أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - صلاة الفذاذة العظمى ! قصة















المزيد.....



صلاة الفذاذة العظمى ! قصة


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4627 - 2014 / 11 / 8 - 21:55
المحور: الادب والفن
    


!! صلاة الفذاذة العظمى

في ذلك اليوم الذي صلى فيه فذاذة الرئيس الأعظم ، قيل أن أكثر من أربعمائة إنسان قد قتلوا ، منهم من مات برصاص الإبتهاج الذي كان يتساقط من السماء كالمطر ، ومنهم من مات من الرعب ، أجل من الرعب ! الباقون قيل أنهم ماتوا من الفرح ، وهذه مسألة لم تؤكد من قبل أحد . .
كان يوما مهولا لم تشهد الجمهورية الفذاذية مثيلا له منذ ألف عام وعام ... قبل مرور الموكب الفذاذي بساعتين على الأقل ، أخليت الشوارع من الحافلات ، أما تلك التي كانت قادمة إلى وسط المدينة ، فقد اوقفت على شارات المرور ، وأمرت بأن تظل واقفة إلى اشعار آخر ، وقام رجال الشرطة الفذاذية بطرد باعة العلكة والسجائر والفول البلدي والسندويتشات والكتب الصفراء والعرق سوس من على الأرصفة . باعة أشرطة ( هزلي لأهزلك ) و( نغنغني لأنغنغك ) أمروا بأن يضعوا في آلات التسجيل أشرطة تتغنى بفروسية فذاذته الخارقة، وأن يرفعوا الصوت إلى أعلى درجة ممكنة ، فراحت المسجلات تصدح بأغان تمجد بطل الشعب وابن الأمة المحبوب باني البنا وحامي الحمى وزارع الشوك في حلوق العدا) ) !
رشت الشوارع المؤدية إلى المسجد بماء الورد وزينت بالأقواس الإحتفالية والشرائط الملونة وعشرات الآلاف من صور فذاذته ، التي الصقت على الجدران وواجهات الحوانيت أو علقت على المباني الضخمة ، أو شدت إلى حبال وأقواس امتدت فوق عرض الشارع . واصطف الآلاف من افراد جنود الفذاذة بلباسهم الميداني الكامل ورشاشاتهم الآلية على جانبي الشارع المؤدي إلى المسجد. وقد اصطف خلفهم عشرات الآلاف من فتية وفتيات الفذاذة الذين ارتدوا زيا مبهجا وبدوا مبتهجين للغاية ، بعضهم يرفعون يافطات كبيرة تمجد بطولة فذاذته الخارقة ، وبعضهم يرفعون صورا لفذاذته في أوضاع مختلفة : وهو يبتسم ابتسامة فذاذية لم يبتسم مثلها بشر قط !! وهو يلوح بيدة لجماهير الأمة ، وهو يضم طفلا رضيعا ، وهو باللباس الميد اني ، وهو بالزي الشعبي ، وهو يتسربل بحلة الفذاذة ويتبوأ كرسي الرئاسة
، وهو يطوف حول الحجر الأسود ! وهو يعدو بين الصفا والمروة ، وهو يرتدي زي الجامعة بصفته المثقف الأكبر ، وهو باللباس القضائي بصفته راعي العدالة ، وهو يكرم الرياضيين بصفته الرياضي الفذ . !
خلف هؤلاء اصطف عشرات الآلاف من مواطني الأمة وقد تمادوا في تمثل الفرح ورسم الإبتسامات العريضة على شفاههم ، فبدوا في غاية الإبتهاج لهذه اللحظات التاريخية العظيمة التي سيشاهدون فيها فذاذة الرئيس الأعظم شخصيا وبالعين المجردة .
رجال الأمن ا لفذاذي احتلوا أسطح البنايات ومعظم البيوت المطلة على الشوارع التي سيسلكها الموكب الفذاذي ، واندسوا بين صفوف المواطنين مطلقين نظراتهم في كل الإتجاهات ، مسترقين السمع إلى الهمسات وضربات الأنفاس ، كي لا يتيحوا لأي مارق أو مدسوس أو عميل أو مشبوه أن يتفوه بكلمة تعكر صفو الإبتهاج !

