أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الكريم بدرخان - أثر المكوّنات الثقافية في السرد النسائي















المزيد.....

أثر المكوّنات الثقافية في السرد النسائي


عبد الكريم بدرخان

الحوار المتمدن-العدد: 4436 - 2014 / 4 / 27 - 21:31
المحور: الادب والفن
    


[ ألقيتْ هذه المحاضرة في قصر الثقافة في الشارقة يوم 27/4/2014 ]

أحبُّ في البداية أنْ أعود إلى "إنجيل النقد الأدبي" وأعني به كتاب "فن الشعر" للفيلسوف أرسطو، وكان الشعر في زمن أرسطو يشمل جميع الأجناس الأدبية، من الملحمة إلى التراجيديا إلى الكوميديا إلى الشعر الغنائي إلى الشعر التعليمي، وهنا قسّم أرسطو الشعر/ الأدب إلى ذاتي وموضوعي، ولم يكن التقسيم سوى مدخل لدراسة هذه الأجناس، أي ليس المقصود به أن هناك شعراً/ أدباً ذاتياً خالصاً، وشعراً/ أدباً موضوعياً خالصاً، فدائماً يمتزج الذاتي مع الموضوعي خلال عملية الإبداع وإنتاج النص الجديد، أما تقسيم أرسطو فهو مقاربة للنص تسهّل دراسته وفهمه.
انطلاقاً من أرسطو يمكننا القول إن هناك نصاً أدبياً يعبّر بموضوعه ودلالاته عن تجربة ذاتية، ونصاً أدبياً يعبّر بموضوعه ودلالاته عن تجربة معرفية/ ثقافية، قد يكون الأدب الذاتي أو الوجداني قريباً من قلب القارئ، وملامساً لشغاف روحه، لكن الأدب كتجربة معرفية/ ثقافية هو المحفز الأكبر لعقل القارئ، وهو الدافع الرئيس للسفر في عالم المجهول بحثاً عن الحقيقة والتساؤلات الكبرى.
وهنا عندما نتكلم عن أثر المكوّنات الثقافيّة في السرد النسائي، فإننا نقارب النصّ كتجربة معرفية/ ثقافية، أي كأدب موضوعي حسب مصطلح أرسطو، أكثر مما نقاربه كتجربة ذاتية أو وجدانية.

[ موضوع الدراسة: رواية "كوابيس بيروت" لـ غادة السمان ]

ظروف كتابة الرواية:
بدأت غادة السمان بكتابة هذه المذكرات ليلة 13 نوفمبر عام 1975 وانتهت من كتابتها في 27 فبراير عام 1976، ونشرت هذه المذكرات لأول مرة مسلسلة في إحدى المجلات اللبنانية مع أوائل عام 1976. صدرت المذكرات لأول مرة على شكل رواية عن منشورات غادة السمان في أكتوبر عام 1976 م، ومنذ ذلك الحين صدرت منه عدة طبعات.
التشكيل العام:
عرضت غادة السمان هذه المذكرات الدامية على شكل سلسلة من الكوابيس، فمثلاً كانت تبدأ كل مقطع بعنوان "كابوس1" وهكذا دواليك، وكان آخرها كابوس 197، وآخرها سمي بـ "حلم 1".
البداية:
تبدأ الرواية بالكاتبة وهي تحاول بمساعدة أخيها إخلاء منزلها من النساء والأطفال وأخذهم لمكان آمن نسبياً وبعيد عن القصف، ولكنها ما أن تعود إلى شقتها بعد عملية الإخلاء الناجحة حتى تفاجأ بأن الفندق الذي يقف أمام بيتها مباشرة قد تعرض للاحتلال من قبل المسلحين، وهنا تجد نفسها عالقةً في شقتها في قلب الأحداث وفي قلب الطلقات النارية غير مجهزة بالمواد الغذائية مع انقطاع الماء والكهرباء عنها، وتتساءل عن جدوى الأدب والشعر في هذه الحالة وتتمنّى لو أنها تعلمت بعضاً من فنون القتال للدفاع عن النفس في مواقف عصيبة كهذه !
الأحداث:
تجد الكاتبة نفسها حبيسةً في منزلها مهدّدة بالخطر الكامن على مقربة منها، بالإضافة إلى شح المواد الغذائية وغيرها. وتحتوي الرواية كذلك على عدد كبير من المشاهد الخيالية، كرحلة "السيد موت"، ومغامرتها في متجر بائع الحيوانات الأليفة، والجولة الليلة في متاجر الدمى.
النهاية:
تنتهي الرواية بمجموعة من "مشاريع الكوابيس" بالإضافة إلى الحلم الوحيد والأخير فيها، لتكتمل هذه اللوحنة الفنية الرائعة.


