أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - موتي وقط لوسيان . القصة كاملة















المزيد.....



موتي وقط لوسيان . القصة كاملة


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 00:14
المحور: الادب والفن
    



موتي وقط لوسيان .
في الوقت الذي كنت فيه أفكر في الموت ، في محاولة يائسة لإبعاد شبحه عني ، جاءني هاتف من لوسيان ،تخبرني أن محمود مات ، وتطلب مساعدتي لدفنه في مقبرة.

أطرقت قليلا إلى أن أدركت من هو محمود ، ولحظتئذ لم اعرف ماذا أفعل، هل أضحك أم ابكي أم أغضب؟! قلت للوسيان دون اكتراث أن تلقي بهذا المحمود في القمامة وتحاول أن تنساه وتفكر في ما هو أهم.
راحت تصرخ على الطرف الآخر من الخط بعربية تخالجها اللكنة الفرنسية :
) في القمامة أيها المجرم الشرير، في القمامة؟ إنه روح يا من تدعي أنك تكتب عن الروح والحياة ، على اية حال لا أريد مساعدتك ، ولن احضر إليك هذا المساء
، لا أريد دعوتك(
وأقفلت الخط ليظل صدى كلماتها يتردد في مخيلتي ، يضغط على صدري ، يعتصر قلبي ويثقل نفسي ، ومع ذلك لم أحاول الإتصال بها على أمل أن تأتي في المساء - رغم ما قالته - وأوضح لها الأمر.
كنت قد استيقظت هذا الصباح والرعب يجتاح جسدي من رأسي حتى قدمي. فقد رأيت في نومي لحاما يحمل على كتفيه رجلين مذبوحين و مسلوخين ! ويدخل بهما إلى الملحمة. كان رأسا الرجلين يتدليان على ظهر اللحام وقد بدا تماما أنهما ذبحا من الوريد إلى الوريد ، أظن انني صرخت حينئذ واستيقظت على أثر ذلك . ألقيت نظرة خاطفة على ما حولي لأتأكد من أنني في غرفتي ، وأنني كنت في كابوس لا أكثر . كابوس ككل الكوابيس التي أراها دائما. زفرت عدة أنفاس عميقة متلاحقة في محاولة لتهدئة أعصابي وطرد الذبيحتين من مخيلتي . ألقيت نظرة على الساعة ، كانت حوالي السادسة ، إنه الوقت الذي أنهض فيه عادة لأكتب . أخرجت السدادات من أذني لأبدأ اتصالي المباشر بالعالم الخارجي المحيط من حولي ، طرقت أذني مجموعة أصوات متناثرة من هنا وهناك ، لم أكترث للمسألة ، ونهضت لإعداد الشاي. وضعت الماء على الناروعدت لأفتح المذياع متفقدا اخبار الموت الفلسطيني ، أو لأقل أخبار القتل. فالقتل ثاني شيء يعيد ربطي بالعالم الخارجي ، بعد الضوضاء والصخب والضجيج ، إذ يتوجب علي معرفة كم قتل منا هذا اليوم ؟

أخذت أخبار القتل تتوالى عبر المذياع . رباه كم كان هناك من القتلى : قتلى في جامعة بير زيت ، قتلى في غزة ، جرحى في أماكن اخرى من الأرض المحتلة ، عشرات القتلى في مخيمات : عين الحلوة ، الرشيدية ، برج البراجنة، شاتيلا، ولم تتطرق الأنباء إلى مخيم صبرا، فقد سحق مخيمها بالمدافع الأخوية منذ زمن قريب، وردمت كل أبنيته، لينسى تماما إلا من الذاكرة الفلسطينية وحدها. تأففت قهرا وغضبا وقذفت( في نفسي ) مجموعة من الشتائم على الكون والعالم ! وقد غابت من مخيلتي كل مؤشرات البقاء ، ليحل القتل بكل فظاعته .
حضرت الشاي ورحت أحتسيه . أغلقت المذياع وشرعت في قراءة آخر مشهد في الرواية . الرواية التي بدأت كتابتها أواخر عام 80 ، ولم أفرغ منها حتى الآن ، وبت أشعر وكأنني بدأتها منذ سبعين عاما وليس سبعة أعوام ، لكثرة ما قتلتني واعتصرت دمائي قطرة قطرة ، ، أرهقت أعصابي وسلبت مخيلتي . كتبت فيها حتى الآن قرابة ألف و مائتي صفحة ، ولا أعرف كم سأكتب بعد ، ولا أعرف متى سأنتهي ، ولو كنت أعرف أنني سأكرهها إلى هذا الحد ، لما شرعت في كتابتها ، أو لأجلت ذلك ، . لا أظن أن هناك ما هو مرهق في الحياة أكثر من كتابة الرواية .
لم يرق المشهد لي ، أحسست أنه مكتوب بلغة جافة ميتة ليس فيها أي أثر لحياة ، رغم أنني كتبته ثلاث مرات . ثم إن ما يحيرني هو مصير أبطالي، الذين لا أجد مفرا من جعلهم يواجهون قدرهم ، وهو هنا قدر كل الأبطال الفلسطينيين عبر التاريخ . بدءا من جليات الذي تقول الأسطورة التوراتية أن داود قتله بحجر من مقلاعه ، مرورا بيسوع المسيح ، وانتهاء بعبد القادر الحسيني ، وأبو علي إياد ، وغسان كنفاني ، وماجد ابو شرار . كم احاول أن أجد لهؤلاء الأبطال منفذا ، فأعود إلى جليات في محاولة يائسة للبحث عن أمل ما ! فأجد ما لا يصدق ، أجد أن داود الصغير قد صرعه رغم العملقة التي تصوره فيها التوراة ( فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جت ، طوله ستة أذرع وشبر ، وعلى رأسه خوذة من نحاس ، وكان لابسا درعا حرشفيا ، ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس ، وجرموقا نحاس على رجليه ، ومزراق نحاس بين كتفيه ، وقناة رمحه كنول النساجين ، وسنان رمحه ستمائة شاقل حديد )
رباه ( أقول لنفسي ) ورغم كل هذا صرعه داود بالمقلاع؟! اللعنة ! هل يكمن قدرنا في انه كتب علينا القتال مدى الحياة دون تحقيق النصر ؟! وبالتالي لا يمكن لحياتنا أن تتجدد إلا بالموت ، طالما أن اليهود لم يفنونا رغم طول هذا الصراع عبر التاريخ ؟!
هذا ممكن ( أقول لنفسي ) وأنهض لقضاء حاجتي الصباحية ، وقد داخلني شيء من الطمأنينة لما أظنه صواب أفكاري !
قضيت حاجتي وأنا اتصفح كتابا عن المجازر االإسرائيلية ضد الفلسطينيين ، تناولته من مكتبة المرحاض !! عثرت على مجازر لا يكاد يسمع بها أحد ، ارتكبت في قطاع غزة عام 1956. وفظاعتها تفوق كثيرا العديد من المجازر النازية ، حتى تلك التي استخدمت فيها الأفران لحرق الأسرى . فمن يصدق مثلا أن الجيش الإسرائيلي دفن في الصحراء 1800 شاب في يوم واحد ، وقد دفن معظمهم وهم أحياء .؟!
تنبهت إلى أن الكتاب أخذني بحيث جعلني أمضي في الحمام أضعاف الوقت المطلوب ! لقد أضعت الوقت ! ينبغي ان أغسل وجهي وأحتسي القهوة . سأحتسيها وأنا أكتب .
سارعت إلى التنفيذ .. جلست على طاولة الكتابة لأقود بطلي إلى نهايته ! أنا في العادة اكتب في السرير ، لكن وجود طاولة في هذا البيت الصغير الذي استأجرته منذ فترة ، شجعني على استخدام الطاولة .
كيف سأميت هذا البطل ؟ ابطال كثيرون في روايتي وينبغي علي أن أبحث عن ميته تليق بكل واحد. هذا في مواجهة مع المحتلين . وذاك في السجن ، وذاك وذاك .. رباه كم أحتاج إلى أشكال من الموت ؟ ثم إنني نسيت أن أغلق أذني قبل أن تضج الحارة بابواق باعة النفط ، فانا لا استطيع الكتابة وحتى النوم والقراءة ، دون ان أغلق اذني ، لتلافي هذا الصخب المدمر للأعصاب ، وخاصة ذاك المنبعث من أبواق باعة النفط ، أو المازوت كما يسمونه في دمشق . فظيعون باعة المازوت هؤلاء ، فهم يقتلونني بطريقة عجيبة ، لا يشرعون سيوفا لجز الرؤوس ، ولا ينصبون مشانق ، أو يرمون بالرصاص ، لا لا ، إنهم لا يفعلون هذا أوذاك ، إنما يجننونني بأبواقهم الفظيعة ، فما أن يقبل أحدهم على الحي من بعيد وفي الصباح الباكر ، ممتطيا عربة حصانه المشرشب ، المزين بالشرافات والظبابيح والضفائر الملونه ، التي غالبا ما تكون حمراء ، حتى يسبقه صوت البوق المخيف ، مخترقا النوافذ والشرفات ، الحوائط والجدران ، الرؤوس والجماجم ، موقظا الناس من عز النوم ، فابادر حينئذ إلى وضع السدادات في اذني لأستانف النوم ، اما إذا كنت أكتب فإن الأمر يتطلب ان اسارع إلى دفع السدادات عميقا داخل أذني في أتعس محاولة للتخفيف من حدة الصوت الذي يخترق تلافيف دماغي ، يشل تفكيري ، يجمده تماما ، فتغدو الكتابة أمرا محالا ، بل مستحيلا ، لذا أتوقف في أحيان كثيرة ، فهذه السدادات تفيد قليلا لكنها لا تحل المشكلة ، أنتم قطعا لم تسمعوا أبواق باعة المازوت هؤلاء طالما لم تسكنوا الأحياء الشعبية في دمشق ، كيف أصفها لكم ؟ فهي ليست كأبواق سيارات النجدة أو الإسعاف ، وليست كأبواق إنذارات الخطر كلها ، حتى تلك الأبواق المرعبة التي تسبق عادة مواكب الزعماء . بل إن هذه تبدو جميلة إذا ما قورنت بها . أما بوق بائع المازوت فهو عجيب ، صوته حاد جدا ، وهو بوق عجيب حقا ، ينتهي بكرة مطاطية ممتلئة بالهواء ، يضغط البائع عليها فتخرج صوتا يأخذ طريقه على الفور إلى تلافيف الأدمغة ، فيشل حركة الأعصاب !! وكل بائع مازوت يضغط على الكرة بطريقة تميزه عن الآخرين ، فقد تسمع واحدا يضغط ضغطة طويلة جدا في البداية ، يتبعها بضغطة أقصر قليلا ، ثم أخرى قصيرة تماما ، وآخر يضغط ضغطتين طويلتين ثم واحدة قصيرة فواحدة طويلة جدا ! فالجميع يحاولون تأليف ألحان موسيقية فظيعة بضغطاتهم . ويكررون هذه الألحان مرة كل دقيقة ، مع ان الحارة تكون قد استيقظت أبشع استيقاظ يمكن أن يستيقظه بشر .
كم مرة اطلقت النار على باعة الزفت هؤلاء . اطلقتها في خيالي طبعا ، إذ لا أتصور أن أقتل أحدا من هؤلاء التعسين حقيقة . بالتاكيد لن افعلها . صحيح انه لدي مسدس في درج طاولتي ، أحتفظ به كاي فلسطيني ، حتى أدافع به عن نفسي إذا ما حان قدري ، لكني لن استخدمه ضد باعة المازوت ، رغم أن كل واحد من هؤلاء يغشنا في السعر والمكيال والما زوت المخلوط بالماء ، فقد أخذ احدهم 85 ليرة بينما أخذ آخر 75 ، وآخر 65 ، مع ان الكمية التي ابتاعها ثابتة لا تتغير . وإذا ما حاولت إقناع البائع بان أوعيتي لا تتمدد ولا تنتفخ ، ولا تتسع لأكثر مما تتسع ، وأن سعر ملئها لا يتجاوز 54 ليرة حسب تسعيرة الدولة ، فإنه يحرمني من المازوت في عز الشتاء . لذا بت أسلم بالغش وأتعامل معه كامر واقع . حتى انني أخذت أشكر جاري عندما يبيعني كيلو السكر بعشرين ليرة مع أنه يبتاعه بليرة ونصف !
ما يزعجني أن نسبة الغش غير ثابتة ، وتختلف من بائع لآخر ، وفيما يتعلق بالمازوت ، لا أذكر أن بائعا اخذ مني نفس المبلغ ، وإذا ما أخذنا بالإعتبار نسبة الماء غير الثابتة أيضا التي تضاف إلى النفط ، فإن الغش يكون فظيعا جدا .
وأعجب ما في بائع المازوت هذا أنه يظن نفسه اهم من ملك او رئيس جمهورية ، وفي أسوأ الأحوال يظن نفسه أهم من رئيس حزب أو زعيم منظمة فلسطينية ، وقد يكون محقا في ذلك ، وخاصة حين يقترب من الحارة أو يعلن حضوره فيها ، مطلقا الف صرخة من بوقه الفظيع ، فتطل الرؤوس منفوشة الشعر من النوافذ والشرفات وشقوق الأبواب ، وتجحظ العيون المعمصة التي أرهقها السهاد أو أكسلها طول الرقاد ، وهي تحدج البائع بنظرات بلهاء . ويهرع البااحثون عن المازوت لتشغيل مدافئهم وحماماتهم ، فيزهو بائع المازوت بنفسه ويدور حول الحصان المشرشب متبخترا ، والناس يحدقون إليه وهو يحدق إليهم ، راميا نظراته هنا وهناك ، نحو الطوابق العلوية والسفلية ، ويده لا تكل ولا تمل من الضغط على هذا البوق العجيب ، وهنا بالذات يشعر أنه يؤكد حضوره أمام كل الناس ، وأن الجميع في حاجة إليه ، وأنه بالتالي أهم من ملك أو رئيس جمهورية !وهؤلاء حسب زعم جارتي الشامية يستوطنون التلفزيون ، ويمكن للمرء أن يغلق التلفزيون إذا لا يريد أن يراهم ، أما باعة المازوت هؤلاء فمن يستطيع أن يمنع نفسه من رؤيتهم .؟ من يستطيع أن يغلق اذنيه دائما حتى لا يسمع صخب أبواقهم .

.؟ لقد تآلفت مع كل الأصوات الأخرى في الحارة منذ أن سكنتها ، تآلفت مع أبواق السيارات ومفرقعات الأطفال ، تآلفت مع أصوات الدراجات النارية التي يركبها المراهقون وغير المراهقين ، مع نداءات باعة الخضار والفواكه ، ونداءات تجار الأحذية المهترئة والملابس المستعملة ، ونداءات تجار الخبز الجاف والألمنيوم والقناني الفارغة ، تآلفت مع نداءات هؤلاء التي لم أكن أطيقها ولم اكن افهم منها شيئا ، وإذا فهمت ماذا ينادي البائع وتريد ان تشتري ، ستجد ان البائع يبيع شيئا مختلفا عما ينادي عليه ، فإذا سمعته ينادي قائلا ( حلاوة يا حلقوم ) وأطليت برأسك من النافذة لتنده عليه رغبة منك بالحلقوم ، ستجد انه يبيع بطيخا !