******** ***** ******
أم محمد اليافاوية ، دهمها المخاض في هذا اليوم المهول . اوقفت السيارة التي تقلها إلى المستشفى على شارة المرور . جدتها بلغت سن الثمانين وهي تنجب ! وأمها بلغت التسعين وهي تنجب ، وهي نفسها تجاوزت الخمسين وما زالت تنجب ، وتنبأت لنفسها بأنها ستظل تنجب حتى سن المائة ، وأن يافا حينئذ ستكون محررة بالتأكيد ، وهذا كلام مفروغ منه ولا تقبل أن يجادلها
أحد فيه .
. أنجبت حتى هذه السن ثلاثين بطنا . بطن ينطح بطنا ! كانت حصيلتها أكثر من أربعين ذكرا وأنثى ، تزوج عشرة منهم ، واستشهد خمسة قبل الزواج ، وانتحر إثنان وقتل إثنان ، وما زال الباقون أحياء تتوزعهم التنظيمات الفلسطينية القائمة في الساحة الفلسطينية ، ما عدا واحدا انضم إلى مجاهدي أفغانستان العرب لتحريرها من الملحدين السوفييت !! !!
ما أثار حفيظة أم محمد وكاد أن يصيبها بالجنون قبل حملها الأخير ، هذا الصراع المرير الذي يحتدم بين أولادها حين يجتمعون عندها في البيت ، فبعضهم ينتمون إلى الفصائل الرافضة لكل الحلول ويريدون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، والآخرون ينتمون إلى الفصائل التي تسعى لاستعادة الضفة والقطاع ، حتى لو اضطرت إلى الإعتراف بإسرائيل والتصالح معها . فما أن يلتقوا حتى يشرعوا في الحوارات الصاخبة التي ما تلبث أن تتطور إلى شتائم ، تطرق فيها كلمات مثل :
وغير ذلك . ما قبل الحمل الأخير بمدة ليست وجيزة ، وصل الحوار بينهم إلى الصفع ، واللكم ، والضرب بالكؤوس والزجاجات ، ومن ثم سحب المسدسات ! جنت أم محمد وهرعت لتقتحم قلب المشاجرة وتصرخ ؛ :
) (يا ريت بطني ما حملكم ، يا ريت صدري ما رضعكم ، يا خسارة الحليب إلي اعتصرته ونقطته في اثمامكم ، ايديكم عن بعض يقطع ايديكم يا قليلين الأصل ! خبوا اسلاحكم وما تخلوني اشوفه يا نجسين ، اسحبوه عاليهود وعلى الكلاب إلي
تنهش في لحمكم ، مش على بعضكم يا أنذال .
ونجحت أم محمد في فض المشاجرة .
غير أن المشاجرات تتابعت فيما بعد إلى أن توجت بمقتل اثنين ،( يسار وأيمن )أحدما وحسب بعض التسميات القائمة في الساحة الفلسطينية – رافض ! والآخر : منحرف !
قبل مقتلهما بأشهر ، وعلى أثر مشاجرة أدت إلى إصابة ثلاثة بجراح ، أعلنت أم محمد غضبتها العارمة الأولى ، واكدت لجميع أولادها أنها ستتخلى عنهم ، ولن تسمح لأي منهم بدخول بيتها ، إذا لم يوقفوا المشاجرات ويتحدوا ، ليحرروا فلسطين كاملة دون التنازل عن شبر منها ، غير أنهم لم يذعنوا لها ، ولم يأخذوا كلامها على محمل الجد ، إلى أن دوى ذات ليلة صوت إطلاق النار داخل البيت . هرعت . وجدت أيمن ويسار يتخبطان بدمائهما . صرخت وصرخت وراحت تلطم رأسها وتدق صدرها بقبضتيها .
باغتتهم عشية يوم العزاء الأخير . دخلت عليهم البيت فجأة ووجهها يقدح بغضب السنين وآلامها . انتصبت كجذع زيتون ، وراحت تخاطبهم من صميم فؤادها المثلوم :
أكثر من ثلاثين سنة وأنا أحمل وانجب فيكم ، حمل ينطح حمل ! يا ما بخلق ثوبي قمطتكم ، لفيتكم !
عصرت دمي قبل ما أعصر في اثمامكم نقطة من غامق حليب صدري ، واسيتكم ، مسحت الدمع من عينكم قبل ما يلمس طرف وجناتكم ، ناغيتكم !
داريتكم مثل ظبية تداري ولدها / حويتكم !
ضميتكم ععاري لحم صدري ، هديتكم !
يا ما اعريت أنا وانتوا ما عريتوا ، مزعت من ذيال ثوبي لركع كد لاح بطرف ردنكم ، كسيتكم !
يا ما حفيت أنا وانتوا ما حفيتوا ، حطيت قدامكم على كفوف ايدي ، داديتكم ، مشيتكم !
يا ما نمت ليلي على كردوس خوف أشوف جوعان ينده من بينكم ـ وينكم !
يا ما بليلة مطر، ليلة ثلج ، ليلة ريح ، بردت أنا وانتوا ما بردتوا ، ارتجفت أنا وانتوا ما ارتجفتوا / شديت حبال الخيمة ودقيت الوتاد ، وبهدم ثيابي غطيتكم ! وسهرت الليالي الظليمة أرعى راحة صافي نومكم ، دفيتكم لما شببتوا وشبيتوا وشبتوا ، ربيتكم يا حيفكم !
ريتكم كنتوا حلم ، كنتوا طيف ، كنتوا وهم ، كنتوا ثلم في بر ولا كنتوا عدم !
عشرين سنة وأزود وبارودكم مالي الفنا وسيطكم عالي السما ، وشبر واحد ، فتر ، قيراط ، ما رجعتوا ، ما حررتوا ، ما رديتوا من الحما ، يا خيبكم ، يا خيبكم !
لو عزت النخوة ، لو انشدت الهمة ، لو كانوا رجال غيركم ، كان قادوا هالأمة من البحر للبحر ، يا ضيركم !
طلعتوا انذال وقل أصلكم ، وصار إلي يسوى ولي ما يسوى من العرب وغير العرب يذلكم ، ويمسخكم ، وينفث سمه في صدوركم ، ويجرجركم وراه مثل كلاب الفلا . ويقل قيمتكم ويهينكم !
وآخرتها ما ظل غير تقتلوا بعض يا خيبكم ، يا خيبتي فيكم يا حيفكم !
ما بدي إياكم ! ريت بطني ما نهض فيكم ، ريتني ما بزرتكم ، انتوا مش اولادي ، انتوا مش اولادي ، انتوا مش اولادي ! اطلعوا من داري ولا توروني وجوهكم !!
وحين شاهدت أم محمد أبناءها يطرقون باهتين ، انقضت عليهم وراحت تدفعهم واحدا واحدا إلى خارج البيت . وطردتهم ، حقا طردتهم .
بعد أيام جاءت إلى ( أبو محمد ) الذي حرصت طوال عمرها على أن تبقيه حيا كي يحبلها ! هزته من كتفيه >
وفي الصباح التالي سقت أبا محمد حليبا ممزوجا بالعسل والبيض وماء الزنجبيل ! ابتسم ابو محمد وقد أدرك نواياها . عند المساء وجد نفسه يناطح الجدران !
وحملت أم محمد . حقا حملت . أيقظت أبا محمد لتطلعه على الأمر .
< خير إن شاء الله يا أم محمد >
< ما قلت لك يا بو محمد إنه زارني هاجس في المنام وقلي إني بدي أخلف لسن المية ؟ >
< يا لطيف يا أم محمد ، إذا كان زايرك صادق ، اقرأي على اليهود السلام >
< اليهود يا بو محمد ، الله يسامحك ، والله عمره ما دخل عقلي شك إنهم رايحين يظلوا في يافا ، باطل عليك يا بو محمد ، والله إني شايفها محررة مثل ما أنأ شايفة ظهر كفي . بتذكر يا بو محمد ونت تغازلني تحت الزيتونه ، من وين كنت تطلع يا زلمه ، كنت تدفن حالك في تراب البستان لما آجي ؟
< ييه يا ام محمد لا تذكريني بأيام زمان > !!
********* *********** ************
عندما طال وقوف التاكسي على شارة المرور . نزل السائق وراح يستطلع الأمر.
. عاد بعد لحظات دون أن يبدو على وجهه أي أثر لتعبير ما . هتفت حماة أم محمد ، فيما أم محمد تداري حملها الكبير جدا بيديها ، وثقاوم موجات الطلق ، هتفت مخاطبة السائق :
< خير يا بني هية الإشارة ما بدها تفتح ؟ >
التفت السائق من خلف المقود وقال بلهجة لا تنم عن أي انفعال :
< الإشارات معطلة يا حجة والسير واقف ، فذاذة الرئيس الأعظم نازل للصلاة > !!

