أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - التظاهرات نشاط سياسي حقق منجزاً















المزيد.....


التظاهرات نشاط سياسي حقق منجزاً


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 4909 - 2015 / 8 / 29 - 17:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تظل ورشات العمل الإنساني والبحوث الإجتماعية والمختبرات العلمية، مهما إتسعت، وتقدمت وسائلها، وتنوعت أدواتها، وتراكمت خبراتها وتجاربها عاجزة عن إصدار أحكام دقيقة، أو أقله الإطمئنان لما يصدر من توقعات حول منتهيات ما يجري حالياً في عراقنا المثخن بالجراح والآلام والأوهام واللصوصية، ولا سيما فيما يتعلق بالتظاهرات الجماهرية الواسعة في جنوب ووسط البلاد، فما بالك بقدرة الأحكام التي تقوم على الجهد الفردي، خاصة في حالة عدم تخلصها من الأهواء. وهنا لا يجري الحديث حول وصف تلك التظاهرات، أو النتائح الملموسة التي تحققت فعلاً بسببها.

أرى أن الوضع الحالي الملموس في العراق لا يتسع لإعلان نتائج قاطعة، أو تصديقها، أو رسم حدود ملموسة ونهائية له، وكذلك للطريق الذي ستسير عليه الإحتجاجات الحالية أيضاً، وبصفة خاصة ما سوف تسفر عنه التظاهرات السلمية المتواصلة منذ خمسة أسابيع من نتائج عامة لصالح النضال العادل لشعبٍ غُلَّبَ على أمره، وليس من السهل في ظل الظروف المتشابكة الحكم بعجالة على الإتجاهات والأدوات التي قد تُفرض على المتظاهرين. وهذا لا يمنع رؤية ما تحقق فعلاً من إنجاز يُنسب الى التظاهرات أو الى مطلقي تلك التظاهرات، وحق الإعراب عن الإحترام البالغ للمتظاهرين، أو دعمهم بكل الوسائل الممكنة لشد أزرهم، ولا حتى حق الفرح المشروع بالوعي الأصيل والشاب الذي يجتاح العراق، كل العراق حيث يمكن التظاهر، وحيث لا يمكن ذلك.

لا أجد إتجاه سيل الأحكام والتقديرات المتفائلة أو المتشائمة والنهائية في الوقت ذاته حول آفاق النشاط الجماهيري الحالي في العراق غير القول إني أغبط أصحابها على مقدرتهم في إصدار الأحكام الجاهزة في لحظة مازالت فيها حتى عوامل التحرك المشرف نفسه تتطلب الدراسة لكل عناصره والعوامل التي تقف خلفه ومعه وتحيط به من مسافات مختلفة طولاً وعرضاً.

إن الميل الواضح لعدم خوض محاججات مع سيل التقديرات العارم، هو الإحترام لكل من يبذل أي جهد مخلص ومتجرد، قدر الإمكان، لخدمة مجتمع مهشم عنوة من داخله ومن خارجه، ولأن الصمت قد يتحول لصالح القوى الرجعية المتسلطة والمنفلتة والشرهة، والتي أثبت سلوكها الفعلي أنها لا تتورع عن إقتراف أبشع الجرائم ضد الآخر، وحتى ضد من هم بين صفوفها في حالات معينة. ولكن لا بأس من التأكيد على أن قابلية الإختبار والتدقيق للشأن السياسي والإجتماعي في العراق قد تضررت بفعل الإنقسامات الإجتماعية العميقة، وإن الموضوع المقصود "التظاهرات" ظاهرة إجتماعية في حالة صيرورة متواصلة في مجتمع مأزوم أو ضربته أزمات عميقة، وهو مادة للإختبار من أطراف ذات قوة لا تقيم للجانب الإنساني وزناً إلا على صعيد الكلام الذي لا يتعرض لأية محاسبة، والشعب العراقي مستهدف بمجمله وبحركته العامة وبكل تفاعلاته أو تجلياته، وفي مثل هذه الحالة يصبح تصديق النتائج أو حتى وصف الظاهرة أمراً قي غاية الصعوبة وقابلاً للقبول والرفض في ذات القدر، ويكون للذات والهوى والمصالح نصيب كبير في تقويم كل شيء.

