أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فارس حميد أمانة - الأزمنة الصعبة















المزيد.....


الأزمنة الصعبة


فارس حميد أمانة

الحوار المتمدن-العدد: 4799 - 2015 / 5 / 7 - 10:44
المحور: الادب والفن
    


لو كانت الحرية ربا .. لسجدت له

(1)

حفرت هذه اللحظة المجردة في وجداني .. نقشتها في كل خلية من خلايا جسدي المنهك ثم اختزنتها بعمق .. تحسست صدأ الحديد على يدي المرتجفتين .. هل عرف صانعك انك ستقيد روحي كما تقيد يدي ؟ هل عرف انها ستأكل من لحمي طوال سنوات ؟ سقط القيد على الأرض الرطبة وأنا أسمع خشخشة سقوطه وكأنني أسمع هذا الصوت لأول مرة .. تحسست عروق يدي النحيلتين المرتجفتين من القهر .. والغضب .. رأيت هالة بنية ترتسم على يدي كالسوار الذي رسم لوحة صدئة .

اقتادني أحد الكلاب الى الممر .. ثم الى الباحة .. شعرت فجأة بوخز شديد في عيني سبب لي ألما فأغمضتهما بسرعة .. كان تأثير الضوء المفاجيء قاسيا على عيني بعد سنوات طويلة من البقاء في زنزانة مظلمة ففتحت عيني بعد ذلك ببطء وأنا أجعل من يدي الاثنتين ستارة واقية من الضوء .. أصبح بعدها الوخز أضعف الا انني لم أكن لحظتها أقدر أن أفتح عيني الاثنتين بشكل طبيعي ..

نظرت الى يميني .. تلك شجرة الصنوبر التي كنت أراها في أول أشهر سجني قبل أن أرمى في زنزانة انفرادية .. كم كنت أستمتع بمراقبة العصافير التي تأتيها لتنام على أغصانها كل غروب حيث كنت أرقبه من كوة صغيرة .. وعندما رفست برجلي أحد الكلاب رميت في الزنزانة الانفرادية فكان أول شيء أفتقده شجرة الصنوبر تلك وعصافيرها الكثيرة والشمس تختفي خلفها تحت الأفق الناري .

عندما رميت في زنزانتي لأول مرة كان القمر يختبيء خلف الجذع المتين لشجرة الصنوبر .. كان مدورا .. شاحبا .. تمتزج فيه ألوان الليل والوحشة والقهر .. وعندما رميت في الزنزانة الانفرادية الأرضية لم أشطب على الحائط شطبا جديدا بأظافري الخشنة كما أفعل كل يوم فقد انتهت علاقتي بالزمن .. كان هذا القمر هو دليلي على عدد الليالي التي كنت أقضيها في الاعتقال فأعرف من اطلالته التاريخ والزمن .. وبفقدانه فقدت الترابط مع الزمن ولم يتبق لي من احساس سوى بالمكان .. وبالوحشة .

ابتعدت بي قدماي المتثاقلتان عن الشجرة العجوز فتلقفني بعد الساحة ممر طويل آخر لتلفظني البوابة الكبيرة .. تنشقت الهواء البارد فتسللت الي من خلال أنفي رائحة التراب المنبعثة بعد المطر .. كانت السيارة البيضاء تنتظرني وبداخلها كلبان مسلحان رافقاني حتى باب بيتي .. فأنزلاني بدفعة على ظهري .. هل سأجد أحدا في هناك ؟ هذا باب بيتي .. وقفت طويلا أتأمله .. تلمسته بيدي الضعيفتين .. أحبك أيها الباب الذي سيفتح عن الجنة .. تهاوت مرة رجولتي وصلابتي أثناء التعذيب الذي جعلني أفقد وجداني لأسقط في متاهة هذيان وأنا أهمس بصوت متحشرج كصوت ذئبة تحتضر : " الباب .. باب بيتي .. أريد البا .. ا .. ا .. ا .. ب " .