[ أثر المكوّنات الثقافية في رواية "كوابيس بيروت" لـ غادة السمان ]


أولاً: أثر المكونات الثقافية في وعي الزمان والمكان:
----------------------------------------------------
لم تعد الدراسات النقدية المعاصرة تنظر إلى الزمان في الإبداعات الروائية بوصفه مجرّد خلفية جامدة لا بدّ منها لأجل سيرورة الحدث، أو مجرد عنصر داخل في عملية التهيئة والإعداد لحدث مهم، بل صار ينظَر للزمان كجزء ضروري وحيوي من أجزاء البنية الأساسية للعمل الروائي، لا تقلّ أهميته عن أهمية سائر الأجزاء، حتى قيل: "إن الزمن يوشك أن يصبح بطل القصة"، وهي حقيقة تشير إلى الآفاق الإبداعية الرحبة التي يختزنها العنصر الزماني.
إن الزمن الواقعي للرواية هو بداية الحرب الأهلية اللبنانية في عامي 1975 و 1976، لكن الزمن الروائي عند غادة السمان يقع خارج عقارب الساعة، هو زمن جديد من صناعتها وتأثيثها لا يسير باطراد رتيب، بل يُسرع ويُبطئ ويقفز للمستقبل ويعود للماضي حسب تقلّباتها النفسيّة ومكوناتها الثقافية.
يبرز وعي الزمان في رواية غادة السمان من خلال مكانته الكبيرة في عملية السرد نفسها، إذ قلّما يكون الزمان سائراً على وتيرة واحدةٍ في الرواية؛ ممتداً من الماضي إلى الحاضر دونما أي تغيير في خط السرد، والغالب أنها تقوم بتفتيت الزمان باستعمال تقنيات عديدة أهمها تقنية الاسترجاع "Flash back" التي تكسر رتابة خط السرد، وتجعل إيقاعه متناغماً مع إيقاع النفس الداخلي. والملاحظ أن تقنية الاسترجاع كانت تستخدم بصورة غير مباشرة، بمعنى أن الاسترجاع كان يبدأ بعبارات مثل "إنه ليذكُر جيداً" أو "وكان ذلك يوم" أو "لا أملك إلا أن أتذكّر".
وإلى جانب تقنية الاسترجاع، أعتمدت الرواية بشكل أساسي على تقنية الحوار الداخلي أو المونولوج، وهي تقنية تتكفل بتجميد حركة الزمن لأجل السماح بإلقاء المزيد من الضوء على باطن الشخصية المتحدثة. وتشترك مع المونولوج في تجميد حركة الزمن تقنيات أخرى؛ كالحوار بين الشخوص، واللجوء الى الأحلام والكوابيس، وقطع السرد بتضمينه مجموعةً من الأساطير والحكايات الشعبية والرموز التاريخية من خلال ما يُعرف بالتناصّ.
ولكي أنهي موضوع الزمان، أقول إن وعي الكاتبة للزمن وعياً ثقافياً، مكّنَها من الخروج من الزمن الواقعي إلى الزمن الروائي، أي الانتقال من الكتابة كتجربة ذاتية إلى الكتابة كتجربة معرفية/ ثقافية.
أما المكان في رواية "كوابيس بيروت" فهو ليس مجرد خلفية للحدث أو ساحة لحصوله، بل نراه يتلوّن بلون الحدث ويعمل على استكشاف أبعاده وآفاقه المختلفة، وبتعبير آخر: المكان هو من يصنع الحدث أحياناً.
المكان الواقعي في رواية "كوابيس بيروت" هو مدينة بيروت خلال الحرب الأهلية، لكن الحرب غيّرتْ معنى المكان، ولم يعد الإنسان مقيماً في مدينة مثل غيرها من المدن، بل أصبح مقيماً في جسده الهشّ الضعيف، جسده غير القادر على حمايته من رصاصة أو قذيفة، في ساحة الحرب أصبح جسد الإنسان أوهى من بيت العنكبوت، ولم يعد العقل قادراً على حماية الجسد، بعد أن ساوت الحرب بين جميع البشر وأجسادهم الطينية، تقول السمان في الكابوس الرابع:
" أعيش في ساحة حرب ولا أملك أي سلاح.. ولا أتقن استعمال أي شيء غير هذا الجسد النحيل الراكض على الورق بين أصابعي.. تاركاً سطوره المرتجفة كآثار دماء جريح يزحف فوق حقل مزروع بالقطن الأبيض...
أين أعيش؟
يبدو أنني أسكن بيتاً من الشِعر، وسادتي محشوة بالأساطير، وغطائي مجلّدات فلسفية، وكل ثوراتي وقتلاي تحدث في حقول الأبجدية وقذائف اللغة..."
وهنا تحوّل المكان في الرواية من المدينة إلى الجسد، لكنها ككاتبة.. لا تسكن في جسدها كبقية الناس، بل تنتقل إلى مسكن ثقافيّ وهو اللغة، فهي تقول إنها تسكن بيتاً من الشِعر، تسكن في حقل اللغة، مشيرةً إلى أن جودها وجودٌ ثقافي أكثر مما هو مادي. في الكابوس رقم 50 يدور حديث بينها وبين أخيها حول موضوع مغادرة بيروت، وبينما كان الأخ يقصد بيروت عندما يتحدث عن المكان، كانت هي منساقةً وراء أفكارها ومبادئها، ومعتبرةً اللغة مكانها الوحيد والثقافة سلاحها الفريد، يقول الأخ:
" - لا مكان لنا في هذه المدينة.
- بل هي مدينتنا وسنصمد ونقاتل، كلٌّ بسلاحه...
- أما زلتِ تعتقدين أن القلم أكبر من الرصاصة!

