أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألخطار. قصة طويلة















المزيد.....



ألخطار. قصة طويلة


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4624 - 2014 / 11 / 4 - 19:37
المحور: الادب والفن
    


الخطار )
(1)
هاهي أول قافلة للخطار تطل من بعيد عبر التلال ... انفردت أسارير وجه عائشة العلان وهي تصالب يديها على صدرها وتتكور على نفسها فوق قمة الجبل ، لتجابه القشعريرة التي اجتاحت جسمها من جراء نسيم الصباح ..

تخيلت نفسها بجناحين وطارت ...
أطلت الشمس من خلف جبال البحر الميت ، تأملت عائشة كل الجهات المشرفة عليها ؛ ها هو البحر المالح يركد شرقا بين سلسلتين من عشرات الجبال . أدارت وجهها إلى الجنوب : ترامت على مدى نظرها جبال بيت لحم ومناطقها ، ثم إلى الغرب حيث القدس ورام ألله ، بدا لها الندى وهو يطير عن قمة جبل الزيتون ، فجبل المكبر .. ابتعدت ببصرها نحو الشمال لتشاهد عشرات القرى ... وراحت تقصر نظرها شيئا فشيئا لتجوب المراعي والجبال .. عشرات الرعاة يخرجون بقطعانهم من العزب والصير.. نظرت إلى الشرق من جديد .. ، ها هي القافلة تقدم عبر التلال
وها هي عشرات القوافل تطل من ورائها .
أخرجت جزة الصوف من الصرة الموضوعة إلى جانبها ، لفتها حول ذراعها وأخذت تغزل ، ثم عادت إلى شرودها .
(2)
< قلت له يا ولدي أنت صغير والملح لا يخطر إليه قبل سن الشباب ، لا تدعني أنتظر على الدروب اسأل عن عيونك ، غدا يا ولدي تكبر ويكبر اخوتك وتخطر مع الخطار ، بحر الملح يا ولدي ما وديك عليه ، تروح يا ولدي يشرق عدوك بمية البحر ،تنزل بجوفك ، تغرق يا ولدي ، وأنا ما أطيق فراقك يا روح أمك ، اخوتك ينتظرونك يا حسن يا بني ! صبرت يا ولدي على الذل وما هو أمر منه ، تحملت المهانه ، تعبت، شقيت ، كلت عيني وانهد حيلي ، لكن العمر في سبيلك وسبيل اخوانك يرخص يا ولدي .. >
< عشر سنين يا بني ، عشر سنين مرت على وفاة بيك في حرب النكبة ، كنتوا صغار يا حسن ، خبيتكم، ربيتكم ، منعت كل الشر عنكم داريتكم ، مثل حجلة تداري فراخها يا ولدي .. في الشتا أبيع البقول يا ابني ، وفي الصيف أنسج البسط للشيخ علي وأغزل ، تحملت الكثير يا ولدي ، أتحمل القليل حتى تصيروا رجال وتجوزوا ، وتدفنوني بإيديكم تحت التراب لما أموت يا بني .. >
< يا أمي يا أمي >
قلت له < لا تقاطعني يا بني خليني أكمل كلامي ألله يرضى عليك > سكت ! قلت له :< بحر الملح يمه ما تروح له > قال : < أنا افديك بعيوني يمه ما تقطعي قلبي بحياة تراب أبوي . قلت لك أنا ماني صغير ، أنا كبرت يمه ، أنا شاب وشبيت على يديك
اللتين لم تعرفا الكلل ، وكيف لا تريديني أن أخطر إلى الملح ؟ هل نسيت يا أمي عندما جئت البارحة وقلت لي : الشيخ علي هددنا ، يبغي ديونه، وإلا سيأخذ قطعة أرضنا الوحيدة التي رهناها عنده !
لا تحسبي يا أمي وما تخلي الهم يشغل بالك ، رطل الملح بقرشين ، أخطر كل خمسة أيام مرة ، أجيب مائة رطل ، لن ينتهي الصيف إلا وأنا جامع ديون الشيخ علي ، ونسترد قطعة أرضنا يا أمي !! <
قلت له < برضاي عليك يا ولدي ، أنا أرضى والله يرضى ، والسهل يرضى ، والسما ترضى ، لا تروح يا ولدي ، أخاف عليك يا حسن ، أخاف أنحرم من شوفة عيونك يا بني ، يغرق عدوك في البحر مثل الناس إلي غرقوا ، أو تقبض عليك دورية الفرسان يا بني ، أشق ثوبي ، أجن ، أدور على الدروب يا ولدي ، لا تخليني
أتحسر عليك يا بني كما اتحسرت على بيك واخوانك . برضاي عليك لا تخطر يا حسن ، ابق في المدرسة يا بني ، وليأخذ الشيخ علي قطعة الأرض ، وعوضنا في عين الله يا ولدي ، وإن شاء الله أن عينه ما تخيبنا وما تخطي عنا يا بني >
قال لي : يا أمي ، يا أمي ، قطعة الأرض لن أتخلى عنها بدمي ، وحياة تراب والدك المدفون وحده في البراري ، والمدرسة ما هو وقتها ، وعلى الملح يجب أن أخطر، واطردي كل أفكار السوء من راسك >
قلت له < روح يا ولدي عين الله تحرسك في كل خطوة تمشيها ، روح >
*********************
سمعت أن علي الخطيب سيخطر إلى البحر .. ذهبت إليه في الخشة :
- يصبحك بالخير يا علي .
- الله يصبحك بأنوار النبي يا عايشة .
يا أخي حسن يريد أن يخطر مع الخطار إلى البحر ، خذه معك يا علي وأعره انتباهك ، الله يطول عمر اولادك ، ما يزال صغيرا يا علي ودروب الملح كلها مخاطر ، وعمره ما مشاها .
قال :
- ولا يهمك يا أختي ، والله لأحطه في عيني ، وإن شاء الله ما يصيرعليه إلا إلي يصير علي .
- يكثر خيرك يا علي ويستر على عيالك ربنا من فوق !
