أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - فيل أبيض















المزيد.....

فيل أبيض


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4573 - 2014 / 9 / 13 - 18:13
المحور: الادب والفن
    


صباح ذاك اليوم، استيقــَظـَت أميمة مبكراً على غير عادتها. أمي ما زالت نائمة وكنت أجلس في البهو أحتسي كوبا من الشاي باللبن وأتصفح الجريدة قبل الذهاب إلى العمل.
جلــَسَتْ في صمت لدقائق، ثم فجأة نهَضَتْ كمن تذكرت شيئا، وظلت تزرع الغرفة جيئة وذهابا في قلق.. نظرت لها باستغراب وتابعتها كمن يتابع حركة الكرة في مباراة تنس.. التفتت لي ثم قالت وكأنها تجيب عن سؤال أو تكمل حديثا بدأ منذ فترة:
- شقة في وسط البلد، كان في واحدة شعرها بس هو اللي باين من ورا الكرسي العريض إللي قاعدة عليه .. وبتشرب قهوة وبتسمع المزيكا دي ..قدام البلكونة المفتوحة والستارة بتتحرك
بادرتها مندهشة:
- أنهي مزيكا ؟ شقة ايه ومين هي الواحدة دي ؟؟ إيه الكلام اللي بتقوليه ده يا أميمة؟
أكمَلـَتْ كمن لم تسمعني :
- بيانو و رقْ.. مكانش في حركة.

أكمَلــَت تـُحَدِّثْ نفسها كما لو كانت لا تراني:
- المشهد ده ماتغيرش.. بس المزيكا كانت كتير.. وعمري ما سمعت صوت الدُف دا!

سألتها لأستوضح:
- دُفْ والا رقْ ؟ إنتِ مش قلتي رق !!

انتبهت والتفتت لي، ضغطت بأصابع يديها على جانبي رأسها كمن تعاني كي تتذكر،:
- مش قادرة أميّز .. كان بعيد أوي أوي.. كنت شايفاه لكن الصوت بعيد.

همست لنفسي:
- يا فتاح يا عليم.. طيب مين اللي كان بيعزف؟

ردت شاردة :
- محدش.. الست كانت لوحدها.

عاودت سؤالها وكنت أحاول أن أجد ما يربط الكلام:
- يعني الصوت كان جاي منين من راديو مثلا ؟ ومين الست دي.. تعرفيها؟

ردت متجاهلة سؤالي عن السيدة :
- مش واضح، ممكن الصوت يكون جاي من أفكارها، وكان في بيانو اسود مقفول.
وأكمَلـَتْ كمن يدافع عن نفسه:
- انا عمري في حياتي ما قفلت البيانو.. حتي لو مش بعزف لأيام.

سألتها والدهشة تعلو وجهي:
- هو أنتِ بتعرفي تعزفي عالبيانو يا أميمة ؟

أضافت متجاهلة السؤال:
- شعرها كان لونه رمادي

ثم أشارت بيدها إلى كتفها وقالت:
- قصير لحد هنا.. بس كان غزير أوي.. وناعم زي الحرير.
طويت الجريدة التي كنت أمسك بها ووضعتها جانبا وسألتها:
- طيب مافيش اي حاجة حصلت.. حد دخل .. حد خرج؟ .. أي شعورمثلا ..؟ خوف، فرحة، انزعاج أو غيره؟

قالت بحسرة :
- كان في حنين وحزن .. لأيه انا معرفش.. أنا مش عارفه المكان ولا الست.

سألتها وكأني أعطيها إجابة :
- طيب عجبتكِ المزيكا؟ يعني كنتي عاوزاها تستمر؟

لم ترد على السؤال ولكن قالت بارتياح :
- بس المزيكا شبهك انتي .. يعني فيها منك.. مؤلمة .. لكن تحبيها.
رددت همسا لنفسي :
- ماذا تعني بأن الموسيقى تشبهني .. مؤلمة ؟
- أنا مؤلمة؟
- هل المشاهد دي حصلت فعلا والا كلامها مجرد هلوسة ؟؟ أو جايز حلم !!