وبين لحظات وعي قليلة ولحظات غياب عن الكينونة أحسست بأن الكلاب تنزلني عن المروحة التي علق بها جسدي النحيل فطاف في خاطري ان طقوس التعذيب قد انتهت لهذا اليوم على الأقل .. لكن الأرجل سرعان ما انهالت علي بالركلات في خاصرتي وبطني وظهري .. شعرت بأن حيوانات برية هائجة ترفسني بأرجلها برفسات مؤلمة وقاسية ومعذبة .. بصق أحد الكلاب في عيني وهو يضرب رأسي بالحائط وأنا لا أزال أهذي باحثا بيدي عن باب بيتي بين أرجلهم .. كان الألم لا يطاق .. وما بين الوعي الضعيف والغياب عنه أحسست انني أتقيأ كل جوفي على ملابسي الرثة وأصوات الكلاب لا تزال تقتحم طبلتي أذني .. ماتت الكلمات طي شفتي المتيبستين .. شعرت فجأة بألم يكوي بطني .. أطفأ أحد المسعورين سيجارته ببطني ..
مد آخر يديه يمزق ملابسي الداخلية المهترئة ثم طرحني أرضا على بطني وهو يباعد ما بين فخذي ثم كتفني بقطع من ملابسي الممزقة .. أعتلى جسدي كلب شبق منهم كما يعتلي كلبة في فترة النزو .. صرخت برعب وعيناي تجحظان بقوة .. تيبس حلقي وأنا أحس به يقحم عضوه في أستي ليطفيء فيه شهوته القذرة ..
غبت عن الشعور طويلا ..

(2)

دفعت الباب برفق فقد كان مفتوحا ..
نفس المدخل الذي لم يتغير منذ اعتقالي قبل سنوات .. نفس قطع الأثاث التي تركتها آخر مرة لم تغير زوجتي حتى أماكنها .. أما على حائط الممر الصقيل فقد علقت صورة زفافي التي كانت معلقة قرب سرير نومنا .. كان هذا هو التغيير الأول الذي ألحظه .. حدقت في الصورة طويلا فخيل الي انني أطالع فيها صورة شبابي وأنا أقفز في أركان البيت سعيدا كأنني طفل ..

على الكرسي لاحت لي هناك منشفة حمام رميت باهمال غير متعمد فامتدت يدي اليها برغبة مبهمة .. تحسستها برفق .. كانت لا تزال مبللة .. رفعتها الى أنفي ببطء فعرفت رائحة بشرة زوجتي تعبق منها بوضوح .. التفت الى الجانب فالتقت عيناي بجسد صغير مسمر قرب كرسي معدني .. كانت نظرة الطفل مزيجا من الخوف والاستغراب من القادم الغريب .. تسمرت مكاني أيضا .. حدقت في عينيه .. انهما عيناي الكبيرتان نفسهما .. وهذا الأنف المستدق هو أنفي .. هذه جبهتي العريضة .. شعري .. هذه طفولتي كما نقلتها لي صوري القديمة .

تسلل خلال دمي شعور فرح طفولي غامر ممزوج بدهشة كبيرة .. فار مزيج المشاعر عندما ركعت أمامه وتركز في عيني المتوهجتين ثم تسلل عبر أصابعي المرتعشة الممتدة نحو شعره تربت عليه وتتلمسه بحنان مفرط .. فوجيء الطفل بحركة يدي نحوه فازداد التصاقا بالحائط وعيناه تدوران بقلق شديد باحثتين عن منقذ .. التفت يساره ثم ركض باتجاه غرفة نومنا متعثرا بلعبة مرمية على الأرض .. أحدث سقوطه صوتا فلفظ باب الغرفة جسدا ملتفا بثوب منزلي بارد اللون .

آه .. يا الهي ..