عدت إلى البيت . قال حسن <لا بد لي أن أحضر حمارا آخر ، حمارنا ما يقدر يشيل إشي>
راح .. استعار حمار من عند بيت عوده السلمى . قال لي < حضري لي زادي وزوادتي يا أمي >
رحت .. طليت في خم الجاج .. لقيت أربع بيضات ، سلقتهن ، وسلقت ست حبات بطاطا ، وحضرت أربع حبات بندوره ، وقليل من الزيتون ، وعشرة أرغفة خبز..
صريت له إياهن في منديلي.. حط راسه ونام ! قال : < صحيني قبل صيحة الديك يمه حتى ما أتأخر عن الخطار >
قمت علفت الحمارين ، وحطيت لهم قليلا من التبن . نيمت الأولاد .. ما أجا عيني نوم .. قعدت أغزل صوف لبيت الشيخ وأغني للأولاد . غنيت لحسن ووطفا ومحمد وندى .. ثم قمت قبلتهم وقعدت أتطلع عليهم وهم نايمين !! < يا حبيبيني ، تكبروا وتجوزوا وتخلفوا صبيان وبنات وتدفنوني بإيديكم يا حبايبي >
سمعت شبابة محمود ابو ردان في هالليل الهادي . حسيت إنه بجرح قلبي بعزفه ! يا ويلي عليه كم قلبه ملوع !! خلاني أتذكر كل الأيام الماضية : أبي الضرير الذي كنت أقوده وهو يستعطي ، وموته في تلال النبي موسى ، ودفنه هناك لوحده بين الوديان . الأب بطرس الطيب إلي رباني في الدير ! الأخت لويزا ! زواجي . وفاة طفلي البكر ، وطفلي الثاني ، ووفاة البنت . استشهاد زوجي في القسطل في الثمانية وأربعين .. تعبي وشقاي إلى أن ربيت الأولاد .
تطلعت إلى حسن . شعرت بالخوف . بكره سيخطر إلى بحر الملح < يا ولدي صغير ولا يعرف السباحة ، والبحر مرعب والملح تعب وشقاء وهو غير معتاد على السفر والتعب والمخاطر ، ماذا أفعل لأمنعه من هذه السفرة ، أخليه نائم وما أنبهه ؟!أخاف أن يغضب إذا قام ووجد انني فعلتها معه . يا رب أنت أدرى وأعلم بحالي ، وتعرف كم تعبت وشقيت ، حتى خليت أولادي شباب ، انا أضعهم امانة بين يديك يا ربي ، ونذر علي ، إذا رجع حسن من البحر سالم ، لأذبح لك كبش في النبي موسى - ولو أني سأستجدي ثمنه – وأوزع لحمه على الفقراء والمساكين .>
أحسست انه لن يغمض لي جفن وشبابة محمود أبو ردان جرحت قلبي ولوعتني وأثارت كل همومي . نزل علي وحي الشعر . رحت أغني ما يجول في راسي !!
أجاني حسن يا ليل مع بكرة الضحى
حامل شجرة البأس لاوي غصونها
شاكل اذيال الثوب ومشمر الزندين
شاد العزم والحيل لامه يصونها
قلي يمه عالبحر لا بد ما أخطر
لنخلص من الذل والشيوخ وديونها
قلت أخاف يا ولدي تروح وما تيجي
أحرم دخول الدار ويا سكونها
أخاف يا ولدي في البحر تغرق
أحرم عيوني النوم ويا جفونها
أخاف يا ولدي بيد الفرسان توقع
وسجون مظلمة عليك يقفلونها
للشيخ علي يا أمي نتخلى عن الأرض
وعين الله يا بني ما تقطع منونها
قلي يمه عالبحر لازم أخطر
والأرض يمه بدمي أصونها
قلت روح يا ولدي عين الله تحرسك
عين بصيرة وما تغفل بنونها
*************
أفاق حسن من النوم . قال لي :
- أنت تبكين يا أمي ؟
مسحت دموعي . قلت له :
- برضاي عليك يا ولدي لا تخطر إلى البحر .
غضب وثار .. قلت له :
- - كفى يا بني ، الله يرضى عليك ويحن عليك ، قوم صارت الدنيا نص الليل ، الآن ينادي عليك علي الخطيب .
قال لي :
- إنما لا أريد أن أسمعك تقولين ، ما تروح وما تيجي !
- لن اتكلم يا ولدي ، لقد تكلمت ما فيه الكفاية .
قام . أحضرت له كاسة شاي . تركته يشربها ورحت حلست الحمارين وحطيت عليهما خرجين وثلاثة أكياس. ملأت القربة الصغيرة ماء ووضعتها في جانب الخرج ، ووضعت في الجانب الثاني صرة الأكل ، وحطيت له شوية سكر وشاي وكيلتين وعلبة كبريت .
استيقظ محمد وندى ووطفا . اشوي وإلا علي الخطيب ينادي . قام حسن . قمت معه . قلت لمحمد < دير بالك على خواتك يمه على بين ما أودع اخوكم >
ساق الحمير قدامه . وصلنا علي الخطيب .. صبحنا عليه . قلت له :
- حسن وداعتك يا علي !
قال :
- الوداعة على الله يا عايشه ، إن شاء الله ما بيصير إلا الخير . روحي ارجعي لعند الصغار أحسن يخافوا لحالهم .
_ لا خوف عليهم يا علي ، أبقيتهم مستيقظين ، بدي أمشي معكم لوصلكم لباقي الخطار .
- الخطار بعيدين يا عايشه ، وين بدك تروحي معنا في هالليل ؟
- في أي مطرح ينتظروكم يا علي ؟
- في وادي المنطار.
- طيب خليني أمشي معكم اشوية وبرجع .
مشيت معهم . الدنيا ليل يا حسرتي . قلت :
- يا ريتكم استنيتوا لما يطلع القمر يا علي .
- القمر بطلع متأخر يا عايشة .
قال حسن :
- ارجعي يمه وين بدك رايحة معنا في هالليل ؟
قلت له :
- رايحة ارجع يمه بس وقف تبوسك !
وقف يا حبيبي . بوسته .. وبوسته !!