هتفت الحاجة دون أن يبدو عليها أي انفعال هي الأخرى :
< ورايحين يفتحوا الطريق بعد ما يمر يا بني ؟>
< لا والله يا حجة ، بيقولوا إنه السير رايح يظل مقطوع على بين ما يصلي فذاذته ويرجع !
وهنا لم تستطع الحماة كبت إنفعالها :
< مش معقول يا بني ، كنتي بتعاني من آلام الطلق وما بتقدر تحصر حالها >
< وأنا شو فيه أسوي يا حجة ، ما باليد حيلة >
< ما فيه طريق توصل للمستشفى غيرهاذي يا بني ؟ >
< ورانا أكثر من ألفين سيارة يا حجة ، ولا يمكنها العودة إلى الوراء ، كان على شرطة السير أن تغير اتجاه السير من قبل حتى لا يحشر الناس ضمن مداخل المدينة >
< والعمل يا بني ؟ >
< ننتظر الفرج >
< الفرج ؟ من عام النكبة وحنا ننتظر الفرج وما أجا يا بني ! >
وتأوهت أم محمد من أعماقها مرفقة آهتها بأنة تذمر حادة تقطع نياط القلب ! هتفت الحماة :
< سلامتك يا ام محمد ، سلامتك يا مرة ابني ! اتحملي يا بنتي باطل عليك ! >
علت صفارات الإنذار مخترقة فضاء المدينة ، مبددة ما تبقى من سكون في كل أركانها ، مثيرة الرعب في نفوس ضعفاء القلوب !!
نزل كثيرون من سياراتهم وهرعوا في محاولة للإقتراب من الشارع ، لعلهم يحظون بنظرة من فذاذة جلالته .
احس السائق أنه من الأفضل له أن ينزل مع النازلين ويهرع مع الهارعين . فنزل وهرع ! استوقفه صوت الحماة :
< لا تتركنا لحالنا يا بني >
< ما رايح أتاخر يا حجة >
وراح يعدو نحو الشارع الرئيسي .
كان الموكب يجتاز شوارع المدينة باتئاد شديد للغاية ، تتقدمه أربع آليات مصفحة ، تصوب مدافعها في وضع تأهب قتالي ، تبعها اثنا عشر قردا من نوع الشمبانزي محمولة على اثنتي عشرة عربة ذات أ قفاص ، فقد كان فذاذته مغرما بالقرود إضافة إلى الكلاب ، وكان يصحب القرود والكلاب معه في جولات كثيرة . تلا القرود عربة مكشوفة تقل ستة كلاب ذئبية ! ! ثم أربعة وعشرون فارسا يمتطون الخيول ، ثم اربعة وعشرون من راكبي الإبل ، ثم ست آليات مصفحة ، ثم قرابة مائة من أفراد الحرس الفذاذي راكبي الدراجات النارية . كان هؤلاء قد شكلوا ثلاثة أطواق أحاطت المحفة الفذاذية المصفحة ضد الرصاص ، والمرصعة بالدر والياقوت والزمرد ! وبدا فذاذته جالسا في المقعد الخلفي متوسطا كلبين أسودين المانيين كبيرين جدا ! وقد ارتدى زيه العسكري المرصع بالنجوم والسيوف والتيجان التي كانت تثقل كتفيه ، فيما تدلت عشرات النياشين والأوسمة على جانبي صدر فذاذته حتى غطته تماما ! وكان فذاذته - أطال الله عمره - ! يمد يده بين الفينة والأخرى من خلف رأس الكلب أو من أمامه ليلوح بها لجماهير الأمة من خلف الزجاج المصفح . ولم يكن يرافق فذاذته سوى المرافق الخا ص الذي دأب على أن يتبع فذاذته حتى غدا كظله ، كان يجلس إلى جانب السائق وعيناه تحدقان إلى كل الإتجاهات نحو جماهير الأمة .
في مؤخرة الموكب وخلف راكبي الدراجات النارية مباشرة ، اندفعت ست آليات مصفحة أخرى ، سارت في ثلاثة أرتال ، أعقبها أربعة وعشرون فارسا أيضا ، شكلوا ثلاثة صفوف ، ثم رتل من راكبي الإبل كذاك الذي تقدم الموكب ، وقد سار على النسق ذاته . تبع هؤلاء إثنا عشر قردا غير شامبانزية ! فقد كانت من نوع الغوريلا ، وقد بدت وقحة للغاية وهي توجه من أماكنها في العربات ذات الأقفاص ، أعضاءها المنتصبة نحو جماهير الأمة ، وتمد السنتها في حركات ساخرة دون أن تكترث لأحد .
.
خلف هذه القردة لم يكن إلا أربع سيارات
عسكرية مكشوفة تحمل رشاشات متوسطة . تبعها سيارات رئيس وزراء الفذاذة والوزراء وأفراد الحاشية الفذاذية. كان هؤلاء يركبون سيارات أمريكية سود فارهة ، ويتبعون الموكب بمرافقات متواضعة ، مع أن سياراتهم ليست مصفحة ضد الرصاص . والحق أنهم لم يكونوا محتسبين ضمن الموكب الفذ ، حتى أن موكب حافلاتهم بدا شاذا وناشزا للغاية ، وأساء كثيرا إلى جمالية الموكب الفذاذي المهيب ، برسمه خطا طويلا بدا كذيل الجرذ . !
كانت جماهير الأمة تضج بالهتاف والتصفيق كلما أقبل نحوها أول الموكب ، مفتدية فذاذته بأرواحها وفلذات أكبادها ، مما دفع أحد الحمقى إلى التساؤل في سريرته عما إذا كانت حياة فذاذته مهددة بالخطر حتى تفتديه الجماهير بكل شيء !
.
استطاع سائق التاكسي أن يشق له طريقا عبر الزحام ليصبح في مقدمة الحشود . اطمأن حين أيقن أن طوله الفارع سيتيح له مشاهدة الموكب بوضوح ، وإذا حالفه الحظ ، سيشاهد فذاذة الرئيس الأعظم شخصيا ، لأن مشاهدة فذاذته على شاشة التلفاز يوميا ولعدة ساعات لم تكن مرضية لنهمه ! غير ان الحظ لم يحالفه ، فقد كان القدر له بالمرصاد ، حين ساق له نملة ، نملة لا غير ، منعته من مشاهدة فذاذته، وحولت يومه ، بل حياته كلها إلى جحيم . .