كم مر من زمن وأنا أجتر شوقي اليك .. ولهفتي .. وقلقي المختلط بنزيف آلامي وحنيني لعينيك .. حنيني الذي تفجر في هذه اللحظة المجردة بشدة حتى أضحى الما يعتصر الحنجرة .. والآن .. تقفين أمامي مبهوتة .. ملتاعة .. ضعيفة .. مبذولة .. فاتنة .. وجسدك ينز رطوبته من خلال ثوبك المنزلي .. وشعرك بلون التمر يتكوم فوق جبينك خصلا مهملة يقطر منها الماء .

تماسكت والكلمات تتحجر فوق شفتي المتيبستين .. وقفت زوجتي تحدق بعيني وشهقة ميتة تتجمد فوق شفتيها الكرزيتين الرطبتين .. توقف كلانا عن الحركة تماما .. قدماي ملتصقتان بالأرض ويداي كتلتان معدنيتان ثقيلتان ..
عندما هوى جسدها الى الأرض .. كان طفلي يصرخ برعب .

(3)

همست بي زوجتي وبصوت خفيض : " دعه يلعب .. انه لم يرك مطلقا وسيعتاد وجودك شيئا فشيئا " وعندما لم أرد ولاح القلق على قسماتي أردفت : " سيتقبلك .. أنا متأكدة من ذلك .. اترك ذلك للأيام وسترى " .. حدقت فيه وهو يلعب بلعبته المفضلة موليا ظهره اياي .. هذه أجمل نبتة في الكون .. انه ظلي .. امتدادي .. بقية وجودي .

أحسست بلمسة رقيقة على شعري .. كانت يد زوجتي تمر على شعري وتتخلله بكل رقة وحنان تسرب الى جسدي .. رفعت عيني فالتقت بعينيها الصافيتين العميقتين الممتلئتين حبا ورغبة في الحياة .. سبحت في العينين طويلا .. وعندما عدت للشاطيء نظرت الى عينيها مرة آخرى .. كانتا تمتلئان ماءا رائقا ما لبث ان عبر حافة أحد الجفنين ليسيل على طول خدها وحتى أسفل ذقنها مختلطا بليل كحل عينيها .. كان أمطارا سوداء تثير الرغبة .. والحب .. والحنان .. لمست يدها التي كانت تربت بها على شعري .. قربتها من شفتي .. فلثمتها .

انزلق رداؤها عن عنقها عندما جذبتها الي برفق .. ملت بشفتي على عنقها الأبيض الناصع .. كان عنقا ناعما .. دافئا .. عطرا .. زايلني قلقي رويدا رويدا وأنا أتنشق رائحة جسدها فتسللت الى دمي صاعدة الى رأسي كالخمر .. هويت بشفتي الظامئتين فوق شفتيها الطريتين فوجدتهما مرتعشتين .. محمومتين .. أحاطت عنقي بذراعيها الرقيقتين .. جذبتها الي ويداي تحيطان بخصرها فألصقت نهديها على صدري فأحسست بارتعاشتهما فوق أضلعي الحرى .. تسللت بشفتي أسفل عنقها فشعرت بالتوهج .. راودتني في تلك اللحظة المجردة رغبة عنيفة بالبكاء .. قاومت تلك الرغبة بكل ما أوتيت من قوة .. شعرت باقتراب وجداني من حافة الانهيار فتفجر وجعي لحظتها أمطارا ساخنة سالت على نهديها الفائرين مختلطة بعرق جسدها ..

ربتت يداها الاثنتان على رأسي .. وصدري .. ثم ضمتني الى صدرها محتضنة رأسي بقوة ممزوجة بالحنان والعطف .. دفنت وجهي في نهديها كطفل خائف ..تسلل الهدوء الى نفسي شيئا فشيئا .. فشعرت بقطرات ساخنة تنزلق من عينيها لتسقط فوق شعري .. هدأت أكثر .. ثم .. شعرت بأنني متعب .. متعب جدا .. فرحت في اغفاءة عميقة .