< في حفظ الله يا بني ، أودعتك للي ما يخون الودايع ، إلهي يفتح لك في كل ضيق طريق يا ولدي ، ويكف عين الظالمين عنك ، ويعيدك بالسلامه يا بني . إذا مريت عن قبر جدك إقرأ عليه الفاتحة يا ولدي .. وداعتك حسن يا علي.>
- اتكلي على الله يا عايشه .
ركبوا الحمير وتسهلوا.. رجعت وأنا اناشد البحر أن يحفظ حسن ويرجعه لي سالما ، وتمنيت من الله أن يجفف ميته إذا غدر فيه !!
(3)
وصلنا مكان التجمع . ما لقينا حدا . قال علي :
- خلينا ننزل عن الحمير يا حسن ونرتاح شوية على بين ما ييجوا الخطار .
نزلنا ...
- ايمتى نصل البحر يا علي ؟
- بكرة في الليل يا عمي !
- ابعيد هالكد ؟
-لا والله يا عمي ما هوه بعيد ، لكن ما فينا نمشي في النهار ، نخاف من دوريات الفرسان تشوفنا .
فكرت اشوي . قلت له :
- والله لا أعرف يا علي لمذا تمنع الدولة الناس أن يبيعوا الملح ؟
- لأنهم يظاربون على معمل الملح وعلى الملح المستورد من بلاد برا !!
- كيف يا علي ؟
- إحنا بنبيع الملح بسعر أرخص من سعر المعمل يا عمي .
- طيب ليش ما يغلقوا المعمل ما دام إحنا بنبيع الناس بسعر أرخص ؟ وكمان ما يستوردوا ، إحنا بنجيب ملح يكفي لكل البلد !
- ما بنفع يا عمي ، هاظا المعمل كلف مصاري كثير كيف يغلقوه ؟
- طيب وحنا كيف بدنل نعيش ؟
- إلي أرزق الدود في الصخر يا عمي يرزق الطير على الشجر !!
بدأ الخطار يصلون . تجمع أكثر من خمسين خطار من خطار بلدنا . إلي أجا بحمارين ولي أجا بثلاثه أو ببغل وحمارين ، والبعض أحضروا جمال !!
مشينا في هالليل . صعدنا جبل المنطار ونزلناه .. قطعنا تلال وجبال ووديان ،
إلى أن انحدرنا إلى واد سحيق . حسيت إنه علي خايف عليه كثير ، لأنه أصر عليه أن أركب الحمار وأمشي قدامه !
بدت قافلتنا تجنح إلى جنب واد بعد ما كانت تمشي في منتصفه . وسمعت الناس يتهامسوا ، كل واحد يهمس للذي خلفه . التفت الزلمه إلي قدامي عن ظهر حماره
وقال لي : < تصادفنا مع دورية مهربين أوعه حدا يحكي معهم > خفت . نهر علي حماره ولحقني . همس لي < ما تخاف يا عمي > خلاني أحس بالخوف أكثر . التفت لأحكي معه . قال < هص > هصيت !! سمعت وقع حوافر خيل ، حدكت ! شفت زلمتين راكبين فرسين وحاملين بواريد وملثمين ! شكلهم مرعب ! خفت . طل وراهم كمان اثنين ، وكمان اثنين ، ست خياله ! جانبت بالحمير على جنب الوادي على بين ما يمروا . خوفني علي لما قرب مني وحط ايده على ظهري . اطلعوا الخيالة فينا
ومروا من غير ما يحكوا معنا ، وأنا أنظر لبواريدهم !
طل أول القافلة من وراهم . بغال محملة بكياس مليانه ، عديت عشرين بغل مرت من جنبي . كل بغل وراه زلمه ملثم وحامل باروده بكتفه ! طل وراهم ست خيالة يحرسوا القافلة من ورا !
مروا . تنفست من كاع كلبي !! همست لعلي :
- شو هذول ؟
- هص ! هذول مهربين حشيش وفلفل !!
- شو ؟
- قلت لك هص !
- لمين بهربوا؟
قرب مني وهمس في ذاني :
- لاسرائيل ! هص ! أوعك تسأل كمان ! هص ولا نفس !
ما هصيت ! همست :
- ليش ما فيه في إسرائيل حشيش وفلفل حتى يهربوا لها ؟
- هص هص لحدا يسمعنا ! هاظا حشيش وفلفل غير إلي إحنا بنعرفه !!
- كيف هو ؟
- يا ملعون الوالدين يا بعيد بدك تودينا في داهية ! قلت لك هص ! بيقولوا إنه غالي كثير !
- من وين أجوا؟
- يا ملعون لا أمك ولا أبوك يا اليهودي ! قلت لك هص ، خلص ما تسأل ! أجوا من الشرق !!هص هساع !
ما هصيت !!
- وهل يوجد في الشرق فلفل وحشيش غير إلي عندنا ؟
- هالساع بغضب منك ، هذي القضية ما فيها مزح ، للحيطان آذان ! هاظا بيجي من بلاد بعيده وما عندنا منه !
هصيت وسكتت غصبن عني ، وفي نفسي أعرف شو الحشيش هاظ وشو الفلفل ، ومين هذول المهربين ، ومنين تجيهم لبضاعة ، وليش حاملين بواريد ، وكيف بدخلوا لإسرائيل ؟ والأهم ليش علي الخطيب بيقلي هص وكأني بسأله في السياسة ؟!!
****************
تابعنا سيرنا . تعدينا قبر جدي من غير ما أعرف ! قلت لحالي بقرا عليه الفاتحة وأنا راجع .
وقفت القافلة في واد تحيطه السدود من كل النواحي . نزل الخطار عن دوابهم وربطوها إلى جوانب الصخور أو في الكهوف أو تحت الأشجار البرية ! فرشوا أكياس الخيش واستلقوا عليها .
انبطحنا انا وعلي جنب بعظنا ! قلت له :
- لإيمتى بدنا نظل هان ؟
- لبكرة المسا يا عمي لما ننزل للبحر !