ثانياً: أثر المكونات الثقافية في كتابة التاريخ:
-------------------------------------------
لم تقصد غادة السمان أن تكتب رواية تاريخية، فهي لم تتعمد تأريخ الأحداث وتوصيفها وتحليلها، لكن القارئ قد يثق بالمعلومة التي تقدمها له رواية لم يقصد كاتبُها أن يكتبَ التاريخ، أكثر من ثقته بالمعلومة التي يقدّمها لهُ المؤرخُ قاصداً منها توجّهاً سياسياً معيّناً.
قد يصحّ اعتبار "كوابيس بيروت" روايةً تاريخية باعتبارها مزيجاً من التاريخ والخيال، ولا يشترط في الرواية التاريخية الحدوث في الزمن الماضي، فغالباً ما تستحضر الرواية التاريخية ميلاد الأوضاع الجديدة، وتصوّر بدايةً ومساراً وقوةً دافعةً في مصيرٍ لم يتشكّل بعد. في "كوابيس بيروت" تصوّر لنا السمّان مدى الشرخ الاجتماعي الكبير بين مكونات المجتمع اللبناني، وكيف أصبح التطرّف هو الأصل، أما الاعتدال والحياد فهو الاستثناء، وتؤرخ السمان -عن غير قصد- بأن الحرب الأهلية اللبنانية بدأت كثورة، لكن الكثير من الثورات قد تتحول إلى حروب أهلية عندما تطول مدتها. ويعتبر هذا المقطع الحواري الرشيق كشهادة من السمان على الحرب التي عاصرتها، الحرب التي بدأت ثورةً دون أن يعرف معظمُنا بذلك، تقول في الكابوس 35:
" - ولكن هذه مجرد كوابيس، وليست ثورة!
- كل الثورات تولد هكذا، معمدةً بالدم، حتى ولادة الطفل لا تتمُّ إلا معمدةً بالدم!
- ولكن عدداً كبيراً من الأبرياء يموت...
- لا أحد بريء في مجتمع مجرم!
- والواقفون على الحياد؟
- لا حيادَ في مجتمع بلا عدالة، المحايدون هم المجرمون الأوائل، والأكثرية المحايدة هي الأكثرية المجرمة. إنها ترى الظلم وتعانيه، لكنها تؤثر السلامةَ الرخيصة على الكفاح الخطر النبيل".
وتعود السمان في نهاية هذا الكابوس، لتؤكد أن ما يحصل في بيروت عام 75 هو ثورة لا تختلف عن غيرها من الثورات التي قرأتها في الكتب، إلا من حيث موقعها منها، وزاوية الرؤية التي تمتلكها من كل حدث:
" كل الثورات في التاريخ كانت تبدو هكذا من الداخل، المهمُّ في الثورة هو الجيل الذي سيحصدها، لا بدّ لكل ثورة من جيل ضحية".

