أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي حسين يوسف - الكتابة عن تجربة المرض














المزيد.....

الكتابة عن تجربة المرض


علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)


الحوار المتمدن-العدد: 4547 - 2014 / 8 / 18 - 02:44
المحور: الادب والفن
    


ثمة احاسيس كثيرة قد لا تستطيع اللغة بشكلها المألوف التعبير عنها ، بل ان جهد اللغة لا يعدو معها الا الوصف العام ، فمثلا لو سأل الطبيب مريضا عما يعانيه من آلام ، فإنه ليس في يد المريض في هذه الحالة الا الاجابة ببضع كلمات بسيطة مثل : اشعر بشيء من النحول , او اشعر بمرارة في الفم والتعب وارتفاع درجة الحرارة والالم والغثيان والدوار وما الى ذلك ، لكن معايشة تلك الاعراض تستبطن اشياء كثيرة لا يستطيع اي مريض التعبير عنها , فنحن نجمل كل ما يعتري معدتنا ــ مثلا ــ ونختصره بتعبير واحد (آلام المعدة) على الرغم من ان هذه الالام ربما تعد بالعشرات وهي تختلف من مريض لآخر ، وكذا الحال في الاحساس بارتفاع درجة الحرارة وما يرافقها من الام ومتاعب صحية , والحال ذاته في اعراض الامراض المتشابهة مثل التشابه في اعراض مرض التيفوئيد وحمة مالطا وضربة الشمس ، او التشابه في امراض المفاصل والروماتيزم والنقرس وغيرها .
وتبقى الكتابة عن تجربة المرض في اغلب الاحوال حكرا على الادباء الشجعان الذين يمتلكون زمام اللغة والتصوير الفني وسعة الخيال , اولئك الذين لا تنكفئ اقلامهم بمجرد الاحساس بالمرض , فنحن نعرف ان كثيرا من الادباء شكلت لهم تجربة المرض حافزا قويا للإبداع والعطاء , انطلاقا من ايمانهم بأن المرض يمثل تجربة ثرة لا يمكن الدخول الى عالمها بالوصف والتحليل الا للشجعان .
وقد جربت ذلك بنفسي في عدد من الحالات التي انتابتني فيها وعكات صحية , فقد وجدت الكتابة الذاتية عن احاسيس المريض امرا ربما يبعث على الشعور بتكامل تجربتنا الحياتية , فضلا على اكتناز تلك التجارب بأمور لا توجد في حالات غيرها , فهي تتميز بالفرادة والخصوصية والصدق .
من هذا الاساس يسرد بورخيس (خورخي لويس بورخيس , كاتب أرجنتيني , ولد عام 1899 وتوفي عام 1986، يعد من أبرز كتاب القرن العشرين وهو ايضا شاعر وناقد وله عدة رسائل , وقد ترجمت اغلب كتبه الى العربية ) تجربته في العمى الذي أصاب إحدى عينه بالكامل فيما أصاب الأخرى بصورة جزئية مما جعله لا يتبين إلا اللونين الأزرق والأخضر بشيء من المعاناة .
وللمرة الأولى ينقلنا بورخيس وبصدق إلى الإحساس المرير الذي يعانيه فاقدو البصر ، ليقص لنا مشاهداته مع الألوان التي غادرته نهائيا ، والألوان التي ظلت تلازمه بعد معاناته فيقول : (( أما الأصفر فقد ظل لونا وفيا لي .... ما يزال اللون الأصفر يلازمني حتى هذا اليوم)) .
وبورخيس يستثيره وهو في عماه احد الأبيات التي كتبها شكسبير ويقول فيه : ((انظر إلى الظلمة التي يراها العميان حقا)) فيرددعليه بورخيس قائلا : ((فإذا كانت الظلمة تعني السواد فان شكسبير مخطئ)) فبورخيس يؤكد على إن الناس عامة يتوهمون بان الأعمى منغلق في عالم اسود ، والحقيقة إن الأعمى يرى عدد من الألوان دون غيرها ، فمن الألوان التي يحرم منها الأعمى اللونيين الأسود والأحمر لكنه يؤكد انه مر بتجربة وكأنة ينام في عالم من الضباب ((الضباب المائل إلى الخضرة أو الزرقة ، الليموني إلى حد ما وهو عالم العميان)) .
وبما أن الأعمى يعيش في عالم مزعج إلا انه عالم تبرز منه بعض الألوان مثل الأصفر والأزرق وقد يكون الأزرق أحيانا اخضرا ، أما اللون الأبيض فقد يختلط بالرمادي ، في حين يختفي اللون الأحمر تماما , ثم يصف بورخيس كيف تسلسل العمى إلى عينيه .
فيقول ((بدا ذلك الهبوط الليلي البطيء ، ذلك الفقدان البطيء لبصري عندما بدأت أبصر ، وقد استمر هذا الحال منذ سنة 1899 دون حدوث أي لحظات مثيرة ، فهو هبوط ليلي بطيء استمر على امتداد ما لا يزيد على الثلاثة أرباع القرن ، وفي عام 1955 حانت اللحظة المثيرة للشفقة عندما أدركت أنني افقد بصري ، بصري قارئا وبصري مؤلفاً))
وعلى الرغم من قساوة تجربة العمى إلا إن بورخيس بصر على إن الأعمى لم يفقده خياراته كلها فقد استبدل العالم المرئي بالعالم السمعي ((لم اسمح للعمى أن يفت في عضدي ... إن العمى لم يكن طاقة كبرى تقع علي ولا ينبغي النظر إليه نظرة إشفاق ، بل على انه أسلوب حياة ، أسلوب من أساليب العيش)) .
فللعمى مزاياه وفوائده ــ كما يرى بورخيس ــ فهو شخصيا مدين للظلمة التي جعلته يتعرف سماعا على لغة الانكلو سكسون وعالم الأدب الاسكندنافي والاستمتاع بالأدب الجرماني القديم المليء بالملاحم , الزاخر بالموضوعات الشيقة وحسب الأدباء العميان وجود هوميروس وتاميريس الشاعرين الاغيريقين الذين كانا أعميين وقد أنجز ميلتون الفردوس المفقود ، والفردوس المستعار عندما كان ضريرا ، فيما وهب بريسكوت الذي فقد بصره حياته لخدمة الأدب الايطالي ، ومثله غروساك الاسباني الذي قهر عماه وترك لنا قدرا من روائع النثر التي لا يضاهيها أي نثر ، أما جميس جويس الذي كان هو الآخر ضريرا فقد أنجز روايتيه يوليس وسهرة فنيغان متحديا عماه ، ولترويض قساوة تجربة العمى يذكر بورخيس تجارب أخرى لأدباء ومفكرين كبار فيذكر ديمقريطس الذي اخرج عينيه من محجريهما في أحدى الحدائق لكي لا يشغل انتباهه مشهد الحديقة ، أما اوريجين فقد عمد إلى اخصاء نفسه .
ويجد بورخيس نفسه خجلا بعد ذكر كل تلك الأسماء ، إذ انه من العبث أن يضع اسمه إزاء تلك الأسماء بحسب ما يقول ، ويخلص إلى أن العمى ليس سيئا برمته ، إذ يسهل عليه العيش معه دون كراهية فلم يشعر بالحقد يوما ما ، فقد يشعر الإنسان بان العمى هبة وليس مصيبة شاملة ، انه وسيلة أخرى من وسائل كثيرة غريبة كلها يوفرها لنا القدر والحظ .
ملاحظة : اعتمدنا على نص بورخيس الوارد في كتاب ( استنطاق النص) الذي اختار نصوصه وترجمها الدكتور محمد درويش , دار المأمون , 2012 , ص623 .