لم تكن تلك هي المرة الأولى التى تتحدث فيها أميمة بكلام غير مترابط .. ، لكن لم يكن لديّ الوقت الكافي يومها لأستمع إلى المزيد فقد حان وقت ذهابي للعمل .. وعلى أي الأحوال فقد تركتني هي وذهبت لتُعِدْ الشاي بعد أن توقفت عن الحديث فجأة كما بدأته.

أسئلة كثيرة دارت بخاطري طوال هذا اليوم، خمنت أنها قد تكون مريضة نفسيا وتحتاج لعلاج فلقد عاشت ظروفا لا نعرف عنها سوى القليل ولزمن طويل، ولكن إلى أن تقتنع بكونها مريضة وأنه يجب عليها مراجعة متخصص .. فعلي أن أحتمل كل ما يصدر عنها من سلوكيات غريبة.
اقترحت على أمي أن ندعوها لتقيم معنا فوافــَقـَت دون تردد ووصفتها بأنها " بنت غلبانة". بعد أن علمنا من أحد أفراد العائلة أنها تعيش وحدها بعد وفاة زوجها وأخوتها لا يسألون عنها، فتألمت لحالها، ولعنت الدنيا والظروف التي تبعد أخوة عن أختهم.

أميمة هي إبنة عمي، تزوجت بعد فترة خطوبة قصيرة لا تتجاوز الشهرين من رجل يعمل موظفا بأحد البنوك من أصول ريفية متزمت ورجعي استحوّذ عليها تماما وحبسها كما لو كانت إحدى مقتنياته، وكانت صغيرة في السابعة عشرة من عمرها ، بينما معظم بنات العائلة تزوجن بعد تخرجهن من الجامعة، ولكن عمّي والد أميمة كان رجلا محافظا وكان رأيه أن البنات مسيرهنّ للزواج.
كان هناك أمرا متداولا في وسط العائلة – سرا دون اعتراف أبويها - أنها عانت ضعفا عقليا خفيفا في طفولتها وكانت متاخرة عن ذويها في الدراسة.. ولم تستطع ان تكمل تعليمها إلا للمرحلة الاعدادية، فلم يتدخل أي من أفراد العائلة حين قرر والدها أن تتزوج في هذه السن المبكرة، بالرغم من أن الجميع كانوا متأكدين أنها لا تصلح للزواج وتحتاج لعلاج قبل التفكير في أي ارتباط.
أنا تزوجت وتطلقت بعد عام واحد ولم أكرر التجربة واخترت أن أعيش مع أسرتي، أبي الذي كان يعمل قاضيا وأمي عملت في مجال التدريس وأخي الصغير الذي تزوج ثم سافر إلى دولة الامارات بعد تخرجه مباشرة .
مات زوج أميمة بعد مرض سمعنا أنها عانت بسببه الأمرّين، ولكنها اهتمت به حتى النهاية.
سَكـَنـَتْ في شقة بوسط المدينة، زرناها مرة واحدة عقب زواجها ولم تترك تلك الزيارة في نفوسنا إنطباعا طيبا وقتها. أما الزيارة الأخيرة فكانت حين ذهبنا لنعزّيها في وفاة زوجها.. قابلناها مرات محدودة على مدى السنين في مناسبات وفيات الأسرة، وهذا ما كان يسمح به السيد عبد الحميد زوجها من تواصل مع العائلة. فكانت تمر السنون ولا نعرف عنهما شيئا. عندما كنا نسأل عمي عن أحوالها كان يجيب باقتضاب أنها في خير حال أما زوجته، فكانت تلوذ بالصمت.. فلا نلحّ بالسؤال.
عاملتها كأخت لي منذ اليوم الأول وكانت تنام في نفس الغرفة التي أنام فيها في بداية إقامتها معنا وكنا نلاحظ انها قليلة الكلام، ونعلل هذا بطبيعتها الانطوائية. بعد ذلك ندمت أني لم أخصص لها غرفة وحدها، لأنها كانت تتكلم طوال الوقت وحتى أثناء نومها وبصوت مسموع أو تصرخ، فأصحو مفزوعة لأجدها نائمة كملاك.
غرابة طباع أميمة، رغم محاولاتي التكيُّف معها إلا أنها كانت تصل لدرجة أن توقظني من نومي تحكي لي حكايات غريبة وتحدثني عن أحداث غامضة، لا أفهم معناها ولا أستطيع أن أجد ترابطا بينها، فكنت أستمع لها بنصف وعيّ وأحيانا لا أستطيع فأكمل نومي وتظل المسكينة مستيقظة طوال الليل وعيونها مفتوحة تحملق في سقف الغرفة .
قالت لي مرة أنها لو لم تروي لي ما رأته من أحداث، تتحول الكائنات داخل الرؤية إلى وحوش مفترسة بأنياب وأظافر، يطاردونها وينقضون عليها ينهشون لحمها بأظافرهم ولا يتركوها تنام إلا بعد ان تروي كل ما رأته منهم.
عندما أنهض من نومي في صباح اليوم التالي، تبدأ هي في نوم كالإغماء ولا يقلقها الضجيج الذي يصدر بسبب حركتي في الغرفة لارتداء ملابسي قبل الذهاب إلى عملي.
قدرت أن هناك مخاوف مختزنة داخل عقلها تحاصرها وعندما تتزاحم تنوء بحملها، وتسعى بكل الطرق أن تتخلص منها، وتفضي بها لشخص تثق به، وقد وقع عليَّ الاختيار.