أعتقد أن ما تقدم يُشكل مدخلاً ضرورياً للنظر في تضارب المواقف بصدد مشاركة آلاف العراقيين في التظاهرات الأخيرة، وفي النظر إليها كحدث إجتماعي كبير، تسمح طبيعته بتضارب التقديرات والإختلاف في وصفها وتقديرها وتحديد دوافعها والتعرف على خط سيرها وآفاقها المحتملة والمرجوة وفقاً لمصالح الأطراف المتأثرة بها والناظرة إليها.

لا أظن أن من السهل على أي فرد أو طرف أن ينفي أن جزءاً كبيراً من التضارب في تفسير الحالة يجد تفسيره في منظومة المصالح للأطراف المعنية، أما سر الإندهاش من التحرك الواسع للمواطنين ضحايا الظلم والسرقة وتدمير البلاد فيكمن في طغيان التفسير الطائفي الضيق لإرادة العراقيين، إذ يظن الكثيرون أن الوضع الطائفي يتفوق بمراحل ومسافات بعيدة على الحس الوطني والمصالح المعاشية للمواطنين.

نعم الإحتلال بنى كل سياساته وجهده وتخريبه وطغيانه على تعميق الطائفية السياسية على أمل أن تأخذ بعداً إجتماعياً يتعمق بإضطراد، وينخر من خلاله قوة العراقيين وحميتهم على وطنهم المشترك، ويستبدل وعيهم، ويبعدهم حتى عن إدراك مصالحهم المباشرة (الخبز والحرية والأمن)، وأظن أن لا أحد ينكر ما حققه الإحتلال وخدمه من نجاحات على هذا الصعيد على حساب الشعب ومصالحه العليا، ولكن تحت ضغط تلك الأحوال ظل في جسد الوطن بعض الروح التي تقاوم الموت المعلن من واشنطن ومن عواصم غير بعيدة.

وعلى الرغم من أن الطائفية سلاح ضد مصالح الشعب ككل، وضد كل طائفة على حدة، إلا أن تطبيقاتها الممنهجة التي مارسها الإحتلال وخدمه قد أضعفت الوعي الوطني بقدر كبير، وصبت في خدمة الإتجاه نفسه رافعات أخرى منها الإمتيازات الواسعة للقشرة السياسية والإجتماعية الشرهة والإنتقامية والطموحة الى التسلط والثراء السريع، والسعي الى سد ثقوب سوداء وثغرات نفسية في تكوين تلك القشرة الشخصي والإجتماعي.

إن القلة القليلة التي تمسكت بحبال وأهداب الوطنية العراقية وجدت بعض العزاء بالنبض الذي كان واطئاً في جسد الوطن، الذي أوشك أن يضيع تحت سرفات دبابات الغزاة ولغو الخونة المنتفعين، وإرتخاء أطراف بعض أبناء الوطن المستباح من أصحاب الأطماع المريضة. ولا أنكر في الوقت ذاته أن بين من تغاضى وصمت على الإحتلال كان بعضُ مَنْ توهم بأن المحتل يوفر فرصة أو إمكانية التخلص من الدكتاتورية وإعادة بناء الوطن، ولكنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم وسط وهم كبير وأمام لصوص عتاة، لا يوجد ضمن قائمة إهتماماتهم ما يخص صالح العراق وشعبه.

إن القلة الوطنية غير الصامتة من مختلف القوى السياسية والإجتماعية وجدت لها في البدء عزاءً حقيقياً في إضراب عمال معمل إسمنت السليمانية، وفي تحركات وإضرابات عمال النفط في البصرة، وعمال وزارة الصناعة في بغداد وغيرها، وكذلك في غيرها من الفعاليات والمناسبات النضالية المطلبية في المحافظات العراقية الأخرى.