(4)

- " اسمك الكامل"
- " ............."
كأنكم لا تعرفون اسمي يا أبناء الأرحام النتنة .. الا تعرفني يا من تجلس على كرسيك كملك يجلس فوق عرشه .. يا ابن المومس الا تتذكرني يوم جمعتنا نفس هذه الغرفة ذات يوم وقبل سنوات ؟ يوم أتت بي كلابك الى هنا ثم قذفتني قدام حذائك البني اللامع وكأنني حيوان قذر لا ينبغي له أن يعيش أكثر مما عاش ؟

- " ما اسمك يا ابن البغلة ؟ "
- " ......."

اسأل قدمك التي ركلتني عن اسمي .. اسئل يديك القذرتين اللتين مزقتا أمام عيني أوراقا كتبت عليها بخط يدي أحلى قصائدي .. اسئل فمك القذر الذي لطخ وجهي ببصقة من لعابك النتن الذي لا زالت رائحة عفونته تشق منخري .. اسأل مقدم حذائك اللامع الذي أدخلته في فمي وأنت تصرخ : " كل .. فلن تجد الليلة طعاما في فندقنا " .. اسئل هؤلاء الأوغاد الذين لا أعرف من منهم كان يغتصبني وأنا بين الحياة والموت .. " حضرة الضابط يسئلك عن اسمك .. هل أنت أصم ؟ " .. زعق بي صوت هدر خلفي وهو يلكزني بعصاه في خاصرتي .

- " ك "
" اسمك الكامل يا ابن الكلبة " .. صرخ الضابط بوجهي مع صفعة مفاجئة وقوية أفقدتني توازني فهويت ساقطا على الأرض .

- " اسمي ك . س . أ "
- " متى خرجت من هنا آخر مرة ؟ "
قلتم لي ذات مرة انكم تعرفون كل شيء ولا فائدة من سكوتي فما بالكم لا تعرفون متى خرجت..

- " أجب .. والا " .. صرخ بي أحدهم مع لكمة على وجهي ..
- " قبل شهر "
- " هل التقيت بالمدعو ص ؟ "
- " كنت أعتقد انه خارج البلد ؟ " .. سئلت

" بل رجع كما تفيد معلوماتنا الا انه لم يتوجه الى بيته .. لقد اختفى .. وستأتي الى هنا لتخبرنا عن مكانه ان التقيت به .. ربما ستلتقيان لتتحدثا عن الشعر وأدب المقاومة " قال الجملة الأخيرة بتهكم شديد وهو يبحث في عيني عن أي أثر ل " ص " ؟
بعد تحقيق سريع تضمن سيل شتائم وركلات أخذوني الى غرفة صغيرة لا يوجد فيها غير كرسي واحد وفراغ موحش فدفعني أحدهم بمرفقه بعنف قائلا : " انتظر هنا " .. مرت ساعات طويلة .. قاسية .. فداخلني قلق ممزوج بارتياب تسلل الى عروقي فابتدأت أدور في الغرفة الموحشة .. اصطدمت بالكرسي دون أن أراه .. التفت اليه .. كان مقلوبا .. أبقيته كذلك فهو جزء من مكان أرفض بكل قوة أن أكون فيه .. شعرت بالتعب الشديد وأنا لا أزال أذرع بلاط الغرفة جيئة وذهابا .. أرجعت الكرسي الى وضعه الصحيح لأجلس عليه .. مددت يدي الى جيبي أتحسس أثر علبة سجائري التي صادروها بعد أن أفرغو كل ما في جيوبي مفتشين حتى في ملابسي الداخلية .

أريد سيجارة .. أريدها الآن .. والا سأنفجر ..

