أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [2]















المزيد.....


نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [2]


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 4745 - 2015 / 3 / 11 - 18:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


# مصونية الكتلة_الطاقة
الآن فقد ناقشنا ماهية ومعنى مصطلح "قانون فيزيائي". اسمحوا لي أن أعيد صياغة أطروحتي: أنّ القوانين الفيزيائية الراسخة والمؤسّسة منذ زمن طويل قد يتمّ استقطابها لبناء كوزمولوجيا كونية بدئية لمرحلة ماقبل الانفجار الكبير. المبدأ العلمي الذي أشير له هنا هو "قانون مصونية الطاقة-الكتلة".
خلال القرن التاسع عشر، كان لايزال قانون مصونية الطاقة-الكتلة مقسوماً إلى قانونين منفصلين: قانون مصونية الكتلة mass، وقانون مصونية الطاقة energy. إنّ قانون مصونية الكتلة نصّ على أنّ الكتلة (المادة) لايمكن خلقها أو إفنائها، بل يمكن تغييرها من نوع من المادة إلى نوع آخر. على سبيل المثال، قطعة فحم لها كتلة محددة _كمية معيّنة من المادة التي تكوّنها. فإن قمنا بإحراق قطعة الفحم هذه، فإنّها ستتحوّل إلى غاز ثاني أكسيد الكربون، ماء متبخّر، ورماد. ولكن _وخسب قانون مصونية الكتلة_ فإنّ الكتلة المكوّنة للنواتج الناتجة _أي الكمية الكلية للبقايا المادية بعد احتراق الفحم_ في نفسها بالضبط، أي تساوي كتلة قطعة الفحم الأصلية. إذن لايمكن خلق الكتلة ولا إفنائها.
قانون مصونية الطاقة كان نفس القانون السابق بالضبط، لكنّ تصويره هو أمر أكثر صعوبةً، هناك عدّة أشكال للطاقة: الطاقة الكيميائية، الطاقة الكهربائية، الطاقة الشمسية، الطاقة الحرارية، الطاقة الحركية، طاقة الإشعاع الكهرومغناطيسي، وأشكال أخرى كثيرة من الطاقات المستخدمة وغير المستخدمة. يقول قانون مصونية الطاقة بأنّ الطاقة لاتفنى ولاتخلق من عدم، بل يمكن أن تتحوّل من شكلٍ إلى آخر. على سبيل المثال، قد يحدث تفاعل كيميائي يبدو أنّه قد تمّ فقد كمية من الطاقة خلاله. لكن إذا تمّ إجراء قياسات دقيقة وحذرة للحرارة الناتجة (شكل من أشكال الطاقة) أو الضوء النائج أو النواتج الكهربائية (جميعها أشكال مختلفة من الطاقة)، فإنّ الكمية الكلية للطاقة الناتجة تبقى ثابتة لاتتغيّر بعد التفاعل الكيميائي. إذ أنّ الطاقة لاتفنى ولا تخلق.
خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، كان هناك عالم فرنسي اسمه أنطوان هنري بيكري يجري دراسات وابحاث على اليورانيوم في مختبره. رأى ضمن محيط هذا العنصر أنّ الطاقة تبدو وكأنّها تنبعث من لاشيء، في حين أنّ كتلة اليورانيون بدأت بالتلاشي والتآكل بشكل تدريجي في الهواء. كان أنطوان هنري قد اكتشف النشاط الإشعاعي الطبيعي (أي الطاقة النووية). وبعد عقدين من اكتشاف هنري، أثبت آينشتاين أنّ الكتلة الناتجة عن عناصر النشاط الإشعاعي لاتتلاشى ولاتنعدم، بل إنّ الطاقة المتولّدة عنها لاتظهر من العدم.
