أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - وسام الربيعي - بين العجم والروم بلوى ابتلينا















المزيد.....


بين العجم والروم بلوى ابتلينا


وسام الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 4838 - 2015 / 6 / 15 - 08:06
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لمحات مختارة لعلي الوردي حول تاريخ الصراع (التركي الإيراني) على العراق والأثر الذي خلفه ذلك الصراع الطويل على المجتمع العراقي.


نشأة الدولة العثمانية:
تأسست الدولة العثمانية في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي – الموافق للقرن السابع الهجري ...
وكانت الدولة العثمانية في أول أمرها عبارة عن قبيلة تركمانية تعيش على الساحل الشرقي لبحر مرمرة إلى جنوب القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وقد انتهزت القبيلة ضعف الدولة البيزنطية فاخذت تشن عليها الغارات باسم الاسلام والجهاد في سبيل الله، فكان ذلك بداية نمو الدولة العثمانية وتوسعها نحو أقطار أوربا الشرقية.

تكوين الجيش الانكشاري:
في عام 1326 م تولى أمر الدولة السلطان "أورخان" الذي تأسس الجيش الانكشاري في عهده، ويقوم هذا الجيش على اختطاف الأطفال ... فكان العثمانيون يقومون بين كل حين وآخر بغارات في المناطق الأوربية ويعودون في كل مرة بعدد كبير من الأطفال يسمونهم (ديوشرمه) – أي المقطوفين – فيودعونهم في مؤسسات خاصة بهم تشبه المدارس الداخلية من أجل تنشئتهم نشأة اسلامية عسكرية.
وقد صادف في بداية تأسيس الجيش الانكشاري أن جاء إلى تركيا من خراسان رجل صوفي علوي النسب اسمه الحاج "محمد بكتاش ولي"، فسكن في القرية التي تسمى باسمه اليوم على بعد 180 كلم جنوب شرق أنقرة، وقد حصل هذا الرجل على سمعة عالية جدا في المناطق المجاورة وقصده الناس من أجل التبرك به. وحين علم السلطان "أروخان" بأمره أراد أن ينتفع من بركته ليشمل بها جيشه الجديد، فقصده بنفسه ومعه أفراد من الجيش، وقام الحاج "بكتاش" بما ينبغي في هذا الشأن ... ثم قدم لهم علما أحمر يتوسطه هلالا وسيف ذي الفقار.
ومنذ ذلك الحين صار الجيش الانكشاري مرتبطا بالطريقة البكتاشية ارتباطا وثيقا حيث اتخذ الجنود الحاج "بكتاش" شفيعا لهم ورمزا، واخذ الناس يطلقون عليهم اسم (أولاد الحاج بكتاش).

العقائد البكتاشية:
يبدو أن الطريقة البكتاشية هي مزيج من التصوف والتشيع، فهم يؤمنون بالأئمة الاثنى عشر ايمانا شديدا لا يخلو من غلو، والملاحظ أن محور التقديس لديهم هو "علي بن أبي طالب" فهم يعدونه النموذج الأعلى للانسان الذي تظهر فيه الحقيقة الالهية، وهم كذلك يؤمنون بغيبة الامام الثاني عشر ويترقبون ظهوره، ومن أدعيتهم المعروفة دعاء (نادي عليا مظهر العجائب) وهم يدعون به في النوائب اعتقادا منهم أن عليا سينجدهم كما أنجد النبي محمد في معركة أحد ...

فاصلة السلطنة:
الواقع أن الجيش الانكشاري كان له دور كبير جدا في توسع الدولة العثمانية وازدياد قوتها، فقد صارت الدولة بفضل هذا الجيش تنتقل من نصر إلى نصر في داخل القارة الأوربية ... أضف إلى ذلك أن انتصارات الدولة العثمانية في بلاد (الكفر) – حسب تعبير ذلك الزمان – لفتت اليها أنظار المسلمين في مختلف أقطارهم فأخذ المتطوعون منهم ينضمون اليها. أن كل فتح من فتوحاتها كان من شأنه أن يرفع مكانتها في نظر المسلمين ويقوي من تيار المتطوعين في خدمتها.

