أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - باسم فرات - البدايات















المزيد.....


البدايات


باسم فرات

الحوار المتمدن-العدد: 4591 - 2014 / 10 / 2 - 16:44
المحور: سيرة ذاتية
    



حين عدتُ إلى البيت في اليوم الأخير من الامتحانات النهائية للصف الثاني الابتدائي، والتي نجحتُ فيها بتفوق وكان مجموعي 70/70، أخذتني جدتي لأبي إلى صديق والدي وكان يعمل حذّاءً (صناعة الحذاء قبل وضعه على الكعب) وقالت له: هذا ابن المسعد. وكلمة "المسعد" تقال لمن يقتل شهيدًا، وربما لمن يموت مبكرًا، فإن والدي غادرنا نهائيًّا ولم نعدّد له ستًّا وعشرينَ حجة كما فعلت شقيقة طرفة بن العبد، بل كان أقل من ذلك بسنة تقريبًا. في هذا المحل عرفت القراءة خارج المقرر، حيث بدأ يرسلني صاحبه إلى مكتبة فاضل النصراوي في باب قبلة صحن الإمام الحسين- وهو رجل كان في إحدى رجليه عرَج- لأَخْبرَهُ أن السيد محسن وجمال الكَلكَاوي (القلقاوي) أرسلاني لشراء جريدة "طريق الشعب"، وفي الطريق أبدأ بتصفحها ليزداد تصفحي لها حين تيقنتُ أن أستاذي في العمل- وهو صديق والدي كما أسلفت- ينسى نفسه حين يحضر أصدقاؤه، فيتبادلون أطراف الحديث الذي يتكون من ثلاثة محاور أو مواضيع رئيسية: الأول مهاجمة حزب البعث العربي الإشتراكي والنظام، والحديث في السياسة- وللحزب الشيوعي الحصة الكبرى من الثناء، والثاني الشعر والأدب، وأخيرًا الثنائي الأثير لهم في تلك الفترة وهو حديث النساء والخمور. تحوّل تصفحي للجريدة إلى إدمان، وتسبّب لي في مآزق لم ينقذني منها سوى صغر سني، فحين أصطدم بالمارة أرى ردة الفعل الغاضبة على وجوههم الّتي سرعان ما تتغير إلى ابتسامة إعجاب، فحين ينتبه الشخص الذي اصطدمتُ به إلى أن الطفل ذا الثمانية أعوام يقرأ جريدة ينقلب غضبه وتكشيرته إلى ابتسامة فيُمسّدُ على رأسي ويمضي أو يقول لي انتبه لنفسك في المرة القادمة. وكان الحديث عن الشعر يجبرني على الإنصات لهم، بل كنت أشعر مع كل بيت أو مقطع يتلُونه فيما بينهم أنه يلامس شغاف روحي، منذ تلك اللحظة وعيتُ شغفي بالشعر.
