أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8















المزيد.....


تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4952 - 2015 / 10 / 11 - 23:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


اثنا عشر: إن يافطة العالمية الفارغة من لازم شروطها التكوينية، لم يكن رفعُ مبناها إلا شعارا جامد المحتوى، وكاسد المعنى، لأن العالمية لم تكن بين مفاهيم أصول الديانة إلا هداية للبشرية، ورعاية تقود الإنسانية إلى الحب، والرحمة، والعطاء، والجمال. وكل تغيير يحدث في بنيتها المعنوية، فلن يكون إلا فكرا منقطعا عن حقيقة وجود ماهيتها باللطف الإلهي، أو موقفا حبيسا في نفوس عبثت بها الأهواء بين قطع الأرزاق، وزهق الأرواح. ومن هنا تعددت معاني الألفاظ التي رتبت مكوناتها بلا ترتيب منطقي لما وضعت له دلالتها، ووجدت له غاياتها، لأنها خالفت في تركيب معانيها وضعها الأزلي، وألبستها أسمال ذلك المعنى المزيف، لكي ترشح بالعنف الرمزي الذي يستحوذ على الغلاة الأغرار. فهل تحررت فلسطين كما غنوا بذلك على المنابر سنوات طوالا.؟ وهل وصلوا إلى العالمية كما كانت حلما للصغير، والكبير.؟ لم يتحقق أي شيء مما حشيت به نفوس بريئة، كانت متفجر الحقد على الإنسان، والأوطان، ولم يتغير أي شيء من المعادلة التي يقوم عليها الكون في علاقة الخير بالشر. ولو تحقق لهم شيء من أمانيهم، وأحلامهم، فإن القوم تغريهم بهجة الانتصار عن انتظار الهزيمة بخطأ يرتكبه المغرور بفوزه، وظفره. والتجربة تشهد على ذلك في تونس، وفي مصر، بل هذا الفكر لم يكن إلا سببا للدمار الذي أصاب خزيه أوطاننا العربية، والإسلامية، وعلة سرطانية تغلنا بقيودها عن فتح آفاق العلم، والمعرفة. لأن الأماني الفارغة عن سنن التكوين، إذا لم تجد مكانا للولادة المنتظرة إلا بين أطلال الماضي، فإنها لن تعوض عن ذلك الفقد إلا بفرض وساوسها بلغة القتل، والفتك، والاغتيال.
والعجب أن هذه الشعارات الرنانة، ما زالت تؤثر في بنية العقل العربي، ولو لم يتحقق بها شيء من الوعد في واقع معين، لأن الحركات الدينية بدون مخاطبة عاطفة الآخر بصوت المظلوم، لن يكون لها موقع بين المجتمعات التي اهتز كيانها بما يجد في الكون من ألوان متنوعة للحياة البشرية. ولهذا تحول الإخفاق إلى صراع ديني، واستحال اهتماما بقضايا الأمة، وأكبرها قضية المسجد الأقصى، لما له من عناية عند عموم الأمة الإسلامية. ولهذا استطاعت هذه التوجهات الدينية أن تستغل تلك العاطفة الجياشة، لكي تفجر بسببها احتقانا في الذهنية العربية، ولو لم يرد أهل الأرض إنهاء النزاع، والصراع. لأن الاتجار في بعض الأحيان بالقضايا المشتركة، واستمرار الصراع جذعة فيما بين المتنازعين حول القضايا المصيرية، مما يمنح مشروعية لبقاء النخب المفلسة على أرض الواقع، ويجعل بعض الأصوات متظاهرة بالغيرة على شرف الأرض، والتاريخ، والأمة. ومن هنا، فإن قيمة المسجد الأقصى في الاعتبارات الدينية، هو الذي جمع الإحساس الإسلامي حول هذه القضية. ولولاه، لكان الصراع كما هو في أماكن أخرى من أوطاننا العربية. ولهذا غالت الحركات الإسلامية في تسويق لغة البكاء، والحزن، سواء