المهم ، وكي أتلافى طرق باب بيتي من قبل المشترين ، علقت عليه لافتة تقول أنه ليس لدي ما يمكن شراؤه ، وأنني ألقي بفضلات الخبز في القمامة ، فأدركوا أو ظنوا أنني ملحد ، إذ كيف أرمي فضل الله في القمامة ؟ فلم يعودوا يطرقون باب
بيتي في الصباح الباكر ، إلا إذا كانوا أميين . ولم يبق غير هؤلاء التعسين ، أي باعة النفط العظام ، الذين يؤكدون حضورهم في مخيلتي أكثر من الأعجف ( وهذا زعيم فلسطيني مهول ، كسر الدنيا ، في روايتي ! ) وأكثر من عامر الليثي ( وهذا الفدائي الفلسطيني الذي يصارع قدره في الرواية ذاتها ، ) وأكثر من الموت المحدق بالفلسطينيين ، وأكثر من النساء اللواتي قتلنني وما زلن ، حتى أنني كتبت إلى وزيرة الثقافة أناشدها المساعدة في الخلاص من أبواق باعة النفط هذه ، بعد ان أخفقت كل محاولاتي في جعل الباعة يبيعون نفطهم دون استخدامها ، كما أخبرت صديقي الروائي بما أقدمت عليه ، لعله يساعد في الأمر ، أعرف أن هذا ليس من شأن الوزيرة والروائي ، لكن ماذا أفعل بالله عليكم ؟!
لقد مر شهر على كتابي ذاك ولم يحدث شيء ، ولن يحدث شيء كما يبدو ، وهذا البوق يصرخ في رأسي ، والرواية تنتظر بين يدي ، والزمن يطوي سني عمري ، والأعجف يطل من بين السطور ، يحدجني بنظراته ، يقهقه ، يسخر مني ! ، أما أم عامر ( وهذه الأم الفلسطينية في روايتي ) تحدجني بنظرات الوجد وتقول لي ( متى ستنتهي من مأساتي ، ألا يكفي أنك جعلت اليهود ينسفون بيتي مرتين ؟ وقد تجعلهم ينسفونه مرة ثالثة ، ألا يكفي أنك جعلتهم يقتلون عمر وفداء وعمرو ، وجعلتهم يأسرون محارب وعمران وأبو عامر ، ألا يكفي كل هذا ؟ فإلى أين تقودني ؟ كفاك مآس !)
آه كم أنا متعب يا أم عامر ، وكم تؤرقني هذه المآسي التي وضعتك فيها ، كم تقتلني ؟
سمعت مجموعة أبواق لباعة المازوت تنطلق دفعة واحدة ، قادمة إلى الحي ، سارعت إلى فتح علبة السدادات لأغلق أذني ، غير أنني شعرت بانقباض شديد في صدري ، انقباض شل حركتي ، وجعلني غير قادر على وضع السدادات في أذني ، رحت أتنفس بعمق وأنا أضع يدي على صدري في محاولة لمقاومة هذا الإنقبا ض المفاجىء . تخيلت نفسي ميتا على الأريكة وليس خلف طاولة الكتابة ، لا أعرف لماذا ؟ !
رن جرس الهاتف . حاولت القيام غير أنني لم أتمكن . وظل الجرس يرن ويرن إلى أن يئس طالب المكالمة وأقفل الخط من طرفه . بعد قرابة ربع ساعة ، أحسست انني استعدت شيئا من قواي ، حاولت النهوض لأتأكد من انني قادر على الوقوف والسير . تمكنت من الوقوف وسرت ببطء إلى الأريكة لأجلس عليها ، أتكيء بظهري على مسندها وامد رجلي إلى الأمام ، شعرت بشيء من الراحة وأنا أمد رجلي إلى الأمام واسترخي دون أن يفارق شبح الموت مخيلتي ، آه ( هتفت لنفسي ) ( سميرة ( الزوجة الأولى( هجرتها وبيرجت ( الزوجة الثانية ) في ألمانيا ـ إيريس في أمريكا ، وليليا في المكسيك ، جينيا في موسكو ، ونجوى في القاهرة ، كلير في لندن ، وحياة في القدس ، بسمة تزوجت ولم تعد تتحملها ! غادة ربما لم تعد تطيقك ، ولوسيان ، حتى لوسيان التي في دمشق ، منشغلة بعالمها العجيب ، ولا تزورك إلا نادرا ، وأولادك وبناتك الذين تظن أنهم كثيرون ليسوا من حولك ، كل هذا الكم من النساء ( الزوجات والحبيبات والصديقات ) والأولاد ، عدا الأخوة والأخوات ، وتموت وحيدا ، وحيدا ، يا محمود أبو الجدايل ! وحيدا بائسا متعبا مرهقا ،مدمرا ، لا أحد يقدم لك حتى كأس ماء . آه يا امي لو انك إلى جانبي لتواسيني بكلمة منك ، لتغدقي علي حنانك ، لتضمي رأسي إلى صدرك المترع بالأمومة والحنان ، وتملسي بيدك البلسمية على صلعتي ، أنا حزين ووحيد ومتعب يا أمي .
رن جرس الهاتف ثانية . مددت يدي هذه المرة ، إذ كان الهاتف قريبا مني .
كانت لوسيان . لوسيان التي مات أحد قطيها ( محمود ) وتطلب إلي المساعدة في دفنه ! جرى بيننا على الهاتف ما جرى ، وانتهت المكالمة بنعتي بالمجرم الشرير القاسي ـ وإلغاء دعوة العشاء التي كان مقررا أن تحضر إليها عندي .
لوسيان سيدة فرنسية ، وهي أرق امرأة عرفتها في حياتي ، وأكرم امرأة بعد ( عائشة العلان ) وهذه الأخيرة كانت أرملة فلسطينية معدمة ، جاءت أبي تستدين منه ذبيحة حين طرق بيتها عابرو سبيل بحثا عن طعام !!!
ولوسيان امرأة ناعمة كحرير الشام ، وشفافة كماء زمزم ، يمكن أن تخدشها نسمة هواء في غير أوانها .. ولا أعرف أية حماقة دفعتني لأن أتعامل معها بهذه القسوة ، وأطلب إليها أن تلقي القط في القمامة !
تعرفت إليها بعد حضور عرض مسرحية ( كاليجولا ) في دمشق ، وأصبحنا صديقين حميمين بعد قرابة اسبوعين . حدثتني عن مسيرة آلامها ، وحدثتها عن مسيرة آلامي ، لولا احتلال بلدي لكانت آلامها لا تقل فظاعة عن آلامي ، فقد عاشت حياة قاسية ، لم يرد مثلها حتى في الأساطير ، ربما في أسطورة لوط فقط ! ومع ذلك فهي تحاول نسيان كل المآسي التي مرت في حياتها ( كما أحاول نسيان مقتل أخي بيد أبي ) فتبدو وكأنها لا تعاني منها ، وربما لاتعاني ..
ولوسيان كمعظم الأوروبيين تحب الحيوانات ، وتفضل القطط على الكلاب . عندما تعرفت إليها كان لديها قط بحجم كلب صغير اسمه فرانسيس ، ( وهذا اسم صديق فرنسي لها ) وحين تعمقت صداقتنا ، اقتنت قطا آخر وأسمته ( محمود ) على اسمي .
كا ن قطا صغيرا وقميئا، وكم كنت أكرهه، فهو بليد وخامل وغير مرح وبشع ، عكس معظم القطط التي أراها جميلة ، وكثيرا ما كانت تداعبه أمامي ، وتسالني وهي تضمه إلى عنقها وتقبله فأقول لها لا بل أكرهه ، أبعديه عن وجهي > وكنت أميل إلى القط الآخر فرنسيس، رغم أنه كان شرسا ، فلم أداعبه يوما عن قرب إلا وترك آثار جراح على يدي ، غير أننا اكتشفنا أسلوبا مشتركا للتفاهم والمداعبة دون اللمس المباشر ، فقد اعتاد أن يتسلق دالية في حديقة البيت ، ويتوغل بين أغصانها إلى أن يضل طريقه ، فلا يعرف كيف يعود ، ولا يستطيع القفز لعلو الشجرة ، فيشرع في المواء ، وحينئذ كنت أبادر إلى إحضار سلة كبيرة من القصب ، وأرفعها نحوه ، فيقفز فيها ، وبهذا اكتشفت لعبة مسلية معه ، وهو بدوره اكتشف لعبة راقت له ، فأخذ يكررها معي كثيرا ، حتى بعد ان تدرب على الصعود إلى الدالية والنزول عنها بسهولة . أرفع له السلة فيقفز فيها ومن ثم أدور به من حولي إلى ان أشعر ان الأرض تدور معي ، فاتوقف قليلا لأتخلص من الدوخة ، أمرجحه في الهواء إلى أن يمل . ذات مرة حدث أمر طريف ، فقد هاجمه كلب ، وفي غمرة رعبه تسلق شجرة عالية جدا ، لم يتوقف إلا أعلاها، كان من المستحيل مساعدته ، حاول النزول عدة مرات فلم يتمكن ، لم تكن مخالبة قادرة على أن تقوم بفعلها كما في التسلق ، حاولنا بالسلة ، تعذر عليه القفز فيها من هذا العلو الشاهق . أخذت لوسيان تفكر في الإتصال برجال الإطفاء ، فيما راح صديق يبحث عن سلم من الجيران . كان الصديق طويلا صعد إلى أعلى السلم ورفع السلة بيدية . تردد فرنسيس في القفز ، فالسلة تبعد عنه قرابة ثلاثة أمتار . رحنا نحمسه كي يقفز كور جسمه وتحفز ، وحقا قفز . كانت القفزة موفقة بحيث جاء في السلة تماما ، غير أنه كاد أن يوقع صديقنا عن السلم .
حاولت لوسيان ذات يوم التخلص منه بعد أن خيرها صديق أن تختار بين القط وبينه، فاختارت الصديق ، ووضعت فرنسيس في كيس وأقفلت عليه ، ثم أخذت سيارة إلى بلدة تبعد حوالي 15 كيلو مترا عن دمشق وأطلقته هناك وعادت . فوجئت بعد حوالي أسبوع وهو يدخل عليها من النافذة ، فقررت التخلي عن الصديق والإحتفاظ بالقط .
ذاك الخمول البشع محمود لم تقم بيني وبينه أية علاقة ، وذات يوم اتصلت بي لوسيان في الصباح الباكر لتقول لي أنها حزينة جدا ، لأنها فتحت الباب في الصباح لتجد محمود ملقى خلفه والدماء تنزف من فمه وفكيه ورأسه ، لقد ضربته سيارة أمام الباب كما يبدو ، وكم كانت حزينة لأنها لم تترك الباب مفتوحا خلال الليل ليدخل محمود عندما يعود من تسكعه في الأحياء ، ثم إنها تجاهلت خرمشاته على الباب أثناء الليل معتقدة أنها خرمشات قطط متحرشة، فلم تفتح له. ثم كيف تسمح لنفسها أن تنام وهو خارج البيت ، كان يجب ان تنتظره إلى أن يعود ، وكان في مقدورها أن تسعفه فورا ، أما الآن ؟ فأنا حزينة ومتأسفة ومسؤولة عما جعل حاله تسوء أكثر ، لقد نزف كثيرا من الدم ، وظل يتألم طوال الليل . هكذا قالت لي على الهاتف ، ولم يبق إلا أن تقول عن نفسها أنها مجرمة لإهمالها القط إلى هذا الحد . سألتني عن طبيب بيطري فأجبتها بأنني لا أعرف . تأسفت لإزعاجي معتقدة أنه كان بإمكاني أن أساعدها وإلا لما اتصلت.
عثرت على طبيب بيطري وراح يعالج محمود ويعايده باستمرار بأجر باهظ ! لم يتماثل للشفاء ، وساءت صحته ، وغدا بشعا إلى حد يثير القرف ، كان فكاه مائلين وبوزه معوجا من جراء الصدمة . وعندما تأملته بدالي وكأنه مصاب بالجعام ، أخبرت لوسيان أنه قد يموت قريبا ، وها هو يموت بعد بضعة أيام .

أمر مؤسف جدا أن أكون قاسيا ولا مباليا على الإطلاق إزاء مشاعر امرأة رقيقة وعاطفية ، ثم إنها صديقة وكانت تأمل مساعدتي ، لماذا لم أعتذر لها وأقول أنني متعب ومرهق وحزين ومشغول أيضا ، وكان في مقدوري إغصاب نفسي على إبداء أسفي لموت القط الذي يحمل اسمي والذي اقتنته من أجلي . كانت ستتقبل مني أي عذر مهما كان ، انا واثق من ذلك ، اللعنة علي وعلى أبي الذي يدعي أنه أنجبني ، لماذا لا أستطيع أن أكذب على نفسي ولو مرة واحدة ؟ لماذا أكره المجاملة ، حتى وأنا أعيش وحدة قاتلة وأصارع قدري ، وأرى حتفي أمام عيني ، وفي أمس الحاجة إلى انسان ما ، أي انسان يكون إلى جانبي ، يعطف علي بكلمة ، يواسيني بابتسامة ، يقدم لي كأس ماء . آه آه ! هل أتصل بلوسيان لأعتذر لها ، لأقول لها لو أنه في مقدوري القدوم إليها لقدمت ودفنت محمود معها ، لعلها تقتنع أنني لست شريرا ، ولست مجرما ، ولست قاسيا أيضا ! رباه ! لعلني أصبحت شريرا دون أن أدري ، لكن هل يكفي اتخاذ موقف كهذا الذي اتخذته إزاء قط لأصنف في عداد الشريرين ؟! غير ممكن ! رباه ! لكنني كنت وأنا فدائي أطلق النار على الأرانب والثعالب والغزلان والوعول والطيور ، بل لقد حدث وأن أطلق فدائي النار على القط الوحيد الذي كان لدينا في القاعدة ، القط الذي كنت أحبه كثيرا وأدعه ينام بين أحضاني ، ولا أذكر أنني فعلت شيئا للفدائي ، مع أنه لم يطلق النار على القط لفعلة شنيعة ارتكبها ، بل لأنه لم يجد هدفا يطلق النار عليه إلا هو ، فأطلقها . وكل ما هنالك أنني أبديت انزعاجي الشديد من سلوك الفدائي وطالبت بمعاقبته ، دون أن يذعن أحد لكلامي .
وعندما أطلق فدائي آخر النار على البغلة التي كانت لدينا في القاعدة ، لم نفعل له شيئا ، صحيح أننا لم نتمكن من القاء القبض على البغلة حين قطعت قيدها وراحت تعدو في الهضاب جامحة ، غير أن هذا لا يعني أن نتهاون مع من أطلق النار عليها بعد نفاد صبره . وكان في مقدورنا أن نترك البغلة إلى أن تتعب من العدو وتجوع ، لتعود وحدها ، وكان يجب معاقبة الفاعل ، ليس لعدم انسانية ما فعله فحسب ، بل لأهمية البغلة لنا في رحيلنا وترحالنا ونقل سلاحنا وذخيرتنا وسفدها من قبل بعضنا أحيانا .
حقا نحن أشرار ! أنا بالذات شرير ! ولا ينبغي أن أتذرع بالموت المحيط بي والمحدق بي لأبرر شرانيتي ، وإلا لبرننا لليهود كل ما فعلوه بنا ، وبالتالي سنبرر لأنفسنا كل ما قد نفعله بهم في المستقبل.