بيّن آينشتاين أنّ الكتلة والطاقة هما في الواقع الشيء ذاته، ذات الشيء تعبّر عنه الطبيعة بشكلين مختلفين. وقد دمج آينشتاين في معادلته الشهيرة E=mc2 (الطاقة= الكتلة مضروبة بسرعة الضوء للتربيع) كلا قانوني المصونية ضمن مبدأ بسيط وموحّد: قانون مصونية الكتلة-الطاقة. هذا القانون الأشمل ينصّ على أنّ الكتلة يمكن أن تتحوّل إلى طاقة (كما في حالة عنصر اليورانيوم)، وأنّ الطاقة يمكن أن تتحوّل إلى كتلة. وقد تبدّل الكتلة أشكالها، وقد تبدّل الطاقة أشكالها أيضاً. لكن عندما تجتمع جميع العوامل وتتزامن مع بعضها، لايمكن خلق الكتلة-الطاقة أو إفنائها: الكتلة الكلية للكتلة-الطاقة في الكون تبقى ثابتة دوماً. علاوة على ذلك، جميع الأشياء المادية _أنا، أنتم، الأرض، النجوم، وحتى أصغر الذرات_جميعها مكوّنة من كتلة/طاقة بمختلف أشكالها. ومنذ الفترة التي نشر فيها آينشتاين نظريته، أي منذ أكثر من 90 عاماً، نجحت جميع التجارب والاختبارات التجريبية في إثبات صحّة قانونه في مصونية الكتلة/الطاقة. وإذا ماظهر _أو ريثما يظهر_ أي دليل مستقبلي ينفي صحّة هذا القانون، فإنّ الأفراد ذوي العقلية العلمية اليوم كلزمون بقبول هذا الوصف للكون.
خلال العشرين سنة الماضية، قام علماء الفيزياء الفلكية والكونيات _وعلى رأسهم الأستاذ بجامعة كامبريدج البروفسور ستيفن هوكينغ_ بتوسيع فهمنا أكثر لقانون الكتلة/الطاقة وفسّروا لنا كيف أنّ سكات وخصائص الكتلة/الطاقة الغريبة والعجيبة تقدّم لنا حلولاً فعلية للغز النشأة الكونية. لقد وصف كلٌ من هوكينغ وآخرون ظاهرة طبيعية تسمى بـ"التذبذب الفراغي Vacuum Fluctuation"، حيث يتمّ خلق المادة ممّا يبدو كأنّه فراغ بحت _أي من عدم كما يظهر. لقد اكتشف العلماء أنّه حتى ضمن فراغ تام، حيث تنعدم جميع أشكال المادّة/الطاقة المعروفة، توجد هناك تذبذبات كهرومغناطيسية عشوائية. تمثّل التذبذبات عملياً شكلاً من الطاقة التي تسمى الآن بطاقة التذبذب الفراغيـ والتي يمكن تحويلها إلى مادة متناغمة تماماً مع قانون مصونية الكتلة/الطاقة. بمعنى آخر، إنّ "العدم" الفراغ الكلي ضمن الفضاء الخاوي يمكن أن ينتج بشكل تلقائي مادة متوافقة كلياً مع قوانين آينشتاين الراسخة.
# استدلال
إذا لم يكن من الممكن خلق الكتلة/المادة ولا إفنائها، وإذا كان الكون مكوّناً كلياً من كتلة/طاقة، عندها يمكن استقطاب قانون مصونية الكتلة/الطاقة إلى هذه النتيجة المثيرة: الكون، بشكلٍ أو بآخر، بكثافة معينة أو بأخرى، موجودٌ دوماً ومنذ الأزل. لم يكن هناك زمن لم يكن كوننا موجودٌ فيه، إنّما كان على شكل تذبذب فراغي أو عبارة عن نقطة افتراضية عالية المثافة تسمّى "متفرّد Singularity"، لم تكن تحتوي أي كتلة أو أي مقدار مهما كان.