كنت أوقظها بحرص ولا أهزها أو أقترب من جسدها كما نفعل مع البعض لننبههم، لأنها تصرخ صراخا هيستيريا إلى أن تدرك أن الذي يقف أمامها هو أنا وليس شيطانا مثلا.
في إحدى ليالي الصيف وكنا نسهر أمي وأنا وأميمة في الشرفة نأكل الحلويات ونتحدث، نطل من حين لآخر على الشارع الذي يعج بالمارة والسيارات.
نظرت لأميمة فلاحظت أنها تتململ في مقعدها الذي جاء صدفة بجوار السور مباشرة كما لو كانت قلقة من شيء ما.. فعرضت عليها ان نتبادل الأماكن، فلم تتردد ونهضت فعلا.. وفي هذه الأثناء سمعنا صوت فرامل سيارة وإحتكاك عجلاتها بالأسفلت، اندفعنا أمي وأنا لنستطلع الأمر، أما أميمة فقد قفزت في إتجاه الغرفة وجلست القرفصاء على الأرض وخبأت رأسها تماما بذراعيها وأخفت وجهها، جريت نحوها وناديت:
- أميمة .. اميمة !! مالك يا أميمة
مددت يدي أربت على ظهرها.. وجدتها ترتجف بشدة وجسدها في حالة تشنج، ثم بالت دون إرادة منها.. سقطت على جنبها فوق الأرض وهي لازالت ترتجف بعنف وتخفي رأسها بذراعيها وتبكي كالطفل.. ثم غابت عن الوعي.
التفتت نحو أمي التي أصابها الرعب أسألها كيف أتصرف، فقالت لي :
- روحي بسرعة خبطي على الدكتور إبراهيم جارنا وخليه ييجي يلحقنا.
جاء الدكتور إبراهيم مهرولا في ملابس النوم حاملا شنطة صغيرة تحتوي على أدواته، أعادها للوّعي وحقنها بدواء مهدئ وطلب منا ألا نزعجها.
سألـَنا عدة أسئلة لم نستطع الاجابة عن معظمها فاقترح علينا أن نعرضها على طبيب أمراض عصبية ونفسية.
بعد أن تحسنت قليلا ذهبت لأحضر لها ملابس نظيفة من دولابها وحين فتحته وجدت فيلا أبيض محشوا بالقطن له عينان حمراوان وسط ملابسها في وضع ظاهر، فابتسمت وهمست لنفسي:
- هتفضلي طول عمرك طفلة يا أميمة.
بعد هذه الواقعة بعدة أيام، لاحظت أمي أنها بدأت تستيقظ مبكرا.. ثم ترتدي ملابسها وتحمل حقيبة يدها، تخرج مسرعة وحين تعود عصرا، يبدو عليها الانهاك والتعب، وحين تسألها أمي:
- رايحة فين يا أميمة.
ترد مبتسمة :
- رايحة عند الجيران.
حين كنا نجلس إلى مائدة الغداء، تبدو شاردة الذهن صامتة، فأسألها لأطمن ماذل ألمّ بها:
- رحتي عند الجيران يا أميمة ؟
فتجيب بحماس:
- آه رحت
فأكمل:
- هه وشفتي مين بقى هناك؟
فتنظر في صحنها وكأنها تتطلع داخل بئر عميق ولا ترد.
عندما علمت من أمي أن الأمر أصبح يحدث تقريبا بشكل شبه يومي، ساورني القلق وأوصيت أمي أن تخبرني حين تجد أنها تستعد للخروج.
في أحد الأيلم تتبعتها دون أن تلحظني، مرت من أمام بيتها ودخلت البيت الملاصق له بعد أن ألقت التحية على البواب. رد لها التحية كما لو كان يعرفها.
حين تأكدت أنها صادقة، لم أهتم بمن تزور وفكرت أن لها جيرانا تتزاور معهم وتسعد بقضاء وقت لديهم وهو امر جيد.
فكرت أنه ربما حارس العقار يستطيع فك طلاسم اللغز ويدلــّنا عن مزيد من التفاصيل.
- طالعة عند مين حضرتك؟
فأجبته :
- طالعة ورا الست اللي دخلت دلوقتي .
فأجابني بريبة:
- الست اميمة ؟ دي ست مخها على قدّها وبتطلع تقف في الدور التالت على باب شقة فاضية.. دقايق وتنزل.. والجيران كلهم عارفينها ، إنما حضرتك مين ؟ وعاوزة مين هنا ؟
فأجبته قائله :
- أنا بنت عمها وهي قاعدة عندي ولقيتها بتيجي كتير فحبيت أطمن بتروح عند مين .. بادرته بالاجابة سريعا حتى أكتسب ثقته.
فقال بعد أن إطمئن:
- دي بقى لها سنين بتيجي من ساعة ما أبلة نجاة صاحبة الشقة عزلت، بطلت شوية لكن رجعت تاني..
فسألته :
- مين أبلة نجاة ؟
رد وعلى وجهه علامات الاندهاش لعدم معرفتي بالحكاية :
- مدرسة الموسيقى اللي كانت ساكنة هنا، من ساعة الحادثة بتاعت حسام وهي بعيد عنك جالها زي ما تقولي لوّثة وبقت مش عاوزة تسيب أبلة نجاة وكانت بتخدمها وبتقعد معاها.. ولما عزلت وراحت سكنت مع والدتها بقت الست أميمة بتيجي تقف عالباب.. وتسند راسها كأنها سامعة صوت جوة الشقة، الجيران شافوها كتير وما حدش بيضايق منها.
لمحت ساقيها تهبط على السلالم فوضعت في يد البواب خمسة جنيهات وتركته بسرعة قبل أن تلمحني ووقفت على مقربة، فوجدتها تخرج من باب العمارة دون ان تلقي عليه التحية وهو يشيعها ببصره ثم عاد لمقعده ثانية.