اللعنة ومع ذلك فانا لا أستطيع أن أدعي انني كنت أحب هذا المحمود وأنه ينبغي علي ان أشارك في جنازته ودفنه !(طيب يا أخي لا تحبه بل اكرهه كما كنت تكرهه
ولا تشارك في دفنه ، لكن لا تطلب إلى صاحبته أن تلقيه في الزبالة . احترم مشاعرها إزاء قطها يا أخي !(
صحيح كان يجب ألا أفعل هذا ، وليس من حقي أن أشير به عليها ، إذن يجب أن أعتذر لها وأبدي أسفي لموت هذا القط التعس .
أحسست أنه بإمكاني أن أتصل بها .. مددت يدي . أدرت القرص ضاربا أرقام هاتفها . ظل الهاتف يرن دون أن يرد أحد. لا شك أنها ذهبت لدفن القط .
عاد هذا الإختناق يضغط على صدري ثانية ، واليوم ما يزال طويلا طويلا ، وإذا لم تأت لوسيان في المساء سأكون حزينا أكثر من أي يوم آخر في حياتي ، وإذا لم أعتذر إليها سيزداد حزني .
لم اكن قادرا على فعل شيء ، وكلما حاولت الهروب من لوسيان وقط لوسيان وشرانيتي وموتي رحت أغرق أكثر. أغلقت أذني بسدادتي أذن لأهرب من الضجيج والأبواق الصاخبة في الخارج ، واسترخيت في الأريكة جاهدا قدر الإمكان لأن اريح نفسي ولا أفكر في شيء ، لكن عبثا ...
ذات يوم قبل احتلال عام 67 ، كان لدينا كلب جميل اسود ، وبعدما هربت من البيت ومن رعي الأغنام ، على أثر ضربة سددها لي أبي بهراوة فأس كسرت كتفي ، أخذت أحضر من القدس بين الفينة والفينة لزيارة أمي ، ورغم أنني كنت أغيب عن البيت بضعة أشهر بعد كل زيارة ، إلا أن الكلب كان يعرفني بمجرد مشاهدتي أطل من قمم الجبال ، فيهرع لاستقبالي ، كان ينبح في البداية وكانه لم يكن جازما بأن القادم أنا ، لكن ما أن أقترب حتى يتأكد تماما من هويتي ، فيهرع إلي عدوا .أجلس لأستقبله بأحضاني وكأنني أستقبل طفلا عزيزا ، أضمه أعانقه أداعبه ، أملس على رأسه ، أطعمه مما أحضرته له. أسأله عن أحواله وعما إذا كان أبي ما يزال يضربه لأي سبب. فقد كان أبي يضرب كل شيء : نحن وأمي يوميا لأتفه سبب. البغل إذا أحرن أو سطا على أكياس الشعير ، الكلب إذا غفل عن القطيع أو نام في غير المكان الذي حدده له ، الدجاج إذا دخل حقول الحنطة أو الشعير أو التبغ ، القط إذا اختلس قطعة جبن أو لم يفلح في اصطياد الفئران التي كانت تعج في عزبة أبي . الأغنام إذا لم تدر الحليب المطلوب ، الكبش إذا لم يكن فحلا كما يريده ، والزرع إذا لم يحمل جيدا ، واخيرا الأرض إذا لم تخصب !!
وكنت أشعر بالكلب يشكو لي همومه ويلومني لأنني هربت وتركتهم يقاسون الحياة في كنف أبي ،وحين كنت أنهض لنكمل الطريق إلى العزبة ، كان يملأ
الوادي فرحا ومرحا وصخبا ، يعدو هنا وهناك ويعود إلي ، يسبقني إلى البيت ليخبر أمي ويعود .
وذات مرة قدمت لزيارة أمي ، لم يفعل كما في كل مرة ، بل لم اشاهده على الإطلاق ، قلت لعله نائم . رحت أنادي سمور سمور دون جدوى . وعندما أصبحت على مسافة أمتار من العزبة ولم أره ، أدركت ان أمرا ما قد جرى له . وحين دخلت من باب الجدار الخارجي المحيط بالعزبة ، شاهدته مطروحا على مقربة من مربط البغل . هرعت نحوه ، كان يحتضر وفي الرمق الأخير . جلست إلى جانبه ورحت أملس بيدي على رأسه برفق إلى أن لفظ أنفاسه بين يدي .. فرحت أبكي . عرفت ان أبي ضربه في اليوم السابق .
لم يخطر ببالي أن أدفنه يا لوسي مع أنني كنت أحبه وأحب الحيوانات كلها وربما أكثر منك ، ولا أعرف ما الذي غيرني ، كلنا نتغير يا لوسي ، أنت أيضا قد تتغيرين ! ذات مرة أرغمنا أبي أنا وأخي أن نجهز على كلب بعد أن أطلق عليه النار . كم كان بشعا أن نجهز على كلب اخترقت عنقه رصاصة ولم يمت . لقد اتهم ذاك الكلب بأنه ابن ذئب ، فقد ادعى أحد الرعاة أنه سطا على قطيعه ليلا واختطف شاة ، غير أن أبي لم يصدق ، ونحن أيضا لم نصدق ولا سيما أنه ليس في الإمكان تمييز الذئب من الكلب خلال الليل ، وذات يوم شاهدنا الكلب يهاجم قطيعنا في عز الظهيرة ، غير أنه لم يكن يعض الأغنام ، كان ينقض عليها ويحاول طرحها أو سوقها أمامه كما يفعل الذئب ، وهي تهرب منه دون أن يؤذيها . لم يكن الأمر في رأيي أكثر من مداعبة لم نعتدها من الكلاب وخاصة مع الأغنام التي لا تحتمل مداعبات كهذه.
شك أبي في أمره وصمم على قتله . أطلق النار عليه مساء اليوم ذاته . أصابه في عنقه . كبا الكلب على وجهه وأطلق عواء مفجعا جعل كل كلاب المنطقة تنبح عواء له . وحين حاول أبي الإقتراب لإسكات نواحه والإجهاز عليه ، فز ولاذ بالفرار وهو يطلق نواحه وعواصه المفجع . وحينئذ طلب أبي إلينا أن نلحق به ونجهز عليه . لم نقدر على مخالفته، رغم أن الدنيا ظلام وليس بإمكان المرء مشاهدة اصبعه ، وقد أطلق ابي النار على الكلب في مكان مضاء.
أخذ اخي مصباح البيت وعدونا خلف الكلب متتبعين نواحه فيما أبي يعدو خلفنا ، ابتعد قرابة نصف كيلو متر وانقطع صوته. تبعنا على ضوء المصباح آثار دمه .
وجدناه مختبئا في كهف ، صرخ ابي من خلفنا ( بالحجار عليه بالحجار ) ورحنا نلتقط الحجارة ونرجم الكلب من باب الكهف دون أن نصيبه بحجارتنا ، فقد راح يثب مذعورا من حائط إلى حائط مما دفع أبي إلى توجيه سيل من الشتائم البذيئة لنا ) يا اولاد ... )اضربوا يكسر ايديكم ، يا خسارة الخبز فيكم ! وحين انطلق الكلب بشكل وحشي في اتجاهنا واندفع من بيننا كلمح البرق إلى خارج الكهف. جن ابي ولم يترك شتيمة في جعبته إلا وكالها لنا .
راح الكلب يعدو عبر واد سحيق ونحن نتبع أثره إلى أن نزف دمه وسقط أرضا . لحقنا به . كان يحتضر . ومع ذلك أصر أبي أن نجهز عليه بالحجارة . لم اذعن له .
انهالا عليه هو وأخي إلى أن عملا فوقه رجما !!
آه يا لوسي حزنت على ذاك الكلب ، فهو أقوى كلب شاهدته في حياتي . كان بحجم جحش ، ويصرع عشرة كلاب إذا ما تشاجر معها ، ولم تنجح الذئاب في اختطاف شاة من قطيعنا خلال وجوده ، ومداعبته للقطيع لم تكن كافية لإثبات التهمة التي أطلقها الراعي ، ثم ألم تكن هناك طريقة لإعدامه غير هذه الطريقة التي أعدم بها؟
لوسي !ستأتين في المساء أليس كذلك ؟ ستاتين حتى لو اقتنعت انني شرير ومجرم وسأقص عليك عشرات القصص عن الحيوانات ! يا إلهي كم لدي منها !
سأحدثك عن الأغنام وعلاقتي بالأغنام وكم كنت أحبها . أصحو من نومي عليها
وأسرح طوال اليوم معها ، ولا أغفو إلا إذا نامت الحملان بين أحضاني وأحاطت الأغنام بفراشي .وسأحدثك عن كلب حيدر حيدر وكيف طبقته وساحدثك عن قطة البناء التي عشقتني وسأحدثك عن قطيع خالد الذي مات بالسم وقطيع حسن الذي فتكت به الذئاب، وقطنا الذي عبر النهر وعاد إلى الضفة الغربية ، أما اهم القصصالتي سأرويها لك فهي قصة الكبش مرداس الذي ربيته على يدي ليكون فحل الفحول ويسفد عشرات النعاج في اليوم !
رغم أنني كنت طفلا إلا أنني كنت راعيا ماهرا يا لوسي . تعلمت العزف على الآلات الشعبية بسرعة قياسية حتى أروق في عيون الأغنام ! فرحت أعزف لها في المرعى إما على الناي أو على الأ رغول والمجوز ، أشنف آذانها فتمرح وتنتشر على السفوح وبين الأخاديد لترعى ، وكلما ابتعدت عن صوت الموسيقى راحت تعود إليه ثانية ، كنت أطوعها على انغام الموسيقى ، فتمنحني حليبا لذيذا
من ضروعها مباشرة ، كنت أرضع الحليب رضعا مع طعام غدائي ، أستلقي تحت الشاة وأمسك ضرعها ثم أتلقمه بفمي وأرضع جرعة تبلل لقمة الخبز التي في فمي ، وتظل الشاة واقفة دون حراك إلى أن انهي غدائي وأنهض شبعا ! كانت الأغنام بمثابة أمهاتي بالرضاعة ، ولا أظن انني اصبحت عازفا على الآلات الشعبية إلا من أجلها ، ربما لأفيها شيئا من حق أمومتها لي ! انا ابن الأغنام يا لوسي ، ابن الجبال والبوادي والشقاء ، ولست الآن إلا ابن النكبات ، ابن الثورات المهزومة ،الثورات المجوفة ، ثورات الخيبة .
لا تغضبي مني يا لوسي وإذا ما أتيت مساء سأقص عليك قصصي لعلك ترضين علي ! ذات يوم ولدت نعجة يا لوسي . صحيح انني كنت طفلا دون الخامسة عشرة ،إلا أنني تعلمت ذلك من نعومة أظفاري ، كنت أتولى توليد اكثر من مائة نعجة وماعز في العام . ولم يكن لدي غرفة عمليات بيطرية أو أي مكان للتوليد ، فالمخاض يدهم الشاة وهي في المرعى ، أو وهي في المهجع ، تحت المطر او في الصحو ، في الليل أو في النهار ، وينبغي علي أن اظل يقظا دائما . أسوأ أيامي يا لوسي هي التي يلد فيها الكثير من الأغنام بعيدا عن البيت ، ويكون الطقس فيها عاصفا ، إذ علي أن أنتقل من شاة إلى أخرى ، وما أن تلد واحدة حتى أنقلها إلى مكان يقيها المطر والبرد . وإذا ما تعسرت ولادة شاة ، فإن يومي سيتحول إلى جحيم لا يطاق . ينبغي علي أن أجزم أن الولادة الطبيعية مستحيلة ، والعملية لن تكون سهلة ، فأي خطأ قد يؤدي إلى نزيف يتسبب في موت الشاة ،ولا بد من استعدادات مهمة لإجراء العملية ، كأن استنجد بأحد الرعاة ليرعى قطيعي خلال العملية ، وان ابحث عن صابون وزيت لغسل يدي ودهنهما ، إذ يتوجب علي أن اولج اليمنى في رحم الشاة لإخراج الحمل ، والمهمة الأعسر عندما تكون يدي داخل الرحم ، فإذا ما أخطات في تحسس جسم الحمل وتلمس جدران الرحم فإنني لن اتمكن من إخراج المولود بسهولة . وحالات تعسر الولادة هذه تحدث كثيرا
إذا ما كانت الشاة حاملا بتوأم أو أكثر ، أو إذا كان وضع الحمل مقلوبا أو معكوسا .
ذات مرة ولدت نعجة أنجبت اربع توائم يا لوسي ، مات واحد وعاش ثلاثة ، وهذه حالة نادرة بين الأغنام ، وفي المساء علي أن احمل المواليد جميعها ، على ظهري ، تحت ابطي ، على عنقي ، وعلى كتفي ، وبيدي ، وامهاتها تعدو خلفي وثغاؤها ورغاؤها يصم الآذان .
المهم يا لوسي أنني ذات مرة ولدت نعجة تدعى الغراء . أنجبت توأما . كانت النعجة ضعيفة وهزيلة لكبر سنها ، نفقت بعد الولادة بعدة أيام ، فاضطررت إلى تربية التوأم الذي كان عبورة ( أنثى (وخروفا ( ذكر (.
أطلقت على العبورة اسم ندى وعلى الخروف اسم مرداس . كنت دائما أطلق أسماء بنات البلدة على الأغنام يا لوسي ، وكنت أحب هذه الأسماء بقدر ما احب الأغنام والفتيات ، الفتيات اللواتي كانت مشاهدة سيقانهن تطير عقلي ، عكس الفتيات شبه العاريات اللواتي أشاهدهن اليوم على المسابح .
اطلقت على الاغنام أسماء كثيرة يا لوسي ، مثل : وردة ، طرفه ، سارة ، حنة ، ثريا ، ذوابا ، تخلة ، عيدة ، فضة ، مريم ، نوارة ، ندرة ، والعديد من الأسماء التي يعتبر اليهود معظمها عبرية يا لوسي ، أجل عبرية يا لوسي ، تصوري ؟!
المهم يا لوسي . أحببت ندى ومرداس وربيتهما على يدي . كنت أجعلهما يرضعان
حليب اربع نعاج يوميا ( خلسة عن ابي طبعا ) وعندما فطمنا الحملان والسخال لم افطمهما ، وظللت ارضعهما الحليب إلى ان باتا عملاقين ، كنت بالنسبة إليهما بمثابة الأم ، فكانا يتبعانني دوما ، وكنت دائما أداعبهما واقبلهما ، وعندما رأى أبي مرداس عملاقا ، قال هذا الخروف يصلح مرياعا للقطيع ، ويجب ان نخصيه ، فنحن لسنا في حاجة إلى كبش طالما لدينا كبش جبار ! جننت يا لوسي . سيخصي أبي العجيب هذا مرداس الذي غدا جزءا مني ، ليحوله إلى كبش ذليل ويرغمني على ترويضه ليغدو تابعا لي ونائبا في قيادة القطيع ، < لا > صرخت في وجه ابي
) ليس في وجهه تماما وليس بصوت عال ) ومع ذلك زجرني قائلا ( انت بتصرخ في يا ولد ؟! ) فقلت بعد ان خفضت صوتي أكثر ( مرداس سيكون كبش القطيع ، وسيحل محل ابيه دهمان ، الا ترى بوادر الفحولة تلوح بين عينيه ؟! ) وامعن ابي النظر وراح يتأمل مرداس ويتفحصه ، فوافقني الرأي للمرة الأولى والأخيرة ! وبهذا أعفيت مرداس من الخصي !غير ان ابي أصر على بيع دهمان لأننا لن نعود في حاجة إليه . ودهمان كبش عظيم يا لوسي ومن سلالة عريقة ، ولي معه ذكريات كثيرة ، بعضها مؤلم وبعضها جميل ، ولا أحبذ بيعه ، رغم انه كبر وشاخ .احسست انه من العار ان نبيعه بعد ان امضى مع القطيع هذا العمر . لم افلح يا لوسي ، فما ان تاكد ابي من فحولة مرداس بعد بضعة اشهر ، حتى باع دهمان .