طافت فبمخيلتي ذكريات شهر رهيب مر علينا في بداية اعتقالي مع بعض رفاقي .. لم يسمح لنا أحد بالخروج الى الشمس حتى تقرحت جلودنا من العرق والقذارة والرطوبة .. كنا نتغوط ونتبول في صفيحة معدنية صدئة تبقى معنا في نفس المكان حتى امتلائها ولا يسمح لنا بتفريغها الا عند امتلاءها حيث يخرج أحد المعتقلين حاملا معه صفيحة الغائط ليفرغها خارجا وبندقية مصوبة خلف ظهره تثقبه ان فكر بالهرب حتى مجرد تفكير .. مرة ظللنا نشتم ونصرخ ونقرع الصفيحة ليخرج أحد منا لافراغها الا انهم أصموا آذانهم عقوبة لنا فكانت النتيجة ان هد الارهاق أجسادنا فنمنا حتى الصباح والغائط يتسرب منها تحت أجسادنا .

عند الصباح كان القرار القاتل .. كعقوبة أشد على وقاحتنا وضوضاءنا سحبت منا الصفيحة .. فكان علينا أن نتغوط عند الزاوية كالحيوانات فتسربت قذاراتنا الى الخرق البالية التي كنا ننام عليها فأصبنا بالجرب وغطت جلودنا التقرحات فأخرجونا للشمس ورشاشات الماء تنهال على أجسادنا شبه العارية .. كان أول شيء فكرنا به هو القفز في بعض حفر الماء الآسن الذي تكون توا ثم التمرغ بالوحل كالحيوانات الجرباء فكانت تلك جنة خلد دامت عدة ساعات .
ثم بعد ذلك كان الحراس يخرجوننا كل صباح لساعتين أو ثلاثا نعرض فيه أجسادنا للشمس .. تحول تفكيرنا للسجائر بعد ان منعت عنا فترة طويلة .. توقفت ذات صباح شتوي أمام عريشة عنب متيبسة .. كان معتقل آخر قد توقف قبالتها يرقبها باندهاش وكأنه يراها لأول مرة .. نظرت اليه نظرة مرتابة .. نظر هو الي كذلك .. التفت الي وقال لي بهمس :

- " أتفكر مثلي ؟ " ..
- " أتقصد ؟ " .. قلتها وأنا أشير الى العريشة ..

لم يدعني أكمل بل أشار لي بالصمت .. سرعان ما راحت أيدينا تمتد بسرعة وخفة شديدتين الى أعواد العنب اليابسة تقطفها ..حذا بقية المعتقلين حذونا وهم يقطفون بأيد متلهفة وعيون مفتوحة على سعاتها وقلوب غير مصدقة .. أخفينا كنوزنا في طيات ملابسنا الرثة ورحنا نفكر في كيفية اشعالها .. عند رجوعنا الى الداخل وأثناء مرورنا بالممر مددت بعود منها وسط الزحمة الى مدفأة كانت فيه ثم أخفيت العود في جيبي وأنا أحميه بأصابع يدي خوف أن يحرق ملابسي ..

وعندما دخلنا القاعة توزعنا على الزوايا المظلمة ونحن نشفط الدخان الرهيب من الأعواد اليابسة .. شعرت عند أول شفطة بسكين حاد يحز بلعومي أعقب ذلك ألم شديد نزل عبر حنجرتي الى صدري .. لكن الألم الحاد المصحوب بالسعال لم يمنعني من استشعار لذة الخدر المفاجيء الذي تمكن من جسدي .. كانت لذة رهيبة .. قاتلة .. مؤلمة .. الا انها رغم كل ذلك الألم .. كانت لذة ممزوجة بالشغف والخدر .. شعرت برئتي تكادان تتمزقان الا انني كنت غائبا في أتون الشعور الجديد .. ظل أحد المعتقلين يشفط الدخان الرهيب بجنون وعيناه تجحظان وأوداجه تنتفخ .. ظل هكذا حتى ساعة متأخرة من الليل .. عند الفجر سقط مغمى عليه لكن أحد منا لم يشعر بذلك فقد كان الجميع نياما .. وعندما أخرجوه عند الظهيرة كان الرجل جثة متيبسة .. القى الجميع ما لديهم من الأعواد المتبقية من الكوات .. ثم .. عم الصمت .