كانت النملة تسير في قافلة مع رفيقاتها حاملة حبة قمح حصلت عليها من مخزن مجاور بعد جهد مضن !وكي تتلافى القافلة موطىء أقدام الناس سلكت سفح جدار يمتد إلى جانب الرصيف ، وحين اشتد الزحام راح الناس يتراجعون شيئا فشيئا نحو الحائط إلى أن التصقت ظهورهم به ، دون أن يتنبهوا لقافلة النمل التي بوغتت بالعدوان الذي بدا لها كجند سليمان ! فقتل العديد من نمالها سحقا بالظهور أو سقط أرضا ليداس بالأقدام ، ولم ينج إلا من بلغ أعلى الجدار ، او حالفه الحظ في ان يلوذ بالفرار إلى ناحية لا يصل إليها بشر !
كان سائقنا من بين الناس الذين تراجعوا نحو الجدارليفتكوا بقافلة النمل . إحدى النمال ( وهي نملتنا التي ساقها القدر للسائق ) حالفها الحظ في أن تنجومن السحق ، فقد أفلتت حبة القمح ووقعت على قدم السائق . ظلت للحظات تجوب سطح الحذاء في محاولة يائسة للعثور على مسلك تنجو عبرة ، وكلما انحدرت قليلا أحست باقدام جند سليمان تحاصرها وتغلق عليها المنافذ ، فلم تجد إلا أن ترتدع وتصعد إلى أعلى لتتسلق سا ق السائق دون أن يحس بها ، وظلت تتسلق دون أن يحس بها ، واجتازت الركبة ثم الفخذ دون أن يحس بها ، وتسللت تحت سرواله دون أن يحس بها ، وحين أطل أول الموكب على المكان الذي يقف فيه السائق مع الحشود ، كانت تتوغل في غابة جبلية سوداء مظلمة ، وتضيع فيها دون أن يحس بها . بدت نباتات الغابة غريبة تماما على النملة ففي كل حياتها القصيرة لم تشاهد نباتات كهذه وبهذه الكثافة ، حتى في اسطورة جند سليمان التي توارثتها عن أجدادها!!
شرع السائق يصفق مع الجماهير ويهتف بملء حنجرته ، مع أن الذي كان يجتاز الشارع في مواجهته الآليات الأربع الأولى والقردة الشامبانزية التي لم تهدأ في مكانها ، فتدير مؤخراتها نحو الجماهير التي على يمين الشارع تارة ، ونحو الجماهير التي على يساره تارة أخرى .
مرت القردة وكذلك الفرسان ثم الإيبليون ... .
حين أطلت المصفحات الأولى التي تسبق موكب فذاذته ، أخذت الأصوات تحتد فيما رجال الأمن الفذاذي المنزرعين بين الناس يحفزون كل حواسهم ويحصون على البشر حركاتهم وسكناتهم وما توحي به هتافاتهم وأيديهم على مسدساتهم . وكانت المصفحات توجه رشاشاتها يمينا وشمالا نحو الجماهير في محاولة للإيحاء بأن الجنود الأشاوس متيقظون لأية محاولة آثمة قد يقوم بها عميل ما للأعداء الصهاينة وغير الصهاينة من الإمبرياليين أو الملحدين أو المندسين . .
أخذ موكب فذاذته يقترب . أخذت الجماهير تتدافع و تشرئب بأعناقها لعلها تحظى برؤية فذاذته .
. رفع السائق قامته ليقف على رؤوس أصابعه ، مما أدى إلى انشداد الملابس وضغطها
على النملة التي كانت ضائعة في أخاديد الخصيتين وغاباتهما الكثيفة ،
وفي اللحظة التي كانت فيها محفة فذاذته تقترب لتصبح في مواجهة السائق ، كان هذا يتطاول بقدر ما يستطيع لتضغط ملابسه بشدة على النملة التي لم تجد مناصا من الدفاع عن نفسها ، فغرست فكيها في جلد خصيتيه . كبت السائق صرخة ألم وهو يجاهد ليتقوقع على نفسه بدفع من بجانبه ليتيح ليده اليمنى النزول إلى ما بين فخذيه ، في محاولة يائسة للمقاومة . لكن وقبل أن تصل يده إلى هدفها أطبق الحذاق من رجال الأمن الفذاذي على ذراعيه ، وانهال آخرون بأعقاب مسدساتهم على رأسه ، ثم سحبوه بصمت شديد للغاية ودون إثارة أية ضوضاء .. .
أفاق السائق من غيبوبته في غرفة تحقيق . لم يعرف أين هو وما جرى له . والأمر الذي يكاد يجننه هو العلاقة بين هذه الحشرة اللعينة التي لدغته ، والرجال الذين أطبقوا عليه وانهالوا على رأسه
.