انتقل بيت عمتي (عمتي مع ابنيها وبناتها الخمس) من بغداد إلى كربلاء، لأن زوجها خرج من السجن، حيث قضى سنين عِدّة؛ نتيجة عدم انصياعه لحزب السلطة مع ماضيه الشيوعي فلفّقوا له تهمةً وأحالوه إلى محكمة الثورة التي حكمت عليه بخمس سنوات ونصف ليقضيها في سجن أبي غريب، قسم الأحكام الثقيلة، محكمة كان الشهود جميعًا فيها لصالحه فكيف لو وقف الشهود ضدّه؟. ثم جاء إلى بستانه الذي كان قد اشتراه قبل تلفيق التهمة له، فأعاد إصلاحه، وبعد فترة زمنية وجيزة كانت العائلة قد استقرّت فيه، حينها- وكنت في الصف الرابع الابتدائي- ذهبتُ لابن عمتي مُحسن، الذي كان في المتوسطة حينها، قائلاً له بتلقائية طفل ابن العاشرة: "أريد أن أصبح شاعرًا"، فوَجّهني بشكل تقليدي لقراءة الشعر القديم وأن أبدأ من البدايات، أي مع شعراء ما قبل الإسلام. ولكني سألته عن شاعر طالما سمعتُ أستاذي في العمل وأصدقاءه ينشدون شعره، وأعني به الشاعر أبا نواس الحسن بن هانئ، وكان خُضير بن عمتي الأكبر- وهو شاعر شعبي (يكتب بالعامية العراقية، مواليد 1960)- قد سألني: لماذا تريد هذا الشاعر بالذات، فأجبتُ بتلقائية: "يكتب عن الخمر كثيرًا" فأعطاني ديوان "رباعيات عمر الخَيّام" ترجمة مهدي جاسم. فقلت له: ولكني أريد شعر الخمريات، فردّا عليّ معًا: هذا أكثر من أبي نواس تناولاً لها، والظاهر أنني سمعتُ مصطلح الخمريات من أستاذي (معلمي في العمل) وأصدقائه، رغم أن جدتي لأبي حدثتني عن طرائف أبي نواس مع هارون الرشيد، وهي طرائف شعبية صاغتها المخيلة الجماهيرية على مدى قرون.
أستطيع القول إن ديوان عمرو بن قميئة، هو أول ديوان قرأته بجدية، وكانت المقدمة التي ذكرتْ أنه أول مَن ذكر بنات الدهر.. إلخ، قد قرّبته لذائقتي وقتذاك، رغم شيخوخته وتجربته العريضة في الحياة مما جعله يتذوق مرارات العيش والفقد، بينما أنا الطفل ابن العاشرة كنت أواسي حرماني وفقدي وطفولتي المليئة بالمنغصات. ثم كانت المعلقات العشر بشرح الخطيب التبريزي، ففي إحدى زياراتي الأسبوعية لـبيت عمتي في بستانهم الذي ترك أجمل الذكريات في نفسي، راح مُحسن يحدثني عن معلقة زهير بن أبي سُلمى، ويقرأ عليّ مقاطع من المعلقة أنا ابن الحادية عشرة من العمر. أذهلتني المعلقة فعُدت أقرأ فيها وفي بقية المعلقات، فقد استعرتُ الكتاب منه ووعدني به بعد أن ينهيه، وفعلاً برّ بوعده بعد فترة زمنية وجيزة، ولكنني لم أعده له حتى هذه اللحظة وإلى ما يشاء الله، فقد انشغل بعد ذلك بالدراسة ودخل كلية الطبّ جامعة الموصل، وتم اعتقاله حين عودته لكربلاء في إجازة تحضيرًا للامتحانات. والحادثة تتلخص في أن "بيت عمتي" حين سمعوا صوتًا وجلبة لأنه لا بوابة للبستان، فخرجت إحدى بنات عمتي (وهنّ أخَواتي بالرضاعة) لترى القادم، فسألوها عنه، وكان يذاكر مع صديقٍ له، خرج مسرعًا حافي القدمين، بعد برهة من الزمن، وحين ملَّ صديقه الانتظار راح ينادي، فاستغرب الجميع وعلموا أنه أعتقل ولم يمهلوه حتى احتذاء نعل أو حذاء، وبطبيعة الحال تغيير ملابسه، ومرت الأيام حتى أخبروا والده أن يتسلَّمه من أمن الموصل، فذهب إلى هناك ولم يخطر بباله أن ابنه الأثير الذي اعتقل قبل مدة زمنية ليس له ما ينتعله، فأعطاه ما يحتذيه ومشى الوالد حافيًا حتى أقرب بائع أحذية. عاد مُحسن ليُكمل دراسته، ولكن هاجس ترك العراق لم يفارقه، فهو قد جَرّبَ دهاليز الأمن العام مرتين، كانت الأولى حين كان في المتوسطة أي ابن الرابعة عشرة، في مديرية الأمن أو المخابرات التي في الكاظمية. وبعد ذلك بفترة حاول عبور الحدود إلى سورية، فتم القبض عليهم.