باعه لينضم إلى قطيع لا يعرفه ، وأهل لم يألفهم . لن انسى حزنه وغضبه حين كتفه الرعاة واقتادوه عنوة ، فرحين بفحولته الفذة ، فيما أبي يغتبط بالمبلغ الكبير الذي قبضه ثمنا له .
في الإخصاب المقبل كان مرداس قد بلغ ، وغدا حجمه هائلا . في بعض الاحيان كنت أخاله قطعة من جبل تنتصب على أربعة قوائم رخامية . وكان له قرنان حلزونيان غليظان يفلقان الصخر . وحين اقبل موعد الإخصاب راح يدور بين النعاج ويتشمم رائحتها لتقبل عليه وتمتثل له ، غير ان وقت الإخصاب لم يكن قد حل تماما بعد ، مما اثر على طباعه وسلوكه ، فراح يطارد النعاج لسفدها عنوة ،
وإذا لم تمتثل نعجة له ، كان يهاجمها بضراوة ، فأهرع لإنقاذ ها وانا اصرخ به :
(مرداس مرداس ارتدع يا مرداس ) كان يهابني فيتوقف عن لكز النعجة بقرنية ، وحين اصل امسك النعجة من راسها واداعبها . اقول لها ( ولك ارضخي له ، إذا لم ترضخي سيقتلك يا مجنونه ، ثم اين تجدين فحلا مثله ؟ كفاك حماقة ) وكان يستغل اللحظة التي أمسك فيها رأس النعجة فيشب عليها شامرا إليتها بذراعه مطبقا على حقويها . ولم تكن ثمة قوة في الأرض قادرة على إفلاتها من بين قائمتيه ، ثم يندفع إلى الخلف ويطعنها بشدة مطلقا سبيلها وهو ينتشي بكامل الذروة ، تترنح بضع خطوات وقد تقوس ظهرها وراح يتكور مستشعرة متعة طاغية ، وهي تفقد توازنها وتكبو على وجهها .وحين كان يفعلها في مكان منحدر كانت النعجة تتدحرج لبضعة أمتار !
حل الإخصاب في قطيعنا قبل أي قطيع آخر يا لوسي وحين اشتمت كباش الرعاة رائحة الخصوبة تعبق من قطيعنا تركت قطعانها وتمردت على رعاتها وجاءت تسعى إليه املا في تحقيق رغباتها وغرائزها ، وهنا كانت المذبحة المروعة يا لوسي ، المذبحة التي تكهنت بها منذ أن شاهدت بعض الكباش تترك قطعانها وتتسلل إلى قطيعنا . انذرت الرعاة غير انهم لم يذعنوا لي ، ثم إنهم لم يتمكنوا من ردع كباشهم .
كان مرداس محاطا بعشرات النعاج التي راحت تتحرش به وتتملس منه وتتمرغ عند أظلافه أو تدور من حوله ، أو تصطف امامه مديرة إلياتها له ، منتظرة دورها ليسفدها . وكان ما أن ينزل عن نعجة حتى يشب على أخرى ، فلم يتنبه لثلاثة كباش تسللت إلى القطيع وأخذت تطارد النعاج . تنبه للأمر بعد لحظات ، فقد كانت النعاج المخصبة تهرب من الكباش الأخرى إلى ناحيته آملة ان ينكحها ، فلم يتنبه إلا وكبش يتودد على نعجة على مسافة اقدام منه ، توقف للحظة يستطلع ما يجري وكأنه غير مصدق ما تراه عيناه . سمع جلبة في ناحية اخرى من القطيع ، فأشاح نظراته ليشاهد كبشين آخرين ، وقبل أن يقرر ماذا سيفعل شاهد كباشا أخرى تهرع من نواح مختلفة ، وهنا ادرك ان قطيعه أصبح عرضة للإنتهاك من الكباش الغريبة . صرخت به مستحثا نخوة الشرف العشائري يا لوسي ( عرضك يا مرداس ينتهك أمام عينيك ، حريمك وطأ مخادعها الغرباء ! باطل عليك باطل ! ) انتفض مرتين او ثلاث مرات .. شاهدت جسده يهتز ، وحين كان أقرب الكباش إليه يعتلي ظهر نعجة تراجع بضعة اقدام إلى الوراء وانطلق نحوه ، نطحه ليقذف به بضعة اقدام من فوق ظهر النعجة . ، لم يثن عليه ، تركه مطروحا على الأرض وانطلق نحو كبش آخر ، جندله بنطحة واحدة وراح يعدو نحو كبش ثالث ، غير أن الآخر شاهده يهرع نحوه فتحفز لمواجهته ، كان ثمة شبه كبير بينه وبين مرداس ، فايقنت أنه جاء من ظهر دهمان . صرخت بمرداس ( هذا أخوك ابن ابيك دهمان ، لا تؤذه لكن احذر منه ) . غير أن مرداس لم يذعن لي وانقض على أخيه . احدث التقاء قرونهما واصطفاقهما انفجارا اجفل الأ غنام ، فراحت تخلي الساحة لهما لتشكل ما يشبه الحلقة من حولهما . لم يتاثر أي من الكبشين من جراء النطحة الأولى ، تعاركا في مكانهما . كل واحد يحاول ان يدور حول الآخر ليسدد له نطحات جانبية . افلح مرداس في تسديد بعض النطحات الجانبية لأخيه ، غير أنها لم تكن فعالة ، فقد واظب الأ خ على الدوران من حول مرداس محاولا ان يفرض عليه المواجهة من الأمام لتمرسه على النطاح وجها لوجه . فهو اكبر من مرداس بعامين على الأقل ، كما بدا من حجم قرنيه الهائلين . ولا شك انه تمرس كثيرا على النطاح بعكس مرداس الذي لم يتمرس عليه إلا قليلا لصغر سنه . وكنت قد دربته بضرب قرنيه من الأمام بحجر كبير ، وبمصارعته دائما ، وكان دائما يتغلب علي ، فلم اتمكن يوما من لوي عنقه ، رغم انني كنت أتمسك بقرنيه بكل قوتي . ، وحين جربنا انا وأخي أخفقنا ، وكذلك أخفقنا حين حاولت وثلاثة رعاة ، أمسك كل اثنين بقرن ، إذ لم نزحزحه من مكانه قيد أنملة . ولم يمل عنقه ولو بقدر شعره .
كان يثبت في الأرض وكأننا نصارع صخرة هائلة ، كان مرداس يفرح ويزهو بنشوة النصر علينا نحن معشر البشر ، فلا أجد إلا أن احضن رأسه واقبله .
ولم يكن ابوه دهمان أقل قوة منه .
هرع الرعاة وراحوا يتفرجون على الصراع بين الأخوين ، فيما كانت كباشهم تتسلل إلى القطيع وتتعارك بدورها أو تشب على النعاج مستغلة انهماك مرداس في المعركة .
صرخت بالرعاة ( إن حدث سوء لمرداس سألعن آباءكم ، وإن حدث شيء لكباشكم ستتحملون المسؤولية وحدكم ) والحق انه لم يكن في مقدور أحد أن يفض النزاع بسهولة ، ثم إنهم لم يكونوا متخوفين مثلي أنا ، الذي اعرف ماذا فعل جد مرداس ذات يوم ، فقد شق رأس كبش من منتصفه كما تشق البطيخة !
ورغم كل ثقتي بمرداس وقوته إلا أنني كنت خائفا عليه ايضا بقدر ما أنا متخوف
منه يا لوسي .
ظل مرداس يراوغ محاولا الإبتعاد عن مواجهة اخيه ، غير ان اخاه وبخبرته الطويلة فرض عليه المواجهة ، حين ابتعد بضعة امتار وأقبل عليه كالسهم . صرخت به ( مرداس سيقتلك اخوك إن لم تتحفز للنطاح ( ولم يجد مرداس مفرا من الصدام ، شاهدته يثبت قوائمه في الأرض ويتحفز ، وحين وثب اخوه في الفضاء لينقض عليه ، وثب بدوره ليلتقيا على ارتفاع يقارب المتر عن الأرض . صرخت) الله معك يا مرداس ، أفديك بدمي يا مرداس ) رغم انني أعرف ان الكبش الآخر اخوه .
فرقعت قرونهما عند اصطدامها واحدثت صوتا مرعبا ، وحين سقطا على الأرض
ترنح مرداس وكبا على وجهه في حين ظل أخوه منتصبا . احسست أن أمعائي تتمزق . صرخت بالرعاة ( ابعدوا كباشكم قبل أن تقتل الكبش ) وحاولوا قدر استطاعتهم ، غير أنهم لم يفلحوا في الفصل بين الكبشين ، وانا حاولت بدوري حين رفعت عصاي وهرعت نحو اخ مرداس لطرده ، غير أن مرداس الذي نهض من كبوته ، مر من جانبي كالريح وهجم على أخيه بضراوة . صرخت ( مرداس كفى ) فلم يذعن لي . شاهدته يثب في الفضاء ويندفع ، ولم يكن أخوه قد تحفز ثانية للمواجهة ، نتيجة لتدخل الرعاة وتدخلي . ، فطرحه أرضا . وحين شاهدنا أنه لا مناص من حسم المعركة بينهما تركناهما ونحن نراوح بين الرفض والقبول ، والعجز عن الفعل .
نهض اخو مرداس من كبوته وتقهقر قرابة عشرة أمتار إلى الوراء ، في حين تقهقر مرداس قرابة ثلاثين مترا ، وضعت يدي على قلبي ، إنها النطحة الحاسمة ، وإذا ما نجح فيها مرداس لن يهزمه كبش أبدا ، توقف الكبشان وراحا يحدقان واحدهما إلى الآخر ، وما لبثا ان انطلقا معا كجلمودين من الصخر . احسست بقلبي يتوقف عن النبض يا لوسي ، ظلا يعدوان إلى ان ضاقت المسافة بينهما بما لا يزيد عن أربعة امتار ، ووثبا كل في اتجاه الآخر ، وقد ضما قوائمهما إلى بطنيهما ، التقى رأساهما في الفضاء ، محدثان دويا هائلا من جراء تصادم قرونهما . وحين سقطا على الأرض اخفيت وجهي بيدي كي اتلافى مشاهدة مرداس مطروحا . ورحت انظر من بين اصابعي خلسة . ولم ارفع يدي إلا حين شاهدته ينزل ارضا وهو ثابت كالطود ، بينما كان أخوه مطروحا .
تراجع مرداس بضعة اقدام إلى الوراء وهم للإنقضاض على أخيه ليجهز عليه . صرخت به ( مرداس كن شهما ولا تهاجم خصما طريح الأرض ) وتلكأ قليلا ، لا أعرف فيما إذا ادرك ما قلته أم انه تخوف مني . وحينئذ حدث ما لم يتوقعه أحد من الرعاة يا لوسي ، فالكباش الأخرى التي كنا نظن انها منشغلة بالنزو على النعاج والتعارك فيما بينها ولاهية عن المعركة ، اقبلت من كل صوب لتصرع مرداس ، فأطبقت عليه من كل جانب . لقد غدت هزيمته مطلبا لكل الكباش ، ليخلو لها القطيع . يبدو انها كانت تامل من أخيه أن يهزمه ، وحين أدركت انه قد يخفق قررت مهاجمته بشكل جماعي . صرخت بالرعاة ( لا غير معقول أن يهزم كبشي إثني عشر كبشا ، ابعدوا كباشكم ، افعلوا شيئا ) ولم يحاول أحد جادا أن يردع كبشه . ثم إن الكباش بدت في ذروة هياجها وغضبها ،وراحت تنقض على مرداس من كل ناحية ، فيما هو يتلقى النطحات ويصدها ، وقد دبت فيه قوة خارقة ، لم تكن الكباش تناطحه وجها لوجه لتخوفها من مواجهته. كانت تنقض عليه من الجانبين والخلف ، وبنظرة خاطفة منه كان يعرف الكبش القوي المتمرس على العراك ، من الكبش الهزيل الجبان ، فيهمل هذا ويتصدى لذاك ، ايقنت اكثر من اية مرة سابقة أنه يجيد العراك الأرضي إلى حد مدهش يذكرني بخبرة أبيه دهمان الفائقة . لم ادربه على هذا النوع من العراك ، غير انه كان يصارع خرافا من عمره ، وعندما شب ، تعلم بعض الشيء من ابيه دهمان قبل ان يبيعه ابي . ولم افكر يوما ان هذا التمرس المحدود كاف لأن يخوض معارك طاحنة كهذه ! ولم اجد نفسي إلا وانا ازغرد مطلقا الزغرود تلو الزغرود لأشجع مرداس واثير حماسه ، راح يكيل النطحات بسرعة وخفة هائلتين ، يسدد طعنة بإحدى قرنيه إلى خاصرة الكبش فيجندله ، ومن ثم يميل على جنبه ليواجه الكباش التي تهاجمه من الطرف الآخر .
صرخت والكباش تطبق عليه ( مرداس ستصرعك الكباش ، أفديك بعيوني يا مرداس ، شد الهمة يا مرداس ) ولا اعرف كيف شاهدت الكباش تتجندل على جانبيه يمنة ويسرة ، فيما بعضها يولي الأدبار ، وصوت الرعاة يصرخ بي ( كبشك هزم الكباش يا ابن ابو الجدايل وتخاف عليه ؟! ) لم اذعن لهم .
وكان للمعركة أن تنتهي عند هذا الحد يا لوسي لو لم ينهض أخوه من كبوته التي دامت لبضع دقائق ، ويعود ثانية للصراع ، وهنا لم اعد قادرا على البقاء متفرجا ، فأشرعت عصاي وانقضضت على أخيه لإبعاده ، غير انني فوجئت بمرداس يهاجم بضراوة كما في السابق ، صرخت به ( مرداس كفى ، ستهزم هذه المرة ، لقد تعبت ) فلم يذعن لي ، وراح يكيل النطحات الجانبية لأخيه ، فيما أخوه يراوغ ويبتعد ليفرض عليه المواجهة . كم هو عنيد اخوه يا لوسي ، يبدو أن ثقته بنفسه كبيرة ، فقد أطاح به ارضا ورآه يهزم أحد عشر كبشا ومع ذلك يصر على حسم المعركة حتى النهاية . وقبل مرداس التحدي وراح يبتعد إلى الوراء . كانت القطعان تنتشر على قمة هضبة فسيحة بعض الشيء . ابتعدا ( أحدهما عن الآخر) قرابة مائة متر وانطلقا . أحسست أن هذه قد تكون النطحة الحاسمة فعلا . لم اعد قادرا على مشاهدة قوائم مرداس نظرا للسرعة التي انطلق بها ، بينما كنت اشاهد قوائم اخيه تماما وهو ينطلق ، وحين وثبا في اتجاه بعضهما والتقت قرونهما في الفضاء ، وجدت نفسي والرعاة نخر أرضا من جراء الصوت الذي أحدثاه .