اشتدت موجات الطلق على أم محمد . هتفت :
< ما فتحوا الطريق يا عمتي ؟>
< إن شاء الله رايحين يفتحوها يا عمتي ، مر الموكب >
< آه يا ربي وينك انته > !!
وأسلمتا أمرهما إلى الله .
في سيارة الأجرة المجاورة لهما ، كان ثمة عاشق على موعد في المدينة مع أول فتاة تعشقه في حياته ، وعلى هذا الموعد سيتقرر مصير العشق كله . ظل في السيارة ولم ينزل لمشاهدة الموكب ، وكان يزفر متأففا بين الفينة والأخرى. .
في السيارة التي تقف خلفهما ، كان ثمة طبيب في سيارته الخاصة ، ورغم أن حياة مريض تتوقف على وصوله في الوقت المحدد لإجراء عملية عاجلة له ، إلا أنه بدا مسيطرا على أعصابه ، وإن كان يتململ خلف المقود وينظر إلى الساعة بين فينة وأخرى.
أمام المسجد اصطف الآلاف من جماهير الأمة ، وقد أحضر المئات منهم كباشا ليذبحوها وجمالا ليعقروها وأبقارا لينحروها كقرابين عند وصول موكب فذاذة الرئيس الأعظم .. .
أقبل الموكب تسبقه صفارات الإنذار . تململت الجماهير في أماكنها فيما هيأ أصحاب القرابين سكاكينهم وسيوفهم وبلطاتهم للذبح والعقر والنحر ، وسط التصفيق الحاد والهتافات المدوية . .
أخذت الأرتال المرافقة للموكب تجنح إلى جانبي الساحة وتتوقف وقد وجهت الآليات سبطانات مدافعها إلى كل الإتجاهات ، تبعها راكبو الدراجات من حرس الفذاذة الذين راحوا يجنحون يمينا وشمالا ، في حين توقفت محفة فذاذته لتفتح أبوابها على الفور من قبل الحراس ، ولينزل فذاذته باتئاد وتئن دون الكلبين اللذين أرغما على البقاء في المحفة الفذاذية ..
علا ثغاء ورغاء وخوار الكباش والنوق والثيران التي انهالت على رقابها السكاكين والسيوف .
وقف فذاذته بكل مهابته وقفة رئاسية فذة على أرضية فرشت بالطيلسان والحرير وراح يلوح لجماهير الأمة بيديه الفذتين الطاهرتين ، فيما الرتب العسكرية والنياشين والأوسمة التي صكت من الذهب والألماس تبرق على كتفيه وصدره الملائكي ، وابتسامة فذة لم يبتسمها بشر قط تطفو على شفتيه ، فبدت وكأنها وردة من شقائق النعمان ، طعمت بأزهار الفل والنرجس .

هتفت الجماهير بملء حناجرها وهي تصفق بكل ما لديها من طاقة للتصفيق ، فيما كانت عمليات الذبح والنحر والبقر مستمرة لتخضب دماء القرابين محيط الساحة ، وفيما كانت القردة تصوت وتثب في عرباتها رعبا واستياء من مناظر الذبح ونوافير ومستنقعات الدم التي أعقبتها ، وقد كفت عن إخراج أعضائها ومد ألسنتها وإدارة مؤخراتها لجماهير الأمة . !
سار فذاذة القائد الأعظم بخطى فذة مهيبة على بساط مذهب من السجاد العجمي ، ليعتلي المنصة ، حيث ستعزف له ثلة من حرس الشرف السلام الفذاذي الوطني !وما أن اعتلى المنصة حتى وقف في استقامة خارقة وثبات عظيم ، وأدى بيده اليمنى التحية الفذة ، فيما كانت الموسيقا تصدح بالسلام الفذاذي . وهنا علا صوت المذيع الفذي الذي كان ينقل وقائع ما قبل الصلاة االتاريخية العظيمة ، علا ( فض الله فاه ) ليصف الوقفة المهيبة قائلا