قام بعض الخطار يحضروا الشاي . هم علي للنهوض ، حلفت عليه ما يقوم . قمت ، جمعت اشوية حطب وولعت النار ، وحطيت ابريق الشاي عليها. قلت لعلي ؛
- البحر بعيد من هان يا علي ؟
- ظربة حجر يا عمي ! شي عشر دكايك بنكون فيه !
خلصت الشاي وصبيته ! طلع شاي أخو شليته !!
البغال جنننا وهن بيضربن حوافرهن في الأرض وبشخطن من منخيرهن ، بدهن يقطعن الرباطات واللجامات . سألت علي عن سبب جنونهن . قال لي :
- خايفات من الجمال يا عمي !
- وليش الحمير ما يخافن ؟
- الحمير يربطهن صداقة قديمة بالجمال ، بعكس البغال يا عمي !
- وليش البغال محرومين من هالصداقة ؟
- ما بعرف يا عمي ، بس البغل بحس إن الجمل هو الوحيد بين الدواب إلي ما بتربطه فيه قرابة !
- كيف يا علي ؟
- أبوه حمار وأمه فرس وخاله حصان يا عمي ، ما ظل غير الجمل ما بقرب له !
- ليش البغلة مش أم البغل ؟
- لا يا عمي البغلة ما بتخلف !
- وكيف ينط الحمار على الفرس لتلد بغل ؟!
- تلد يا عمي ! ما بتسمعهم لما بسبوا على واحد بيقولوا < يا بغل يا ابن الحمار > !!
- صحيح والله !
سمعنا هرج ومرج جاي من بعيد . تبين إنهم خطار العبيدية . لقيونا نحتل المكان ، راحوا يدوروا على مطرح ثاني .
بعد اشوي وصلت قوافل التعامرة . خبرناهم إن العبيدية مروا قدامهم . راحوا يبحثوا عن واد ثالث !
قلت لعلي :
- دخلك فيه في البحر ملح يكفي لكل هالناس ؟
- فيه كثير يا عمي !
خطرت لي أسئلة كثيره . لكن علي قال < لازم ننام يا عمي ، بكره بخبرك قبل ما ننزل للبحر >
**** **************
ما غمضت لي عين . ظليت باقي الليل أرقب القمر والنجوم والجبال إلي محاوطتنا . واتنصت لصرير الصراصير وعوي الذياب وفغير الحصينيات !!
فوجئت بطلوع النهار . قمت طلعت سفح الجبل وطليت عالبحر . كعدت على حجر وصرت أتفحصه ! ظليت لما طلعت الشمس .
كنت اسمع إن المية في الأماكن إلي فيها ملح ما هيه غميكه ! لكن حسيت ونا بطلع عالبحر إنه كله غميك ! ون إلي ما بعرف يسبح رايح يغرك ! مع إني سمعت إن مية هالبحر ما بتغرك مثل باقي البحور . حاولت أقنع حالي بهالحكي، لكني ما اقتنعت ، وحسيت إن البحر أرهب بكثير من الصورة إلي كنت متخيلها . وبديت أخاف ، وأفكر في كلام أمي وخوفها وحزنها .
(4)
قمت من النوم . نظرت حولي . لم اشاهد حسن . ناديت < يا حس------------ان >
لم يرد أحد . ناديت مرة أخرى بصوت أعلى . رد علي من فوق الجبل .
- سو بتسوي عندك يا عمي ؟
- بتفرج عالبحر .
- خليك مطرحك جاي لعندك .
أطلقت الدواب لترعى . حملت صرة طعامي وطعام حسن وابريق الشاي وقربة الماء وطلعت لعنده .
انتشر الخطار في الوادي وعلى التلال المشرفة على البحر ، وأطلقوا دوابهم ترعى بين الأودية ، وراحوا يشعلون النار ليغلوا الشاي . وعلى التلال المقابلة لنا انتشر العبيدية والتعامرة . سألني حسن :
- ما بتيجي الدوريات في النهار يا علي ؟
- لا يا عمي .
- ليش ؟
-لأنهم يعرفون أن الخطار لا ينزلون إلى البحر في النهار .
- لعاد خلينا ننزل .
- الله يرضى عليك يا عمي ، الناس بيشوفونا وببلغوا الحكومة .
أشعلنا النار . صعد الدخان من عندنا ومن الوادي ومن السفوح والتلال التي صعد إليها العبيدية والتعامرة . ولم نسمع إلا وأحد العبيدية يصرخ إلينا من الجبل المقابل :
- يا ناس يحرق امكم في عزا أبوكم ما عرفتوا تشعلوا النار في الواد ، وتغلوا الشاي بعدين تطلعوا تدردوه فوق !!
رد عليه واحد من جماعتنا !
- هوه انت صبحت فاتح عقيرتك علينا على هالصبح ليش؟ هم إلي بدهم يشوفونا رايحين يعرفوا إنا خطار ؟ !
رد العبيدي عليه :
- لا سيظنون أنك سائح يا أبو القمل !!
رد رجلنا بغضب :
- قمل في بيت إلي خلفك يا جيفة يا ابن الجيفة !!
- أنا جيفة يا بن عشيرة جايفة ؟! والله إن جيتك لدحرجك من فوق هالجبل !
وثارت حمية رجلنا ونهض وراح يعدو نحو العبيدي وهو يردد :
- والله لأحرق اظلاع إلي خلفك ، خليك عندك لشوف مين يدحرج الثاني ؟ باطل ولا ما تكون ولدتني سحورية !!
وتابع انحداره عدوا وهو يستنجد بخطار السواحرة !
< وينكم يا سواحرة ، العبيدي النذل يسب على عشيرتنا >
ثارت نخوة رجالنا فانفضوا من أماكنهم . قال حسن :
- شو بدنا نسوي يا علي ؟
قلت له :
- خليك كاعد يا عمي .
قمت . جريت خلف رجلنا لما لحقته . أوقفته وأوقفت رجلا آخر كان يندفع خلفه . وحلفت على باقي الرجال أن يختصروا الشر .
قالوا :
- هوه إلي بدا يسب علينا .
قلت :
- العبيدية جماعة طياب وحقنا لن يضيع عندهم .