أثناء لحظة الانفجار الكبير، كان الكون كثيفاً للغاية وساخناً جداً. لم تكن الجسيمات الأساسية، التي تشكّل الآن العناصر الكيميائية الأساسية، موجودةً بعد تحت هذه الظروف الشديدة. أمّا بعد الانفجار الكبير فوراً، يُعتَقَد أنّ الكون المتّسع بتسارع رهيب كان مكوّناً من طاقة بحتة، ولم تتشكّل المادة إلا لاحقاً، بعد أن توسّع الكون أكثر وسمح بتشكّلها تحت درجات حرارة أقل. بغضّ النظر عن شكل الكون بطبيعة الحال _الذي هو مجموع كل كتلته/طاقته_ فإنّه لم يكن ليظهر في حيّز الوجود، حسب قانون مصونية الكتلة/الطاقة، من عدم بالطريقة التي يتصوّرها التكوينيون وأنصار نظرية الخلق والتكوين. فحسب هذا المبدأ العلمي المؤسّس والراسخ، لم يخلق كوننا المكوّن من كتلة/طاقة من لاشيء _عدم_ ولا يمكن إفناؤه أو تدميره. إنّ التسليم والاعتقاد بصحّة الفرضية التكوينية يعني تجاهل أو انتهاك قانون مصونية الكتلة/الطاقة. أمّا إذا كان أنصار نظرية الخلق والتكوين يمتلكون دليلاً أوبرهان تجريبياً تناقض قانون مصونية الطاقة/الكتلة، فليشاركوا هذه المعلومات مع الآخرين ويعرضوها على الملأ وعموم المجتمع العلمي. وإلا فستظلّ النظرة إلى المذهب التكويني القائل بأنّ إلهاً ما قد خلق كوننا وأخرجه من العدم على أنّه مذهب لاهوتي أكثر من كونه مذهب علمي. إنّ مصطلح "علوم الخلق والتكوين" هو مصطلح يتضمّن في ذاته تناقضاً صارخاً.

# اعتراضات
لكن ماذا عن السؤال الذي طرحه مورتماير أدلر ((لماذا هناك شيء بدلاً من لاشيء؟)). أنا شخصياً أتردّد كثيراً في انتقاد أدلر لأني أحترم كتاباته وأقدّر مساهماته الجليلة في مجال التربية والتعليم والفلسفة المعاصرة. إذن، اسمحوا لي أن أشير بأنّه لطالما زعم بأنّه يتحدّث كفيلسوف، وليس بصفته عالماً. سؤال آدلر _لماذا هناك شيء، بدلاً من لاشيء؟_ يفترض أنّه يجب أن يكون هناك "لاشيء": إنّ "الحالة الطبيعية" هي عدم الوجود. والحقيقة الواضحة أنّ هناك شيء يبدو كمعجزة بالنسبة لآدلر ويتطلّب تفسيراً ماورائياً. "اللغز" الكامن في سؤال آدلر لا يكمن في سؤال الماورائي، إنّما في صياغته الافتراضية للسؤال نفسه. سؤال آدلر شبيه بافتراض أنّ العشب يفترض أن يكون أحمر اللون، ثمّ القول: لماذا العشب أحمر بدلاً من أن يكون لونه أخضر، وهذا دليل على حدوث معجزة إلهية.
من الناحية العلمية، السءال يجب أن يكون على النحو التالي: ((لماذا لايكون هناك شيء بدلاً من لاشيء؟)). ماتقوله القوانين العلمية هو أنّ الكون ليس من المفترض أن يكون موجوداً، أو أنّ اللاوجود هو "الحالة الطبيعية" للكون؟... في الحقيقة، لاوجود لهكذا قوانين. في المقابل، يقودنا قانون مصونية الطاقة/الكتلة إلى نتيجة مختلفة تماماً: أنّ الكتلة/الطاقة التي تشكّل كوننا الآن كانت موجودة دوماً منذ الأزل، مع أنّ الكون، كما نراه اليوم، قد بدأ بالتأكيد مع الانفجار الكبير.