ظهور الدولة الصفوية:
في الوقت الذي كانت فيه قوة الدولة العثمانية تتعاظم على أثر فتح القسطنطينية كانت منطقة أذربيجان الايرانية تتمخض عن حركة صوفية قدر لها فيما بعد أن تكون خطرا جسيما على الدولة العثمانية – هي الحركة الصفوية.
ومما يجدر ذكره أن الطريقة الصفوية لم تكن في بداية أمرها تختلف كثيرا عن الطريقة البكتاشية من حيث كونها مزيجا التصوف والتشيع الاثنى عشري، وكان أتباعها يعرفون باسم (القزلباش) – أي ذوي الرؤوس الحمر – وذلك لانهم كانوا يضعون على رؤوسهم قلنسوات حمراء فيها اثنتا عشر طية اشارة الى الائمة الاثنى عشر.
وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي – الموافق للقرن العاشر الهجري – تولى قيادة الحركة الصفوية شاب يبلغ الثالثة عشر من عمره اسمه "اسماعيل"، فاستطاع هذا الفتى خلال سنوات معدودة أن يؤسس دولة قوية في إيران وأن يوسع حدود تلك الدولة حيث ضم اليها العراق وما وراء النهر وجزءا كبيرا من قفقاسيا.
يكفي أن نذكر هنا أن هذا الرجل عمد الى فرض التشيع على الايرانيين بالقوة ... وكان شديد الحماس في ذلك سفاكا لا يتردد أن يأمر بذبح كل من يخالف أمره أو لا يجاريه، قيل أن عدد قتلاه ناف على ألف ألف نفس.
ولم يكتف الشاه اسماعيل بالارهاب وحده في سبيل نشر التشيع بل عمد كذلك إلى اتخاذ وسيلة أخرى هي وسيلة الدعاية والاقناع النفسي، فقد أمر بتنظيم الاحتفال بذكرى مقتل الحسين على النحو الذي يتبع الآن ... وأمر الشاه اسماعيل كذلك بادخال (الشهادة الثالثة) في الاذان ...

فتح بغداد:
في عام 1508 م استطاع الشاه اسماعيل أن يفتح بغداد، وتشير أكثر المصادر التاريخية الى أنه فعل بأهل بغداد مثل ما فعل بالايرانيين من قبل ... وقتل الكثير من أهل السنة ونبش قبر أبي حنيفة ...

السلطان سليم ياوز:
لم يمض على احتلال الشاه اسماعيل لبغداد سوى أربع سنوات حتى تولى عرش السلطنة العثمانية في اسطنبول رجل شديد المراس لا يقل عن الشاه اسماعيل في تعصبه المذهبي وتعطشه للدماء – هو السلطان "سليم" الذي اشتهر بلقب (ياوز) ومعناه الصارم الذي لا يعرف اللين.
مهما يكن الحال فقد أعلن السلطان سليم نفسه حاميا لأهل السنة وزعيما لهم، واستحصل من بعض رجال الدين فتوى تجيز له قتل الشيعة باعتبارهم مارقين عن الاسلام، ثم وضع خطة للقضاء على جميع الشيعة الساكنين في داخل حدوده.
نظم السلطان نمطا من الشرطة السرية وأرسل أفرادها في شتى أرجاء البلاد العثمانية – الآسيوية والاوربية – بغية احصاء عدد الشيعة فيها، وقد تبين له أن عددهم يناهز السبعين ألفا بين رجل وامرأة وطفل، وبعد أن تأكد السلطان من عددهم ومبلغ تركزهم في الأماكن المختلفة أرسل جنودا الى تلك الاماكن بنسبة عددهم ... وتم عندئذ قتل أربعين ألف من الشيعة بينما أودع الباقون في السجن المؤبد.

السلطان سليمان القانوني:
في عام 1520 توفي السلطان "سليم" وتولى العرش ابنه "سليمان". وكان هذا على النقيض من أبيه رحيما يحب العدل، ووصلت الدولة في عهده إلى أوج اتساعها ومجدها. وقد اطلق الأوربيون عليه لقب (العظيم) كما أطلق عليه الأتراك لقب (القانوني) و(سيد عصره).
أخذ السلطان سليمان ينتقل من نصر إلى نصر دون أن يقف في وجهه شيء. وقد بدأت انتصاراته في السنة الثانية من حكمه عندما فتح بلغراد وقلعتها الحصينة، وبذا انفتح أمامه الطريق نحو أوربا الوسطى فيما وراء نهر الدانوب ...