سقط الكبشان ارضا . عدونا نحوهما . سبقت كل الرعاة لأطمئن على مرداس ، وحين اقتربت منه ، بدا لي أنه في غيبوبة ، لكني لم ار أي دماء او جراح تنزف من رأسه ، فأشحت نظري إلى أخيه لأرى الهول ، فقد انفلق رأسه من النصف كما تنفلق البطيخة . صرخت ( لقد قتلت اخاك يا مرداس ، قتلت اخاك يا قابيل ) !!
أطبق الوجوم على وجوه الرعاة ، فيما كان مرداس ينهض ويتابع بحثه عن الكباش التي هرب بعضها ، فيما ظلت الأخرى تشب على الأغنام مستغلة الفرصة .
وحين رأته مقبلا راحت تهرب من أمامه مخلية ساحة القطيع . كنت أظن ان مرداس سيتركها إلى حال سبيلها طالما أنها هربت ، غير أنه لم يفعل ، لقد دبت فيه شراسة مخيفة ، وراح يلاحقها عبر السفوح والأخاديد ، إلى أن أثخنها بالجراح ، وألحق بها هزيمة منكرة !
كنت أرقبه من بعيد تخوفا من سطوته وخوفا عليه ، فقد يقذفه راع بحجر ، وقد يتدربأ عن سد صخري ، أو مكان وعر فيقضي نحبه . سأموت حزنا عليه ، إذا لم يقتلني أبي .
كنت منزعجا وحزينا بعض الشيء لمقتل أخيه . شاهدته يعود بعد ان شتت الكباش في الجبال والأودية . أدركت انه ظمىء ، أخذت مطرة مائي وأسرعت للقائه . كان يلهث بسرعة والعرق يتصبب من كافة انحاء جسده ، نزعت الكوفية ورحت أجفف بها عرقه ، متفقدا جسده ، كان مصابا بجراح خفيفة ، وثمة كدمات بين قرنيه وفي وجهه ، وما أن استراح قليلا حتى رحت اسقيه الماء من يدي .
كنت فرحا بنصره وآسفا لمقتل أخيه . همست له ( أخوك يا مرداس ، كيف تقتله يا كلب !! ) لم يذعن لي ، كان ما يزال يلهث من جراء التعب .
انصرف الرعاة خلف قطعانهم حاملين الكبش القتيل على حمار . كانوا جميعا آسفين ونادمين لمقتل كبش من افضل كباش البلدة ، وليس في إمكان أي راع الإستغناء عنه . بل إن جميع القطعان في حاجة إليه . وكان في مقدورهم أن يفضوا النزاع بأي شكل، لو أنهم ادركوا عواقبه .
لم أنم تلك الليلة يا لوسي ، فقد امضيتها قلقا على مرداس تخوفا من إصابته بآلام داخلية ، فنمت إلى جانبه ، وكنت أستيقظ بين لحظة وأخرى لأطمئن عليه ، ومما زاد من مخاوفي أنه لم يشب على النعاج منذ أن حدثت المعركة ، وظل طوال الليل هاجعا مستكينا منهكا . وكنت قد سرقت في المساء قرابة رطل من الشعير – خلسة عن ابي – وقدمته له . لم اطمئن عليه إلا عند الفجر ، فقد استيقظت ولم اجده إلى جانبي ، درت بنظراتي بين القطيع . شاهدته يعتلي ظهر نعجة . وحينئذ فقط دبت الطمأنينة في قلبي . همست له ( آه منك يا عكروت ) ونمت بعمق ، مع أنه الوقت الذي ينبغي علي أن استيقظ فيه . والحق أنني كنت أحسد مرداس يا لوسي ، فهو لديه ما يسفده وينزو عليه ، أما انا فلم يكن لدي شيء . لا شيء على الإطلاق . فأنا شبه خصي دون ان اخصى ! لقد خصونا ونحن في عز شبابنا ، وليس ثمة امل في استعادة فحولتنا ! قولي لي يا لوسي ( هل يخصى الرجال عندكم كما يخصون عندنا ؟! )
آه يا لوسي / لم تنته قصة مرداس هنا ، فقد جرى صراع فيما بعد لا يقل ضراوة عن هذا الصراع .

مرت عدة أيام وكباش الرعاة تتنشق عبق الخصوبة في قطيعنا دون أن تجرؤعلى الإقتراب منه . إلى ان جاء يوم مهول خاض فيه مرداس صراعا مريرا ، فقد ظهر كبش جديد لا يهاب المنايا ، واقتحم ساحة القطيع دون أن تهتز في جسدة خصلة صوف ! كبش تمرس العراك وخبر الطحان وذاق مر الكر والفر ، ترضخ له القطعان وتتحاشاه الكباش في الميدان .
كان الوقت صباحا ولم ترتفع حرارة الشمس بعد ، وقد انتشر الرعاة بقطعانهم على السفوح والجبال عازفين على آلاتهم الشعبية أو مرددين الأهازيج ، وفيما كنت أجوب السفوح بعيني ، ناظرا نحو مآذن القدس تارة ونحو هضاب جبل المنطار تارة أخرى ، شاهدت كبشا يرمح من بعيد ، بالكاد حتى لمحته ، فقد كان يعدو بسرعة هائلة ، أيقنت أن وجهته ليست إلا قطيعي . أطرقت للحظات ، وما لبثت أن عرفته من سرعته وحجمه . فليس هناك من هو بهذا الحجم ويعدو بهذه السرعة إلا هو . بدا كفارس يعدو على جواده لمواجهة خصمه . لقد هرب من قطيعة دون أن يتنبه له الراعي أو لم يتمكن من صده . ( ماذا جاء به ؟ الخصب ؟ أم الحنين إلى القطيع والديار؟ ) وضعت يدي على صدري تخوفا وتحسبا لما سيحدث . القيت نظرة نحو مرداس ، كان يشب على النعاج واحدة تلو الأخرى ، صرخت به وأنا أهرع نحوه ( مرداس توقف عن النكاح وتهيأ للنطاح ، فقد غزاك فارس مهول له في العراك باع طويل ، قرناه يهدمان الجدران ، وخلفه ثمانية أعوام من خوض المعارك ، من صلبه أتيت ، وبمعيته تدربت وشببت ، إنه ابوك دهمان فارس الفرسان ، فحل البوادي والبطاح وسيد القطعان والمراح )
كان دهمان مقبلا من سفح هضبة ، وغدا وقع قوائمه على الأرض مسموعا . ألقى مرداس نظرات خاطفة وهو يميل بأذنيه إلى الأمام ليحدد مصدر الوقع . رأى اباه يهرع من بعيد . يبدو انه لم يعرفه . توسلت إلى الله ان يمنع نشوب معركة بينهما ، ليس لأنني أحبهما وحسب ، بل لأنهما اب وابنه ، ولي ذكريات مع دهمان
لا يمكن أن انساها ، فقد عشنا طفولتنا معا ، وكنت أحبه كثيرا رغم انه كسر أسناني ذات يوم ، غير أن الحق كان علي يا لوسي ، فقد تقنعت بكيس خيش وجئته من خلفه حبوا مقلدا الذئب حاملا بيدي قضيب حديد فيما كان هو يرعى الربيع ، مددت القضيب من بين رجليه ووخزته في خصيتيه ! آه يا لوسي ، لا أراك الله ما أراني ، فقد استدار دهمان وسدد إلى وجهي نطحة مرعبة ، أطارت اربعا من أسناني وخلخلة البقية . ولولا هروع الراعي على صراخي لقتلني . نزفت الكثير من الدم ، وظل وجهي متورما قرابة عشرة أيام . كنا صغيرين ، لكنه كان اقوى مني بكثير . أحجمت عن اللعب معه بعد ذلك اليوم ، إلى ان شب وبلغ قبلي . وراح ينط على الأغنام امام عيني ، بينما أنا لم اعرف طريقي إلى المرج بعد !!!
تحرك مرداس بلا مبالاة لمواجهته على مسافة من القطيع . تبعته . أمسكت قرنيه . قلت له ( ولك يا جحش اسمعني ! إنه أبوك وربما جاء مشتاقا إليك ، ولا شك انك تحتاج إلى مساعدته في هذا الزمن الغادر ، فلا تضمه إلى أعدائك ، لو كان معك في معركة الأمس القريب ، لما كلفك النصر كل هذا الجهد . ولا تظن ان مواجهته ستكون سهلة ، قد يقضي عليك ، والله يعلم كم ميلا قطع كي يشفي غليله ، رجائي ألا تعترض طريقه ، وأنا واثق أنه لن يتعرض لك بسوء . (
الكلب ! حدجني بنظرات لم افهم معناها ، غير أنني أحسست بأنانيته وغيرته القاتلة . صرخت به ( ولك النعاج كثيرة وتكفي لك وله ) لا أعرف فيما إذا فهم !
كان دهمان قد اقترب إلى مسافة قد لا تزيد عن المائة متر . أخذ مرداس يتفلت مني ، وحين ادرك انني لا أريد إفلاته تلافيا للمعركة ، نتر نفسه من بين يدي واندفع كالسيل . كان قد طرحني ارضا وكاد أن يدوس على بطني . صرخت ( أه يا قابيل يا كلب ، أتمنى أن تهزم شر هزيمة ايها العاق . ) ونهضت اعدو خلفه وأرقب ما سيجري .
أقبل كل منهما في اتجاه الآخر وكأنه صخرة قذفها بركان ، وحين ضاقت بينهما المسافة جمحا وقد ضما قوائمهما إلى جسميهما ثم اندفعا كرمحين ، وقبل أن تلتقي قرونهما في الفضاء ، عرف واحدهما الآخر ، فقد حاول كل بدوره تشتيت النطحة وإضاعتها ، غير أن محاولة الأب كانت ناجحة أكثر من محاولة الإبن ، الذي لم يتمرس الكر والفر كأبيه . فقد مال بكل جسمه إلى اليسار ، ومن المفترض أن يميل هذا العاق بجسمه إلى اليمين ، وهو ما أقدم عليه ، غير أن زاوية انحرافه كانت ضيقة جدا ، مما جعله يصطدم بإلية أبيه . ولو لم تكن زاوية انحراف الأب كبيرة بعض الشيء ، لجاءت النطحة على بطنه أو حقوه ، مما قد يعرضه لإصابة بالغة . وتبين لي بعد قليل ، أن مرداس لم يكن جادا في تشتيت نطحته ، مما جعل فرحتي تذهب هباء .
وقع دهمان على جنبه ( نتيجة لقوة النطحة والإجهاد الذي ألم به من جراء المسافة التي قطعها عدوا ) فيما حط مرداس على الأرض منتصبا .
صرخت ( آه يا لئيم ) وحين شاهد اباه مطروحا دنا منه ، غير أن الآخر نهض على الفور . قاربا رأسيهما وأخذا يتشممان واحدهما الآخر ، وحينئذ فقط أدركت ما جرى ، فرحت أشكر الله .
دنوت منهما . هتفت لمرداس ( ولك يا جحش ، ألم أقل لك أنه أبوك ، ألم تفهم ؟ أم أنك لم تسمع ؟ ) وانصرفت عنه إلى دهمان الذي عرفني وراح يتمسح بي . عانقته ورحبت به بين أهله وفي دياره . كان متعبا ويلهث بشدة واستمرار وعيناه ترقبان القطيع بنهم ، وقد تاججت في دخيلته فحولة طاغية ، انتحيت من امامه فاسحا له الطريق ، ممسكا بقرني مرداس . هجم على القطيع كذئب وراح يزأر كالأسد . شب على أول نعجة واجهها في طريقه . وحين أدركت الأغنام وجوده عرفته وهرعت نحوه . أخذت تتشمم رائحته وتدور من حوله .
كان مرداس يرقب ما يجري بعينين تقدحان غيرة . هتفت له ( ولك إنه أبوك الذي أنجبك من صلبه ، ولولاه لم تكن قد جئت إلى الوجود ) العاق تاججت الغيرة في رأسه ، خاصة وأن النعاج هرعت نحو دهمان وأحاطت به حين فاحت رائحة خصوبته لتعم المكان. ونظرا لأنه يمارس السفاد لأول مرة ذالك العام ، فإنه كان ينزو على النعاج دون توقف ، ويقذف بغزارة فائقة ، على النقيض من مرداس
الذي بدا موسمه منذ قرابة اسبوعين ، وهدر الكثير من طاقته .
تاججت الغيرة في دخيلة مرداس إلى حد جنوني وهو يرى إناثه تستلب منه . لكزني لكزة خفيفة بقرنيه ليفلت نفسه ويندفع نحو دهمان . صرخت به ( لئيم ! سيحطم أنفك إذا تحرشت به ونغصت عليه يومه )
وللأمانه أنه ابطأ من عدوه ليتيح لأبيه النزول عن النعجة التي ينزو عليها . وما ان نزل حتى باغته من الخلف بنطحة خفيفة في إليته ، تنم عن تحرش متعمد أكثر مما تبيت نية الغدر .
( يا عيني عالفرسان يا لوسي ) فقد التفت دهمان بطرف رأسه دون ان يدير جسمه ، وكأنه يقول لمرداس ( عيب عليك ) غير ان اللئيم راح يزيد من تحرشه
واضعا الشر نصب عينيه .

ابتعد إلى الوراء قرابة مترين وهجم مسددا نطحة إلى حقو أبيه . لم يتحرك دهمان من وقفته وثبت قوائمة ليشتت تأثير النطحة . تراجع اللئيم قرابة ثلاثة امتار هذه المرة ليسدد نطحة أقوى ، وحينئذ استدار دهمان وزجره بعينيه . أحسست به يقول له ( كفى ، اخجل من نفسك وابحث لك عن نعجة تعاشرها واتركني قبل أن تثير غضبي ) صرخت به ( دهمان خذ حذرك من هذا الإبن العاق ‘ إنه قابيل ، لقد قتل اخاه وهزم اثني عشر كبشا منذ أيام ، خذ حذرك منه ومرغ لي أنفه في التراب ) !!
واستعد دهمان للدفاع وكان بودي أن يبادر للهجوم . سمر أظلافه في الأرض وهيأ قرنيه لصد النطحة المرداسية . تلقاها وشتتها دون أن يتزحزح قيد انملة من مكانه . ( يا عيني عليك يا دهمان ) وراح هذا العاق يبتعد أكثر فأكثر ويشن الكرة تلو الكرة ، ودهمان يصد الهجمات دون أن يتحرك ، ودون أن تؤثر فيه شيئا . انفضت الأغنام من حولهما مخلية لهما الساحة . صرخت بهذا العاق ( كفى يا كلب لقد ارهقت نفسك يا جحش ) ! وأدركت انني أنصحه دون ادري ، بتغيير طريقته في الهجوم . وغيرها حقا . فقد أرهقه ابوه حين تركه يكر ويفر وهو ثابت في مكانه . يتصدى للهجمات بقرنين هائلين وخبرة فائقة ليبطل تأثيرها .