يمكننا القول ضمن سياق حجّة السبب الأول: لكي يكون لشيء ما أثر أو تأثير سببي على الكون أو أي شيء بداخله، فإنّ هذا الوكيل أو المسبب يجب أن يكون موجودٌ مسبقاً. بمعنى آخر، لايمكن لشيء ما غير موجود أن يكون له دور، أي وكيل مسبب من أي نوع كان على الكون أو مابداخله. إنّ مفهوم السببية بمجمله يفترض وجود سبب مسبق. لكن بدلاً من إدراك أنّ السببية تتطلّب وجوداً، فإنّ التكوينيون يعتنقون منطقاً "منحرفاً" ومتخلّفاً يقول بأنّ وجود (الكون) يشير إلى وجود مسبّب _أي أنّ الكون مخلوقٌ من لاشيء ولذلك فهو يتطلّب تفسيراً سببياً ماورائياً. لايوجد عالم واحد يجادل بأنّ كوناً مخلوقاً من قبل الله من لاشيء لن يتطلّب تفسيراً ماورائياً. يتجاهل التكوينيون أو ينسون تماماً الأسئلة المتعلّقة بالموضوع: 1) ما الدليل الذي يثبت بأنّ الكون قد ظهر من لاشيء؟ 2) ما الدليل على أنّ هناك مادة/كتلة _هي التي تشكّل الكون_ كانت موجودة منذ الأزل؟... الجواب: ليس لدينا أي دليل أو برهان يثبت أنّ الكتلة/الطاقة قد ظهرت من لاشيء، ولدينا ملاحظات تجريبية مؤكّدة جيداً بأنّ الكتلة/الطاقة لا يمكن أن تظهر من العدم. فإذا التزمنا بالمنهج العلمي الصارم، سنتوصّل إلى نتيجة وحيدة مفادها: أنّ كوننا المكوّن من كتلة/طاقة، كان موجوداً منذ الأزل بشكلٍ أو بآخر. السبيل الوحيد الذي يمكن للتكوينيون من خلاله تقييم التفسير العلمي لوجود الكون هو أنّه سيكون عليهم أن يشرحوا لنا وبالتفصيل الدقيق والممل الآلية أو الوسائل التي من خلالها تحوّل العدم أو اللاشيء إلى شيء على يديّ الله. وغياب مثل هذا التفسير يعني أنّ نظرية الخلق والتكوين ستظلّ مجرّد دوغما دينية متخلّفة بعيدة كل البعد عن العلم الصحيح والحقيقي. إنّ الزعم والقول بأنّ ((الخلق عبارة عن لغز غلهي مقدّس)) أو أنّ عملية الخلق كانت نتيجة لقانون السبب-النتيجة، ليس تفسيراً علمياً على الإطلاق.
علماء الفيزياء النظرية الغارقين في الرياضيات قد يعارضون قائلين بأنّ قوانين الفيزياء تتعطّل خلال الفترة ماقبل زمن بلانك _ أو قبل الجزء الأول من الثانية الأولى من الانفجار الكبير. وقد يمضي البعض في جدالهم لأبعد من ذلك، بما أنّ الزمكان نفسه قد جاء إلى حيّز الوجود أثناء الانفجار الكبير، فإنّنا نطرح سؤالاً سخيفاً وسطحياً وغير منطقي عندما نسأل ((ماذا كان قبل الانفجار الكبير؟))
سأردّ هنا بالقول بأنّ "انهيار القوانين الفيزيائية وتعطّلها" قبل زمن بلانك يتضمّن عدم انسجام أو عدم توافق بين النسبية العامة وفيزياء الكم. ولا واحد من هذين المجالين يتعارض أو يتناقض مع قوانين مصونية الكتلة/الطاقة. فإمّا أنّ نظرية النسبية العامة أو فيزياء الكم _أو كليهما_ ستحلّ محلّهما قوانين جديدة، أو يتعطّلان خلال اللحظات الأولى من عمر الكون. لكنّ هذه الحقيقة لاتمتّ بصلة لمسألة قانون مصونية الكتلة/الطاقة تحت أي ظرفٍ كان. علاوةٌ على ذلك، أي تفنيد حقيقي لمصونية الكتلة/الطاقة سيرفد في النهاية الاتجاه العلماني [وليس الديني أو اللاهوتي] في مجال علم الكونيات، بما أنّ عملية ظهور الكتلة/الطاقة من العدم لن تتطلّب بعد الآن تفسيراً ماورائياً.
لنتحدّث الآن ضمن إطار الفيزياء النظرية البحتة، طبعاً من الخطأ السؤال: ((ماذا كان يوجد، أو ماذا حدث قبل الانفجار الكبير؟)) لأنّ ظهور الزمكان وبذلك ظهور مصطلحات ومفاهيم على غرار "قبل" و"بعد" مرتبط بشكل واضح ومعقّد بحضور وتمدّد الكتلة/الطاقة. كيف يمكن قياس الزمن من دون المادة وحركتها؟
لكن في سياق النقاش العلمي، فإنّ علماء الكوزمولوجيا برأيي لايجب أن يعترضوا بشدّة على تساؤلنا حول الذي كان أو حدث قبل "الانفجار الكبير"، لأنّ حَظرَ هذا السؤال يُفهَم من قبل الشخص العادي على أنّه محاولة للتملّص وتجنّب الإجابة عنه. ((أنت لاتمتلك إجابة، لذلك تمنع السؤال وتحظره)). في حين أنّنا لايجب أن نقدّم علوماً سطحية أو بالية فقط إرضاء ميول العوام، ولاينبغي أن نتجاهل حقيقة أنّ قوانيننا الفيزيائية الحالية إذا كانت تقدّم لنا جوابا مرضياً وكافياً للنشأة الكونية بدون الاستعانة بأيّة تفسيرات ماورائية ووكلاء غيبيون.