تأملوا يا أبناء الأمة ، تأملوا هذا الجلال المهيب ، هذه الأنفة ، هذا الشموخ ، هذه الكبرياء ، هذا الوقوف الطودي ، هل وقف مثله بشر من قبل ؟! ويل للأعداء
(الأحمق فض الله فاه وأطاح أسنانه كلها ، يقارن وقفة فذاذته بوقفة البشر ! تصوروا ، بشر ؟! )
والحق إن الملائكة بل وبعض الآلهة ، لم يقفوا مثل هذه الوقفة ، التي لا يستطيع أن يقفها إلا من هو في مقام زيوس وبعل وإيل وعشتار ورع وإنليل والسابقين لهم ومعظم اللاحقين .
ما أن عزف السلام الفذاذي ، حتى نزل فذاذته وراح يستعرض حرس الشرف والمرافقين الخاصين يتبعانه على مسافة أقدام .
أمام المسجد وقف وزير الأديان وبعض الوزراء)
وقادة الجيوش ، ممن كانوا يسيرون خلف الموكب وممن لم يكونوا . وما أن فرغ
فذاذته من استعراض حرس الشرف ، حتى توجه إليهم عبر شريطين حريريين مزينيين بصور فذاذته ، وباقات من الورود النادرة ، وشرائط من القماش الثمين الملون .
كان أول من حظي بتقبيل يدي فذاذته الطاهرتين وزير الأديان الجلالي ، الذي يكن لفذاذته حبا وإخلاصا يعجز عنهما الوصف .
داخل المسجد احتشد الآلاف من أبناء الأمة الذين سمعوا أن الصلاة بمعية فذاذته تدخل الجنة ، حتى لو زنى المصلي ألف مرة ، وقتل ألف بريء ، واختلس أموال ألف يتيم ، ولاط ألف غلام ، وقاطع الصلاة والصوم ، وامتنع عن الحج والزكاة ، ولم ينطق بالشهادتين ، إلا ذلك اليوم . لذا احتشد المسجد بالآلاف ممن يطمحون في مسح الذنوب وتبييض الجيوب وتطهير الأنفس والقلوب ، ودخول الجنة عبر الصراط المستقيم ، ليتمتعوا بنعيمها ، ويتقلبوا على صدور الفاتنات من حور العين اللواتي لم يمسسهن من قبل لا إنس ولا جان ، ولا يتبولن ولا يتبرزن ، ويعدن عذراوات بعد كل افتضاض ، وليس لجمالهن نظير.
! وكذلك لينعموا بالولدان المخلدين وليترعوا كؤوسهم من أنهار الخمر وليشربوا من ماء معين ! جعلنا الله وإياهم من عباده الصالحين ، واغدق علينا ما سيغدقه عليهم أجمعين ، في يوم الدين ، آمين .

حين اطل فذاذته من باب المسجد هب الجميع وقوفا وظلوا صامتين ، ولم يعودوا إلى الجلوس إلا بعد ان أخذ فذاذته مكانه أمام اربعة صفوف تخللها العشرات من أفراد الأمن الفذاذي ، والذين كان جل همهم اليقظة والترقب مخافة أن يظهر مدسوس من بين المصلين ويقدم على مكروه قد يطال فذاذته بالسوء ..
مراسلو ومصورو التلفزة والصحافة الذين ( قبحهم الله ) دخلوا بيت الله دون أن ينزعوا أحذيتهم ، بدوا منهمكين للغاية في نقل وقائع هذه اللحظات التاريخية العظيمة التي يجلس فيها فذاذته بين يدي الله ، وديعا أليفا بريئا مطمئنا مستكينا متسربلا بمسحة من الإيمان الفذ . !
شرع إمام المسجد في إلقاء كلمة بدأها بالإشارة إلى أنه شاهد الله يرحب بفذاذته في بيته ، وأنهاها ( فض الله فاه هو الآخر لأنه أجحف بحق فذاذته ) بالتأكيد فقط على أن فذاذته أعظم زعيم عرفته البشرية منذ أن خلقت ! غير أن مذيع التلفزة والراديو ، أصلح الأمر بعد أن أدرك خطأه السابق وخطأ الإمام ، حين راح يضع فذاذته في مكانته الحقة بين الآلهة ، وراح يتحدث بانفعال شديد عن الهالة النورانية التي تشع من وجه فذاذته ، وهو يجلس بخشوع مهيب بين يدي الله ، ثم بانفعال منقطع النظير رافقه الصراخ والعويل إلى درجة بح فيها صوته ، حين راح يتحدث لمواطني الأمة عن ظهور الملائكة في فناء المسجد ::
يا أبناء الأمة ، ، في هذعه اللحظات المهيبة ظهر الملائكة بأجنحتهم البيض وراحوا يحلقون في فناء المسجد ، إني أراهم بأم عيني ، شاهدوهم ، انظروا إليهم ، لقد أرسلهم الله ليباركوا فذاذة الرئيس الأعظم ، هاهم يحلقون وينزلون كسرب من اليمام ، ليشكلوا غيمة تظلل رأس فذاذته ، الذي انبثق من وجهه نور إلهي يبهر الأبصار ، هاهم أيها الأخوة يحطون أمام حبيبنا وحامينا فذاذة القائد الأعظم ، ويسجدون له ! نعم نعم ! الملائكة ، رسل الله في الأعالي ، بعث بهم الله نفسه ليتباركوا منه ويقدموا له الولاء ! يا يا يا يا يا أبناء أمتنا..الملائكة يركعون ويسجدون لأعظم العظماء طرا ، فذاذة الجلالة الأعظم . افرحوا ، افرحوا يا أبناء أمتنا ، زغردوا ارقصوا ، اطلقوا النار ابتهاجا ، والمدافع اصطهاجا ، فإلى الجنة أنتم .. إلى أحضان حور العين ، بمعية حبيبكم الأعظم ، يا يا يا ، هيا هيا ....
وهنا ارتبك المصلون داخل المسجد ولم يعرفوا فيما إذا كان عليهم أن يفرحوا ويبتهجوا أم يسجدوا لفذاذته كما الملائكة ، أم يبدأوا الصلاة لله القدير ، ولم يخرجهم من هذا الإرتباك إلا إعلان إمام المسجد ألإذعان للمشيئة الإلهية والسجود لفذاذة القائد الأعظم ـ فسجد الجميع إلا ابليس ( لعنه الله وفذاذة القائد ونحن) الذي كان متنكرا في زي الراوي الذي ينقل هذه الوقائع التاريخية العظيمة . !!



