، ومهما نسينا تلك الخفقات التي كانت بلسما لأوجاعنا الغاوية، فإننا لن ننس تلك اللحظة الغامضة بين ماض نقدس ذكرى طفولته الباسمة. وإذا ما غزتنا في يومنا جلبة سنابك خيول السواد، فإننا نعود بعد الحرج إلى سكينتها، وطمأنينتها، ولو تظاهرنا بأننا قبلنا بالترويض الذي حول الدجاجة إلى نعامة مرحة. وما دمنا لن ننس ذلك الصوت البريء، أو تلك اللحظة النقية، أو تلك الفكرة الدوية، فإن ما يقوم به غيرنا من تهجين لن يكون له أي أثر على كياننا، وهويتنا. فقد يطيق العدو أن يخرب بيوتنا، وينسف نظراتنا، ولكنه لن يستطيع قطع وريد الأرواح الساكنة فيها بآمالنا. فلا غرابة إذا حكى المستوطن الغريب لوطن غير وطنه، كيف تزاحمه الكوابيس فيما اغتصبه، واغتاله. بل تلك هي الحقيقة الكامنة فينا، لأننا ولو تعرضنا للمسخ، والتشويه، فلن تُزال منا صورة تلك الجارية الجذلانة، وهي تخب بين السكك بفرح، ومرح، وتخطر من زقاق إلى زقاق، لكي تخبر صويحباتها بأنها شمت رائحة الحناء، كلا، بل تبرز راحتها، لكي تقول: إن ما نقش على يدي من أشكال هندسية، لن تبليه جدة الحزن، والألم. هكذا، انطلقنا بين الخيام التي آوت عظامنا في غربتنا، وألبستنا حللا شاحبة علينا، نستيقظ صباحا، ونزحف بين الأشجار التي نخاطبها، وهي لا تجيبنا، فنتأمل كيف صمتت عن ترجيع صوتنا.؟ هل حزنت بحزننا.؟ أم صدمها صوت لم تسمعه في سابق عهدها.؟ كلاهما يمكن الاستدلال به على تجهم الأماكن بين آفاقنا، وهي تهفهف بخواصرها النحيلة، وكأنها تريد أن تتذكرنا بما فقدناه من أدواح ظليلة، ورياض غناء، وأنهار جارية، ومروج زاهية، وجبال شاهقة، وسهول خصيبة، ربما قد يكون بعض تمايلها إشارة إلى ما غاب عنها من مناظر، وأمصار، لكنها لا تناجينا كما كانت أشجار قريتنا تحادثنا، وتحاورنا، وأحيانا تسخر من ألاعيبنا، وأهازيجنا، ولا تنادمنا بما وجم صوت إلهامه في حروفنا، ومعانينا، وقريضنا. بل نسي الفلاح فدانه، وانقبض باطنه، وجفت أحاسيسه، ويبست قريحته، وسلبت ملكاته، فلم تأته النظرات بما كانت تمنحه من دهشة المشاعر، وخفقة الأفكار. بل نسي كل واحد ما كانت الطبيعة الساحرة توحي به من دفقات الشعور، وسبحات الخيال، وتجليات المعاني، وفيوضات الحقائق. فلا عجب، فالأماكن هنا، لا تذكرنا إلا بأم ثكلى، تلطم خدها على فقدان ابنها، وبنت تبكي غياب طلة أبيها، وطفل متجهم فقد ملعبه، وهو الآن يمرح بين أزقة ضيقة، فلا يحس بلذة ، وانتشاء، ويخب على الربى الحاسرة، فلا يرى مسام الفضاء إلا ألما، وحسرة. فأين ذلك المنبسط الذي كان يقفز فيه كالأرنب الولهان.؟ لقد فقد التسلية بلعبة قفزه على الحبل، وضاعت منه لحظة التماهي معها، وساعات الذهول بمتعتها، لكنه أدرك اليوم أنه كان يفقز في مربع محدود لا يتجاوزه، ولو حصل له في دفق الاغترار هوس اللهو، والمرح.
كل ذلك قد فقد روحه، ووحيه، ولا أمل له اليوم إلا في اختيار صائب الوجهة، يجعله قادرا على تحويل بؤس المطالع إلى نبع يتجرع منه لحظة الأمل، والمنى. فما أصعبه من اختيار، فإن رضي بالحياة النابضة بالعناء على مضض، فقصارى جهده في تصوير الحاضر، أن ينسى عذاب الماضي الهادر، وينطلق مع ما هو فيه من تكلف، وتقعر، وتعمق، ولو كانت جائزة أحلامه التي فقدها في ماضيه حقيرة. وإن لم يرض بموطنه، وموطئ قدمه، فماذا يطيق أن يصل إليه من حدو الآمال.؟ لو أراد العودة إلى الوراء، فأنى له أن ينفخ في النسيم لحن شدوه.؟ فالأرض التي كان يعرف طيرها، ستعرفه لو عاد إليها روحها. لكن أين السبيل إلى ربوع تلاطم فيها موج الغدر، والمكر.؟ لو عاد مرة أخرى، لكي ينثر عليها درر عشقه، وولعه، فتلك هي المراهنة الصعبة، والمغامرة الشقية. لأن ما كان جناحه موشى بالحلم، قد صار موجعا، ومفرعا. فلا عليه إلا أن يقبل بما يراه بين عينيه من هباء، لأنه هو الشيء المقدور لمحمول طاقته في عهد خان معه الجار صريح الحديث عن القضية. وسواء بحث عن فلسفة ذلك بسياقات فكرية معينة، أو رضي به بلا إغراب في التصوير لصوره الحانية. فالأمران سيان عنده، لأن اللذة لا تمنح في الشيء مرتان. فما كان لذة في بريء الأذهان، فقد فارق الحس، ولو لم يفارق القلب، ولن يعود مغريا بسروره، ولا مسكرا بصهبائه.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1


المزيد.....




- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2