إذا لم نكن نخطّط للتساؤل ما الذي جرى أو كان قبل الانفجار الكبير، عندئذٍ فهذا التقييد المفروض علينا من قبل الفيزياء سيدعم النظرة العلمانية لعلم الكونيات، لأنّ الحاجة الضرورية للوجود المسبق لله لايمكن أخذها بعين الاعتبار ضمن سياق العلم/ ومن غير الممكن إثباتها عن طريق الوسائل العلمية والمنهج العلمي كما يزعم التكوينيون ويحاولون فعله.

# عقبات سيكولوجية
بالنسبة للغالبية منا، من الصعب تصوّر وجود أحجار البناء الأساسية لكوننا منذ الأزل، إنّها مسألة محيّرة ومربكة للعقل. في شؤون حياتنا اليومية، نلاحظ أنّ جميع الأشياء المادية المحيطة بنا لها امتداد لوجودها. فالسيارة الجديدة التي اشتريناها اليوم لم تكن موجودة قبل تصنيعها في المعمل، بل وتصميمها أيضاً على أيدي المصمّمين. الخضروات التي نأكلها اليوم لم تكن موجودة قبل عدّة أشهر، قبل موسم الزرع. حتى الكائن الإنساني يبدو وكأنّه قد تمّ خلقه في رحم أمّه. إذ يبدو الجنين كخلية مفردة، ومع ذلك فإنّه لدى ولادته يكون مؤلفاً من مليارات الخلايا ، وجميعها تبدو وكأنّها جاءت إلى الوجود بطريقة إعجازية، ولتؤدّي غرضاً مصمماً لها مسبقاً.
لاعجب إذن أنّ "حسّنا العام" يخبرنا بأنّ الكون نفسه لابد أن يكون له بداية، لذا لابد أنّه مخلوق من قبل الله. إنّ "حسّنا العام" مشكّل عن طريق ملاحظاتنا ومشاهداتنا للحوادث التي تجري من حولنا، فعملياً كل شيء نراه على الأرض يبدو أنّه جاء إلى الوجود، ثمّ يختفي لاحقاً ويزول إلى الأبد. ومع ذلك عندما ننظر إلى مسألة وجود الكون، دعونا نتذكّر نقطتين هامتين في غاية الأهمية: 1) إنّ مشاهدتنا وملاحظتنا لما يجري من حولنا من أحداث في هذا العالم لاتؤسّس بالضرورة داخل عقولنا "حسّنا العام" وتصوغ أحكامنا التي قد تنطبق على الكون ككل. 2) الملاحظة الدقيقة والحذرة لوقائع العالم ستبيّن لنا أنّ الأشياء والموجودات الأرضية لاتظهر من عدم كما يخبرنا "حسّنا العام".
العلم، بالتعريف، يقصي أفكار "الحسّ العام" ويضعها جانباً ويعتمد فقط على البيانات التجريبية لتأسيس القانون العلمي. ولا يهتمّ بتاتاً ما إذا كنا مرتاحين مع نتائج تجربتنا أو راضين عنها. فهذه النتائج التجريبية، إذا كانت قابلة للتكرار وقابلة للتأكيد من خلال تجارب مستقبلية، يجب القبول بها وأخذها بعين الاعتبار، بصرف النظر عن "حسّنا العام" ونظرياته التي تتناقض مع تلك النتائج التجريبية.