في تمجيدها للأبطال التاريخيين، أو في تبخيسها لقدر الحكماء الصامتين. لكنها لم تفلح في وجود حل حقيقي بما تمليه من وعود منتظرة، لأن الانتظار دام زمنا طويلا، والأمل استحال يأسا، والأمة ما زالت ترسف في غل جهلها بما هو مطلوب منها واقعا، وحالا، ومآلا. وهنا، نشأت بعض مسببات الخريف العربي الذي كان قفاعة في فنجان مارد، أو صرخة متلاشية في مجهلة غامضة. لأنه لم يكن مظهرا من مظاهر الثورة الحقيقية، بل كانت أمنيته زوال أنظمة، وبناء أنظمة أخرى. إذ لو كان ثورة تتضمن شروط التغيير الحقيقي، لكانت تاريخا يكتب بمداد العلم، والمعرفة، والحرية، والأمل. لكنه كان اختيارا صعبا، واختبارا عسرا. فلم يفلح في طي الواقع، ونشر تلك الحياة الموعودة، والمأمولة، بل كان دما يزهق، وروحا ترهق، فلم يستفد شيئا من حلمه، ولا من وهمه. لأن الثورة التي سقيت وردتها بالدماء البريئة، لن تكون ثورة الرياحين، والياسمين. وأي ثورة أعظم من صناعة الحياة بآمال تحمي بشريتنا، ومدنيتنا.؟ لو كان الخريف العربي ربيعا، لتفجر معه معين النقد الذاتي، والمراجعة الموضوعية للبدايات، والنهايات، وحينئذ، لن نعوض النظام بالفوضى، ولا الأمل باليأس، بل سيكون هدفنا تنمية أوطاننا، وخدمة مشاريع تفوقها، وتميزها، وإذ ذاك، ستكون أهدافنا يدا واحدة، نجلب بها الخير، وندفع بها الشر. لكنها كانت نكسة لكل مشاريع التنمية، وإحباطا للمستقبل الذي تحلم به الذوات المنهزمة. ولا شيء أدل على ذلك مما حدث وحصل في النتيجة، ولو زعم كثير من المسعورين بحمى الثورة أن الثورة لم تنته بعد، وأن نهايتها هو زوال جيل متخلف، وتعويضه بجيل متحضر. فالنتيجة هي صعود الحركات الدينية في الدول التي انهارت أنظمتها القائمة، والعاقبة هي ما طرأ بعد ذلك من ثورة أخرى عليها. فأي أمل تحقق.؟ إن الحركات الدينية، ولو لم تأت إلا في ذيل القاعدين، كانت اللغة الوحيدة التي لم تستعمل لغة الحكم، والقضاء. ولذا، لم يكن من معدى عنها في بعض الدول العربية. فهل نجحت في تحقيق طلاء الحلم، سواء في وحدة الوطن العربي، والإسلامي، أو في محاربة الفقر، والمرض، والجهل.؟ لم تنجح في تدبير شأن أوطانها، فضلا عن تحرير ما تعد به من أرض صارت بالتدبير إلى غيرها. لأن الحركات السياسية، ومهما تعجرفت بقيمة اللغة الدينية، فإنها لا تمتلك مشروعا اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، وتفتقر إلى لغة المنطق، والواقع، والحركة الكونية، والوجودية. بل قصارى جهدها أنها تنظر إلى جهوزية النص الديني للإجابة عن كل الأسئلة التي تتمخض بين حركات المد العربي. فهي بهذا لا تؤمن أولا بشروط الأزلية في قيام النظام الطبعي، والكوني، وتزعم ثانيا أن المبادئ الروحية تجمع كل النظريات المادية المؤثرة في أحداثيات الواقع، وتجلياته. ولا عجب إذا أخفقت مشاريعها في كل الدول التي جاءتها عن طريق صناديق الاقتراع. لأن رغبة الإنسان في لغة المسجد، ليست هي رغبته في كلام الشارع. فتطلعاته في الشارع تتجاوز حدود الأحكام الكلية، وتتحد في التدبير الميداني للواقع بمقتضى ما يحقق الحرية، والعدالة، والكرامة. فما كان فكرا نظريا مجردا عن التجربة، قد