فتح بغداد:
كان السلطان سليمان منذ توليه الحكم يواجه ضغطا من قبل حاشيته ومستشاريه يحثونه على (انقاذ) بغداد من أيدي الايرانيين وعلى اعادة تعمير مرقد (الإمام الأعظم) أبي حنيفة.
وأخيرا في سنة 1534 تحرك السلطان سليمان بجيشه نحو تبريز ثم انحدر منها نحو الجنوب في المناطق الغربية من إيران ... حتى وصل إلى همدان ومنها توجه غربا نحو بغداد ...
يبدو أن وصول السلطان سليمان على رأس جيشه – ومعه المدافع – إلى مقربة من بغداد بعث الرعب في قلوب الحامية الايرانية، فقد كانت تلك أول مرة يسمع أهل بغداد فيها عن المدافع ... وعلى أي حال فقد دخل السلطان بغداد فاتحا دون مقاومة، وكانت الحامية الإيرانية قد انسحبت منها قبل ذلك.
كان دخول السلطان إلى بغداد في اليوم الأخير من عام 1534، والمعروف عنه أنه لم يسمح بالنهب أو ايذاء أحد من السكان.
وبعد أن استراح السلطان في بغداد أربعة أيام ذهب لزيارة الأئمة في الكاظمية وكربلاء والنجف ... وقد أمر السلطان باتمام البناية التي بدأ بتشييدها الشاه اسماعيل في الكاظمية على قبر الامامين موسى والجواد ...
عند عودة السلطان سليمان من زيارة كربلاء والنجف زار قبر الامام أبي حنيفة، وكان الايرانيون قد هدموه ونبشوه كما أشرنا اليه من قبل، فأمر بتشييد قبة وجامع عليه.

الشاه عباس الكبير:
وصلت الدولة الصفوية قمة مجدها في عهد الشاه "عباس" الذي يلقب بـ (الكبير) ... وقد تولى الشاه عباس الحكم في عام 1588 م وهو لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
الواقع أن الدولة الصفوية كانت – عندما تولى الشاه عباس زمام الأمور فيها – مهددة بالخطر الماحق من الحدود الشرقية والغربية معا، فبالاضافة إلى الخطر الآتي اليها من جهة الدولة العثمانية كان هناك خطرا آخر آتيا من جهة دولة الأزبك الواقعة على الحدود الشرقية.
أدرك الشاه عباس أنه غير قادر أن يحارب على جبهتين في وقت واحد، فآثر أن يصالح العثمانيين لكي يتفرغ لمجابهة الأزبك، وقد تم له ما أراد في عام 1590 حيث عقد معاهدة مع الدولة العثمانية تعهد فيها أن يسلم لها مناطق آذربيجان وجورجيا وقسما من لورستان.
ثم توجه الشاه نحو الأزبك، واستطاع أن ينزل بهم هزيمة كبيرة في عام 1597 وتمكن من استرجاع المناطق المفقودة ولا سيما طوس المقدسة. ومنذ ذلك الحين بدأ عصر جديد في إيران هو الذي يعده الايرانيون (العصر الذهبي) من تاريخهم الحديث.

فتح بغداد:
في عام 1602 بدأ الشاه عباس يشن غاراته على التخوم العثمانية ... ثم صار بعد ذلك يكسب النصر تلو النصر، حتى تمكن في عام 1623 من فتح بغداد – بعد حصار دام ثلاثة أشهر أكل الناس فيها الأطفال وبلغت قيمة الحمار ألف آقجه.
والظاهر أن الشاه عباس فعل ببغداد عند فتحها مثلما فعل الشاه اسماعيل قبله، وربما زاد عليه، فقد هدم مرقدي أبي حنيفة والشيخ عبدالقادر ثم وزع دفاتر لتسجيل أسماء أهل السنة من سكان بغداد بقصد القضاء عليهم جميعا، ولو لم يتدخل "السيد دراج" كليدار الحسين لنفذ الشاه ما أراده. فقد كان هذا السيد ذا جاه لدى الشاه واستطاع أن يشفع للكثيرين من أهل السنة وسجل اسماءهم في دفتره باعتبارهم من (محبي أهل العبا) – أي من الشيعة – فانقذهم من القتل.
زار الشاه عباس – بعد فتح بغداد – المراقد المقدسة في الكاظمية وسامراء وكربلاء والنجف، وبذل فيها الأموال تعميرا وهدايا ...