لنفترض على سبيل المثال أنّ إنساناً ما يقف وسط سهلٍ شاسع، وفوق أرض السهل على ارتفاع ستّة أقدام، وعلى مستوى خط النظر، يرفع مسدساً أفقياً متوازٍ تماماً مع أرض السهل، ليس مرتفعاً كثيراً ولا منخفض كثيراً، بل في وضع أفقي ومتوازي مع الأرض. في يده الأخرى، وعلى مستوى خط النظر أيضاً، يحمل الرجل كرة بولينغ زنتها 15 باونداً. لنفترض الآن أنّ الرجل يطلق النار من مسدّسه ويسقط الكرة من يده على الأرض في نفس اللحظة تماماً. فحسب حسّنا العام وحكمنا على أساسه، أي الجسمين سيصل إلى الأرض قبل الآخر: الرصاصة أم كرة البولينغ؟
هل توقّعتم أنّ كرة البولينغ هي التي ستلامس الأرض قبل الرصاصة؟ أغلب الناس سيفاجئون عندما يدركون ما اكتشفه غاليليو منذ أكثر من قرن مضى: أنّ جميع الأجسام تتسارع نحو الأرض بمعدّل واحد، بغضّ النظر عن أوزانها المختلفة أو قوة دفعها الآني باتجاه الأفق. بمعنى آخر، إذا لم تكن هناك عوامل خارجية متدخّلة بالتجربة فإنّ كرة البولينغ والرصاصة ستلامسان الأرض في نفس اللحظة. سواءٌ أكان "حسّنا العام" يشعر بالراحة والرضا بهذه النتيجة، فهاذ لايعني العلم في شيء.يجب القبول بالنتائج التجريبية للتجربة. وبنفس الشكل، تتطلّب المواقف العقلانية والعلمية منّا القبول بالنتائج الكوزمولوجية لقانون مصونية الكتلة/الطاقة سواء رضينا بذلك أم لا.
غالباً، قد يضلّلنا "حسّنا العام" ويقدونا نحو سبل خاطئة إذا استخدمناه في عملية تأسيس القانون العلمي. أغلب المفكّرين قبل عصر النهضة كانوا يعتقدون أنّه من الطبيعي ومن السليم الاعتقاد بسطحية الأرض وسكونها. ولو أنّه تمّ اختبار نظريتي آينشتاين في النسبية العامة والخاصة عن طريق الحس العام، لتمّ تحويل آينشتاين إلى مصحّ عقلي. أسألكم: أين الحس العام في مسألة تأخّر الزمن وتراجعه أو مسألة قابلية الفضاء للانحناء والانطواء التي تحدّث عنها آينشتاين؟ إنّ الأفكار القائمة على أساس الحس العام وحده ليست جديرة بالاستخدام والاعتماد في مجال العلم، وغير مجدية على الإطلاق.
علاوةً على ذلك، كما سبق وناقشنا خلال هذا المقال، إنّ قانون مصونية الكتلة/الطاقة يبيّن بأنّ الحوادث الواقعة محلياً على مستوى العالم أو كونياً على مستوى الكون ككل لاتنتج _ولا يمكنها ذلك_ مادةً وطاقةً من العدم. من غير الصحيح علمياً القول بأنّ شركة فورد للمحركات قد صنعت السيارات، إذ من الواضح أنّ المواد الخام الموجودة مسبقاً هي التي تدخل في عملية التصنيع. يمكننا القول، بشكلٍ أدق وأكثر صحةً، أنّ شركة فورد تجمّع السيارات وتركّبها من أجزاء وقطع مكوّنة، أجزاء مصنوعة من مواد خام موجودة مسبقاً في الطبيعة. يعلّمنا العلم أنّ العناصر الأعلى التي تدخل الآن في تركيب أجسادنا هي نفسها مكوّنة من عنصر الهدروجين البدائي الذي تشكّل داخل الأفران النووية الضخمة في قلب النجوم. وبكلمات العالم كارل ساغان، أنا وأنتم مكوّنين من "مواد نجمية". وبطريقة أكثر واقعية، أنتم وأنا، مثل كوننا المكوّن من كتلة/طاقة، موجودون دوماً ومنذ الأزل، لكن ربما بطريقة مختلفة.