لا يفيد في صيرورة الحياة المتناقضة الإرادات، والاستعدادات، لأن الأفكار مهما كانت قوتها، أو كان ضعفها، لا تثبت قيمتها إلا إذا تحولت إلى واقع حقيقي، وما لم تتحول إلى تجربة حياتية، فإن مآلها الموت، أو الانتظار. وهنا يتنافى الواقع مع تلك المخططات الذهنية المستغرقة في الخيال. وربما قد ينتج ذلك تذمرا في نفسية شعوبنا العربية، والإسلامية، وسخطا على الأوضاع الاجتماعية، والسياسية. لكن هل صحت مقولات الحركات الدينية.؟ لو كانت حقيقة تريد خدمة أوطاننا الموسومة بالمتخلفة، لأسهمت بسهمها في التنمية، والتطوير، والتحديث، لا بالنقد اللاذع للتوجهات العامة للسياسة، والظهور بصورة المقهور الذي يحمل ما لا يطيق من الشقاء، وهي لم تبرح حصير لغة تجيد صياغة الأحكام، لا صناعة الأفعال. فلو فرضنا أنها دخلت بتجربتها النظيفة كما تعتبرها، وواصلت الدرب مع غيرها من الخلطاء السياسيين، لقلنا بأنها حقيقة تريد البناء. وحينئذ إذا أخفقت، حكمنا على مشروعها بأنه نسبي، لا مطلق، ومدنس، لا مقدس. لكن أن تهدم مكتسب تاريخنا، وحضارتنا، لكي تعيدنا إلى عهد مستغرق في العماء، فإنها سترجع بنا إلى قرون غابرة، لا حدود فيها للزمان، ولا للمكان. فما الذي جعل الحركات الدينية تخفق في مشروعها السياسي.؟ إن أكبر مطب وقعت فيه الحركات الدينية التي أثرت بتهويمها على عقول بعض الخطباء الذين ضجوا بقوة بين الفقراء، والمكروبين، هو ما تزعمه من قدرة على تفسير نص الدين بمقتضيات مناهجها الخاصة، وما تزرعه في نفوس المعدومين من وساطتها بين عالم الأرض، والسماء. وهنا صاغت الحكم على ما في واقعها بلا اختبار، ثم استدلت عليه بالنص المحنط بالتـأويل الذاتي، فكانت النتيجة عدم توازن الفكر مع الحياة. لأن اختلال شرط من الشروط الطبعية في معادلة التغيير، لن يؤدي إلى تحقيق ذلك الأمل الموعود. وذلك ما جعل كثيرا من الحركات الدينية تغوص في بطن التراث القديم، لعلها تستظهر منه بعض الأدبيات التي ترسخ صورتها الناصعة في المخيلات العامة. وهذا المنطق المغالط، هو في مضمونه دخيل على بنيتنا الفكرية، لأنهم يقدمون الاعتقاد على الاستدلال، والعمل قبل النص، والزمني على الروحي. وذلك مما جعل الحركات الدينية تخالف الموعد مع نواميس الطبيعة، وجبرية الكون، وحتمية الوجود. فالنص لم يكن في قواعدها المعرفية إلا تابعا لبنية ذهنية، ونفسية، واجتماعية، لا مؤسسا للحكم الذي يجب اتباعه، والاهتداء به. ولذا لم ينفعل النص مع مكنون الذوات، ولم يعالج ما حدث في الواقع، ولم يتوافق مع ما تواطأ عليه الناس من عادات وتقاليد تندرج تحت مضمون الشرع بوجه من الوجوه المعتبرة. لأن ما دأبت عليه أوطاننا من أعراف نشأت مع محيطنا النفسي، والاجتماعي، لم تكن قائمة في بنيتها على فراغ عاطفي، أو علمي، أو فكري، بل كانت مستوحاة من قابلية النص للكيان الذي تفاعل مع الزمان، والمكان، فأثر في طرق التفكير بين مدارات الحياة، والكون، والطبيعة. ولا غرابة إذا كان النص مقصودا لغايته، لا للفظه، لأن مقصده هو الذي يحدده في صيرورة الوجود، لا ظاهر لفظه الذي يحتمل المعاني الواردة عليه حقيقة، أو مجازا. وإذا فهم المراد المقصود