رجعت من ذكرياتي على صوت الباب يفتح فهب جسدي من الكرسي متوفزا فكل الاحتمالات واردة ثم صرخ بي شخص أبرص أراه لأول مرة : " هيا .. أخرج " .. لم أصدق .. الا انني خرجت متجاوزا البوابة الكبيرة .. ملأ هواء الحرية البارد رئتي فاستنشقته بقوة متلذذا ببرودته وهي تحتلني حد العمق .

(5)

غفا طفلي الصغير في حجر أمه فهربت الى الغرفة المجاورة مختليا بنفسي .. مفكرا بعمق ومحاولا الهرب الى داخلي من انفجارات تحدث في نفسي .. حاولت تشكيل تلك الفورات الملتهبة الى قصائد .. فخرجت كتاباتي كلمات مبهمة معجونة بالغضب والقهر .. كانت كتاباتي كلمات مبعثرة .. حاولت مرة أخرى وأنا أمسك بالقلم بأصابع متشنجة كأنها تخنق رقبته ..ففشلت .. أغمضت عيني وأنا أبحث عن كلمات قصائدي .. أبحث عن قطع من لحمي .. من أنفاسي .

رحلت بذاكرتي بعيدا حيث انفجرت بداخلي الكلمات ليلة من ليالي الاعتقال .. فارت في نفسي ساعتها كل الهواجس المجنونة لكن ليس معي في زنزانتي قلم أو ورقة .. رحت أخور خوار ثور غاضب أركل الحائط مرة وأدق عليه بقبضتي مرة أخرى وأنا أشعر بالكلمات تحترق داخل وجداني فأحترق معها ..

فجأة انتبهت للجدار الذي كنت أدق عليه .. تركز نظري على شق ضيق تبرز من خلاله حصاة صغيرة .. أعملت أظافري في الشق محاولا توسعته .. كان ذلك مؤلما ومستحيلا الا انني بقيت أعمل فيه أظافري حتى انخلع أحدها فتورمت أصابعي وشعرت بالألم الشديد .. لا بد أن أكتب القصيدة .. لا بد .. شعرت بالدم ينز من تحت أظافري .. تخلخلت الحصاة قليلا .. ثم خرجت من الشق ساقطة على الأرض .. كتبت على الحائط كلمات كثيرة كانت العتمة تحول دون أن أرى ما أكتب فكانت بعض الحروف تركب البعض الآخر ..

عند الصباح وجدني الحارس أقعي عند أحد الزوايا مرتجفا من البرد والغضب ومرتعشا حد المرض .. فنادى الضابط الذي ما ان رأى الكتابات على الحائط حتى سحلني من شعري خارج الزنزانة ثم انهالت علي العصي والأرجل تركلني أينما يكون المكان وأصوات صراخهم تقتحم أذني .. ثم أرعد ذو الوجه الأبرص : " هاتو لي القنينة " .. جحضت عيناي رعبا وألما .. بصق أحدهم في عيني ثم خلع عني ملابسي .. أجلسني اثنان من الكلاب على القنينة وأنا أرتعش وأترنح .. أحسست بفوهة القنينة تخترق استي فلم أصرخ سوى صرخة واحدة يتيمة .. ثم لم أعد أشعر بأي شيء وأنا أسبح في عالم اللاوعي .. والآن .. وأنا خارج القضبان .. أمسك بقلمي بيد متشنجة وأعجز حتى عن البدء بكلمة واحدة لقصيدة .. أصبح جسدي حرا .. لكن عقلي لا يزال معتقلا .