حاولوا الإفلات مني فلم يستطيعوا .
وصل بعض العاقلين من جماعتنا وحجزوا الهواشين ، ورأيت رجلا من العبيدية يسبق الرجال الذين كانوا يركضون خلف العبيدي ، الذي دبت فيه الرجولة ونزل يجري ناحيتنا . صرخ فيه : < هيه يا ابن البغل ! وين كار على السواحرة لحالك ؟ هالساع دبت فيك الرجولة يا نذل ! كنت ورينا مراجلك على اليهود ! وقف ولا والله لجيب خبرك !! >
توقف العبيدي في مكانه ، لحقه الرجل الثاني الذي بدا أنه محترم عند قومه ، فقد صفعه كفين دون أن ينبس ، وجعله يرجع مع باقي العبيدية ، فرجع رجالنا بدورهم .
جاءنا ثلاثة رجال من العبيدية مع الرجل الذي أوقف الإشتباك قبل أن يحدث .
قال لنا الرجل :
< حقكم علينا يا سواحرة ولي تريدونه نحنا نسويه >
تشاورنا بيننا ! اتفقنا أن نسامح العبيدية لأنهم جاءوا لعندنا .
قمت حفرت حفرة صغيرة ووضعت فيها حصوة ! قلت للعبيدية < والله لوانكم قتلتوا منا رجل وجيتوا لعندنا لسامحناكم بدمه ، جيتكم عزيزة علينا يا جماعة > ومددت يدي نحو الحفرة وطمرت الحصوة بالتراب وأنا أقول < هذا عليها يا رجال ،اعتبروها حصوة ودفناها !حياكم الله !
و حطينا على القضية جورة وصرارة !!
خجلنا العبيدية .. قاموا وخلوا رجلهم يبوس روسنا كلنا ، لأنه شتم العشيرة . وشربنا الشاي معا . واتفقنا أن لا نشعل النار مقابل البحر ، وأن لا نتجمع ، حتى لا نلفت انتباه أحد ، وأن لا ندع الدواب تخرج من الأودية .
ارتفعت الشمس قليلا . قال حسن :
- خلينا نرجع نقعد مقابل البحر .
فكرت للحظة :
- والله يا عمي إن القعدة فوق ما بتتفوت ، يله لنصعد قبل أن تحمى الشمس .
صعدنا . جاء إلى الشاطىء سيارات وباصات سياح ، نزلوا من السيارات ، رجالا ونساء، تعروا ونزلوا إلى البحر . قال حسن :
- خلينا ننزل نتفرج عليهم .
قلت له :
- ممنوع يا عمي ، بتطردنا الشرطة السياحية !
- ليش ؟
- عشان معهم حريم مزلطات يا عمي !
ولا أعرف لماذا قال حسن :
- أنا شايف كل شي ممنوع علينا إلا التعب والشقاء !
قلت له :
- بتهون يا عمي يا حسن بتهون .
سكت وسرح بعينيه إلى البحر . سرحت أنا أيضا . نظرت إلى الملاحات . فكرت .: < مسكين هذا الولد كم تعبت أمه حتى انتشلته هو وأخوته من الموت والعوز ، والآن خايفه عليه ، يحق لها والله ، يحق لها ! وأنا حاسس إنه حمل على ظهري ، ولن أرتاح إلا بعد أن أعيده إليها سالما . ، الله يسامحها ، ما لقيت واحد غيري توديه معه ؟! >
فكرت في الأمر كثيرا ، خفت أن تكون المياه في الملاحات عميقة ، فيغرق الولد ، قلت لحالي < أفضل شي ما أخليه ينزل للبحر ، وإذا ساعدني الخطار كلهم ، لن يصيب الواحد إلا حفنة ملح ، ، نملأ الكيسين اللذين معه ، ونحملهما على الحمارين
ونعود . ، المهم أن لا أدعه ينزل إلى الماء ولو ملأت الكيسين وحدي .
نظرت إليه . شاهدته سارحا يفكر .
- حسن ؟
- نعم !
- ألله ينعم عليك يا عمي ، البحر صعب على من لم يعتد عليه يا عمي ، وأنت صغير، وهذه أول مرة تخطر فيها إلى الملح ، ابق عند الحمير يا عمي ، ونحن نملأ أكياسك !
نظر إلي :
- إنت خايف علي يا علي ؟
- والله يا عمي إن أردت الصدق إني خايف .وما تنسى إن أمك وصتني عليك ، ولا يهون علي أن يحدث لك شيء لا سمح الله .
سكت قليلا . رنا إلى البحر وهو واجم . ضم شفتيه ، عض على السفلى ، وكسر عودا صغيرا كان في يده ، نظر إلي نظرة واثقة :
- اسمع يا علي !
- أنا مصغ لك يا حسن .
- الحقيقة إني ما كنت خايف من البحر ، لكن لما شفته وتذكرت خوف أمي ،خفت ، وخوفك الآن خلاني أحس بالخوف أكثر ، لكني سأنزل في الماء وأملأ أكياسي بيدي ، ولا أقبل أن تملأوها عني ، وليكن ما يكون . !!
- لماذا هذا الإصرار يا حسن ؟
- لأنها ليست المرة الوحيدة يا علي ، ممكن أن يساعدني الخطار هذه الخطرة ، وخطرة أخرى ، لكن ما ممكن يساعدوني الخطرات كلها . لا بد من نزولي إلى الملاحات يا علي حتى أعرف دروبها ومخاطرها ومتاهاتها ..
نظرت إليه لبرهة . كلامه صحيح . مددت يدي . ربت على ظهره . قلت له :
- ولا يهمك يا حسن ، اتكل على الله يا عمي وإن شا الله ما يصير إلا الخير .
قعدنا حوالي ساعتين . نزلنا إلى الوادي ، تغدينا ، ووضعنا رؤوسنا ونمنا
في ظلال الصخور .