إن إتساع نطاق التظاهرات الحالية قد كشف عن عمق الوطنية العراقية الكامنة في نفوس الغالبية العظمى من العراقيين، وقد غذتها وعمقتها مآسي حياتهم اليومية بغض النظر عن المآل الذي ستتجه إليه إحتجاجات الأسابيع الأخيرة، حيث بدأت فعلاً تحبو الثقة الإجتماعية بين فئات وطوائف وأعراق المجتمع العراقي. وبديهي أنها تحتاج الى بعض الوقت لتقف على أرضية صلبة من جديد. وكانت التظاهرات أعمق رياضة وطنية من أجل الوحدة الوطنية. وهذه الحالة من أهم المكتسبات التي حققتها الإحتجاجات الحالية حتى في حالة فشلها في فرض طموحات الشارع الحقيقية، وحتى لو جرى إجهاض التظاهرات اليوم، فالشعور الوطني أعلن عن نفسه ،وقال جهاراً أنه يعيش في ضمير الناس، ولا يمكن تغيبه تماماً. وعلى الوطنيين الحقيقيين من كل الأطراف إقتناص هذه الفرصة والعمل على إنمائها وتحويلها الى حقيقة لا غبار فيها أو عليها، خاصة وإن الطائفية قد ساهمت في إضعاف نضال الناس من أجل وطنهم وحقوقهم، ولكن تلك الحقوق الوطنية العامة في نهاية المطاف ستعود هي الأقوى، وهي التي تبين الغت من السمين. إن من أولى النتائج الإيجابية للتظاهرات الحالية أنها شكلت خطوة كبيرة على طريقة الوطنية العراقية المجربة، وكشفت لحدود كبيرة القوى الزائفة، ومنحت كل الوطنيين ثقة كبيرة بأنهم يدافعون عن حقيقة كبيرة وليست وهماً.

وقف الكثير من الوطنيين العراقيين في أوقات سابق مذهولين أمام الظواهر الوحشية، التي حلّت في بلادهم بعد إحتلال عام 2003، ومن سعة حالات الإنقسام الإجتماعي بين الأديان والمذاهب والأعراق، وبين الغنى الفاحش والفقر المدقع، بين التسلط وغياب الحقوق والإنفلات. وتوهم الطائفيون العاجزون والفاسدون بأن تعميق النزاع الطائفي الى الحدود المتوخاة من قبلهم سيقتل أي إمكانية للنضال الإجتماعي من أجل العيش الكريم والحرية، وقبل ذلك تدمير الروح الوطنية.

نعم اليوم لا توجد دولة عراقية تملك السيادة على جميع أراضي العراق، أو تمثل الشعب بأسره، السلطة في بغداد تقوم على عوائد النفط، المخاوف الطائفية، والموازنة القائمة بين الولايات المتحدة ولعبتها مع القوى الإقليمية، ولكن وعلى الرغم من كل ذلك لا تريد الوطنية العراقية فقدان روحها بأي ثمن.

إن إثارة الحساسيات الإجتماعية التقليدية ما قبل مسؤوليات العيش المشترك في الدولة الوطنية المدنية (الإنغلاق الديني؛ الطائفي؛ العرقي؛ العشائري ...) ممكنة التحقق في أمد قصير في أي مجتمع مازال يحبو في طريق نهضته الحديثة، وأحياناً حتى عند مجتمعات قطعت مراحل غير قصيرة على طريق تطورها ونموها السياسي والإقتصادي والإجتماعي. تؤكد معظم التجارب على أن الحساسيات الإجتماعية تنمو وتتضخم وتفرز مخاطرها بسرعة، وتبدو أحياناً خارقة. ويساعد في تفجرها الدعم الخارجي وبعض الأساس الداخلي، وهذا يحصل في الغالب عند تجاهل أو عدم رؤية الإنتهاكات والحملات المعادية النشيطة والمديدة، التي تغذي تلك النزعات، وتصب في مجراها وأهدافها قبل أن تتجسد في أعمال ملموسة مقرونة بالموت والدماء والخوف.