في طريق العودة، ظلت تمشي شاردة لساعات، وتحدث نفسها وكأن هناك طفل يمشي بجوارها، تبينت هذا حين انحنت كمن تنصت له وتشير له أن تحمله، وبالفعل أتت بحركة كأنها ترفع طفلا من فوق الأرض.. توقفت عند كشك لبيع الحلويات واشترت لفافة من البسكويت وفتحتها، فظننت أنها جاعت ولكنها تناولت قطعة ومدت يدها تعطيها للطفل أو لمن تتخيل أنها تحمله.
تأملتها طويلا من بعيد وقلبي يعتصره الحزن و عقلي يلفه الغموض وآلاف الأسئلة:
- هل أميمة مجنونة ؟ إزاي ممكن أساعدها ؟ أروح بيها لدكتور؟
- كنا بنسمع حكايات كتير عن أنها كانت طفلة غريبة شوية .. لكن عمِّي ومراته عمرهم ما اعترفوا أنها مش طبيعية أو محتاجة مساعدة طبية.
- لما كانت مرات عمي بتطلب مني أساعدها في دروسها، كنت باندهش من استيعابها، لكن للأسف ما كانتش بتركز ومستحيل تمسك كتاب أو تقعد على مكتب، وكانت عصبية كمان وأحيانا عنيفة. وقتها قلت لمرات عمِّي أميمة محتاجة مدرس من نوع خاص.. لأن في عندها مشكلة في التركيز. لكن ما قدرتش تقنع عمي أو "هولاكو" زي ما كان ولاده بيقولوا عليه من شدته وجفاف طبعه.
- مش يمكن خطر انها تتساب كده من غير رعاية؟ كمان أنا مش عارفة هل ممكن تعمل في نفسها حاجة ؟