*************
تقمنا في المساء.تعشينا. سقنا الحمير قدامنا وربطناها عند باب الواد ي بين التلال ، حتى لا تراها دورية الشرطة إذا جاءت . نزعنا ملابسنا وتركناها عند الحمير . أخرجنا الصفائح من المخابىء، أعطيت حسن صفيحة ، قلت له < هاي صفيحة مثقبة من تحت لتغرف بها الملح يا عمي >
حملنا الأكياس ومشينا . وصلنا الملاحات . وجدنا العبيدية والتعامرة سابقينا ومحتلين راس البحر كله . قلت < يا رب اجعل هذه الليلة تمضي على خير ولا تجعل العشائر تتقاتل على الملح فيها >
نزلنا إلى الماء . اختلط الناس الواحد بالآخر ، قلت لحسن :
< خليك واقف يا عمي لأبحث لك عن ملاحة قليلة الماء >
رحت يمين ، رحت شمال ، هناك ملاحات لم أتمكن من عبورها إلا سباحة ، وصلت إلى مقربة من مصب الشريعة فما وجدت . رجعت إلى حسن .قلت له إنني لم أجد . انحنيت في الماء مددت يدي تحت ، تحسست الملح ، وجدته قليلا ، أخذت ملء يدي
منه ، قربته من عيني ، لم يكن نظيفا ، أخذت حسن لملاحة أخرى ، وضعنا الأكياس إلى جانبها ونزلنا فيها .
قلت له :< ابعد إلى جانب الملاحة يا عمي ، إياك أن تتعمق إلى منتصفها ، المياه عميقة >
أمسكت بيده وقدته حتى بلغ الماء حزامه . قلت له : < إياك أن تغوص أكثر من هنا >
انحنيت تحت الماء ، غرفت بالصفيحة شيئا من الملح ، أعطيته إياها ، ذهب وأفرغها في الكيس وعاد ، قلت له :
< عندما تنزل تحت الماء اغمض عينيك ، وإياك أن تتنفس تحت الماء ، هه >!
ومن خوفي عليه أعدته إلى جانب الملاحة ،حتى لا ينزل رأسه تحت الماء عندما ينحني . قال الملح قليل هنا ! قلت له < معلش يا عمي ، أنا بساعدك بعد ما أملأ أكياسي ، فهمت ؟ >
قال : فهمت إنما سأتقدم قليلا .
- لكن إياك أن تتجاوز المكان الذي قدتك إليه ، وإياك أن تذهب يمينا أو شمالا ، هناك أماكن عميقة في الماء ، وإذا دخلت مياه الملح في عينيك لا تستطيع فتحهما ، وإذا شرقت بها لا تعرف الطيط من الغيصلان !! وقد تموت هه ، دير بالك يا عمي ألله يرضى عليك >
قال : ولا يهمك !
وقبل أن أبتعد عنه ، قلت له أهم شيء ؛
- إذا جاءت دورية الشرطة وأنت في الماء ، لا ترتبك يا عمي ، توقف فورا ، وضع اصبعيك ، السبابة والإبهام ، على أنفك ، وعندما ترى ضوء الكشاف يتجه إلى ناحيتك ، اغطس تحت الماء - إياك تنسى أن تغلق أنفك – لحظة ويكون ضوء الكشاف قد ابتعد عنك ، تطلع .. إياك أن تتنفس تحت الماء أو تفتح فمك هه ! وكيسك تتركه ممدا إلى جانب الملاحة ، لا توقفه ، وعندما يصير فيه قليلا من الملح ، اذهب وافرغه في الكيس الذي عند الحمير ، وعد بسرعة ، وإذا جاءت الدورية ، وأنت في الطريق تمدد على الأرض أو اكمن بجانب شجرة أو أي شيء ، أفهمت ؟
قال : فهمت ، ولا يكون لك فكر !!
ابتعدت عنه قليلا . رحت أبحث عن مكان فيه ملح كثير . غطست تحت الماء ، تحسست القاع ، الملح قليل ، وجدت ضرسا صغيرا ، حملته وطلعت ، مسحت الماء عن رأسي ووجهي وعصرت شعري إلى الوراء لكي لا ينزل الماء في عيني عندما افتحهما . < أيه لن نملأ الأكياس حتى الصباح على هذا المعدل . ليت هذا البحر قريب من بلدنا ، لسرقنا المياه وانتظرناها إلى أن تجف عن الملح ، وما تعذبنا هذا العذاب . >
****************
ملأت حوالي ربع الكيس . حملته وأرسلته إلى عند الحمير ورجعت . قلت أروح ناحية حسن أطمئن عليه وجدته متوغلا في الماء ، وقد جمع بعض الملح .
- يعطيك العافية يا حسن .
- الله يزيدك عافية .
- كيف الشغل معك ؟
- مليح ، لاو ما نزلت مية الملح في عيني ، لملأت أكثر .
- استريح اشوي يا عمي .
- ماشي الحال بغمظ عين وبفتح عين !!!
- ما قلت لك خليك إلى جانب الملاحة يا عمي الله يرضى عليك .
- الملح هناك قليل يا علي ، ما جمعت إشي !
- انتبه يا عمي !
- توكل على الله .
نظرت من حولي لعلني أرى الملاحين ، لم أشاهد أحدا في هذا الظلام . الناس متفرقون في الملاحات ويعملون بصمت شديد ، وإن كنت أسمع بين الفينة والأخرى
بحركة بعضهم على مقربة منا .
غطست تحت الماء ، ملأت شيئا في الصفيحة وطلعت ، مسحت رأسي من الماء وفتحت عيني ، فوجئت بضوء كشاف الدورية وقد سلط على المنطقة من مسافة بضع مئات من الأمتار ، وأخذ يمشطها من الشمال إلى الجنوب ، لم أتمكن من النظر إلى حسن لأن الضوء جاء إلى ناحيتي ، أطبقت باصبعي على أنفي وغطست تحت الماء ، أطلعت نصف رأسي بعد أقل من دقيقة ، شاهدت الضوء على منطقة حسن ، تأكدت أنه غاطس تحت الماء ، قلت < يا رب ابعد الضوء عن منطقته واحفظه بجاهك وجاه
هذا الليل الميمون !!>
ابتعد الضوء ناحية الجنوب . سبحت ناحية حسن لأطمئن عليه ، لكن ضوء الكشاف رجع بسرعة .. همست :
- يا حسن !