السلطان مراد الرابع:
كان السلطان "مراد" كأمثاله من الجبارين القدامى سفاكا للدماء قاسيا إلى أقصى حد ... ولم يكن يقل عن سلفه السلطان سليم ياوز في شدة البطش حتى صار اسمه يضرب به المثل في القسوة، وقد اشتهر عنه أنه كان لا يأبه بحياة الآخرين وقيل في مدحه إنه (لا يصفح عن جرم غير جرمه).
لم يكد السلطان مراد يستلم زمام الحكم حتى بدأ يعد العدة لاسترجاع بغداد من أيدي الصفويين، ثم وجه اليها قوات كبيرة مرتين أولاهما في عام 1624 والأخرى في عام 1630، وقد حوصرت بغداد في كلتا المرتين وضيق عليها الخناق ولكن الجيش العثماني اضطر في كل مرة أن يرفع الحصار وأن يعود من حيث أتى.
وفي الوقت الذي كان فيه السلطان مراد مشغولا بمحاولاته الفاشلة لاسترجاع بغداد كان الرأي العام السني شديد الامتعاض من استمرار بقاء بغداد في أيدي العجم. يحكى أن أحد الدراويش قصد اسطنبول من بغداد بغية مقابلة السلطان ولومه على تأخر (انقاذ) بغداد، وفي يوم جمعة دخل الدرويش المسجد الذي يصلي فيه السلطان ولم يكد يلمحه قادما حتى صاح في وجهه وهو يرتعش من شدة التأثر قائلا: (أنت تخفي نفسك بين حرسك وحريمك لاهيا بالأنس والطرب ... أما سمعت أن العجم هدموا قبر الشيخ عبدالقادر؟!) وقيل إن السلطان تأثر كل التأثر من كلام هذا الدرويش وأقسم بأغلظ الايمان أنه سينقذ بغداد من أيدي العجم ويعمر من جديد قبرا للشيخ عبدالقادر يليق بمقامه.

استرجاع بغداد:
في عام 1637 فرغ صبر السلطان مراد فأخرج (الطوغ الهمايوني)، وهو العلم الخاص الذي لا يخرج إلا في الضرورة القصوى، واصدر (الفرمان) بالتأهب لفتح بغداد على أن يكون على رأس جيوشه على منوال ما كان يفعله اسلافه العظام كسليم ياوز وسليمان القانوني. وعندما تحركت الجيوش من اسطنبول لبس السلطان زي العرب تشبها بأصحاب الرسول عندما كانوا يتأهبون للجهاد.
وعندما وصل السلطان بجيوشه إلى مقربة من بغداد، وفرض الحصار عليها، أمر أن تنصب خيمته الخاصة (الأوطاغ) على شاطئ دجلة أمام قبر أبي حنيفة دون أن يذهب لزيارته إذ قال: (انني أخجل من زيارته قبل أن تفتح بغداد).
استمر الحصار أربعين يوما أبدى فيه الفريقان من الاستماتة في القتال أمرا عجيبا. وفي 22 كانون الأول 1638 أحدثت المدافع العثمانية ثغرة في سور بغداد من الجهة الشرقية ... فتقدم العثمانيون نحوها واشتد القتال بينهم وبين الايرانيين في تلك الثغرة طوال يومين كاملين ... وفي اليوم الثالث سل وزير السلطان سيفه فهاجم الثغرة على رأس جنوده وهم يهتفون (الله .. الله) ... فدخلوا السور وانكشفت المدينة أمامهم ...