منه، وكان الجمود على الحرف غير محقق لغايته، فإن تجاوز لفظه إلى دلالته، مما تدعوا إليه فطرة اللغة، ومنطق العقل. إذ فهم السبب في وروده، أو العلة في ظهوره، لا يستغنى عنهما في تنزيله على الوقائع، والأحداث. وإلا كان النص أداة لتعطيل الحياة، وتكبيل الواقع، لا حركة وجودية مرتبطة بالكيان المتدرج مع دورتي الزمان، والمكان. وحقا، إن توقف النص عن حركته ضمن دوائر تفاعله مع مقاصده، هو السبب في جمود الحركات الدينية على ظاهرية الحرف، من غير مراعاة لروح الشريعة، وغاياتها في الكون، والإنسان. ففهم الأسباب، والعلل، مما يؤثر في تجديد دور النص بين مدارات الواقع، فقد يزول أحدهما بقوة الوجود في ظرف مخالف للزمن الأول، وقد يزولان معا، ولكن يبقى النص متضمنا بالقياس لما عداه من الأحداث التي تطرأ على حياة الناس، وواقعهم. فتعطيل حد السرقة مثلا في زمن عمر (ض)، كان السبب فيه ظاهرا، والعلة واضحة، لأن طرو الفقر على الذوات المحرومة من رعاية وجودها، مما يفرخ ظاهرة السرقة، ويفجر فسادا يستشري ضرره في المجتمع البشري. ولولا ما في الفقر من صلادة، وصلابة، لما سرق إلا شفىً، أو شقي. ولذا تعطل حكم النص في تلك اللحظة، لأن توقفه عن السير في صيرورة حياته، كان لسبب آخر أقوى، ولعلة أوضح، ولقياس أظهر. وهو ما توجبه الشريعة من معالجة الواقع بما تتحقق به العدالة الاجتماعية، وتعود معه مضامين البر والخير إلى المجتمع الإنساني. فلا يمكن تطبيق هذا الحد في ظروف شحت على الفقراء، وضنت عليهم بما فيها من نوال، وعطاء. وهنا صار من لازم عقد الرعاية أن تحارب النصوص الفقر أولا، لأنه المعضلة التي تنشأ منها أمراض خطرة، وفتاكة، ومنها السرقة، والحرابة، ثم تحارب من بعده نتائجه التي تتطلب حدودا شرعية متوافرة بالنص. وإذا حاربت الدولة الفقر، ومنحت الفقراء فرصة العيش، فلا محالة، ستقل ظاهرة السرقة، وإذ ذاك، سيعود النص إلى فاعليته، لعدم وجود دافع يدفع إلى السرقة، بل يتحول الوضع إلى تطبيق حد الحرابة، لاسيما إذا تجاوز السرقة فرضياتها إلى قطع الطرق، وتخويف المارة، وترويع التجار. ومن هنا، فإن فاعلية العقل في إدراك مغزى النص، هو الذي جعل عمر (ض) يعطل حكم السرقة، من أجل إعادة الاعتبار لذلك الفقير الذي منع من رزقه بعامل كوني، أو اجتماعي، وهو يحتاج إلى رمق يسد به جوعته، وعطشته. والأغرب أنه في حالة اضطراره يأكل الميتة، ويشرب الخمرة، وتخف في حقه الأحكام، وتزول عنه الحدود. لكن هل ذلك التعطيل للحد مطرد في تحقيق مناط الحكم من جميع أوجهه.؟ لم يكن ذلك مرادا لذاته، بل الدولة في صيرورتها التاريخية، ولو عطلت بعض الحدود لظروف الاضطرار التي تطرأ على المجتمعات البشرية، فإنها تسعى إلى إرجاع الحق إلى نصابه، لكي يستمر النص في فاعليته مع الواقع المتناسل بين الأحداث المتتالية. ومثل هذا قد نراه في تعطيل عمر لمتعة الحج، وهي مشروعة، لكن ما طرأ على مكة من قلة الحجيج قد منعها من الاستقرار الاقتصادي، فاختار عمر أن يمنع التمتع لمن جاء قاصدا الحج، لئلا يترك مكة قوراء بلا زوار يردون عليها، فتتعطل آليات الحركة الاقتصادية، ويتفشى عن ذلك ضرر اجتماعي، وإنساني.