# خلاصة
ما النتيجة التي نتوصّل إليها عن الكون ماقبل زمن الانفجار الكبير؟
حسب قوانين الفيزياء الحالية، الكتلة/الطاقة، اللتان أطلقتا عملية التوسّع والتمدّد الجارية للكون لحظة الانفجار الكبير، كانتا موجودتان قبل الانفجار الكبير، قام القمر الصناعي كوب COBE التابع لوكالة ناسا بجمع بيانات ومعلومات تدعم فكرة "النموذج المتضخّم" للكون inflanationary model. ومن بين النتائج النظرية الأخرى، يقترح نموذج الكون المتوسّع أنّ الكثافة المادية للكون _أي المجموع أو الكمية الكلية للمادة المشتّتة والموزّعة في أرجاء الكون_ قد تكون كافية في النهاية لإيقاف عملية التمدّد الحالية للكون عن طريق الجذب الثقالي. عندها سيبدأ الكون بالانحسار والانهيار على ذاته، ومن خلال الجذب الثقالي في النهاية، ستتجمّع المادة والطاقة مع بعضهما وستنضغطان ضمن نقطة مفردة متاخمة رجوعاً إلى الوراء إلى لحظة الانفجار الكبير. وقد أطلق العلماء على هذا الانهيار الكوني الهائل اسم "الانكماش الكبير Big Crunch".
في لحظة الانكماش الكبير، يعتقد أغلب العلماء أنّ الكتلة/الطاقة اللتان تكوّنان كوننا ستندمجان مع بعضهما وتنفجران مجدداً لتشكيل انفجار كبير آخر. هذه النظرية _أنّ الكون المضغوط والمحصور في حيّز صغير من المكان سيندمج_ تقوم أساساً على فهمنا لظاهرة السوبرنوفا، التي تنهار على ذاتها، تتراجع أو تنكمش نحو الخلف. ثمّ تنفجر باستعار.
هناك نماذج نظرية أخرى وأحدث يبدو أنّها تشير إلى أنّ الكون قد يستمرّ في تمدّده إلى الأبد، إلى ما لانهاية، ولا ينكمش أو ينهار. برأيي الخاص، الذي يستحق وقفة للتأمّل، حتى يقدّم لنا علماء الفلك والكوزمولوجيا تفاصيل دقيقة ووافية عن طبيعة ونوعية وكمية مايسمى عادةّ بـ"المادّة المظلمة Dark Matter" و"الطاقة المظلمة Dark energy" _واللتان تشكّلان حوالي 90% من مجمل الكتلة/الطاقة في الكون_ لايحق لأي عالم الزعم والادعاء بأنّه يمتلك "الجواب النهائي" لهذا اللغز. في الوقت الحالي، ربما يكون الكون مازال في خضمّ المراحل الأولية في عملية توسّعه، أو ربّما يكون قد توسّع وانهار على نفسه ملايين ومليارات المرات قبل حالته الحالية. فبالرغم من أننا في فجر القرن الحادي والعشرين، مازالنا لانعرف شيئاً. لكن يمكننا أن نتوصّل لنتيجة _اعتماداً على قوانيننا الفيزيائية الحالية_ مفادها أنّ كوننا المكوّن من كتلة/طاقة أقد بكثير وبشكل لامتناهي ممّا يعتقده أغلب البشر.



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [1]
- أسوأ 12 فكرة زرعها الدين ونشرها بين البشر
- يغالطونك إذ يقولون [1]: أنّ الانفجار الكبير خطأ، لأنّه لايمك ...
- هل تمّ إثبات نظرية التطوّر؟
- أيمكن أن يكون الله مطلق العدل ومطلق الرحمة في آنٍ معاً؟
- لماذا حرّم محمد على أتباعه التشكيك به أو بقرآنه؟
- الموت للكفرة [2] العنف السياسي بوصفه إرهاباً: دراسة سوسيو-سي ...
- الموت للكفرة [1] العنف السياسي بوصفه إرهاباً: دراسة سوسيو-سي ...
- ستة دلائل تشير إلى أنّ الدين يضرّ أكثر ممّا ينفع
- متلازمة الصدمة الدينية
- ميم التوحيد
- شركية ووثنية البطريارك إبراهيم
- كيف تحوّل يهوه من إله محلّي إلى إله عالمي؟
- كتاب فيروس الدين [3] تأسيس
- كتاب فيروس الإله [2] تأسيس
- كتاب فيروس الإله [1] تأسيس
- ماذا نعرف عن محمد حقاً؟
- ديانة التوحيد القمري 12: ((-الله- بوصفه إلهاً للقمر))
- ديانة التوحيد القمري 11: ((-الله- بوصفه إلهاً للقمر))
- ديانة التوحيد القمري 10: ((-الله- بوصفه إلهاً للقمر))


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [2]