قال : نعم .
- لا تخف يا عمي الآن ينقلع....
ودهمني ضوء الكشاف ولم أكمل ، غطست لحظة وطلعت . رأيت ضوء الكشاف يتجه ناحية الشمال . قلت له ؛
- الآن ينقلعون يا عمي . اصمد اشوي وخذ حذرك هه .
ولم اسمع ماذا قال لأن الضوء دهمني ثانية .
غطست .. طلعت .. ابتعد الضوء .. قلت :
- سمعت يا حسن ؟
قال :
_ سمعت ، لكن الماء دخل عيني ، ولا أستطيع أن أفتحهما نهائيا ، كيف سأرى الضوء يجيء إلى ناحيتي ؟
قلت :
- امسح عينيك وتحمل يا عمي .
وسمعت الناس يهمسون لنا < بدون كلام أنت وهو ، تريدان أن توقعانا في داهية ؟>
سبحت ناحية حسن . لكن الضوء دهمني . همست :
- اغطس يا حسن !
غطس وغطست بعده . وحاولت أسبح ناحيته . طلعت بعد لحظة صغيرة ، قلت > اطلع يا حسن > لكنه لم يطلع !! أدركت أنه لا يسمع صوتي من تحت الماء . سبحت ناحيته . رجع الكشاف . غطست .. طلعت . لم يطلع حسن ! < يا إلهي ، صار له حوالي دقيقتين تحت الماء > شاهدته يطلع . صرخت به :
- أنا قادم إليك يا حسن لا تخف يا عمي .
قال :
- الحقني يا علي سأموت !
قلت ؛
- أنا أموت عنك يا حسن ، روحي فداك يا عمي !
سبحت ناحيته ..< يا رب توقف هذا الضوء قليلا حتى أصله وأغطسه وأطلعه معي ! >
رجع ضوء البين علينا ! صرخت له : اغطس . وغطست .
< يا ملعون أبو إلي انت ضوه من وين جيت ؟>
طلعت من تحت الماء وعيناي على حسن ، لم يطلع . رجع ضوء الكشاف ، طلع حسن ، ما كاد يتنفس يا ويلاه ، قلت له : أغطس . وغطست ! يا رب امتني أنا وأعد هذا الولد سالما لأمه . طلعت . طلع حسن . رجع الكشاف . أغطس ! وغطست .
طلعت . لم يطلع حسن . رجع الضوء مرتين وغطست وطلعت وهو تحت الماء .
طلع فيما بعد وشاهدته يخابط بيديه . استنجدت بكل الأنبياء والمرسلين ، صار الضوء يروح ويجيء بسرعة مخيفة ، صرت أغطس وأطلع وعقلي مع حسن ،
وعلقت كلمة (اغطس ) بلساني ، فما أن أطلع وأتنفس إلا والضوء راجع ، أقول لحسن : اغطس ! ورغم أنني أعرف أنه لا يسمعني تحت الماء ، كنت أقول: إطلع !
لما أطلع . وظللت أتمنى من الله أن يفدي هذا الولد بروحي ويعيده سالما لأمه .
الخطار (5)
ها هي اولى القوافل تقترب من سفوح جبل المنطار ، وأطفال عائشة العلان يهرعون من البيت . يتحلقون حول أمهم ويرقبون القوافل من على قمة الجبل .. يسألونها :
- ألم يأت أخونا يا أمنا ؟
فتجيب :
- إن شاء الله يأتي بالسلامه يا أولادي .
تضع جزة الصوف والمغزل في خريطة الخيش وتنهض . تحمل الخريطة على ظهرها .. تقود ابنتها الصغرى (ندى) من يدها وتشرع في نزول الجبل يتبعها
محمد ووطفاء .
تطلق بصرها جاهدة لتتأكد من هوية القافلة . لا تستطيع . تسير بخطوات حثيثة .
تقترب من القافلة ، تنغرس شوكة في إحدى قدمي البنت العاريتين . تتألم وتفلت يدها
من يد أمها وتجلس لتقلع الشوكة .
************
دواب منهكة تسير مثقلة بأكياس الملح . العرق ينضح من أجسادها ، واللهاث يبعث صفيرا من أنوفها .، والرجال يسيرون خلفها بخطوات متعبة مترنحة وقد خارت قواهم . ، والتصقت ملابسهم بأجسادهم من جراء العرق المتصبب، وتقصفت شفاههم الجافة ، وارتسمت على وجوههم مسحات من الكآبة المفجعة ، وتورمت عيونهم وانتفخت من جراء مياه الملح . ، تتعثر أقداهم بين الفينة والأخرى ، وهم يدارون ألم الحرقة الذي تحدثه مياه الملح في أجسادهم ، فقد تسلخ ما بين أفخاذهم ، فأخذوا يسيرون وقد باعدوا ما بين أفخاذهم ..
تمر عائشة العلان من جانبهم .. لا ينظرون إليها .. تتأمل الدواب المنهكة تحت الأكياس .. تسأل أحدهم :
- ألم تروا خطار السواحرة يا أخي ؟
يشير الرجل بيده إلى الوراء ويقول :
- مع الناس الذين وراءنا يا خاله .
ويتابع سيره المتهالك خلف الحمار .
تتجاوز عائشة عشرات الحمير والبغال . تمر عنها مجموعة أخرى . ترى ثلاثة رجال يسيرون خلف أحد الحمير . تقترب منهم . تتسمر عيناها على جثة رجل مربوطة بالحبال وقد تدلى رأسه وقدماه على جانبي الحمار . تهرع إليهم :
-البقية في أعماركم يا أخي !
يجيب أحدهم بكلمات يثقلها الحزن :
- وعمرك يا خاله .
- خير إن شاء الله يا بني ؟
- جاءت إلينا الدورية ونحن في الماء ، شرق ومات ، ألله يكون في عون أمه ليس لها غيره !
- يا حسرتي عليه !
رددت ذلك وهي تهمد على الأرض وتجلس في مكانها مذعورة ، هرع الرجل إليها .