وحقا، إن كثيرا من المفاهيم التاريخية والتراثية يجب التعامل معها بمنطق الشرع، وفلسفته، ومقاصده، لئلا تختل وظيفتها في واقعها التاريخي، وصيرورتها البشرية، فتؤدي إلى عكس ما هو مطلوب منها. وذلك كالجهاد، والذمي، والجزية، والولاء، والبراء، والقضاء، والقدر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والخوارج، والسلفيين. لأن الالتزام بحرفية هذه المصطلحات، أو الاكتفاء بمدلولها من غير مراعاة لمحاضن وجودها، والظروف المحيطة بحياتها، مما يشل قدرتها في حركية المجتمع، ويصيرها فارغة من معناها، أو مما يمنحها دلالات أخرى، لا تتضمنه بالاحتواء، أو بالقياس عليها. وهذه المصطلحات، وإن أترعت بحمولة تاريخية، وحضارية، قد تؤدي إلى نتائج وخيمة في تحريف بعض السياقات، بل ربما تتعرض للعبة الزيف، والكذب، أو لغلمة التنطع، والتشدد، أو لغيرها من العاهات الفكرية، والثقافية. وهنا يلزمنا أن نستحضر تاريخ المصطلحات في الدلالة على المعنى المراد منها غاية، وهدفا، ثم ننزلها على واقعنا بما يقتضيه منطق الدين، وروحه، لا بما تسترفده الذوات المضرجة بدماء التاريخ من كراهية واقعها، وعدم اندماجها في محيطها المتناقض الاتجاهات، والتيارات. ومن ثم، فإن التزام الحرفية في النصوص الدينية، أو في المصطلحات التاريخية، لا يجرنا إلا إلى تعطيل الفكر، ومنع التأويل، ورفض مرونة الدين، والتاريخ، وعدم قابليتهما للضرورات المستحدثة بين مداري الزمان، والمكان.
ولعل من بين هذه المصطلحات التي طالها التغيير مفهوم الدولة. فهل الدولة تعني تبدل الأحوال، وانتقال السلطة من يد إلى يد.؟ أم هل المقصود بمفهوم الدولة، هو ما تقوم عليه من ضرورة سريان قسط كبير من العدل، والحرية، والمساواة، والرقي الإنساني.؟ أم هي سياق عقدي، ونمط فكري، يخضع له البشر بالإلزام، ولو لم يحقق مقاصد الدولة بالالتزام.؟ لو نظرنا إلى مفهوم الدولة، فإننا نعني بها ما تقوم به من دور يرسخ بقاء حياة الأفراد، والجماعات، في ظل نظام قادر على تحقيق مبدأ الحق، والواجب، وقائم على توازن الحياة الفردية، والاجتماعية. وربما قد لا نكاد نختلف في هذا المفهوم، وسواء كنا إسلاميين، أو علمانين، لكننا نختلف في مفهوم السياسة التي تنهجها الدولة تجاه ما تبديه من عقائد، وأديان. لأن مفهوم الدولة لا يتحقق واقعيا إلا بوجود هذه الحياة المرتبطة بالنظام. وكل فرد يمتلك فيها القدرة على المطالبة بحقه، والموافاة بواجبه. لكننا نختلف في السياسة التي تظهر فيها الدولة موقفها من حرية الرأي، والفكر، والحركة. وإن كانت ضرورة الاعتراف بذلك في سياقها واجبا في بناء هياكلها، ومؤسساتها. لأن الدولة جُماع يجمع حركة البشر بنظام معين من أجل تحقيق السكينة، والأمن، والاستقرار. وكل شيء يستوجب ذلك، وله علاقة بالفرد، أو بالجماعة، فهو مندرج في هذا السياق الكلي الذي ينتظم أمر الدولة، والمجتمع. والدين على هذا الاعتبار، ليس إلا جزءا من بنية سياسة الدولة، لا هو كيانها الكلي. لأن الدين إذا عنينا به النص، فهذا أمر مستساغ، إذ النص يعتبر جزءا من الأدبيات التي تتكون منها أنظمة الدولة، وقوانينها التنظيمية. لكن إذا اعتبرنا الدين هو المقصد الذي يتحقق به المعنى الكلي للدولة، فإننا نخطئ في عدم التمييز بين النص، ومقاصده، لأن كل شيء يحقق ماهية الإنسان بمنطق التكليف، والتسخير، والتعمير، والتنمية، فهو دين غير مرفوض في السياق العام لكيان الدولة، وسواء في ذلك النص المقدس، أو القانون، أو العهود والمواثيق الدولية. لكن إذا عنينا بالدين التجربة التاريخية، لا قدسية النص، ولا مقاصده، فإن ما تطور مع الكائن البشري المتدافع نحو الحركة بين حركتي الزمان، والمكان، لن يجعل تجربة اليوم مطابقة لتجربة لتجربة الأمس على التمام، والكمال. لأننا إذا جعلنا التجربين متقابلتين، فإننا نلغي عامل الزمان، والمكان، ونحذف تطور المجتمعات، وخروجها من عصر إلى عصر، ومن عهد إلى عهد.