(6)

قرع جرس الباب مع ركلات قوية عليه لكنني لم أتفاجأ بذلك فقد كنت أنتظرهم منذ مساء البارحة الباكر .. كان لا بد من أن تحضر الكلاب لتهاجمني في بيتي وكنت مستعدا لذلك .. وقفت متوفزا والمسدس بيدي .. أشهر وأنا لا أستطيع الكتابة .. كما ان قصائدي قبل الاعتقال لم تقتل كلبا واحدا منهم .. استحالت الرغبة في الكتابة الى غضب تفجر داخلي فاختطفت مسدس أحدهم بعد ان كمنت له في شارع مظلم عند الفجر وأنا أنهال عليه بقضيب معدني فشججت رأسه .. سقط بسرعة والدم يشخب من رأسه ودون أن ينطق بكلمة واحدة .. قتلته في نفس الوقت الذي اعتادت فيه الكلاب دهم بيوتنا عند الفجر لتسحل أحدنا الى السيارة البيضاء ثم الى المعتقل .. قتلته .. الا ان الغضب في داخلي لم يقتل حتى اللحظة ..

ازدادت الركلات على الباب قوة حتى تهاوى قدامي عن نفس الوجوه المكفهرة .. المقيتة .. الحقودة .. نفس النظرات الحيوانية المتوحشة التي تأكل لحمي .. نفس السيارة البيضاء التي اقتادوني اليها قبل سنوات .. فرفعت مسدسي بسرعة البرق .. أطلقت .. فسقط ذو الوجه الأبرص .. ضغطت للمرة الثانية بتلاحق سريع جدا مع الطلقة الأولى فشعرت بشيء حاد ينغرز في صدري فتفجر منه سائل حار لزج .. أطلقت أنة مكتومة وأنا أهوي الى الأرض .. أما زوجتي التي كانت ملتصقة بالحائط وقدماها النحيلتان ترتعشان فقد أطلقت صراخا حادا .. خيل لي لحظتها انني سمعت طفلي وهو يصرخ برعب " بابا .. بابا " .

ارتطم رأسي بالأرض القاسية وعيناي تحدقان في عيني طفلي .. رفعت مسدسي بجهد لأطلق للمرة الثالثة فأطلق كلب زخة رصاص درز عنقي وصدري وبطني .. وعندما كانت عيناي تغمضان للمرة الأخيرة لاح لي خيال سلم وأنا أرتقيه نحو الأعلى .. توقفت لحظة واحدة لأنظر من خلال الشباك المفتوح .. عندها فقط لاح لي قرص الشمس يبرز من تحت الأفق بلون النار .. فواصلت صعودي نحو الأعلى .



#فارس_حميد_أمانة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البوق
- الوردة السوداء
- اشراقة صباح
- اكتواء
- مومس .. قط .. وشبح
- بيغيدا .. ليغيدا .. ومستقبل مسلمي أوربا المجهول
- شارلي ايبدو .. فاجعة التطرف الديني .. أم فاجعة التحرر الفكري ...
- الطيف العراقي .. تنوع وتسامح .. الجزء الخامس والأخير
- الطيف العراقي .. تنوع وتسامح .. الجزء الرابع
- الطيف العراقي .. تنوع وتتسامح .. الجزء الثالث
- الطيف العراقي .. والتسامح الديني .. الجزء الثاني
- الطيف العراقي .. والتسامح
- تأليف واخراج المسرحيات السياسية .. ذلك الفن الجديد
- الساحة السورية .. من يصارع من ؟
- كوباني .. معضلة اختلاف الرؤى بين الحلفاء والمتصارعين
- الشرق والخليج يدا بيد ضد داعش .. صحوة متأخرة أم ماذا ؟
- تنظيم خراسان الارهابي .. ذلك الصداع الجديد
- التحالف الجديد ضد داعش .. والثمن
- التطرف .. العنف .. والارهاب في العراق .. جذور ونتائج
- استقلال اقليم كردستان .. تاريخ وآفاق صناعة النمور الورقية


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فارس حميد أمانة - الأزمنة الصعبة