الحالة الدموية الى إجتاحت وتجتاح البلاد لا تبدو لي أنها أثارت الكثير من الإهتمام المطلوب، خاصة في البحوث الإجتماعية المعلنة، ومن قبل القوى المرتبطة بالشعب أو بعض طبقاته الواسعة، على العكس من الإهتمام الذي نالته نظيراتها من الخبرات المتراكمة لدى مراكز الأبحاث المرفقة بأجهزة الدول الكبرى القادرة على هضم حقوق الآخرين أو على الأقل تلك التي لم تمت لديها الرغبة والنية في هذا الإتجاه.

حين فُجِرّتْ النزعات العرقية، وكذلك الدينية والطائفية في شرق أوروبا بعد إنهيار كتلة الدول الإشتراكية، كان الجهد الرئيسي منصب بإتجاهين الوعد بترقب قيام مجتمع الرفاه وحقوق الإنسان، الى جانب تغذية الحساسيات الإجتماعية عبر رذاذ فعال من الجهد المدروس بعناية، والذي يمثل عصارة الخبرات المتراكمة حول العوامل التي تؤدي الى إنهيار المجتمعات، وشاهد الجميع ما حصل فعلاً. إن من أبرز المهمات لإتقاء خطر الإنماء المتعمد للحساسيات الطبيعية السابقة للدولة الوطنية هو تحقيق أعلى درجات الإنتباه الوطني والإنساني لإدراك المقاصد النهائية أو المبتغاة على هذا الصعيد.

يمكن في ظروف التحولات العاصفة، سواءً جاءت عبر صدمة سريعة مثل: إحتلال أجنبي، هزيمة عسكرية كبرى، أو أية هزة داخلية عميقة أن يظهر شعور إجتماعي مرتبك يمكن وصفه بالأنا الإجتماعية القلقة والمنغلقة والمترسبة في الأعماق المظلمة من النفس البشرية، ومن خلال محركات مكبوتة عرقية أو طائفية أو حتى أقل من ذلك وأقدم، أعني قبلية أو حتى عائلية أو شخصية بحتة، ويُغلب ذلك الشعور لحين معين على الوطن، الذي يمثل وعاء مصالح جميع الإطراف والأشخاص، والأمر يصبح أكثر خطورة عند أولئك الأشخاص أو المجتمعات التي تعاني من عوامل التخلف وما ينتج عنها من عقد نقص في داخلها وإتجاه المراكز العالمية الأكثر تقدماً.

من أعقد الأسئلة المطروحة حالياً، هل يمكن أن تنتج من عملية صممها الإحتلال بهدف خلق شرق أوسط جديد قيادة وطنية تحمي العراق ووحدته ومصالح شعبه؟. قد يرى البعض أن الضغط على السلطة، وإن كان ينطوي على نوع من الإعتراف بها، قد يتحول الى مرحلة أولية بإتجاه السعي لتغيير السلطة نفسها من أجل إستكمال السيادة الوطنية.

وفي حالة وضوح إصطفاف القوى الإجتماعية يلعب ميزان القوى دوراً أساسياً، ولكن في الحالة العراقية لا توجد سلطة واحدة على كل البلاد، وتتوزع قوى السلطة في بغداد نفسها على عدة مراكز، يوحد تلك المراكز الخوف ووحده المصالح ضد المحاسبة الشعبية المشروعة والمطلوبة. ولكن من جانب آخر وفي الوقت نفسه، فإن قوى الشعب الممثلة بالمتظاهرين لا تملك قوة سياسية ـ إجتماعية واضحة ومنظمة تنظيماً جيداً، ولديها تاريخ في النضال والعمل السياسي والإجتماعي، وتمتلك خبرة تاريخية في كشف المراوغات، وقد لا تملك معطيات دقيقة عن حجم التوغل الخارجي بكل أصناف داخل السلطة وفي مراكز القوى، وقد لا تعرف حتى حدود ونوعية مشاريع الأطراف الخارجية النافذة.