وعلى هذا تكون كل القوانين التي تحقق مفهوم الدولة دينا عند من لم يتوقف عقله عند لحظة مغلقة على ذاتها في تاريخنا العربي، والإسلامي. لكن هل نعني بالدين النص، وتابعه من مقصديته.؟ أم نعني به التجربة التي تفاعلت مع أمم كثيرة، وأثرت فيها عوامل متعددة.؟ إننا لو عنينا المعنى الأول، فذلك مما لا يشكل علينا فهمه، ودركه، لكن لو قلنا بأنه التجربة البشرية التاريخية، فإننا لو عدنا إلى التجربة التي تمازج فيها العرب مع غيرهم من فرس، وترك، وأمازيغ، وغيرهم، فلن نطيق تحديد مفهوم للتجربة. لأننا لو قلنا بتجربة الرعيل الأول، فإن تجربته كان سياقا في التعامل مع نص السماء، لا حركة عقدية تستلزم الخضوع، والاتباع، ولو عنينا ما عداها من التجارب، فإن إلزام الناس بمظهر واحد من مظاهرها، لن يؤدي بنا إلى محل إجماع نرى فيه رأيا واحدا. لأن التجارب قد لبست سياقات زمنها، وأرضها، ولم تتخل عن ذلك في عصر من العصور، ولا في مصر من الأمصار. ومن هنا، تكون تجربة الشرق مخالفة لتجربة الغرب، وذلك ما حدث في التاريخ، إذ قتل آل البيت في الشرق، وآواهم أهل الغرب، بل حارب الشرق الديانات الأخرى، وكان الغرب قريبا إلى التسامح مع المخالف. وهكذا، فإن اختيار تجربة مجافية للتجربة المحلية، مما يفصلنا عن تاريخنا، وأعرافنا، وفي ذلك انفصام للشخصية، وانهزام أمام الغير. إذ التشبث بالمحلية، هو المظهر الأجلى في ربط الماضي بالحاضر. لأن اعتبار الخصوصية المحلية في بناء الشخصية المتزنة، والملتزمة، لم يكن في عمقه البنائي رجعية، ولا ماضوية، وإنما كان ربطا بين الأبناء والأجداد بميثاق رابطة المكان المتواضع على أعراف وعادات معينة، تتطور مع الزمن، وتتغير، ولكنها تبقى مندرجة في سياقها الكلي الذي يظهر طريقة تفكير الشعوب، والأمم، وطريقة سلوكهم، وتعاملهم، وتعاضدهم، وتآزرهم. ومن هنا نتساءل: هل تحقق للإنسان أو للمجتمع شيء بهذه الأنظار التي تعتبر الدولة نصا شرعيا، مرادا به التجربة الأولى.؟ لا أرى عاقلا يطيق أن يجزم بأنها حققت شيئا مما وعدت من أحلام هاربة، ولا من آمال حائرة. لأن صناعة الأنموذج الأكمل لحياة الإنسان، والمجتمع، لم يتحقق في التجارب التي منحت فيها الفرصة للحركات الدينية، ولم يجف بذلك لعاب السؤال عن الغد الموعود، والمستقبل المأمول. بل تخلى الناس عن هذا المشروع، لكي يبحثوا عن تلك الحلقة المفقودة في الحياة بين مشاريع تيارات أخرى، لا تبنى الدين في طرحها السياسي. ومن هنا، فهل نعني بالدولة ما يتحق منق من حرية، وعدالة، ومساواة، وذلك مقصد من مقاصد الدين، وهو أيضا من مقاصد الدولة؟. أم نعني بها صناعة الأنموذج الذي صنعته الحركات الدينية فردا، وجماعة.؟ إننا إذا نظرنا إلى ما تحقق في حياة هذا الأنموذج، أو في هذا الشخص المثالي الذي تعتبره الحركات الدينية مجسدا لحقيقة الدين، فلن نجد سوى بعض المظاهر التي تفشت بحمولتها المشرقية في أوطاننا، ولم تكن لها من قيمة في بناء الإنسان، واستقامة المجتمع، واستكانة الدولة. لأن تحقيق ظهور بعض المظاهر في السياق العام، كارتداء الحجاب، والنقاب، وإرخاء اللحى، والاستياك بأعواد الأراك، والإكثار من أعداد المتدينين، لن يرفع من مستوى قيمة الفرد، والجماعة، ولن يحقق