وفي اللحظة التي كان فيها الناس يستمعون إلى الراديو أو يرقبون التلفاز ، انطلقت المدافع والرشاشات احتفاء بالمناسبة العظيمة ، فراح الجميع ممن لديهم أسلحة ، يطلقون النار في الفضاء : في المدن والقرى ، في الشوارع والأحياء ، وفي كافة أنحاء الجمهورية الفذاذية الشاسعة متعددة الممالك والجمهوريات ، أخرجوا بنادقهم ومسدساتهم وراحوا يطلقون النار ، في حين كانت مدافع ورشاشات الجيوش الفذاذية ، وأفراد الأمن ، والشرطة ، تطلق قنابلها وطلقاتها ، لتلتهب السماء بالنار والرصاص والدخان ، ولتضج الأرض بهدير المدافع ، ولتهتز جدران البيوت ، ولتتساقط القذائف المرتدة في الشوارع والأحياء أ في الأودية والجبال ، على سطوح الأبنية والبيوت ، وعلى رؤوس بعض المواطنين ، فدب الذعر في قلوب ضعفاء النفوس ، وعم الصراخ والعويل ، وسادت الفوضى ، وسقط الآلاف تحت الأقدام ، أو خروا صرعى أو جرحى ، وضجت أبواق السيارات الواقفة على شارات المرور ، أما تلك التي كان مسموحا لها بالسير في شوارع العواصم والمدن ، فقد أطلقت عنان أبواقها وراحت تعبر الشوارع بجنون ، ورصاص طائش ينطلق من نوافذها . وفي الوقت نفسه ، قرعت الطبول ، ودقت نواقيس الكنائس ، وانطلق آذان خاص من المساجد ، وعلت صفارات الإنذار ، حتى تلك التي لا تطلق إلا في أيام الحرب ، مما جعل بعض الناس يعتقدون أن حربا مع الأعداء قد نشبت ، أو أن الساعة قامت .
في المسجد راح فذاذته يودع كبار المصلين بعد إنهاء الصلاة !! وقبل خروجه من المسجد وجه أوامره بالتوقف عن إطلاق النار والإكتفاء بالإبتهالات والإبتهاجات الأخرى . تم التوقف ، لكن ليس على الفور ، فقد ظل بعضهم يطلقون النار إلى ما بعد اسبوع من الواقعة الملائكية الخارقة ، التي اعتبرت مناسبة قومية ينبغي على مواطني الأمة الفذاذية أن يحتفلوا بها كل عام ، ويقيموا الأفراح والليالي الملاح ، لمدة ثلاثة أسابيع . !!
الحافلات ظلت واقفة على شارات المرور منتظرة عودة فذاذته إلى القصر، وقد نالت نصيبها من الطلقات المتساقطة من السماء ، فتكسر بعض زجاجها وثقبت سقوفها ، وأغمي على بعض ركابها ، وأصيب آخرون بالسكتة القلبية . من بين هؤلاء الذين سكتت قلوبهم ، العاشق والطبيب ، العاشق قتله طول الإنتظار ، والطبيب قتله الرعب ، لم يحتمل قلبه هول ما جرى ، ألقى رأسه على المقود ومات . !
صاحبنا السائق أقنع المحققين بعد أن كسروا له ضلعين إضافة إلى كسر في الرأس ، أنه أنزل يده ليحك
ولم يكن ليحك لو لم تلدغه حشرة ما – ربما تكون نملة – أو أي شيء من هذا القبيل ! ثم إنهم لم يعثروا معه على أي شيء يثير الشبهة ، حتى ولا سكين ، واقتنع المحققون ، حقا اقتنعوا ، غير أنهم اعتبروا فعلته تهكما وسخرية واحتقارا لفذاذته ، إذ كيف يفكر في حك ما بين فخذيه ، بل

سوأته وبيضتيه ، في الوقت الذي يجتاز فيه موكب فذاذته الشارع ؟
هل قل الإحترام إلى هذا الحد ؟ يحك قباحته التناسلية بدلا من أن يسجد أو يركع ، أو أن يهتف ويصفق لفذاذته على الأقل .