إن العملية السياسية التي أنشأتها واشنطن هي أس البلاء في البلاد، خاصة بعد أن تورطت بها قوى ما كان لها أن تكون في ذلك الموقع. وقد حملت تلك العملية حشوداً من الكوادر الفاسدة من خارج البلاد ومن داخلها، وقد أثبت هؤلاء بأن لا رادع يردعهم عن الكذب والدجل والمراوغة والسرقة، وهم يملكون حالياً الكثير من مصادر القوة، التي حصلوا عليها من خلال "كرم" المحتل وأرباب النعم، والآن بعضهم يعلن التخلي عن دعم الإحتلال، والبعض الآخر يورد أحداثاً يريد القول من خلالها أنه قاوم الإحتلال، وقسم كبير مازال يرى في التخلي عن العملية السياسية القائمة منذ 2003 نهاية لدورهم التاريخي، ولا يريدون الإعتراف بذلك، ناهيك عن نقد الذات وإعادة الإعتبار الوطني الى مواقفهم، شركاء العملية السياسية لديهم ما يقاتلون من أجله، ولا سيما المصالح المبنية على أفقار الشعب العراقي في كل العراق.

وقد يسأل سائل إذاً من تبقى لإعادة بناء العراق الموحد السيد على أرضه وخيراته في الساحة السياسية خارج الطبخة التي أعدها المحتل، وشاركت فيها كل القوى المعروفة سياسياً ؟. في الظاهر لا أحد سوى بقايا النظام السابق وجماعات الإرهاب الديني السياسي، وهذا القول في الظاهر يبدو وكأنه صحيح، وليس من السهل دحضه، خاصة بعد أن هيمنت على الوضع بمعظم نزاعاته وإتجاهاته وتفرعات قوى الإرهاب المتصارعة على لافتات لا علاقة لها بالشعب العراقي ومصالحه العليا.

ولكن الواقع القائم في أحشاء المجتمع العراقي يقول غير ذلك الظاهر: لقد تبقى في الساحة السياسية بين الناس معين لا ينضب، وهو كامن في أوساط غالبية الشعب المنهوب في وضح النهار، منها على سبيل المثال لا الحصر: ما يتمثل بالجهد الدؤوب والصادق لتصفية العملية السياسية الفاشلة والمأزومة، والدعم غير المنظور الذي تقدمه مجموعات القيم العراقية المتراكمة، التي من دونها تتحول الحياة بأكملها الى غابة متوحشة، وكذلك الأوساط الوطنية المستقلة، كما لا تخلو القوى السياسية والإجتماعية في كل الأحزاب المتورطة من العناصر الوطنية المؤثرة في خلق الوعي التحرري العام، وإن أوساطاً واسعة من شركاء العملية السياسية يحاولون الخروج من مركبها قبل الغرق الكامل، والأهم أن أجيال جديدة نشأت في أجواء الأزمة، وهم يحملون نفوس طاهرة وغير ملوثة ملؤها الروح الوطنية، التي تغلي في دواخلهم، وهم يصطدمون في كل خطوة ويوم مع النمط الجائر، الذي يريد فاسدو قوى الدين السياسي فرضه عليهم. إن التظاهرات الحالية قدمت الدليل الساطع على عزلة قوى التسلط وسرقة المال العام الذين يخدمون كل الأطراف والجهات فيما عدا الشعب العراقي.

بالمقابل فإن قوى التسلط المعممة وغير المعممة لا تملك، في معظمها، مصادر قوتها بنفسها، وإنما تعتمد على الخارج، فهي رهينة لذلك الخارج، إن الجيل الجديد يرى أن من يسرق مرة ليس من السهل إئتمانه مرات أخرى، ومن يستغل القيم البائدة في العالم السفلي من كل مجتمع لن يكون في صف التقدم الإجتماعي الحقيقي أبداً، حتى في حالة عدم معارضته علناً لخلق مجتمع متقدم في لحظة ما، ولكنه في كل الأحوال لن يعمل من أجل خلق ذلك المجتمع المتقدم، ومن ساهم بطريقة ممنهجة في تدمير كل عوامل النهضة في البلاد، مثل: التعليم والصناعة والصحة العامة وقضية الأرض إصلاحاً وإستثماراً لا رجاء فيه أو منه. ويمكن القول أن الطريق العريض الذي مرت من خلاله عمليات نهب العراق، وتغذية وتأجيج الإنقسام الطائفي بالدرجة الأولى، لن يكون الطريق الذي يتحقق من خلاله الإنقاذ الوطني وبذات الأدوات البائسة.