ثالثاً: أثر المثاقفة مع الأدب الغربي:
-----------------------------------
لا تقتصر غادة السمان في روايتها "كوابيس بيروت" على التجربة الذاتية التي عاشتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بل تستفيد من ثقافتها ومن تجارب أسلافها من الروائيين لتقدم لنا تجربةً ثقافية مميزة.
في هذه الرواية اعتمدتْ السمان على ما يُسمى "أدب المدينة الفاسدة" أو الـ "ديستوبيا"، وهي الكلمة اليونانية النقيض للـ "يوتوبيا" أو المدينة الفاضلة، تدور أحداث الديستوبيا في مجتمع فاسد أو مخيف، وتتميز غالباً بالتجرد من الإنسانية في ظل الحكومات الشمولية والحروب والكوارث وغيرها من الظروف المرتبطة بانحطاط كارثي في المجتمع.
ومن أشهر روايات الديستوبيا رواية "مزرعة الحيوانات" للكاتب البريطاني جورج أورويل الصادرة عام 1945، والتي نجد لها بصماتٍ واضحة في رواية "كوابيس بيروت لـ غادة السمان. "مزرعة الحيوانات" إسقاط على الأحداث التي سبقتْ عهد ستالين وخلاله قبل الحرب العالمية الثانية، فقد كان أورويل ناقداً للقمع السياسي في عهد ستالين. لا يعرض أورويل فساد الثورة على أيدي قادتها فحسب، بل كيف يدمر الانحراف واللامبالاة والجهل والطمع و قصر النظر أي أمل في اليوتوبيا.
يوجد في رواية "كوابيس بيروت" معادل موضوعي لمزرعة الحيوانات عند أورويل، ألا وهو "دكان بائع الحيوانات الأليفة" الذي تحدثت عنه السمان بدءاً من الكابوس العاشر، لم تكن هذه الدكان سوى لبنان خلال الحرب الأهلية، ولم يكن بائع الحيوانات سوى الزعيم السياسي أو أمير الحرب فيها، ولم تكن الحيوانات الأليفة سوى الشعب المسكين الذي يعاني من ويلات الحرب.
تصوّر السمان ببراعةٍ النفاقَ السياسي في عصرها، وتوضّح الازدواجية بين كلام الزعماء ووعودهم للشعب من جهة، وبين تهرّبهم منه وقت الحرب من جهة أخرى، تقول متحدثةً عن دكان الحيوانات الأليفة:
" تخيّلتُها داخل أقفاصها، تشتمُّ رائحة البارود والنار، وتلتقط كهاربَ الخطر، لكنها عاجزة عن الهرب، وعاجزة عن الدفاع عن نفسها، أين صاحبها الذي اعتاش من الإتجار بها ببيعها وشرائها؟... ألم يسجنها باسم تأمين العيش الكريم لها؟ ولماذا يغيب عنها مع غياب الزبائن والصفقات وقدوم الخطر؟"
وكما كان أورويل يمتلك وعياً سياسياً عميقاً لطبيعة الاتحاد السوفيتي في فترة ازدهاره، كانت السمان تمتلك وعياً عميقاً لطبيعة الحرب اللبنانية، ولدور السياسيين في إذكائها والارتزاق منها، كما تشير السمان إلى الأساليب التي يتبعها الزعيم السياسي أو أمير الحرب لضمان ولاء الشعب له، ومنها قمع الحريات وقطع الألسنة وتجويع الشعب، تقول واصفةً دكان الحيوانات:
" لا القطط تموء تماماً، ولا الكلاب تعوي جيداً، ولا العصافير تغنّي، تراه يضع دواءً مخدراً في أوعية الماء الخاصة بها؟
أم أنه لا يطعمُها بما فيه الكفاية، لتكون قويةً فتثور وتضرب رأسها بالقفص وتعضّ يد السجّان والزبون، البائع والشاري؟"
وتسهب السمّان في وصف الأساليب القمعية التي يتبعها الزعيم أو الأمير لضمان سلطته وسيادته، كالسجن والتعذيب والتجويع والقتل، تقول عن صاحب الدكان: "هو قادر على ترويضها جميعاً، خانعها وشرسها، بالتجويع والسجن والإذلال وشروط العيش الرديء، بحيث لا تقوم لها قائمة في وجه طغيانه ولا مبالاته".
وتضيف أن صاحب الدكان يجرّد الحيوان من حيوانيته، في إشارةٍ مضمرة إلى تجريد الإنسان من إنسانيته: " تم الإمساك بالقط وقص أظافره، وكان يصرخ بما تبقى له من قوة مناضلاً للإبقاء على سلاحه الطبيعي، بينما المجهول يحيط به من كل جانب".
وأخيراً، تفضح غادة السمان ظاهرة أمراء الحرب وتجارها، الذين يعيشون ويثرون على حساب دم الناس، ويسعدون لمرأى الحرب الأهلية التي تُذكي الفتنة والاقتتال بين الإخوة، لأنهم خائفون من أنْ يتحد الشعب بأكمله في مواجه الظلم والاستعباد، تقول متحدثةً عن قفص القطط:
" لاحظتُ أن بعضها جريح، ولعلّها في غمرة ضيقها بسجنها وبؤسها وسوء وضعها، تقتتل فيما بينها، وتعضُّ بعضها بعضاً، وصاحبُ الدكان يرحّبُ دونما شكّ بهذه الظاهرة، حيث يعضّ البؤساء كل منهم صاحبه، بدلاً من أنْ يهجموا جميعاً عليه هو مرةً واحدة، هو العدوّ الحقيقي".