#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)       Ali_Huseein_Yousif#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حينما تنزف التراتيل انفاسه يتجذر الاسى ... قراءة في مجموعة ( ...
- الاختلاف المرْجيء بين الصوت والصمت
- من تمثلات الشعر الكربلائي المعاصر
- الشعرية العراقية المعاصرة وحساسية القراءة المطلوبة
- حينما تبوح ذاكرة البيدق باعترافاتها , قراءة في رواية من اعتر ...
- الذات في خطاب الشكل الشعري المعاصر ... قراءة في النص الشعري ...
- الكشف الشعري والنفاذ الى حقائق الاشياء ..... قراءة في نصوص ع ...
- المجاوزة الرؤيوية في الشعر ... قراءة في الاعمال الورقية للدك ...
- مشكلة السوابق واللواحق في ترجمة المصطلح
- ازمة الخطاب الموجه في الفضائيات العراقية
- غياب الإفادة من التطورات الحاسوبية لخدمة اللغة العربية
- المعجم العربي وازمة الدقة المصطلحية
- حلم ... (قصة قصيرة )
- جدل التراث والحداثة في النقد العربي ... ادونيس نموذجا
- في نقد العقل العربي التنظيري
- استقبال البنيوية عند المفكرين العرب ... قراءة في كتاب مشكلة ...
- الحداثة وما بعد الحداثة والتداخل المفاهيمي بينهما .
- الممارسة النقدية العربية ومشكلة التنظير
- من البحث عن النقد الى البحث عن الهوية المنهجية
- النقد والآيديولوجيا ... في النقد العربي المعاصر


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي حسين يوسف - الكتابة عن تجربة المرض