عدت إلى البيت منهكة وفي تلك الليلة قررت بيني وبين نفسي أن أقوم بزيارة زوجة عمِّي طنط فوزية.
وقفت أسفل البيت الذي عاش فيه عمي وأولاده وزوجته أتأمله وأتذكر زياراتنا حين كنا صغارا بصحبة أبي وخاصة في الأعياد، هنا بهذا البيت تربت أميمة وخرجت عروسا ولكن لم تعد إليه مجددا. إصطحبت أمي التي بمجرد أن عَلِمَتْ اني سأزور طنط فوزية فما كان منها إلا أن أصرت على أن تأتي معي لتراها فمنذ وقت طويل ونحن نعلم أن صحتها تتدهور ورأت أمي أنه من الواجب الاطمئنان عليها. لم ترغب أميمة في أن تأتي معنا لتزور أمها وفضَّلت أن تبقى بالبيت، وشعرت أنا بالارتياح لذلك لأني كنت ذاهبة لأعرف مزيدا من التفاصيل عن ظروفها الحياتية وبالذات في فترة زواجها، الفترة التي انقطعت فيها عن العائلة.
حكت لنا أم أميمة الحكاية كاملة فقالت:
- بعد جواز أميمة بشوية صغيرين، فجأة جه جوزها وقابل عمك الحاج واشتكى له منها وقاله انها مش بترضى له، وبتعانده وأنه لاحظ كمان أنها بتقف تكلم نفسها .. وسأله بكل قلة حيا ... هي بنتكم مجنونة ؟!!
فردت أمي بانحياز:
- أما قليل الذوق صحيح مش يختار ألفاظه!!
فأكملت طنط فوزية دون أن تتأثر بدفاع أمي:
- قام الحاج قاله دي مراتك .. أدّبْها. وزي ما تقولي كده ( موجهة كلماتها لي ) عمِّك الحاج أخد الموضوع كرامة وخصوصا أنه ما كانش فات ولا حتى شهر على جوازها، فخاف بعدين عبد الحميد يتهوَّر ويطلقها وتبقى فضيحة .
شعرت باستفزاز وهمست لنفسي :
- ياريته كان طلقها وغار في داهية باين عليه عقــَّدها.
استرسلت طنط فوزية تحكي:
- عبد الحميد كأنه خد شيك على بياض، بدأ يضربها ويتعصَّب عليها ، وأنتي عارفة أميمة مدلـّعة وما كانتش بتخاف من حد أبدا إلا أبوها طبعا، فأصبحت تخاف من عبد الحميد وبقى ماشي معاها بأسلوب التخوِّيف. بقت من كتر الخوف بتعملها على نفسها يا ولداه وتتكسف وتجري تستخبى.
تنهــَدَتْ بعمق وأكملت:
- بقت تجيلي هنا وتعيط وتقول مش عاوزة أرجع البيت ده تاني يا ماما.. مش عاوزة أروح عند عبد الحميد، بس في يوم أبوها سمعها وهي بتشتكي، بهدلها وقال لها لو سمعتك بتقولي كده تاني هاموِّتك.. فخافت يا روحي وبطلت تشتكي.
مصمصت أمي شفتيها تعاطفا وزفرت زفرة عميقة بحزن. اعتدلت طنط فوزية في جلستها و أكملت باقي الحكاية:
- كان ليها جارة، مدرسِّة موسيقى ساكنة في البيت اللي جنبهم.. يادوب ممر ضيق بين العمارتين بتشوفها وهي قاعدة في البلكونة بتعيط...صعبت عليها ، كلمة من هنا وكلمة من هناك اتصاحبوا. وأصبحت أميمة تزورها وارتبطت بيها لأن الست كانت طيبة وحنينة عليها.
الست دي كانت ذكيَّة وفهمت على طول أن أميمة محتاجة معاملة خاصة، ولاحظت أن أميمة بتحب الموسيقى وطلبت منها تعلِمْهَا تضرب بيانو.. لكن طبعا الأبلة نجاة كانت عارفة انه ما ينفعش.. فقالت لها أعلـِّمك حاجة تانية، وخيَّرتها بين الرقْ والدُّفْ.
تذكرْت حكاية البيانو المقفول والرق والدف والسيدة ذات الشعر الرمادي التي حكتها لي أميمة منذ فترة، ثم ألحَّ عليّ سؤال لطنط فوزية:
- يعني كل الناس لاحظت يا طنط أن أميمة محتاجة معاملة خاصة إلا إنتم ؟! ليه ما عرضتوهاش على دكتور متخصص وهي طفلة ؟
ردت طنط فوزية بحرج وقالت:
- جهل يا بنتي بعيد عنك.. وعناد عمِّك الحاج.. كان يقول يعني عاوزاني أوديها لدكتور مجانين ؟ عاوزة الناس تضحك عليَّ؟
نهايته اللي حصل بعد كده عقــّد حياة أميمة أكتر وأصبحت مش طايقة العيشة ولا المرحوم جوزها ولا أنا ولا أبوها الله يرحمُه.
أبلة نجاة كان لها ابن عمره حوالي تلات سنين خلفته بعد شوقة، وأميمة زي ما إنتِ عارفة ما خلفتش وبتحب الأطفال أوي، اتعلقت بالولد وحبته وهو كمان اتعلق بيها. وكانت كل يوم تروح عند أبلة نجاة وتقعد تلعب معاه بالساعات.
شعرت أن طنط فوزية تحكي لي فيلم رعب، فقد كانت تتمهَّل عند أحداث بعينها:
- وثقت نجاة بأميمة وبدأت تترك ابنها حسام معاها وتروح تطبخ أو ترتب دولاب أو تنشر غسيل.. الولد كان عنده لعبة عبارة عن دبدوب على شكل فيل أبيض محشي بالقطن.. هو اللعبة المفضلة عنده، ولو فتشتِ في دولاب أميمة هتلاقيها محتفظة بيه.