لم أعجب بشاعر في تلك الفترة كما أعجبت بطَرَفَة بن العبد، كان تمرده واعتزازه بنفسه، لدرجة تفضيله الموت على الهرب، وربما لأن عمره كان مقاربًا لعمر والدي، فكلاهما قتلَ في منتصف العشرينيات، هذه الأمور جعلته قريبًا إلى ذائقتي. بقيت مفتونًا بشعره وسيرته حتى الآن. وهناك شعراء آخرون، كالأعشى وامرئ القيس وزهير والشعراء الصعاليك الذين أوقدوا جمرة الصعلكة فيّ، هذه الصعلكة التي فهمتها بطريقتين، الأولى ساذجة تعني عدم الالتزام والتحلل ولم أستطع أبدًا ممارستها، بحكم طبيعتي الخجولة وتربيتي الدينية المحافظة، والآن أرى أن هذه التربية الدينية خدمتني لكي لا أنساق إلى الفهم السطحي للصعلكة، أي أن أتحوّل إلى سكّير ومبتذل كما فهم البعض الصعلكة. أما الفهم الثاني فهو التمرد الفكري والإبداعي وعدم الانصياع لطريقة الكتابة التقليدية أو جعل شاعر ما مَثَلي الأعلى، والتخلص من الغرماء؛ بحيث لا أومن بوجود غريم ومنافس لي سوى باسم فرات ذاته، الذي هو شيخي ومعلمي وَمَثَلي الأعلى الذي أعمل طوال الوقت على تجاوزه والإتيان بأحسن مما أتى به.
تتبّعت شعراء العصر الأموي وبالذات الأربعة الكبار فيه وهم: الفرزدق والأخطل وجرير وعمر بن أبي ربيعة، وكنتُ أرى أن لكل واحد مميزاته التي لا يمكن نكرانها فلم أقع في شرك التفضيل، هم كبار ولهم منجزهم الذي صمد حتى يومنا هذا، وهم من مفاخر العربية. وكان تتبعي للعصر الأموي شِعريًّا، لا يخلو من تساؤلات عن سبب دور البصرة والكوفة الذي ينافس دور دمشق العاصمة، وزادت تساؤلاتي حين قرأت أدب العصر العباسي وكيف كانت بغداد هي اللولب والمحرك للثقافة العربية بجناحين عراقيين هما البصرة والكوفة، هذه التساؤلات التي أعادتني إلى التفكر في دور الحيرة الثقافي والذي لا يمكن مقارنته بدور عاصمة الغساسنة الغائب أمام سطوة الحيرة كما غاب دور دمشق والحواضر المجاورة لها أمام سطوة البصرة والكوفة في العصر الأموي ثم هيمنة بغداد، لكني احتجتُ إلى عشرين سنة كي أجد الإجابة على هذه التساؤلات.
شدّني أبو نواس كثيرًا، وكانت حياته مع شعره ومصادر معرفته حافزًا لي، توقّفتُ أمام جملته "حفظت لستين شاعرة فكيف الرجال" وتعلمتُ منه ومن المتنبي والمعري، أن الشعرَ ليس حفظ قصائد، إنما هو معرفة وثقافة موسوعية وتجربة وانصراف تامٌّ للشعر، وأن الصعكلة تكون بالقصيدة وليس اجتماعيًّا، ومازلتُ أعتقد أن تجديده في الشعر العربي يضعه على رأس قائمة شعراء العربية. إن انتماء شعره للمدينة قرّبه من ذائقتي أنا المفتون بالمدينة، ابنها المنغمس بثقافتها، والمتمرد على الكثير من الأنماط الثقافية والاجتماعية والتقاليد الفجّة التي حسبوها عقائد. رأيت الفرق بين شعر أبي نؤاس ومَن سبقه، أنه كان مدينيًّا، فقصيدته ابنة بغداد وتتبغدد، عكس شعراء كثيرين سبقوه وعاصروه بل وجاءوا بعده، تشعر أنهم يستعيرون بيئة مفترضة، كرّسها هؤلاء مع مَن دوّن في البدايات ليخلق لنا سردية مكتوبة بلغتنا ومن خلال العقيدة الدينية، هذه البيئة المفترضة حوّلت العرب الذين عرفوا الكتابة قبل الإسلام بأكثر من 1200 سنة، وهي أُس الأُسس في المدَنِيّة، وتميزوا بعمارة أصيلة وأنشئوا المدن منذ الألف الأول قبل الميلاد- حوّلتهم إلى بدو أعراب يجوبون الصحارى جياعًا، أي رمي الأغلبية العظمى من العرب بما امتازت به أقلية منهم، ومحو منجزهم التاريخي المهم في المنطقة، لأن تفاعلهم الحضاري مع شعوب المنطقة وسكانها توّجوه بعقيدة غيّرت معالم التاريخ ووضعوا كل مستلزمات الحضارة، فنهضت المنطقة كلها نهضة شاملة بفضلهم وبفضل تسامحهم وتعاونهم الفذ مع الجميع.