عقابيل الفتح:
لم يكد الجنود العثمانيون يشقون طريقهم عبر سور بغداد حتى أرسل بكتاش خان قائد الحامية الايرانية إلى السلطان مراد يعلن استسلامه هو وحاميته ... وشهدت بغداد اذ ذاك مذبحة لا تقل في بشاعتها عن افظع مذابح التاريخ.
اختلف المؤرخون في تعيين سبب المذبحة، فالأتراك منهم يعزونه إلى اخلال الحامية الايرانية بشروط الاستسلام، والايرانيون يعزونه إلى روح الانتقام العنيف الذي سيطر على الجنود العثمانيين عند دخولهم بغداد، ومهما كان السبب فقد انثال العثمانيون على أفراد الحامية الايرانية فامعنوا فيها ذبحا وتقتيلا بحيث لم يسلم منها سوى ثلاثمائة جندي مع العلم أنها كانت تبلغ عند الاستسلام زهاء عشرين ألفا.
والغريب أن مذبحة أخرى وقعت بعد تلك بأيام قليلة، وكان سببها انفجار مخزن للبارود في بغداد حيث قتل به ثمانمائة من الانكشاريين وعند ذاك أمر السلطان بالذبح العام انتقاما. وقد اختلف المؤرخون – هنا أيضا – فيمن شملهم الذبح. فالمؤرخ كريس يذكر أن الذبح شمل سكان بغداد – وربما يقصد الشيعة منهم – ونقل عن المؤرخين الأتراك أن عدد القتلى في هذه المرة بلغ ثلاثين الفا.
وبعد انتهاء المذبحة تقدم الباقون من سكان بغداد صفوفا بأطفالهم ونسائهم وهم يصرخوم (الداد – أمان)، فأصدر السلطان أمره بالأمان لهم ...
وذهب السلطان بعدئذ لزيارة أبي حنيفة في الاعظمية وقال: (الآن حقت الزيارة) فقرئ هناك الختم الشريف وتليت الأدعية وذبحت القرابين وبذلت الصدقات.
وفي 17 شباط من عام 1639 غادر السلطان مراد بغداد ... وعند وصول السلطان إلى اسطنبول استقبل فيها استقبالا منقطع النظير ...

انتقال الخلافة إلى العثمانيين:
كان انتقال الخلافة إلى العثمانيين موضع خلاف وجدل بين الفقهاء، وقد أعترض بعضهم على هذا الانتقال استنادا على ما ورد عن النبي من أنه قال: (الأئمة من قريش). والشائع أن السبب الذي جعل الدولة العثمانية شديدة التمسك بالمذهب الحنفي هو أن أبا حنيفة كان لا يأخذ بهذا الحديث ويرى من الجائز أن تكون الخلافة من غير قريش.
الواقع على أية حال أن العثمانيين استفادوا من فكرة الخلافة فائدة كبيرة، ذلك أن اعتقاد المسلمين بتلك الفكرة قوى نفوذ الدولة العثمانية وسهل حكمها للناس تسهيلا عظيما.

الايرانيون والتشيّع:
إن الأبحاث التاريخية تشير إلى ... أن العراق هو منبع التشيع وقد انتقل التشيع منه إلى إيران وإلى غيرها من البلاد الاسلامية، وهنا حقيقة تاريخية يكاد يجمع عليها الباحثون الآن وهي أن الايرانيين كانوا في الغالب من أهل السنة والجماعة وقد ظلوا كذلك حتى بداية القرن العاشر الهجري – أي القرن السادس عشر ميلادي – وهم لم يدخلوا مذهب التشيع إلا منذ ذلك القرن على أثر ظهور الدولة الصفوية هناك.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الايرانيين عندما كانوا سنيين اشتهروا بأن أكثر علماء أهل السنة منهم، وقد استفاضت هذه الشهرة عنهم حتى نسب الرواة إلى النبي حديثا في تأييدها هو: (لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس). وعقد ابن خلدون فصلا في مقدمته حاول فيه تعليل ذلك ...
فالظاهر أن المجتمع الايراني كان ذا ميل قوي نحو طلب العلم والانهماك فيه على وجه من الوجوه، وقد شهدنا أثر ذلك عندما تحول الايرانيون إلى التشيع حيث أصبح أكثر علماء الشيعة منهم أيضا. ونبغ اذ ذاك أفذاذ مشهورون لا يقلون في انتاجهم الفكري عن أسلافهم الأولين، ولكن الفرق بينهم وبين أسلافهم هو أنهم شيعة بينما كان أسلافهم من أهل السنة.
وقد نشأ في العراق من جراء ذلك وضع اجتماعي فريد في بابه هو أن الشيعة الذين يؤلفون أكثرية السكان في العراق هم من العرب بينما أكثرية علمائهم من الايرانيين.
إن هذا الوضع ليس من شأنه أن تكون له تلك الأهمية لو قدر للعراق أن يكون جزءا من الدولة الايرانية، ولكن القدر شاء للعراق أن يكون جزءا من الدولة العثمانية، وبهذا صار المجتمع العراقي منشقا على نفسه لا يدري أين يتجه، فحكومته كانت مرتبطة بتركيا تأخذ أوامرها منها بينما أكثرية شعبه مرتبط بايران.