تطلعاتها واستشرافها للمستقبل الرغيد، لأن ذلك مما تحقق له علاقة مباشرة بقناعة الفرد، لا أمر لازم في بنية وجود الدولة التي يربطها بالأفراد والمجتمع واجبات، وحقوق. وهكذا، فإن الدولة مفهوم مشترك بين كل الكيانات التي تتكون منها بنيات المجتمع، وهي الحركة والدينامية والفاعلية التي يسير بها الأفراد والجماعات نحو الرقي، والازدهار، لا تلك المظاهر التي تدل على قناعة الفرد، ولا على خصوصية الجماعة. بل إغراق المجتمع في فرض هذه القناعات الجزئية، مما يعطل الوحدة فيما بين الأنواع المختلفة في جنس الكل. فهل وحدة المجتمع شيء هلامي في الذهن، لا تحقق إلا بمظاهر وملامح معينة.؟ أم هو ما يتحقق بالوحدة من نماء، وازدهار.؟ لو كانت الوحدة نمطا سلوكيا، لاختلفنا في السير، وفي الطرق، وفي المراحل، وفي النهايات. لأن ما غرس فينا من سمات ذاتية، ونفسية، ستجعل التوحد على شيء معين متعذرا، لكن الوحدة التي تعنيها الألفاظ في المعرفة، هي ما نقوم به من جهد في تدبير أمر المجتمع بما يحقق له اكتفاءه الذاتي في الغذاء، وفي التعليم، وفي الطب، وفي كل المجالات التي تضمن الكرامة البشرية. وهنا، أقول: إن ما عاشته بنيات المجتمعات قبل ظهور التيارات الإسلامية من تمازج وتلاقح بين الإلهي، والبشري، هو المظهر الكامل لمفهوم الوحدة التي تدعوا إليها المنابر الصادقة، وتحث عليها، لأن المجتمع كانت أدواره قائمة على احترام الخصوصية البشرية، والإنسانية. وكل ذلك مما كان له أثر على بنية القرية، أو القبيلة، أو المجتمع، أو الدولة. ومن ثم، فإن الدولة بمقدار ما تراقب أعمال الظاهر على المستوى الفردي، والجماعي، فإنها تسعى إلى أن تحمي خصوصية الوطن على جميع المستويات المكونة لجوهرها، وماهيتها، وذلك مما يضمن للإنسان حرية اختياره، ويوفر له المحضن الآمن لممارسة قناعاته، من غير أن يفرضها على غيره بالكره، أو بالعنف، أو بالسيف.
إن دور المنبر لا يتجسد في تصوري إلا بهذه المفاهيم، والمعاني، والقيم. ولذا، سأعود مرة أخرى إلى هذا الموضوع في بعد من أبعاده. ولكم تحيتي.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2
- مقالات في التصوف
- حقيقة المجرم
- مفهوم الحقيقة
- إزالة الإبلاس عن معاني الإرجاس
- أفكار مسوقة (الجزء السادس)
- أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)


المزيد.....




- وزير الخارجية الايراني يصل الى غامبيا للمشاركة في اجتماع منظ ...
- “يا بااابااا تليفون” .. تردد قناة طيور الجنة 2024 لمتابعة أج ...
- فوق السلطة – حاخام أميركي: لا يحتاج اليهود إلى وطن يهودي
- المسيح -يسوع- يسهر مع نجوى كرم وفرقة صوفية تستنجد بعلي جمعة ...
- عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي
- عصام العطار.. أحد أبرز قادة الحركة الإسلامية في سوريا
- “يابابا سناني واوا” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي ال ...
- قائد الثورة الاسلامية: العمل القرآني من أكثر الأعمال الإسلام ...
- “ماما جابت بيبي” التردد الجديد لقناة طيور الجنة 2024 على الن ...
- شاهد.. يهود الحريديم يحرقون علم -إسرائيل- أمام مقر التجنيد ف ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8