حداثةُ أبي نواس علَّمتني أن أكون ابن عصري، مثلما علمتني سعةُ ثقافته أن الشاعر مثقفٌ بالضرورة، وأن ما تتناقله الألسن عنه لا يعني أنه كان جاهلاً بالفكر والتاريخ وبقية معارف زمانه، هذه الالتفاتة إلى مصادره المعرفية، رحتُ أطبّقها على بقية الشعراء، فالمتنبي مثقف عصره بلا شكّ، وموهبته المدهشة، ما كان لها أن تُخلّده لو لم يسعفها بما أسمّيه بضلعي الإبداع الآخرَيْن، حيث مثلث الإبداع هو الموهبة والتي ربما أقل أهمية من ضلعيه الباقيين، وهما الثقافة والتجربة، فكلما كثرت وتنوعت القراءات الخلاّقة، مع تجربة حياتية واسعة وثرية، تجربة معرفية حسية اجتماعية مكانية، أثمر ذلك منجزًا إبداعيًّا خلاّقًا ومُدهشًا، وهذا ما لاحظته عند أبي نواس والمتنبي والمعري.
لم أتجاوز الخامسة عشرة إلاّ وقد قرأتُ لأكثر من 150 شاعرًا من فجر الشعر العربي وحتى شموس الحداثة العربية في العصر العباسي، ثم جاءت مرحلة التعرف على الشعر الصوفي والتي تزامنت مع تعرفي على أدباء مدينتي، وبداية اقتنائي لدواوين شعراء الحداثة العربية، لكنّ ما أعتزّ به حقًا، هو أنني تتبعت الشعر العربي منذ عمرو بن قميئة وامرئ القيس وعلقمة الفحل وحتى عصرنا الحالي، لأبدأ بعدها بقراءة الشعر المترجم إلى العربية.
كان كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، كتابًا أشهد أن الطفل المراهق فيّ قد وجد فيه متعةً وأُنسًا ودهشة لا تُضاهَى في حينها، فحين قرأته وأنا بين الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمري، سحرني الرجل بأسلوبه وغزارة علمه وسوء حظه وقسوة الحياة معه، وكنتُ أعاني في تلك الفترة من سوء الحظ وقسوة الحياة، كنتُ أعمل في صناعة التحفيات النحاسية، طفل بين ماء النار والرصاص والنحاس ومواد سامة وأخرى، خطورتها تمنع- حسب القانون- الاقتراب منها لمن هم تحت سنّ السادسة عشرة، كل يوم تتعرض يدي لأكثر من جرح. وصاحب الإمتاع والمؤانسة حين استشهد بقطعة شعرية لعروة بن الورد، لم يكن عبثًا، فبيت عروة:
ذَريني للغِنَى أسعَى فإني
رأيتُ الناسَ شرّهمُ الفقيرُ

كأن الشاعر قال القطعة في أبي حيّان التوحيدي، وفي تلك الفترة شعرتُ أن المعْنِيَّ هو أنا.