وتأتي محاولات الإلتفاف على التظاهرات الحالية، التي هي في جوهرها رد فعل طبيعي على الجور والنهب والإستهتار من خلال التمسح بالدين، بعد أن إستطابت بعض الهيئات والشخصيات دورها الجديد وإمتيازاتها. إن زعماء الطوائف بطبيعتهم لن يتجاوزوا الروح الطائفية، إذا جد الجد لصالح الشعب والإحتكام الى إرادته الحرة، فإن قادة الطوائف سيعودون الى ديدنهم في تغذية النزعات الطائفية وإستثمار إمتيازاتها الضيقة الخاصة بهم، إن قادة الطوائف لا يخلقون مجتمع مدني تقدمي، إنهم في كل الأحوال أدوات سلب لعقل الفرد طوعاً أو إكراهاً. هذا التصور ليس المطلوب منه، ولا يدعو الى مواجهة الهيئات الدينية المختلفة لكل الطوائف، ولكن من الضروري أن تظل تلك الجهات في إطار دورها الإجتماعي الحقيقي وغير الضار إن أمكن ذلك، بل ينبغي تحرير أولئك القادة الدينيين والطائفيين من الإستغلال الخارجي ومن تجار السياسة المحليين.

من العوامل المثيرة للقلق وتسترعي الإنتباه قدرة النخب التي جلبها الإحتلال ونصبها على رأس الشعب العراقي على التلون والإنحناء ليس أمام العواصف فقط بل أمام أبسط تهديد لتلك الإمتيازات التي لا نظير لها في أغنى دول العالم وأكثرها فساداً، ولا يجب في كل الأحوال الإستخفاف بمهاراتهم في الخبث، وينبغي للثوريين الوطنيين الحقيقيين إدراك أن العوامل التي تحرك أوساطاً واسعة من السياسيين الحاليين أو من هم في إمتيازات تقاعدهم المرتفعة والباهضة على جيوب الكادحين العراقيين، ليس ذات العوامل التي تحرك الأحرار إتجاه مصلحة الشعب ورفاهيته والتي لها الأسبقية على الرفاهية والمصلحة الشخصية.

وينبغي الحذر من الدعوة الى الإستعجال بإقامة حكومة إنقاذ وطني، لأنها مخاطره كبيرة في الأجواء السائدة بين الأديان والطوائف والأعراق، وقد يكون الهدف منها قطع الطريق أمام جماهير المتظاهرين لإعادة الروح الوطنية العراقية في ساحات المدن العراقية المختلفة، خاصة وإن الإنطلاقة بدأت في البصرة، ثم بغداد وبابل، ثم النجف وكربلاء وغيرهما، وربما إغتنت التظاهرات بإنضمام حلبجة إليها، وكذلك خانقين التي تعتبر عراقاً مصغراً، وهنالك أخبار أولية وتحضيرات في مدن أخرى ربما تعمق الروح العراقية، التي باتت أكثر من مجرد إنتماء، بل إنها حاجة حقيقية ليواصل الجميع البقاء على قيد الحياة نفسها.

أهم مكاسب التظاهرات الحالية هي إعادة زرع الثقة بين أبناء الوطن الواحد بعد أن لم تترك الفئة الفاسدة المهيمنة على مصائر البلاد أية حجة للدفاع عنها حتى في أوساط المنتفعين منها، لاشك في أن أمراء الحرب من الطوائف المختلفة يخافون من وحدة المواطنين وتقديمهم للمصالح الوطنية العليا على أكاذيب مصلحة هذه الطائفة أو المذهب أو ذاك، حيث لا لمصلحة لكل أبناء الطوائف خارج مصلحة الوطن العراقي المهشم والمقسم والمنهوب والمهان حالياً من قبل كل من هب ودب.