استفحال الصراع الطائفي:
كانت الدولة العثمانية قد ظهرت في تركيا منذ القرن السابع الهجري، غير أنها اتجهت في توسعها أولا نحو الغرب باتجاه أوربا، وهي لم تتجه نحو الشرق أي باتجاه العراق وغيره من البلاد العربية إلا بعد ظهور الدولة الصفوية في إيران. ومنذ ذلك الحين صار العراق موضع نزاع عنيف بين الدولتين الايرانية والعثمانية واستمر كذلك ما يزيد على الثلاثة قرون، ومن هنا نشأ المثل المشهور في العراق: (بين العجم والروم بلوى ابتلينا).
إن هذه (البلوى) التي ابتلي بها العراق اذ ذاك نشأت من كون الدولة الايرانية اتخذت التشيع شعارا لها بينما اتخذت الدولة العثمانية شعار التسنن، فأدى ذلك الى استفحال الصراع الطائفي في العراق الى درجة لا تطاق. حيث صار أهل العراق لا يفهمون من شؤون حياتهم العامة سوى أخبار هذه الدولة أو تلك، وكل فريق منهم يدعو الله أن ينصر احداهما ويخذل الأخرى.

لم يكن أهل العراق في ذلك الحين يعرفون شيئا من المفاهيم السياسية الحديثة كالوطنية أو القومية أو الاستقلال، بل كان جل ما يشغل بالهم هو الاحساس الديني المتمثل بالتعصب المذهبي. ومعنى هذا أنهم لم يكونوا يعتبرون الايرانيين أو الأتراك أجانب هدفهم احتلال البلاد والانتفاع بخيراتها، إنما كان كل فريق منهم ينظر الى الدولة التي تنتمي الى مذهبه كأنها حامية الدين ومنقذة الرعية.

***********

تلك كانت بعض المختارات من كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) للدكتور علي الوردي. اخترتها بانتقائية وعناية شديدة لتسليط الضوء على البعض القليل من العمق التاريخي القريب لما يجري اليوم على الساحة العراقية من صراع تركي إيراني متمثلا بداعش والجماعات الجهادية السنية التي دخل سوريا والعراق عن طريق تركيا بغطاء ورعاية حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي من جهة والجماعات الشيعية المسلحة المدعومة بقوة من حكومة الولي الفقيه في إيران، فتدور عجلة التاريخ من جديد على الشعب العراقي لتنمحي لدى شريحة واسعة جدا منه معاني ومفاهيم الوطنية والقومية لتحل محلها معاني ومفاهيم الطائفية والمذهبية بابشع صورها مرة أخرى.



#وسام_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابوذيات في المهجر
- رجال الدين والسياسة
- وضوء الياسمين
- كمال الطبيعة
- الثورة والدولة.. صراع التناقضات
- الساموراي السبعة
- حزب خالد وحزب بلال
- خادم سويسري ولا سيد عراقي


المزيد.....




- سلاف فواخرجي تدفع المشاهدين للترقب في -مال القبان- بـ -أداء ...
- الطيران الإسرائيلي يدمر منزلا في جنوب لبنان (فيديو + صور)
- رئيس الموساد غادر الدوحة ومعه أسماء الرهائن الـ50 الذين ينتظ ...
- مجلس الأمن السيبراني الإماراتي يحذّر من تقنيات -التزييف العم ...
- -متلازمة هافانا- تزداد غموضا بعد فحص أدمغة المصابين بها
- ناشط إفريقي يحرق جواز سفره الفرنسي (فيديو)
- -أجيد طهي البورش أيضا-... سيمونيان تسخر من تقرير لـ-انديبندت ...
- صورة جديدة لـ -مذنب الشيطان- قبل ظهوره في سماء الليل هذا الش ...
- السيسي يهنئ بوتين بفوزه في الانتخابات الرئاسية
- الفريق أول البحري ألكسندر مويسييف يتولى رسميا منصب قائد القو ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - وسام الربيعي - بين العجم والروم بلوى ابتلينا