أول مرة سمعتُ فيها بالجاحظ، كنت في الابتدائية، التي أعترف أنني عرفت فيها مئات الأسماء، بينما مرحلة المتوسطة (الإعدادية حسب بعض البلدان العربية) وبسبب الحرب العراقية الإيرانية، جعلتها خمس سنوات بدل الثلاثة، وهذه الفترة أنهيت قراءة الشعر العربي الحديث حتى الشعراء الشباب في حينها، أي الذين ولدوا قبل تأسيس الجمهورية العراقية 1958، وقرأت الشعر المترجم والكثير من الروايات والقصص والمسرحيات، وكتب النقد بدأت بها. أعود للجاحظ، حيث كان وصف المعلم لحادثة موته، وكيف أنه كان يقضي الليل قارئًا في دكان بائع، وأن الكتب تساقطت عليه يومًا ومات، وغيرها من القصص، جعلتْ خيال الطفل فيّ يتخيّله مرة يقضي الليل كما المتعبدين ليلاً، هؤلاء يقومون الليل رُكّعًا سُجّدًا وهذا يقضيه ناهلاً من فراديس وإغواءات الكتب، ومرة يطلب طعامًا من أمه فتقدم له طبقًا مليئًا بالكتب، ولأني لم أتناول طعام الغداء من يدِ أمي، حتى بعد انتقالي للعيش معها، بسبب طبيعة عملها، لهذا كنتُ أتَخَيَّل جدتي لأبي وهي تُقدّم لي صينية الطعام مغطاة بمنديل، وحين كنتُ أزور مكتبات خاصة أو عامة، ينهمر منظر تساقط الكتب على رأسي.
في مطلع الثمانينات صدر عن وزارة الثقافة والاعلام في بغداد كتابان هما: ديوان الحماسة لأبي تمام، حيث اشتريت من مكتبة "السعادة" في مركز مدينة كربلاء، نسختين، واحدة لي والأخرى لابن عمتي ومعلمي الأول "مُحسن"، وقد قالت لي المرحومة والدتي "مَن يقرأ هذا الكتاب يجب أن يصبحَ شاعرًا"، أجبتها جوابًا حتى هذه اللحظة غير مصدّق أنه يخرج من شخص هو أقرب للطفل منه للمراهق: "هذا لا يكفي، يجب عليّ قراءة مئات الشعراء ومئات الكتب"، أعتقد أن أمي قالت هذا الكلام لتشجيعي وربما لأنها كانت تودّ أن تراني شاعرًا. مضيتُ بالنسخة لابن عمتي وأنا جذلٌ؛ لأن هذا الشخص طالما استفدتُ من مكتبته، فأنا مَدينٌ له بالكثير، وأحببتُ أن أقدّمَ له شكرًا من نوع خاص، كما فعلت في تلك الفترة أيضًا، يوم كنت أعمل في صناعة تحفيات الزينة النحاسية (دلال ومزاهر ومرشات ماء الورد وفناجين ومباخر ....إلخ) حيث صعدت فوق سقف المعمل (وليس فوق سطح البناية) فوجدتُ كتبًا دينية كثيرة لمحمد الشيرازي فأخبرته وجاء ليتسلمها، لم أبال بالغبار الكثيف، غبار سنوات الصيف في مدينة تقع على لسان الصحراء، وغبار العمل، حيث إن طبيعة عملنا يملأ المكان غبارًا قطنيًّا يخرج من فرش تلميع التحفيات، تسلقتُ فرحًا وجلبت الكتب الممنوعة والتي لو حدث وتم تفتيشنا في حينها، لكان الإعدام مصيرنا، فمطلع الثمانينيات امتاز بقسوة وصرامة ودموية نظام صدام حسين، وكان كل مُتَدَيّن شاب مشبوهًا لدى الشرطة السرية، وقانون الإعدام لمنتسبي حزب الدعوة وبأثر رجعيّ، قد تسَبّبَ بخروقات لا تُغتفر لأبسط حقوق الإنسان.