إن القوى المهيمنة من داخل البلاد وخارجها تريد إستمرار التوتر الطائفي، ويحاول الإعلام الذي يهيمن عليه الطائفيون الإيحاء بأن الهوة التي تفصل بين الطوائف والأعراق العراقية عميقة وأطرافها متباعدة، وهم بذلك يقدمون خير خدمة لداعش وللإرهاب. إن أول خطوة على طريق الكفاح الحقيقي ضد الإرهاب سحب السلاح من جميع الأحزاب والجماعات التي لا تملك صفة رسمية، وبعضها تمثل الوجه الآخر للإرهاب البشع، والعمل على تعميق الطابع الوطني للجيش، وأن تعالج النظرة الى الطرف الآخر وكأنه جيش إحتلال، جاء ليكسر إرادته، ويهين مقدساته، وينبغي أن ندرك أن المهمة صعبة إذ لا يمكن لزعماء الطوائف أن يخرجوا من جلودهم ليتحولوا في يوم واحد من الطائفية الضيقة الى رحاب الوطن الواحد.

من الجدير ذكره أن شخصنة الأزمة أية أزمة خطأ جسيم، هذا دون أي تجاهل لدور الأشخاص في الفعل الإجتماعي وحتى التاريخي، ومن الثابت أن الشخصنة لا تتيح المجال لأخذ الأمور بحجومها الحقيقية، ففي حالة الشخصنة تلعب الأهواء، وفي حالة معالجة الظاهر أو الحالة بعواملها الموضوعية: حالة المجتمع؛ مستوى الوعي الإجتماعي، حالة التنظيمات السياسية والنقايية والقبلية؛ وضع وشعور الأقليات بكل أنواعها وحجومها؛ حجم البطالة وفرص العمل؛ الإجور والأسعار؛ حالة المؤسسات الصناعية والزراعية؛ الجوار الإقليمي ومصالح أطرافه؛ ميزان القوى المحلية والإقليمية والعالمية، ونوع تدخل الأطراف الأساسية وغيرها يمكن من خلال ذلك كله التوصل الى نتائج وخلاصات ووسائل عمل أقرب الى الواقع.

المشروع الأمريكي مازال هو هو، ومن يظن أنه إندحر ففي ذلك وهم كبير، وهنا تحديداً الحديث يدور حول خطط تقسيم العراق وبقية الدول العربية، لا يكفي بالنسبة لتلك المخططات حرب سنية ـ شيعية بل حروب بين السنة أنفسهم، وكذلك بين الشيعة أنفسهم، وبين الأكراد أيضاً، وبين الجميع ضد الجميع، ولا تبدو بذور ذلك المشروع باقية تحت التربة فقط، بل أزهرت بقدر معين، ولكن بالمقابل فإن وحدة الشعب هي القوة الرادعة الحقيقية والظافرة ضد كل ما يُقرر خارج البلاد وضد مصالح الناس.

وينبغي الإعتراف بإن العمل على تحقيق الإصلاح مهمة في غاية الصعوبة والخطورة، وليس من السهل تقدير مآلها في بلد بلغت فيه أعداد النازحين داخله خلال أقل من عام ونصف العام أكثر من ثلاثة ملايين نازح، حسب تقديرات منظمة الهجرة الدولية. وإن قرابة نصف المجتمع يعاني البطالة، ويعيش تحت خط الفقر. كما إن الإصلاح يتطلب كذلك كخطوة أولية إقصاء الآلاف من كبار الموظفين المتنفذين، ومحاسبة الأقوياء المتورطين بالإستيلاء على الأموال والممتلكات العامة. إن معالجة وتسوية تلك المهمات صعبة للغاية في مثل هذه الظروف، ومما يزيد الأمر صعوبة غياب قيادة تثق بها أعداد كبيرة من أبناء الشعب. ولكن في كل الأحوال لا خيار غير العمل على فرض الإصلاح، وإلا فإن البلد يسير بإتجاه المزيد من التدهور المريع.