في الوقت الذي كانت فيه الدنيا تضج بالخوارق والصخب والجنون والخرافات ، كانت موجات الطلق تحاصر أم محمد اليافاوية ( الله يسامحها ! إلا أن تلد هذا اليوم ؟) كانت الموجات تحاصرها وتكاد تخنقها ، فيما العرق يتصبب من مسام جسدها ، وصراخها يعلو ليختلط بصخب الإحتفاء ، وحماتها تفك أزرار ملابسها وتفتح لها فخذيها لتولدها في التاكسي ، دون أن تعير أي اهتمام لما يجري حولها .
وحقا ولدت أم محمد في التاكسي ، اندفع الوليد من الرحم مرة واحدة وكان ذكرا ، هللت الحماة وزغردت غير أنها فوجئت بأم محمد تزحر من جديد ليندفع وليد ثان !! فهللت وزغردت وراحت تقطع حبل السرة بأسنانها ، وما كادت تقطعه وتعقده حتى بوغتت بأم محمد تهتف لها بأن رحمها ما يزال ممتلئا بالأولاد ! فزغردت وراحت تتلقف الوليد الثالث ، وحين اندلق الوليد الرابع أخذت تردد ( خير يا ربي خير ) وودت لو أنها في البيت لتطلب بخورا ، لتبخر أم محمد كي لا تصاب بأعين الحساد . والحق أنه لم يكن هناك من يحسد ، فقد كان الناس منشغلين بأنفسهم ، بل بمصائبهم ، سواء الذين كانوا منتظرين في السيارات أو الهارعين في الطرقات ، الأموات منهم والجرحى ، الذين أغمي عليهم والذين ما زالوا أحياء !
اندفع الوليد الخامس . جنت الحماة من الغبطة وراحت تردد مقولتها بصوت أعلى ( خير يا ربي خير ، خير يا ربي خير ، أللهم صل على سيدنا محمد ، اللهم صل على سيدنا محمد ، كما صليت على سيدنا ابراهيم ، وعلى آل سيدنا ابراهيم ، في العالمين ، إنك حميد مجيد !) ونفخت في أنف الطفل ، وقطعت حبل السرة بأسنانها كالعادة ، وعقدته ، ثم امسكت الطفل من قدميه وقلبته رأسا على عقب ، هزته ثلاث مرات وألقت به على المقعد الأمامي إلى جانب اخوته ، وانثنت لتفتح فخذي أم محمد أكثر من ذي قبل لترى فيما إذا فرغ الرحم ، غير أنها سمعت صراخا قادما من الداخل وهذا ما أطار صوابها ، فهذا السادس يصرخ قبل أن يخرج إلى النور ، تلقفته الحماة كما تلقفت سابقيه ، وعالجته كما عالجتهم ، وحذفته إلى جانبهم . كانوا يصرخون بأعلى أصواتهم بينما لسانها لا يتوقف عن النطق وترديد التعاويذ :
< حوطتكم بالله وحفظتكم بالله وقمطتكم بالله وثنيتكم بالله ، وربطتكم بالصلاة على النبي ! اللهم صل على محمد ، دياتكم عشرة ورجلياتكم عشرة وحضروكم اولاد الخليل عشرة ، اللهم صل على محمد >
ولم تتنبه إلى انها أخطأت في عد الأيدي والأرجل ، فقد انبعث أنين أم محمد التي أخذت تغيب عن الوعي . انثنت إليها وسترت فخذيها ، وقد تنبهت إلى أنها تنزف ، مددتها في استقامة على المقعد ، وشرعت تقرأ على رأسها تعويذة ، إنما دون بخور ودون حتى ذرة تراب !
< عين الحسود فيها عود ، عين الجار فيها نار ، عين الظيف فيها سيف ، عين المرا فيها بلا ! اللهم صل على محمد >
وتنبهت إلى أن السيارات أخذت تتحرك مطلقة أبواقها ، لقد مر الموكب وفتحت الطرق <
وهذا السائق لم يأت ، أين ذهب يا ناس ؟ >
والسيارات التي تقف خلفها أخذت تطلق أبواقها بجنون طالبة فتح الطريق .
نزلت من التاكسي تاركة الأطفال يصرخون وأم محمد ملقاة في المقعد الخلفي وقد خفت أنينها .
هرعت نحو السيارة التي خلفها مباشرة ، كان الطبيب ميتا خلف المقود . هرعت إلى السيارة التي على يمينها ، كان العاشق ميتا أيضا ! هرعت إلى الخلف ، شاهدت أناسا يتململون في سياراتهم كالأشباح ، راحت تتوسل إليهم :
< الشفير راح وما رجع يا خيي ، وكنتي ولدت في التكسي ، ونزيفها ما وقف ، اسعفونا ألله يخليكم ، ساعدونا ألله يساعدكم ويقف معكم >
ولم يسمع أحد ، ولم يكترث أحد ، والأبواق تضج بجنون ، وقد أخذت السيارات تجنح من هنا وهناك باحثة عن مسلك لتتابع سيرها بسرعة جنونية ، وكأنها تبحث عن الخلاص بعد انهيار الأعصاب وطول الإنتظار القاتل المقيت .
ظلت الحماة تشرع يديها للسيارات ، تهتف تصرخ تستنجد تستغيث ، دون أن يغيثها أحد ،إلى أن جاء سائق ، بعد قرابة ساعة من تحرك السير ، وأشفق عليها , أوقف سيارته جانبا وهرع إليها ، ألقى نظرة نحو مفاتيح السيارة فوجدها في مكانها ، رفع الوليدين اللذين خلف المقود وأعطاهما للحماة التي قرفصت إلى جانب أم محمد . امتطى السيارة على عجل وانطلق بها إلى المستشفى . .
هزت الحماة كتفي أم محمد وخاطبتها باسمها ، غير أنها لم ترد ، ولم تستجب لأية حركة . لقد
فارقت الحياة . هتفت الحماة والسيارة تنطلق بأقصى سرعة مطلقة بوقها :
< لا مستحيل تموت ! قالت أنها ستنجب حتى سن المائة !! >
وراحت تكرر عبارتها وتنتحب وهي تهز الوليدين اللذين في حجرها ، في محاولة لتهدئتهما ، فيما السائق يطير بالسيارة لاختصار الزمن الذي سيصل خلاله إلى المستشفى !
آب 87 – أيلول 89



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح ...
- الجنرال الزعيم . قصة قصيرة
- السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح ...
- أبناء الله . قصة
- السلام على محمود. أشعار في ديوان محمود درويش (لماذا تركت الح ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 883) الشباب ب ...
- السلام على محمود. (1) فاتحة ! أشعار في ديوان محمود درويش (لم ...
- ألخطار. قصة طويلة
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 22) - ( 882) حوار الح ...
- العبد سعيد. قصة.
- نار البراءة . قصة في خمسة فصول !
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 21) - ( 881) حوار الح ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 20) في الدين والأخلاق ...
- يوم مولدي .. يوم لدمشق
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (الجزء ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (11) ا ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (10) ا ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة ( 19) تأملات وأقوال في ...
- غوايات شيطانية . سهرة مع ابليس. ( ملحمة نثرية شعرية ) (9) ال ...


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - صلاة الفذاذة العظمى ! قصة