الكتاب الثاني الذي أصدرته الوزارة هو "البرصان والعرجان والعميان والحولان" للجاحظ، كان ذلك على ما أتذكر في عام 1980 أو 1981، قرأت بعضه وأخذته أمي معها للعمل لقراءته، ولم تتمه حتى سُرقَ. لكن بقي أثر الكتاب ماثلاً في اللاوعي، وهو أن لا شيء يقف حائلاً أمام الإصرار على الإبداع والنجاح والتألق، كذلك الحسّ الإنسانيّ في طرح الجاحظ ورؤيته، واحتفائه بمن ذكر في كتابه، منتقدًا الهيثم بن عدي الذي كان كتابه انتقاصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة. قرأتُ كثيرًا للجاحظ، هذا الكاتب الموسوعي، الذي كان درسه الآخر الذي تعلمته منه، هو عدم جعل اهتماماتي محصورة في نطاق ضيق، فلم أتورط بقراءة الأدب فقط، ومازلت أتذكر حين كنتُ أحضر معارض الكتب، كيف أن شعراء المدينة الكبار في السن ممن يكتبون الشعر العمودي وأحيانًا قصيدة التفعيلة، مقتنياتهم من الكتب، أدبية خالصة، وحين تكرر المشهد أمامي مرارًا، رحت أتحدث به، أي أنني ومذ كنتُ تحت سن العشرين، وعيتُ- بفضل متابعتي للجاحظ ولآخرين أيضًا- أن القراءة يجب أن تكون موسوعية، ولا تقتصر على الأدب.
قرأتُ الشعر العربي بطريقة منهجية، هذه الطريقة نفسها استعملتها حين قرأت تاريخ العراق، فبدأت بعمرو بن قميئة، وانتهيت بالجواهري وحافظ جميل وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل وعبد الأمير الحُصيري، مرورًا بصدر الإسلام والأموي والعباسي والأندلسي حتى شعراء النهضة والمهجر، ثم بدأتُ بنازك الملائكة والسيّاب والبياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان وصلاح عبد الصبور وأدونيس وجماعة مجلة شعر وسعدي يوسف ومجموعة من شعراء الحداثة ممن ولدوا في العشرينيات والثلاثينيات، ثم جيل الستينيات، لأبدأ بعدها قراءة الشعر المترجم، ومعها بدأت قراءة غير الشعر تأخذ حيّزًا أكبر، فقرأت كتبًا دينية كثيرة، وروايات ومجاميع قصصية ومسرحيات. وفي النصف الثاني من الثمانينيات بدأت ببرنامج لقراءة النقد، فقرأت عشرات الكتب في نقد الشعر خصوصًا وفي نقد الثقافة عمومًا، الرواية والقصة والمسرحية والفن التشكيلي والسينما والمسرح وحفريات في الأسطورة والميثولوجيا والعقائد والفكر.

استوديو الفنون
في نهايات 1983 أصبحتُ شبه عاطل عن العمل، وتوفرت لي فرصة للعمل مُصوِّرًا وأنا لم أمسك كاميرا في حياتي قبل ذلك سوى مرة واحدة، حيث التقطتُ لقطة واحدة يتيمة. باشرتُ العمل في يوم الأحد الخامس من كانون الأول، وقضيت ما يقرب من خمسة أعوام في هذا المكان، الذي كان مكانًا جيدًا للقراءة وللقاء الأصدقاء، فموقعه المنزوي نتيجة تغيّرات حدثت في وسط مركز المدينة، منحه هذه الخاصية المُضرّة ماليًّا والمفيدة للشعر. فقبل مباشرتي بالعمل بسنوات بسيطة، تمّ افتتاح ساحة بين الحرمين، لتكون مكانًا للمشاة فقط، مما جعل شارع الإمام علي ثانويًّا بعد أن كان شارعًا رئيسيًّا يربط شمال المدينة حيث يقطع القادمون من بغداد هذا الشارع حتى جنوب كربلاء، ومن ثم يواصلون قيادة مركباتهم إلى مدينة النجف. فتسبَّبَ هذا في جعل المحلات- وبالذات التي تبعد عن ساحة الحرمين عدة مئات من الأمتار- أقلّ صخبًا، ليبدأ الهدوء بعد ساحة الإمام علي (فِلْكَة البلوش) وتخف حركة الناس والمرور بشكل جدّ كبير.