- ما بك يا خاله ؟
- ولدي يا ولدي !!
- ولدك مع الخطار ؟
- ايه يا بني .
- أي خطار ؟
- خطار السواحرة يا بني .
- توكلي على الله يا خاله ، ما مات منهم إلا واحد حسب ما سمعت !
أحست بقلبها يتقطع ، وجاهدت وهي تقول :
- ألا تعرف كم عمره يا بني ؟
- والله لا أعرف يا خاله .
وانصرف الرجل خلف الرجال .
مكثت جالسة في مكانها لا تقوى على النهوض . خاطبت أولادها .
- إرجعوا إلى البيت يمه الله يرضى عليكم ، أخوكم قد يتأخر ، والدجاجات بحاجة إلى ماء وعلف ، روحوا ضعوا لها ، والصيصان أخاف أن تخر العقبان والصقور عليها وتخطفها ، ارجعوا يا إمي ارجعوا .
ويرجع الولد والبنتان تحت إلحاحها .
الخطار يمرون .. مر كل خطار العبيدية ، وهاهم خطار التعامرة يطلون من سفح تلة . تجاهد لتنهض على قدميها لكنها لا تستطيع .
مر حماران يتبعهما رجل ، ومر ثلاثة يتبعها ثان. ، ومر اثنان يتبعهما آخر . ويمر الخطار بدوابهم المثقلة المنهكة وهي تجلس خائرة القوى .
هاهي جثة ثانية محمولة على حمار يتبعها خمسة خطار .. يمرون من جانبها .. يلقون عليها نظرات حائرة حزينة ويمرون ... تمر مجموعة خطار آخرين يمتطون بغالا . ..
هاهي جثة أخرى يتبعها أربعة رجال تطل .. يمرون عنها ويبتعدون .
< أين قافلة البلد ، لماذا لم تأت حتى الآن ، هل ستشاهد عيون حسن ؟ لن تدعه يعود للملح ثانية ولو سيأتيها ببحر الملح كله ! والشيخ علي-يدهاه في ماله وعياله – هو سبب كل هذا الشقاء >
نظرت إلى ما حولها .. شاهدت القوافل تصعد منعرجات جبل المنطار وتتوارى خلفه .
حدقت لتشاهد أولادها ، لكنها لم تشاهدهم . شردت :
( طارت بجناحين من اقحوان ! قطعت التلال والأودية ، بلغت قافلة الخطار ، حطت فوقها ، شاهدت حسن يسير خلف الحمارين ، والعرق ينضح من جبينه . ضمته ، قبلته ، سقته ماء باردا من القربة ، احتضنته ، حملته وطارت به )
***********
هاهي قافلة البلد تطل . تنفرد أسارير وجهها . تجاهد لكي تنهض ، تنهض ، تسير ، تستقبل القافلة :
هذا أحمد السلمى خلف حماريه يدنو منها ، ينظر إليها متمعنا ثم يطأطىء رأسه إلى الأرض ويسير خلف الحمارين دون أن ينبس ببنت شفة ، يتجاوزها دون أن ينظر إليها أو يرد التحية .. تنده له :
- ابني يا أحمد، ما شفت ابني ؟
يشير بيده إلى الوراء دون أن يلتفت نحوها .
تحس أن قواها عادت تخونها ، فهاهم خطار البلد يمرون عنها ويتجاهلونها ولا يجيبون على تساؤلاتها ، أو يشيرون بأيديهم إلى الوراء ، تتهاوى متهالكة في مكانها ..
أطل علي الخطيب من سفح التلة .. نظر .. شاهدها تجلس على قارعة الطريق ، لم يخطر له أنها قد لا تكون هي ، لقد جاءت اللحظة التي حسب حسابها ألف مرة ومرة ، ( ماذا يقول لها بحق كل الأنبياء ؟! هل يقول أن ضوء الكشاف حاصرهم لمدة تقارب الساعتين ، وأن معظم الخطار قد شرقوا بالماء ، ولم يسلموا إلا لأنهم اعتادوا هذه المياه اللعينة القذرة ،وأنه عمل كل ما في وسعه لينقذ حسن ، بل وتمنى أن يموت هو بدلا منه ؟!)
أحس أن الموت أهون عليه من مواجهتها . توقف . فتوقف حسين الرشود إلى جانبه ، وتوقف الحما ر الذي يقل جثة حسن أمامهما ، ولم يعرفا ماذا يفعلان .
حدقت عائشة العلان باتجاههما .. ارتابت من وقفتهما .. أيقنت أن أحدهما لا بد وأن يكون علي الخطيب وإلا لما توقفا . . نهضت واقفة على ساقيها الخائرتين .. هرعت نحوهما . أحست بأن رجليها لن تبلغا بها المكان .. اقتربت منهما .. شاهدت الجثة على الحمار .. حدقت تتأملها .. خارت قواها أكثر من جديد .. جاهدت ، حنت ظهرها
واستمرت في هروعها .. أقبلت على الجثة ، تأملت القدمين البارزتين من تحت الكيس والمدلاتين على جانب الحمار ( إنهما قدما حسن ) أجل إنهما قدما حسن !!
تعثرت خطاها ..سقطت .. حبت على أربع .. اقتربت .. مدت يديها .. تشبثت بقدمي حسن ، ضمتهما وسقطت متهالكة عليهما وهي تلثمهما وتردد من أعماق فجيعتها :
( الشيخ علي وعدوينك يموتون عنك يا ولدي )
وخرت مغشيا عليها ..



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 882) حوار الح ...
- العبد سعيد. قصة.
- نار البراءة . قصة في خمسة فصول !
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 21) - ( 881) حوار الح ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 20) في الدين والأخلاق ...
- يوم مولدي .. يوم لدمشق
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (11) ا ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (10) ا ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 19) تأملات وأقوال في ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (9) ال ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (8) سح ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 18) مأساة العقل الدين ...
- زوار موقعي الشخصي في الحوار المتمدن خلال شهرين 226951
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (7) مل ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 17) الحياة في الموت ، ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (6) ال ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 16) في الجنة والناروص ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (5) ال ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألخطار. قصة طويلة