تخلى مرداس عن الكر من بعيد ، بل وتخلى عن مواجهة قرني أبيه ، وأخذ يسدد النطحات الجانبية ، غير أن دهمان وبخبرته الطويلة كان يدور معه قدر الإمكان كي لا يتيح له أن يظفر به ، واضعا نفسه في مركز دائرة ، تاركا مرداس يدور من حوله ، وكلما انقض عليه وجد قرنيه في مواجهته . وبدا واضحا حتى حينه ، أن دهمان يكتفي بالدفاع ويتلافى الهجوم . صرخت به ( ألم يستفزك بعد هذا العاق يا دهمان ، ألن تمرغ أنفه في التراب ؟! ) ولم يستفز دهمان إلا نجاح مرداس في توجيه نطحة جانبية له ، كادت أن تطيح به أرضا ، غير أنه لم يعط المعركة الجدية الكافية ، وكأنه ما زال يتعامل مع مرداس كإبن وفتى لم يتمرس العراك في الوقت نفسه . فقد تخلى عن التشبث بالأرض وتثبيت القوائم إلى الليونة والرشاقة ، ومن الإكتفاء بالصد إلى المبادرة بالرد ،فارضا على مرداس النطاح المباشر ، لكنه تجنب الدخول في مرحلة الردع التي لن يحسم الصراع غيرها كما بدالي من هذا الإبن العاق .
راح دهمان يصد النطحات بقوة ، وأجاز لنفسه ان يتقهقر بضعة أقدام إلى الوراء ‘ في حين كان مرداس يتقهقر بضعة أمتار ، وهذا يعني أن قوة النطحة المرداسية الناجمة عن بعد المسافة ، أقوى من نطحته ، غير أن ثقته بنفسه وبقوته ، لم تجز له أن يتراجع أكثر من ذلك .
قلت لنفسي ( سيبدأ الجد ، هيا يا دهمان مرغ أنفه ) مرت النطحة الأولى فالثانية فالثالثة ، دون ان يبدو على أي منهما تفوق يذكر . أخذ دهمان يبتعد أكثر ، غير أن مرداس كان يبتعد اكثر بدوره . هتفت لدهمان ( هيا يا دهمان ، واحدة دهمانية وينقضي الأمر ، لكن إياك ان تقتله ، سأزعل منك مدى حياتي( !
أللعنة ! لقد عاد هذا العاق إلى الأرض ثابتا . أعادا الكرة خمس نطحات متتالية ، لم تحسم شيئا . ولم يبد على أي منهما أي تراجع . وأحسست بدهمان يدرك أن ابنه ليس كما كان يتوقع ، بل إنه أمام خصم عنيد وقوي ، وإن كانت تنقصه الخبرة الكافية ، فصمم على أن يناطح بجدية أكثر . تقهقر قرابة عشرة امتار ، فيما تقهقر مرداس قرابة عشرين مترا . انطلقا . وضعت يدي على قلبي . وثبا في الفضاء . التقيا . عادا إلى الأرض ثابتين . أللعنة ! تراجعا . أكثر من عشرين مترا تراجع دهمان هذه المرة . ( رباه لقد دخل دهمان مرحلة الردع . لا بد من حسم المعركة مع هذا الإبن العاق ! هيا يا دهمان ! ) ولم أستطع إلا أن احذر قابيل الكلب ، فصرخت به : ( واحذر أنت يا لئيم فقد يشق رأسك نصفين هذا اليوم . )
انطلقا ومن ثم طارا ليلتقيا (طاخ ) ووضعت يدي على وجهي . وحين أدركت أنهما عادا إلى الأرض ثابتين ، رفعت يدي ورحت أرقب تراجعهما . جن دهمان حقيقة وقد ادرك أنه امام كبش شرس لم يصارع مثيلا له في حياته . تقهقر قرابة خمسين مترا ، فيما تراجع مرداس قرابة ثمانين . صرخت ( يا ألله كن معهما ! اللعنة عليهما ! سيقتلان بعضهما !) كرا (واحدهما في اتجاه الأخر ) الغبار يتطاير من خلفهما ، والحصى يتناثر من تحت أظلافهما ، خلتهما كصخرتين تتدحرجان من قمة جبل . قذفا نفسيهما في الفضاء . صرخت ( ألطف يا لطيف ) ( ط.... ا ... خ ) وعادا إلى الأرض ثابتين كجبلين . رفعت عصاي وهرعت نحوهما ( دهمان، مرداس، كفى ) لم يذعنا لي . تراجعا وتراجعا .. لما يقارب المئتي متر تراجعا . ( اللعنة عليكما ! يا رب السماوات الطف بهما ، وكن معهما ، ولا تدع أحدهما يقتل الآخر . وإذا كان لا بد من ذلك ، فليقتل دهمان ، فقد شاخ وكبر ، وعاش حياته ، ثم إنني لم أشق في تربيته ، وهذا العاق ربيته على يدي ، وإذا ما قتل ، سأقتل نفسي قبل أن يقتلني أبي) !
انطلقا كرمحين ، بل كسهمين ، لم أكن قادرا على مشاهدتهما بوضوح لسرعة انطلاقهما ، توسلت لكل الأنبياء والآلهة أن يحرسوهما . شاهدتهما يقذفان جسديهما في الفضاء ليصطدما كجبلين ويرتدا إلى الوراء ويسقطا .. يا ألله لقد وقع الإثنان أرضا . هرعت نحوهما . وما أن اقتربت منهما حتى نهضا وراحا يتراجعان ، هشت عليهما بعصاي وأنا اصرخ ( كفاكما جنونا ، اللعنة عليكما وعلى اليوم الذي ولدتما فيه ! ) لم يذعنا لي ، ولم اتنبه لنفسي إلا وأنا اقف في نقطة التقائهما . رباه قد اقطع إلى نصفين إذا ما بقيت واقفا هنا . رحت اصرخ وانادي الرعاة في السفوح والجبال ، غير انهم كانوا بعيدين يا لوسي . أخليت الساحة لهما ، وأسلمت امري إلى الله ربي .
لا أعرف كم ابتعدا هذه المرة ، ابتعدا كثيرا كثيرا ، بحيث لم يتح لهما المكان الإبتعاد أكثر ، ليظل واحدهما في مواجهة الآخر . وحين انطلقا كانت أعصابي
قد انهارت تماما ، وتملكني الخوف ، وجف اللعاب في فمي فانطرحت أرضا .
شاهدتهما يصطدمان في الفضاء ويرتدان إلى الوراء من شدة الصدمة ، ليقعا على ركبهما وينطرحا . وحين أدركت أنهما لن ينهضا كما في المرة السابقة ، تحاملت على نفسي وهرعت نحوهما . لقد قذفتهما الصدمة بعيدا ، بحيث فصل بينهما قرابة خمسة أمتار . هرعت إلى مرداس أولا . كانت الدماء تغطي وجهه وقائمتيه الأماميتين ، والعرق يتصبب من جسده ، واللهاث يندفع بتواصل من فمه ومنخريه ، فيما جسده ينتفض بين لحظة وأخرى . رحت اصرخ وأبكي وأشتمه ايضا وأنا أجفف دماءه (ولك يا حيوان يا كلب ، يا لئيم يا حقير ، قلت لك سيقتلك ، رغم أنه عجوز !)
كنت أجفف دماءه وأنظر إلى أبيه كي لا يغار مني وينقض علي وعليه معا . رشقت قليلا من الماء على رأسه وهرعت لأطمئن على أبيه . كان مطروحا وقوائمه ممدة على الأرض ، وحين شاهدني أقترب منه ، انتفض ونهض ، غير أنه ظل واقفا في مكانه ، كانت الدماء تغطي وجهه هو الآخر ، رحت أجففها له دون أن أدري ماذا أقول له . لم اكن غاضبا منه ، ولم أعتبر ولو للحظة هروعه إلى قطيعه الأصلي غزوا ، بل شوقا وحنينا . انتفض وتحفز وأنا أجفف دماءه . وحين نظرت خلفي شاهدت< قابيل > ينهض ويحدجنا بنظرات ما زال الشر يقدح منها . سحبت غنجري من غمده وأشهرته وعصاي في وجهه ( أقسم انني سأخوض المعركة مع أبيك ضدك هذه المرة ، إذا ما تماديت في عدوانيتك أيها الوغد ، ولتذهب إلى الجحيم ) وكي أقنعه بصدق نواياي ، أخذت حجرا وقذفته نحوه . تقصدت إصابته ، غير أنه زاغ عنه ! وحين ادرك مدى صدقي ، جانبنا وانصرف على مهل نحو القطيع .
أحسست بدهمان يتحفز . طوقت عنقه بيدي اليسرى ، ورحت أرش الماء على وجهه بيدي اليمنى ، قلت له ( يكفي ، لقد ارتكبتما من الحماقة ما فيه الكفاية ، يجب أن تترك قابيل اللئيم هذا ، فهو قوي وملعون رغم صغره ) بدا لي أنه فهم علي فتركته .
استدار وتوقف للحظات ينظر نحو مرداس دون أن يحرك بصره عنه ، ومن ثم راح ينظر نحو القطيع بتمعن ، ويتأمله نعجة نعجة ، وتأمل المعز للحظات أيضا .
بدا حزينا وكئيبا ، فهو مضطر وللمرة الثانية لأن يغادر القطيع الذي عاش معه سنين طويلة ، وكان يتمنى أن يكمل حياته معه ، لو لم يبعه أبي في المرة الأولى ، ويتنكر له ابنه ويتصدى له في المرة الثانية .
إذن لا بد من العودة إلى القطيع الآخر . القطيع الغريب الذي لم يألف الحياة معه
، ولم يألف راعيه ، ولم يألفه الراعي بدوره . احنى رأسه واستدار إلى الناحية التي جاء منها ، وسار بخطوات بطيئة متعبة . رافقته لبضعة أمتار واضعا يدي على ظهره . أوقفته لأعانقه . عانقته . همست له ( لا تحزن يا دهمان وتحمل . تحمل أيها الفارس الشيخ ، إنها الحياة هكذا ، قاسية لعينة ، ملعون ابوها ، ملعون أبوها يا دهمان ، حتى ابنك الذي أنجبته من صلبك ، يقف ضدك فيها ) ولحظتئذ سمعت صاحبه يناديني من قمة جبل مواجه يسألني عنه ، أجبته بأعلى صوتي ( ها هو إنه عائد إليك ) وأطلقت عنق دهمان ليتابع سيره . ظللت أرقبه إلى إلى أن مال خلف هضبة .

عدت إلى القطيع . نظرت إلى هذا الكلب مرداس ، بل قابيل. قلت له : ( لا تتكلم معي ، ولا تنظر إلي ، لن اطعمك شيئا بعد اليوم ، لتذهب إلى الجحيم ! هكذا تفعل بأبيك ايها اللعين ؟!) والحق إنني لم أخاصمه إلا لبضعة أيام !
ظل مرداس يعاني من جراحه طوال اسبوع ، وقد نجحت في إخفاء ما جرى عن أبي. وحين شفي عادت له قوته ، ودب الإخصاب في جميع قطعان البلدة . راح الرعاة يقتربون باغنامهم من قطيعي كي يشب عليها مرداس ، ولا سيما ذاك الراعي الذي قتل كبشه . قال لي ( كبشك يا ابن ابو الجدايل قتل الكبش وعليه ان <يظرب > القطيع كله ( قلت له ( حقك على راسي وعيني وعلى مرداس ) راح مرداس يصول ويجول بين النعاج كالأسد الجسور ، فتقبل الأغنام عليه وتلتف حوله ، لتختلط القطعان وتشكل قطيعا واحدا من آلاف النعاج . كان مرداس يشب في اليوم الواحد على عشرات النعاج ، وفي كل مرة يشب على نعجة جديدة . وحدث امر مهم يا لوسي . امر لا يصدق أبدا ، فلم يعد مرداس يغار كما في السابق ، أو لنقل كما في بداية الإخصاب ، فالنعاج غدت من حوله بالمئات ، بل بالآلاف ، وقد اطفا ظمأه ، وخمدت الغيرة في دخيلته ، غير أن الكباش لم تكن تجرؤ على الإقتراب منه ، وتظل تمارس حقها في السفاد مبتعدة عنه قدر الإمكان . وكان هو ينظر إليها بين فترة وأخرى دون مبالاة ، وكان يشاهد اباه بينها ، غير انهما كانا يتلافيان المواجهة .
اما ندى يا لوسي . شقيقة مرداس التوأم ، فقد حيرتني ، حيرتني تماما ، غدت نعجة بحجم نعجتين ، وأخصب القطيع كله دونها ، وكم حاول مرداس إرضاخها دون جدوى . صرخت بها ذات مرة ( سيقتلك إن لم تذعني له ، لن يهمه ان تكوني أخته ) لم ترد علي ! وفيما كان يطاردها ذات يوم ، هرعت وأمسكت بها ، قلت له ( هيا اغتصبها يا مرداس ، اغتصبها هذه اللعينه ، أولجه فيها ، لعلها تذق طعم الحياة وتعرف قيمتها ) اللعنة عليه ، لم أعرف انه سيفضها بهذه الوحشية ، فما أن شب عليها رافعا إليتها حتى شدها إليه بكل قوة وراح يطعنها دون أي تمهيد ، أطلقت رأسها حين تاكدت أنه تمكن منها . وما ان بلغ أوج الذروة حتى دفعها واطلقها بالقوة التي شدها بها إليه ، لتكبو على رأسها وقد تكور جسمها لشدة الذروة التي كانت تستشعرها ، وما لبثت ان تدحرجت بضعة أقدام لشدة الدفعة المرداسية . صرخت ( اللعنة قتلها ) اطمأنيت حين شاهدتها تنهض وانا أقترب منها . وحين تبعها مرداس ثانية ، رضخت له راضية ، بل متوسلة ، حتى أنه لم يعد قادرا على اشباعها !
آه يا لوسي . إذا ما حضرت في المساء لن احدثك عن النهاية التي آلت إليها ( ندى ) لأنني قتلتها ! نعم قتلتها . غضبت ذات ليلة عندما سرحت الأغنام ليلا بحثا عن الكلأ على نور القمر ، وهذا امر ممنوع على الأغنام إذا ما كان الراعي نائما ، فإذا ما هاجمها ذئب أو قطيع من الذئاب ، سيفتك بها قبل أن يصحو الراعي ويبحث عنها ، ليجد جثثها ! وهذا ما حدث لقطيع ( حسن ) الذي كان يغط في نوم عميق ،وحين استيقظ لم يجد ولا شاة حوله . كان الفجر لم يبزغ بعد ، ولم يستطع العثور على القطيع إلا بعد طلوع النهار ، ليجد جثثه متناثرة في واد على مسافة تقارب ثلاثة كيلو مترات . لن أنسى صبيحة ذلك اليوم حين هرعنا على صراخ النساء وهن يندبن القطيع في حين كان بعض الرجال يحملون الأغنام على الحمير ويعودون بها إلى العزبة لبيعها لحما ، لاعتقادهم أن عضة الذئب حلال !! فالذئب يعض الشاة من حنجرتها يا لوسي ، وهو لا يفتك ليشبع كمعظم الحيوانات ، بل ليقضي على القطيع كله إذا ما أتيح له ذلك .