وفي يوم مشؤوم بعيد عنكم حسام كان بيلعب وأميمة بترمي له الفيل فوقع بعيد عن إيده، وقع في البلكونة على الأرض على الحد الخارجي ، فجريِّ ناحيته علشان يجيبه .. البنت رجليها اتسمرت في الأرض وفضلت تنادي عليه وخايفة تقرب منه، خرجت أبلة نجاة من المطبخ على صوتها لكن كان الولد فلت من بين القضبان وهو بيحاول يوصل للفيل ، وقع من تالت دور ومات.
أصيبت أبلة نجاة بصدمة كبيرة بعد حادث ابنها ومع أول إمكانية تركت المنزل، وأصبح لدي أميمة شعور عميق بالذنب، لما أصاب جارتها، والقلب الحنون الوحيد المتبقي لها في هذه الدنيا والتي كانت تسعدها بان تتركها تنقر على الرق كذلك موت الطفل الذي باتت تلوم نفسها عليه في كل دقيقة وتحسب أنها أهملت في رعايته ولهذا السبب فقدته.
خرجنا أمي وأنا بعد هذه الزيارة وكل منا شاردة الذهن مع الأحزان ولم نستطع ان نتحدث كعادتنا في الطريق، دمعت عيني أمي وهي تقول :
- عمك ده منه لله ، طول عمره ظالم.. كان هيجرى ايه لو عالجها، خايف من الناس وكلام الناس !! ما يروحوا في داهية الناس . بنت غلبانة.
أخذت على عاتقي أن أعرض أميمة على طبيب أمراض نفسية ليساعدها كي تستطيع أن تبدأ حياتها من جديد.



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طريق إلى العالم الجديد
- المفرش
- زغاريد فى طابور الصباح
- صناديق فارغة بجوار الحائط
- فنجان قهوة
- تأملات في بناء عش
- إختفاء إبنة النور
- الخروج إلى النهار
- عزيزتى العزيزة
- للخلف تقدم.
- الطين ليس كالرمال
- سقوط النجمة الذهبية
- جليسة الوهم
- الرقص على الاحزان
- كائن فيسبوكى... LOL
- منافسة بدون منافس
- تعليمنا جهل وأمية
- لماذا يكره الله المرأة ..!!
- المرأة ، مواجع 8 مارس
- لدغة الاستلاكوما


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - فيل أبيض