كنتُ أفتح المحلّ وقت الصباح وبعد التنظيف أذهب وأشتري الصحف، أقرؤها ومن ثم تبدأ رحلة القراءة مع الكتاب، وأحيانًا مجلة كالثقافة الأجنبية والأقلام والطليعة الأدبية، وغالبًا ما يزورني الأصدقاء عصرًا، وأحيانًا يوم الجمعة وفي العطل المدرسية، تكون زيارتهم في الضحى. كُنّا نتبادل القصائد والكتب ونناقش آخر ما قرأنا، والمطروح في الساحة الثقافية. هؤلاء الأصدقاء الذين بعضهم مازال في كربلاء وبعضهم تَوَزّع في منافٍ شتى، تواصلنا ليس سهلاً رغم وجود التقنيّات الحديثة، لكني أحلم أن نلتقي جميعًا في كربلاء المدينة التي نشأنا فيها وتعارفنا ولنا فيها ذكريات جميلة ورائعة، مازالت تشكّل أساسًا لتواصل غالبيتنا.
كنتُ أترَقَّب يوم الخميس بلهفة، لأن للناقد حاتم الصكر مقالاً أسبوعيًّا في جريدة الجمهورية، ومساء الخميس يكون مقاله مادة لنقاشنا حين نلتقي، والصكَر هو أحد أكثر النقّاد الذين أحببتهم، رغم إعجابي الكبير بعلي جواد الطاهر الذي مازلتُ أرى فيما قاله بخصوص الناقد الناجح هو الصواب بعينه، أي أن يكون موسوعيًّا ملمًّا بشكل جيد بجميع المعارف لكي يستطيع فكّ شفرة النص الإبداعي. ولا أنكر ما تعلمته من الآخرين وإعجابي بمنجزهم وهم كُثر، لكن يبقى لحاتم الصكَر مكانته في نفسي، وشعرت بفرح كبير مشوب بمسئولية عالية حين علمتُ من عدة أشخاص أنه أثنى على شعري، وقد وَثّقَ هذا الثناء بتناولي أكثر من مرة. أؤكّد على إعجابي بجميع النقاد الذين تعلمت منهم فترة المراهقة، وهم ممن ولد في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن ثمة خصوصية للناقد الدكتور حاتم الصكَر، أعزيها أحيانًا إلى ميلي لأسلوبه ومرة إلى أنه أكثر ناقد قرأت له مبكرًا، وأضيف إلى ذلك لقائي به وما يتحلى به من خُلق العلماء كما في تراثنا العربي حيث التواضع الجمّ والاحتفاء بكل تجربة مهما كان عمر صاحبها، مازال يتحسس لوعة الإبداع فيها ووهجه وبريقه حتى لو كان خافتًا تحت ركام ضعف الخبرة وبساطة التجربة، فهو القارئ المحترف بمهنية عالية وذائقة شاعر خسره الشعر وربحه النقد.