ومن المخاطر الأخرى يشار الى إتساع نطاق الأمية والجهل والخرافة، حيث باتت إمكانية أن يشتعل البلد بسهولة من خلال إغتيال شخصية دينية كبيرة أو إحراق موقع ديني واردة. وليس من المعلوم ماذا سيكون رد فعل المتظاهرين إذا هاجمهم مسلحون مجهولون، أو إذا أغرقت الأحزاب الطائفية المدرعة بالسلاح والسلطة والمال التظاهرات أو على الأقل جزء منها بعناصرها وشعاراتها.

إن الوضع مفتوح على كل الإحتمالات، ومن المبكر القول أن بغداد إنتزعت أو ستنتزع سلمياً حقوقها من الفك المفترس، والثابت والمتفق عليه أن الخوف قائم إتجاه ما سيحمل المستقبل القريب من أحداث، قد تكون مؤلمة للغاية، وهو ليس خوفاً من إنغلاق الأفق الإستراتيجي، ولكنه خشية من إحتمال قطع طريق تطوير النضال المطلبي على أساس وطني شامل يضع الخطوة الأولى على طريق إنهاء الأصطفاف الطائفي بشكله الراهن، وقد لا يتورع أصحاب الإمتيازات الجائرة من دفع البلاد الى حرب أو حروب أهلية تأتي على ما تبقى من حطام.

إن المكسب الكبير الذي تحقق فعلاً من التظاهرات الحالية، يتمثل في أنها أعطت زخماً ودماً جديداً للوطنية العراقية، وأعادت الإعتبار إليها، ووضعت الطائفية في حجمها الحقيقي، وكشفت زيفها، والتظاهرات فتحت طريقاً أمام الوطنيين الحقيقيين للسعي المشترك صوب تضميد جراح العراق، وتعمق الشعور بأن طريق الوحدة الوطنية هو طريق خلاص الجميع من المحن الراهنة، وشاهد الناس كم هي جميلة الروح الوطنية الجامعة. وينبغي التأكيد في كل مرة على أن هذا المكسب قد تحقق فعلاً، وينبغي العمل على إغنائه، والشواهد عليه بارزة وتعلن عن نفسها، وبإعتراف الخصوم قبل المؤيدين، وبعثت التظاهرات رسالة محبة وطنية نادرة، وستتعمق تلك الروح في كل الأحوال، حتى لو جرى إجهاض التظاهرات اليوم. وهذا كله ليس بالفعل الضئيل.



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحظات موجزة حول كتاب آرا خاجادور
- بوتين و نيمتسوف
- أعداد النازحين واللاجئين أكبر مما نتوقع
- عراقيو بوهيميا يتضامنون مع شعبهم
- الإقامة بين العنوان والمتن
- آرا خاجادور ونبض سنينّه
- من الكوفة الى الأنبار
- شكري بلعيد يُقدم الدليل
- الإحساس بالإضطهاد الطائفي
- موسوعة الوراقة والورّاقين
- وداعاً أبا عواطف
- جيفارا: قوة المثل الثوري
- الفيلسوف مدني صالح وعطرالأرض


المزيد.....




- قرش يهاجم شابًا ويتركه ليهاجمه آخر بينما يحاول الهرب.. شاهد ...
- اكتشاف شكل جيني جديد لمرض ألزهايمر يظهر في سن مبكرة
- نتنياهو: إسرائيل يمكنها -الصمود بمفردها- إذا أوقفت الولايات ...
- شاهد: إجلاء مرضى الغسيل الكلوي من مستشفى رفح إلى خان يونس
- دراسة: الألمان يهتمون بتقليل الهجرة أكثر من التغيّر المناخي! ...
- رغم الاحتجاجات.. إسرائيل تتأهل لنهائي مسابقة الأغنية الأوروب ...
- البنتاغون قلق من اختراق روسيا لمحطات -ستارلينك- واستغلالها ف ...
- الدفاعات الروسية تسقط صاروخين أوكرانيين استهدفا بيلغورود غرب ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صواريخ أطلقت من رفح باتجاه إسرا ...
- العراق يدعو 60 دولة إلى استعادة مواطنيها من ذوي عناصر -داعش- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - التظاهرات نشاط سياسي حقق منجزاً