ثمة تخوف آخر على القطعان من الرعي دون يقظة الراعي ، وهو وجود حقول
وبساتين مرشوشة بمواد سامة حتى لا يقترب منها أحد ! وهذا ما حدث لقطيع خالد وفي عز الظهيرة ، فقد كان خالد يرعى قطيع معزه على مقربة من حقل ذرة .دهمه النعاس وغفا حين كان مستلقيا إلى جانب القطيع . وحين استيقظ من غفوته وجد الأغنام ترعى في حقل الذرة . هرع وأخرجها ، لكن ما ان مرت بضع دقائق حتى بدأت الأغنام تتلوى وتثغو وتقع أرضا وهي ترفس بقوائمها في لحظات احتضار .
راح خالد يصرخ ، كنت أرعى قطيعي في سفح مواجه ، رحت أصرخ بدوري وانادي الرعاة و الناس ليمدونا بالحليب والمحاقين . كان يوما رهيبا يا لوسي .
هرع ابي ورحنا نحلب من أغنامنا ونهرع نحو قطيع خالد . وكان رعاة كثر يحلبون أغنامهم ويهرعون . الحليب يقاوم التسمم . كنا نحقن الحليب حقنا في أفواه الماعز ،وهناك من كانوا يدلقونه في فم المعز دون محقن . لم أتمالك دموعي وأنا أرى إلى صراخ النسوة وندبهن وهن يلجن الوادي الذي كانت تتناثر فيه الأغنام . كانت أم خالد تشق ثوبها عن صدرها وتطلق شعرها وتشرع في نتفه أو تلطم بيديها على صدرها ورأسها وهي تردد نادبة ذاكرة المعز ، كل عنزة باسمها ( ويلي عليك يا العطراء ، يا حسرتي عليك يا الصبحاء ، ألله يكون معك يا الدرعاء ، وحنا بعدكن ما لنا حياة يا عيوني)
أفلحنا في إنقاذ بعض الأغنام ، لكن أغلبها نفق .
في يوم مقتل ندى ، كنت متعبا يا لوسي ، وقد أحجمت الأغنام عن الرعي خلال النهار نتيجة للحر ، وعندما برد الطقس ليلا ، نهضت من مهجعها وانتشرت تبحث عن الكلأ . كنت أغط في نوم عميق . استيقظت على صوت الأجراس المعلقة في رقابها عندما انقلبت على جنبي بعد فترة من انتشارها . كانت قد ابتعدت عني . نهضت مذعورا ورحت أعدو في اتجاه صوت الأجراس وأنا أنعق بأعلى صوتي طالبا إلى الأغنام العودة حالا ! راحت الأغنام تهرع عائدة وهي متخوفة من غضبي الذي ليس له حدود أحيانا . وما ان اقبلت علي حتى واجهتها بوابل من الحجارة والصراخ ، راحت تعدو أمامي عائدة إلى المهجع ، وأنا اضربها بكل حجر تطاله يدي ، ولم أعرف وانا في ذروة غضبي أنني التقطت حجرا كبيرا وقذفته بكل قوتي نحو مجموعة من النعاج لأصيب نعجة في جمجمتها ، شاهدتها تقع ارضا وتهمد في مكانها . هرعت إليها . لم تكن إلا ندى يا لوسي ، وقد اصاب حجري اللعين مقتلا منها . صرخت مستنجدا بالله دون جدوى . وحين رأيتها تحتضر أيقنت أنه لم يعد ثمة امل في حياتها . سللت خنجري وذبحتها كي لا تنفق فطيسا .
آه يا لوسي . كانت قد أنجبت توأمين كأمها . وكانت أكبر نعجة في القطيع من حيث حجمها . وتحلب اكثر من ثلاث نعاج . رحت أندب حظي العاثر . ضربني أبي ضربا مبرحا ، وطردني من البيت . مكثت عشرة أيام أتسكع في شوارع القدس ، وأعمل في اعمال لم أعتدها يوما . عدت بعد أن أرسلت من يصالحني مع ابي . لقد قدر لي أن أربي التوأمين اللذين تركتهما ، وكانا أنثيين ، فأسميتهما ( وردة ) و( رسمية ) . وهذه بداية قصة أخرى يا لوسي .
****************
حين تركت القطيع إلى الأبد هربا من سطوة أبي ، كان مرداس في أوج قوته ، و< وردة > و< رسمية > شبا وكبرا . وحين عدت إلى القدس فدائيا عام 1970 ، زرت أهلي ليلا ، وكنت متشوقا للقاء مرداس وخلفته ، والأغنام الأخرى ، بقدر ما أنا متشوق للقاء امي . كان بعضها قد تغير ، غير أن مرداس كان كما هو، وإن شاخ قليلا . رحت أعانقه ( ولك قابيل ، ألم تعرفني ) ؟!اللعنة عليه ، لم يعرفني في البداية ، قرابة سبعة اعوام مرت على ترك القطيع ، كبر وربما ضعفت ذاكرته ، فركت أذنيه وضممته وتحدثت إليه بالكلمات التي أعتدت أن أخاطبه بها . عرفني ، فقد راح يلتصق بي ويتشمم وجهي . طال عناقنا . تركته ورحت أبحث عن وردة ورسمية لأعانقهما . افتقدتني أمي فخرجت تبحث عني . فرحت حين شاهدتني أعانق الأغنام . هتفت ( بعدك كما عرفتك يا بني ، حنون وتحب الغنم .) وقال أبي الذي جاء هو الآخر ، مداريا حسرة في قلبه(من ما تركت الغنم لم نر التوائم ، وعددها يتناقص كل عام)
آه يا لوسي ! خرجت من الأرض المحتلة للمرة الثانية أواخر عام 1970 ، وباع أبي القطيع ومات بعد اربعة أعوام . عاشت أمي بعده أكثر من عشرة أعوام وماتت . وإذا ما عدت يوما يا لوسي لن أجد امامي إلا القبور ، ولن أجد مرداس ، ولن أجد القطيع ، ولن يستقبلني صدر أمي كما كان . عزائي الوحيد أنني سأجد البطاح والسفوح في مكانها . البطاح التي شهدت مئات الأ حداث ، وتخبىء في أخاديدها مئات القصص.
لوسي ؟ أين أنت؟ كم الساعة الآن . أنا لم آكل شيئا هذا اليوم يا لوسي ، ولم أكتب شيئا . أكان على محمود التعس أن يموت هذا اليوم ؟
يجب أن أتصل بك ثانية يا لوسي . سأفتح اذني . آه ، أنت لست موجودة .
آه يا لوسي . ربما أصبحت شريرا ، إذ ليس من المعقول أن لا تترك الأحداث التي مررت بها خلال أربعين عاما أية آثار سلبية على نفسيتي ، فهي أحداث مهولة يا لوسي ، عشت فيها عشرات المجازر ، وشاهدت مئات الجثث ، ولا أظن أنني قادر على التأثر لموت قط حتى لو لم أكن أكرهه . مع أنني كنت أحب القطط أيضا يا لوسي ، أجل كنت أحبها كثيرا في صغري ، لكن نحن لم نكن نقتني القطط والكلاب كي نلهو معها ، وتؤانسنا في حياتنا ، لا لا يا لوسي ، فحياتنا مليئة بالشقاء وليس فيها هذا المتسع للهو والمؤانسة ، كنا نقتني القطط لتصطاد الفئران ، لا لتهرب منها مثل قططك ! وكذلك لاصطياد الأفاعي ، والكلاب لتحرس القطعان والبيوت من اللصوص والذئاب ، ولم نكن نطعمها إلا الخبز الحاف ، ولم تذق اللحم يوما ، فما بالك بالفليه التي تطعمينها لقططك ؟ وإذا ما قدمنا لها بعض العظام مرة أو مرتين في العام فإن ذلك اليوم يكون عيدا عندها . ربما لذلك كانت القطط تنشط في قتل الفئران والأفاعي كي تأكل اللحم الذي حرمت منه. أما الكلاب البائسة ، فلم يكن أمامها غير فطائس الحمير والبغال والأغنام . أجل يا لوسي ، ومع ذلك فإن قططنا كانت تؤدي واجباتها على اكمل وجه ، أذكر أنه كان لدينا قط يصرع اكبر أفعى . ولا أظن أنني سأشاهد قطا أشجع منه . وذات يوم أجدبت الدنيا يا لوسي فارتحلنا بالقطيع إلى شمال القدس . لم نجد القط عند رحيلنا فبقي في العزبة .
عدنا بعد مضي ثلاثة أشهر . استقبلنا القط من فوق جدار العزبة وراح يموء مرحبا بعودتنا .
وفي مرة أخرى ارتحلنا بالأغنام إلى الضفة الشرقية ، اصطحبنا القط معنا هذه المرة ، غير أننا أضعناه عند عودتنا ، فقدت الأمل في عودته لوجود نهر وبحر يفصلان بيننا وبينه . ورحت أسأل أبي عما إذا كان القط قادرا على اجتياز البحر أو النهر ، فأكد لي أنه يجيد السباحة ويمكن له أن يجتاز النهر ، واستبعد أن يجتاز البحر . ثم إنه قد يهتدي إلى جسر على النهر ويعبره سيرا . وفي الوقت الذي كنت فيه فاقدا الأمل بعودته جاء يا لوسي . كنت أداعب حملا في مهجع الأغنام ، حين سمعت مواء خلفي ، التفت فإذا به يقف على الجدار . هتفت فرحا ( بسبوس ) وهرعت إليه . مددت يدي وأنزلته عن الجدار ، ورحت أحتضنه وأملس على رأسه وظهره ، كان فرحي بقدومه عظيما يا لوسي .
ومنذ بضعة أعوام يا لوسي ، عشقتني قطة دمشقية ، كان يقتنيها بواب البناء الذي أسكنه . شاهدتها صدفة فيما كنت جالسا على مدخل البناء مع اللجنة المكلفة
بشؤون البناء . كانت قطة جميلة جدا ، سوداء وموشاة بالبياض عند صدرها .
جاءت إلي ما أن ناديتها . رحت أداعبها بكل نعومة وحنان ، استرخت في حضني
وهي تستسلم للمسات أصابعي التي كانت تحك تحت أذنيها وأسفل فكيها وعنقها .
وحين فرغت من اجتماع اللجنة أصرت القطة على أن تتبعني . تبعتني حتى الطابق الثالث حيث أقيم ، لم أكن راغبا في أن أدخلها البيت . اضطررت إلى مداعبتها أمام الباب . ألقيتها على ظهرها ورحت اداعب وأحك معظم أنحاء جسدها . استسلمت وارتخت حتى شعرت أنها داخت من المتعة.
نهضت ودخلت بسرعة طالبا إليها أن تبقى في الخارج ، وأقفلت الباب . وظلت تموء قرابة ساعة ، ثم انصرفت .
في الصباح وجدتها تنتظر نزولي من البناء . تبعتني . هتفت لها ( ولك يا كلبه وين بدك لاحقتيني ) ؟ لم تذعن لي ، راحت تعدو من تحت السيارات الواقفة على جانبي الشارع لتلحق بي . وحين رأتني أستقل سيارة توقفت ، وظلت ترقب ابتعاد السيارة . طال عشقنا يا لوسي لأشهر ، لم يعد في استطاعتي دخول بيتي إلا بعد مداعبة القطة ، لا أعرف كيف كانت تترصد قدومي ، كانت تظهر لي فجأة . وراح الأطفال يتندرون بالصداقة القائمة بيننا ، بل وهناك من اعتبرها عشقا ، والحق أنني كنت حين أزجر القطة بعد فروغي من مداعبتها وإصرارها على الدخول معي إلى المنزل ، أخاطبها قائلا:
(بدك تفوتي معي جوا ؟ ولك يا كلبه بدك تفظحينا ، ما بكفي إنهم بيقولو إني عشقانك ؟(
وكانت تموء متوسلة ، غير أني كنت أغلق الباب في وجهها .
وجاء يوم لم أر فيه القطة . تجاهلت الأمر . ومر يوم ثان ، ثم ثالث ، كانت حامل ، ربما ولدت . سألت البواب عنها ، فقال أن سيارة دهستها !
اللعنة يا لوسي . حزنت عليها كثيرأ .
أرأيت يا لوسي ؟ كنت أحب الحيوانات أنا الآخر ، لكني ، ربما تغيرت ،لا لا أظن انني تغيرت ، لا تغيرت ، لماذا عاملتك بهذه القسوة إذن إذا لم أتغير ؟ لا أعرف يا لوسي ، صدقي أن الحيوانات ما أن تراني حتى تحبني ، منذ بضعة أشهر ، تحديت صديقي الروائي ( حيدر حيدر ) ، وقلت له أنني سأذهب إلى بيته وأصطحب كلبه معي ! قال لي سيأكلك ! قلت سترى ! وإذا ما جئت يا لوسي سأ روي لك كيف أكلت الكلب بدلا من أن يأكلني ! مع أنه كلب من النوع الذئبي المرعب .

***********
كنت وزوجتي نتنزه على شاطىء طرطوس ، وكان حيدر يقيم في كوخ بالقرب من الشاطىء. قلت لبيرجت ، لنذهب لزيارة حيدر ونعلمه أننا هنا.
سرنا إلى جانب الشاطىء لعلنا نرى حيدر في البحر يصطاد سمكا كعادته. لم نره . سالنا صيادا كان يخيط شبكته إلى جانب البحر. أخبرنا أن حيدر خرج من البحر وهو الآن في المتنزه القريب. ذهبنا إلى المنتزه ، كان حيدر يجلس مع بعض أصدقائه ، وكان المنتزه يعج بالمتنزهين. ما أن صافحنا حيدر وضيوفه حتى سألت عن الكلب . قال حيدر أنه يحرس الكوخ . قلت سأذهب لأحضره . قال: سيأكلك !
قلت لست ممن تأكلهم الكلاب ، وسترى . وحين انصرفت راحت زوجتي تصرخ بعربية مشوبة بلكنة أوروبية ( محمود لا تجن ) لم اذعن لها ، وخرجت من المنتزه ميمما وجهي شطر كوخ حيدر ، سالكا طريقا شجرية .
لم أر الكلب من قبل إلا مرة واحدة ، قبل أكثر من عام ، حين زرنا حيدر ليلا مع بعض الأصدقاء . ولا أظن أن الكلب تنبه لي ليتذكرني . ولا أعرف على ماذا اعتمدت حتى بت مقتنعا أنني سأتمكن من إحضاره . أظن أنها واحدة من الحماقات التي ارتكبتها في حياتي . ماذا سأفعل ؟ كيف سأحضر الكلب ؟ في البلدة كنت أحمل معي بعض الخبز لكلاب الفلاحين ، وما أن تهرع الكلاب نحوي حتى أشرع في إلقامها الخبز . لكن ماذا سألقم كلب حيدر وأنا لا أحمل شيئا ، ولا أظن أن الخبز سيجدي معه لو توفر .
لم أكن خائفا على الإطلاق ، وحتى حينه لا أعرف لماذا كنت واثقا من قدرتي على تطبيق الكلب ، دون أن أعرف كنه هذه القدرة . ولا أعرف كيف وجدت نفسي أنادي من بين الأشجار بصوت عال ( فيدل فيدل فيدل ) وهذا اسم الكلب .
لم أكن قد رأيت الكوخ بعد ، وبالتأكيد لم يكن الكلب قد عرف بقدومي قبل المناداه .
هو بالتأكيد سمعني الآن ويصيخ السمع لمنادتي ، كلما اقتربت من الكوخ بخطوات متئدة .
شاهدت أعلى الكوخ يطل من بين الأشجار. أبطأت من سيري وأنا أنادي الكلب .