أول كتاب قرأته عن الشعر الحديث كان كتاب نازك الملائكة "قضايا الشعر المعاصر"، وأما الكتاب الثاني فكان "قضية الشعر الجديد" لمحمد النويهي، وقرأت لعدد كبير من النقاد ممن تناولوا الشعر قديمه وحديثه ومعاصره ومترجمه، فكان طه حسين ومحمد مندور وعلي جواد الطاهر وفاضل ثامر وعناد غزوان وكمال أبو ديب ووفيق خنسة ومحمد الجزائري وجبار عباس وعبد الجبار داود البصري وباسم عبد الحميد حمودي وياسين النصيّر وخالدة سعيد وعشرات الأسماء الأخرى التي منها مَن تخصص بالنقد ومنها مَن مارسه في فترات متقطعة كما هو حال عديد الشعراء، وفي ذات الفترة بدأت أتابع ناقدًا جديدًا كان في بداية شبابه وأنا في مراهقتي يكبرني بعشر سنوات، هو الناقد محمد صابر عبيد، وثمة نقاد آخرون بدءوا الكتابة في نهاية العقد، ولكنّ سرعة خروجي من العراق في بداية التسعينات لم تُسعف الذاكرة أن أدوّن أسماءهم هنا، ولكني أوجّه تحيتي لهم، وبالذات لمن واصل المشوار وصارت لديه عديد المنشورات، والشكر موصول إلى جميع العاملين والمحررين والمساهمين في مجلات الأقلام والطليعة الأدبية والمورد والتراث الشعبي وآفاق عربية، لما في هذه المجلات التي حصلت على مئات الأعداد القديمة منها ممن صدر في بداية الثمانينيات والسنوات التي سبقتها، من معرفة منحتني القدرة على الإحاطة بالمشهد الأدبي خصوصًا والثقافي عمومًا خلال فترة زمنية تمتد إلى ما قبل ولادتي، وكان مع هذه المجلات الكثير من المجاميع الشعرية الصادرة خلال ربع قرن قبل منتصف الثمانينيات، أي من مطلع الستينيات إن لم يكن نهاية الخمسينات.
شكلتني هذه الفترة وكانت أساسًا متينًا لي، لاحظته من خلال معرفتي لعدد كبير من الشعراء الذين لم يواصل أغلبهم، فمنهم مَن تحول للنقد كما ذكرت أعلاه بخصوص أستاذنا حاتم الصكَر، ونسبة أكبر تحولت للرواية أو القصة أو شغلتهم الصحافة ومتطلبات الحياة العائلية عن المواصلة. لكني لن أنسى الخمسمائة مجموعة شعرية التي احتوتها مكتبتي المتواضعة، تلك التي حصلت عليها من معارض الكتاب، وكان سوء التوزيع في بلدي في صالحي لأحصل على مجاميع شعرية صدرت قبل سنوات، كذلك النبش في مكتبات بيع الكتب المستعملة وفي غيرها من الأماكن. كذلك عشرات الكتب النقدية، والتي شعرتُ بعد قراءتي لها باختلاف طرأ على كتابتي في تلك الفترة، ولكنّ هضم هذه الكتب أتى أكُلَه بعد حين، هكذا رأيت ذائقتي تبتعد رويدًا رويدًا عن المألوف وتستأنس بالمختلف والمتفرد، لكن غزارة قراءاتي للتراث بقيت أساسًا يمنعني من معاداته ويريني دهشة المدهش والمميز من هذا التراث، كما في قصائد لأبي نواس والمتنبي والمعري وعشرات الشعراء الآخرين.



#باسم_فرات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عرض لكتاب ثورة العشرين: قراءة جديدة في ضوء الوثائق التاريخية ...
- قراءة في كتاب الحمس والطُّلْس والحِلَّة للباحث زكريا محمد
- بالمطر أغسل ذاكرتي
- ثلاث قصائد حب
- قراءة في كتاب ينابيع اللغة الأولى لسعيد الغانمي
- ديوان بلوغ النهر
- سُكّان أصليّون ... سكّان طارئون
- تلاميذ ُ هُندوري
- تقريظ باشو
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 7
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 6
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 5
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 4
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 3
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 2
- العراق .. الجغرافيا المغيبة1
- باسم فرات: العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي الضعيف لوقوعه ...
- المستقبلُ وهوَ يقفلُ راجعاً
- البِراق يصلُ الى هيروشيما
- أدونيس والسيد الرئيس، إشكالية المثقف والسلطة


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - باسم فرات - البدايات