غير أنني لم اسمع أي نباح ولم ار الكلب أبدا. عجيب! ماذا أفعل ، أنا لا أريد الكوخ ،فلماذا أتقدم أكثر ؟ وبالتأكيد سمعني الكلب وربما تجاهلني .
أصبح قرابة نصف جدار الكوخ في مواجهتي . توقفت ورحت أنادي الكلب دون أن أتحرك . كان الكوخ يبعد عني قرابة أربعين مترا على الأكثر.
رحت أنظر تحت الأشجار لعلي أرى الكلب . لم أر شيئا . رحت أعيد النظر وأدقق تحت الأغصان الممددة فوق الأرض . شاهدت رأس الكلب ، كان يكمن بين الأغصان ملقيا رأسه على أماميتيه ويحدق نحوي بكل حدة بصره . لم أتوان على الإطلاق ، فما أن التقت عيوننا حتى هتفت بفرح شديد وأنا اوميء بيدي ( لك فيدل تع ! ) غير أن الكلب لم يحرك ساكنا ، ولم ينبس بأي صوت . كررت النداء والإيماء !دون جدوى . لا شك أن الكلب متوجس مني . خاطبته بندم ( ايه ! ما بدك ؟ باي ، أنا راجع لعند حيدر . خليك هون (واستدرت وقفلت عائدا . سرت قرابة ثلاث خطوات والتفت لأنادي الكلب ثانية . لكن دون جدوى أيضا !
سرت خطوتين أخريين والتفت لأناديه ثالثة . وما أن ناديته بنفاد صبر مؤكدا له أنني لن أصحبه إذا لم يأت حالا ، حتى فز وانطلق نحوي كالسهم ، استدرت بكامل
جسدي وثبت قدمي في الأرض وأشرعت صدري له فاتحا يدي على وسعهما .
وثب نحوي من مسافة تقارب الأمتار الثلاثه ، لتطوق أماميتيه كتفي فيما خلفيتيه تنشبان بحزامي ، الكلب وكأنه مصارع متمرس أي حركة تضمر سوءا مني ستجعل رأسي أو عنقي بين فكيه ! راح يتشمم وجهي يمينا ويسارا وكأنه سيقبل خدي فيما يداي تملسان على رأسه بكل حنو وأنا اميل برأسي أيضا لأعطيه خدي الآخر ! استمر الوضع قرابة دقيقة ، لا أعرف فيما إذا شم رائحة حيدر تنبعث مني ، أو أنه اطمأن لي . نزل عني وراح يتشمم الأرض وما لبث أن سلك الطريق الذي سلكه حيدر كما يبدو ، وهو الطريق الذي جئت منه . وحينها جزم أكثر أنني ساصحبه إلى صاحبه ، هكذا بدالي حين راح يذرع الأرض مرحا أمامي ويعود نحوي مبديا فرحة هائلة ! وما أن انهى استقباله لي حتى راح يعدو أمامي في الطريق الترابي متتبعا رائحة خطو حيدر .
حتى حينه يا لوسي لم أكن أعرف أن الكلب يستطيع أن يميز رائحة خطو صاحبه حتى لو خالطها آلاف الخطوات ، وكنت من حماقتي وأنا فدائي في الأرض المحتلة أرد الآبار ليلا وأدور حول البئر عدة دورات ليختلط وقع أقدامي بأقدام الناس فلا تستطيع كلاب الأثر متابعة ملاحقتي . ليتبين لي الآن وأنا أتبع كلب حيدر أنني كنت جاهلا تماما ، فقد سبقني الكلب إلى المنتزه ودخل إليه وذهب في خط شبه مستقيم إلى مائدة حيدر ، رغم وجود متنزهين على جميع موائد المنتزه .أية قدرة رائحية هذه التي عند الكلب ، ثم هل تترك الخطوات في الصيف رائحة ما ؟ وكيف يستطيع الكلب تمييزها من مئات الروائح الخطواتية ؟
كان حيدر وضيوفه وزوجتي يحدقون إلي غير مصدقين ، فيما أنا أقف ضاحكا مزهوا بنصري ،رافعا يدي مشهرا ابهامي الأيمن دون باقي أصابعي . هاتفا لحيدر ( آه كيف أنا وياك ؟) وما لبث حيدر أن هتف ( يلعن أبوك راعي إبن راعي ( !!
أخذت طبقا من اللحم المشوي ورحت أطعم ضيفي فيدل !
آه يا لوسي آه ! يبدو أنك لن تأتي فعلا ، إنها السابعة مساء ، وكم بودي أن أتخلص من أفكاري الحمقاء وأنسى قطك ، بل وأنساك ايضا ، ولأكن شريرا ، ولأكن مجرما ، فلست الشرير أو المجرم الوحيد في هذا العالم المليء بالأشرار ، بدءا بي إذا شئت ، مرورا بالملايين ، وانتهاء بمغتصبي وطني وكل أصحاب السيادة ! لم يبق أحد كما ترين ، فالجميع أشرار . العالم كله أشرار يا لوسي ، ومصيبة إنسان مثلك أنه قيض له أن يعيش في هذا العالم ، وفي هذا العصر البذيء بالذات !
سأتصل بك للمرة الأخيرة يا لوسي. وإذا لم أجدك لن أتصل ابدا ، سأشمع أذني تماما وأبتلع كمية من الحبوب المنومة ، وأطرح نفسي في السرير إلى صباح الغد .
فتحت أذني . وفيما كنت أدير القرص ، قرع جرس الباب . أقفلت الهاتف ونهضت متناسيا كل متاعبي وآلامي . فتحت الباب . كانت لوسيان بشحمها ولحمها . هتفت ( لوسي ) لم تتكلم . زمت شفتيها بحركة اشمئزازية ونظرت خلفها قائلة ( معي هاريش ) وهذا صحفي هندي ، وهو صديق مشترك لنا ( أهلا تفضلا) دخلا . صافحت هاريش . مرحبا به بالإنكليزية . جلسا .
***********
لم استطع إخفاء ما كان يعتمل في نفسي طوال النهار . نظرت نحو لوسيان وهتفت:
< لو لم تات لجننت !>
قالت : < أف هل أنت منزعج من أجل محمود ؟ >
قلت : < لا أظن ، لكن أشعر أنني قسوت عليك كثيرا. أنا آسف جدا لما بدر مني . ماذا فعلت ؟ >؟
< اتصلت بهاريش وجاء . ذهبنا معا ودفناه >
< أين ؟ في مقبره ؟>
< لا لا ، لم يسمحوا لنا أن ندفنه في مقبرة > !
< لماذا > ؟
< لأنه قط >!
< أين إذن دفنتماه ؟>
< في صيدنايا >
< أف في صيدنايا ؟ ألم تجدا مكانا في دمشق ؟>
< لا لم نجد >
< في جبل قاسيون مثلا ، أو في وادي بردى ، أو في الغوطة >
< لا لا لم يخطر ببالي غير صيدنايا ، ربما لأنها بلدة مسيحية >
< لكن القط ليس مسيحيا > !!!!!
< في الحقيقة احترت ، القط يحمل اسما اسلاميا ، وأنا مسيحية ، فاقترح هاريش أن نحرقه على الطريقة الهندوسية ! فصرخت لا لا ، هذا غير ممكن ! >
< لو كنت مكانك لقبلت ، ففي هذه الحال تحتفظين برفاته أو تنثرينه في نهر بردى >!
< لا لا ! أنت مجنون ! >
< لا لست مجنونا ! فالقط يحمل اسمي ، وأرى أن الطريقة تليق بي >
< لا لا ، لا أحتمل أن أراه يحترق أمام عيني ، ولا أحتمل أن احتفظ برفاته في بيتي .<
< تنثرينه في النهر إذن >
< لا لا ، ثم إن نهر بردى غير مقدس >
< أوهو ! نقدسه طالما أن رفات محمود سيذر فيه ! >
< لا لا ! لاأستطيع ، ثم إننا دفناه وانتهى الأمر .>
< على أي طريقة دفنتماه ؟ <
< رسمت على قبره شارة الصليب>
< الصليب ؟! >
< ماذا أفعل ؟ >
< أكان من الضروري أن تدفنيه على دين ما > ؟
< في الحقيقة لم أعرف ، ولم يسبق لي أن دفنت قطا أو غير ذلك >
< طيب ، كيف دفنتماه ؟ هل حفرتما له قبرا ؟ >
< طبعا ، لكن الأرض كانت قاسية ، وأنا لم أحضر معي سوى ملعقة ! انكسرت على الفور ! >
< ملعقة يا لوسي ؟ تحفرين قبرا بملعقة ؟ >
< كنت أظن أن الأرض لينه >
< ماذا فعلتما بعد أن انكسرت الملعقة ؟>
< أحضر هاريش من سيارته أداة حديدية حادة ، وحفر بها القبر >
< حفر قبرا عميقا وواسعا ؟ >
< لا ليس كثيرا >
ولم أجرؤ أن أقول لها أن الثعالب ستنبش القبر وتفترس محمود . سألتها :
< وبماذا كفنتما المرحوم ؟ >
< بقميص أبيض ، ووضعنا البلوفر فوقه >
< البلوفر ؟ كنزتك الصوفية الجميلة ؟ >
< نعم وأهلنا التراب عليه ، وأقمنا فوقه رجما صغيرا من الحجارة >
< وكم استغرقت العملية ؟ >
< كثيرا ، ذهبنا منذ الصباح ، ولم نعد إلا الآن ، تناولنا طعام الغداء هناك >
< هززت رأسي فيما ابتسامة لا تخلو من سخرية ترتسم على شفتي ، ويبدو أن لوسيان لمست السخرية في ابتسامتي وهزة رأسي . >
تساءلت:
< لماذا تضحك ؟>
قلت:
< أتساءل من منا المجنون ، أنا أم أنت ؟>
ويا ليتني لم أتفوه بهذه الكلمات . فقد غضبت لوسي ، وأنا لا أريد لها أن تغضب ، وراحت تتحدث بلهجة غلب عليها الإنفعال :
< مجنونة ؟! أنت قاس ! قاس جدا ! ولا تعرف أهمية محمود وزميله فرنسيس عندي . لا تعرف ولن تعرف ! عندما مرضت ، بقيت يومين طريحة الفراش ، لم اكن قادرة على النهوض ، ولا يوجد من يقدم لي شيئا . ولم يكن عندي هاتف في البيت . لم يحضر إلي أحد . ولم يسأل عني أحد . ولا اظن أن أحدا فكر في ، أو سأل نفسه ماذا جرى لي ، لا من الأصدقاء ولا من الصديقات . كلكم هكذا . لا تتعرفون على الإنسان إلا وهو قوي ويسير على قدميه ، وعندما تحتاجون إليه . أما عندما يحتاج إلى أحد ، فإنه لا يجد . فرنسيس ومحمود ظلا إلى جانبي ولم يفارقاني ، مع أنهما اعتادا التجوال كثيرا خارج البيت . ظلا إلى جانبي على السرير ، يموءان حزنا عندما أتألم ، ويمرحان معي عندما تخف موجات الألم . يقبلان عنقي ، ويعضان أصابع يدي مداعبة ، وعند النوم ينامان إلى جانبي . لم يبتعدا عني للحظة .ونفدت لحمتهما ولم يسألاني عن الطعام . وفي اليوم الثاني شاهدا حالي تسوء كثيرا ، خرجا من النافذة وراحا يموءان ويصرخان أمام باب البيت من الخارج ، كنت أستمع إلى موائهما من الداخل . ظلا يموءان ويخرمشان على الباب لأكثر من نصف ساعة .
أدرك الجيران أن في الأمر شيئا فهرعوا وخلعوا الباب ، وجدوني في حال سيئة ، فسارعوا إلى إحضار الطبيب .
عندما مرض محمود في الفترة الأخيرة ، أهملته قليلا ، وكان يجب أن آخذ إذنا من عملي لأعتني به أكثر . لم أدرك أنه مريض جدا إلا بعد ان قال الطبيب أنه لم يعد ثمة أمل في شفائه . كم لمت نفسي ، فلو اهتممت به منذ البداية لما مات . توقفت عن العمل لأظل إلى جانبه لعله يشفى . كان يتألم بشدة . عرفت ذلك من موائه والألم الذي كان باديا على وجهه . كم كان حزينا يا حرام . لم يكن يأكل أو يشرب ، وأنا أتوسل إليه دون فائدة ترجى . أحضرت له حليبا وعصيرا طازجا . بالكاد حتى كان يبل ريقه . أحيانا كان يزحف من مكانه بضعة أقدام فأستبشر خيرا .
صباح اليوم ، كنت جالسة إلى جانبه وأملس على رأسه وظهره ، وفجأة تنشط وبدأ يزحف ، لا أعرف ماذا كان ينوي أن يفعل وإلى أين سيذهب ، كي أحمله إلى المكان الذي يريد. تركته يزحف وأنا أحبو إلى جانبه . خرج من غرفة النوم إلى الصالون . أدركت أنه ربما يريد الذهاب إلى التواليت . حملته ، فأخذ يموء بعصبية وألم . وما أن أعدته إلى الأرض حتى توقف عن المواء وتابع زحفه . ظللت أحبو إلى جانبه وأشجعه . عبر الصالون واتجه نحو التواليت . ظل يزحف إلى أن وصل . فتحت له الباب . دخل حبوا . نظر إلي وماء عدة مرات . أحسست انه خجل مني ، ولا يريد ان يتبول أمامي . أغلقت الباب عليه وعدت أنتظره في الصالون إلى أن يموء لي كي أفتح له .
انتظرته قرابة عشر دقائق . لم اسمع صوته. قلت لعله لم يقدر على المواء أو لم ينته بعد. نهضت لأطمئن عليه . هتفت له من خلف الباب < محمود ، محمودتي > لم يمؤ ، وحين فتحت الباب وجدته مضطجعا على جنبه ، دون ان تبدو منه أية حركة . تنبهت للبول على مقربة منه . انحنيت عليه وأنا أهتف < محمود ،محمود ، محمودتي > لم يتحرك فيه شيء. تحسست جسده . أدركت أنه ميت. حملته إلى الصالون ، أجلسته في حضني ورحت أبكي >
وراحت لوسيان تبكي فيما هاريش صامت ، ولم أتنبه لنفسي أنا الآخر إلا وأنا أبكي .. لا أعرف ما إذا كنت أبكي القط ، أم أبكي لوسيان ، أم أبكي نفسي ، أم أبكي الحياة برمتها ...
كانون أول 1986
آذار 1988
**********



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسك وعنبر وفيض مقدس ! قصة
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 23) - ( 884) في الخال ...
- جسدي بين صبرا وبسمة . قصة
- الكلب الجميل ! قصة قصيرة حقيقية .
- صلاة الفذاذة العظمى ! قصة
- السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح ...
- الجنرال الزعيم . قصة قصيرة
- السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح ...
- أبناء الله . قصة
- السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 883) الشباب ب ...
- السلام على محمود. (1) فاتحة ! أشعار في ديوان محمود درويش (لم ...
- ألخطار. قصة طويلة
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 882) حوار الح ...
- العبد سعيد. قصة.
- نار البراءة . قصة في خمسة فصول !
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 21) - ( 881) حوار الح ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 20) في الدين والأخلاق ...
- يوم مولدي .. يوم لدمشق
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء ...


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - موتي وقط لوسيان . القصة كاملة