رابعاً: أثر المثاقفة مع الأدب العربي:
-------------------------------------
في الكابوس رقم 14 يتضح اطلاع غادة السمان على مسرحية "نهر الجنون" لـ توفيق الحكيم، تلك المسرحية التي تبدأ بوجود نهر في المملكة؛ كلُّ من يشرب منه يصاب بالجنون، ويظنُّ بأنه العاقل الوحيد وغيره هم المجانين، تتسارع الأحداث مع شُرب عليّة القوم مثل الملكة وكبير الكهان ورأس الأطباء من نهر الجنون، وفي النهاية لا يبقى سوى الملك ووزيره عاقلان في مملكة المجانين، ولا يجدان خياراً أمامهما سوى أنْ يشربا من نهر الجنون أيضاً، وينضمّا إلى شعب المجانين، فما الفائدة من عقليهما في بلاد المجانين؟
تقول غادة السمان في الكابوس 14 :
" شاهدت الرجل يخرج حاملاً معه مسحوق الجنون، شاهدتُ الرجل يرمي بمسحوق الجنون في النبع الذي تشرب منه بيروت، شاهدتُ الرجل ينحني على النبع ويشرب، فتستحيل أصابعه العشر مخالبَ حيوانية، ويطول شَعره، وتسقط عنه ملابسهُ كالقشرة الجافة، ويخرج منها جسده وقد تحوّل إلى جسد غوريلا غاضبة". ثم تقول في نهاية الكابوس: "يتدفق نبع الجنون ليسقي أهل المدينة، بعضهم يشرب ولا يدري، واستيقظتُ.. وأنا لا أدري ما إذا كنتُ قد نمتُ أم لا... شربتُ أم لا..."

خامساً: أثر الموروث الديني والتاريخي:
----------------------------------------
لا شك بأن للموروث الديني حضوره الكبير في حواراتنا اليومية، وفي خطابنا الثقافي والسياسي والاجتماعي، وقد كان له حضوره الطبيعي في رواية "كوابيس بيروت"، ففي الكابوس رقم 23 تستعير السمان الحديث الشريف {خير الأمور أوسطها} لكنها تنقله من مجاله المعنوي المتعلّق بعلم الأخلاق، إلى المجال المادي المتعلّق بجغرافيا المكان، وتحديداً إلى بيتها الواقع في منتصف الشارع، تقول:
" كانت مأساتي أن بيتي يقع في منتصف الطريق تماماً بين المتقاتلين، تماماً في الوسط، تذكرت الذي قال {خير الأمور الوسط} وترحّمت عليه، لو كان يسكن بيتنا، لقال شيئاً آخر بما..."
وفي مكان آخر من الرواية، تصف تأثير الحرب على الجنس البشري، وكيف تحول الناس إلى أمواتٍ يمشون على أقدامهم، مستحضرةً قصة النبي أيوب الواردة في الموروث الديني الإسلامي واليهودي، تقول في الكابوس 46 : "حين أقف أمام المرآة، أرى النمل يخرج من فمي وأنفي وعيوني ويأكلني كما لو كنت قد متُّ منذ زمن طويل".
ومن خلال اعتماد السمان على تقنية المونولوج في معظم أجزاء الرواية، تدور حوارات بينها وبين نفسها حول ثقافة العنف وثقافة اللاعنف، وتعبّر عن حيرتها وعدم قدرتها على اختيار الموقف الأفضل، يتطوّر هذا الحوار إلى صراع بين ثقافة السلام والمسامحة وثقافة الانتقام وأخذ الثأر، وهنا تستعير كلاماً من السيد المسيح وآخرَ من شريعة حمورابي، وتتحاور مع نفسها مستعينةً بغِنى مكوناتها الثقافية:
" - من ضربكَ على خدكَ الأيمن، أدرْ له خدك الأيسر.
- بل العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم..!"
وأيضاً، كان الموروث التاريخي حاضراً في كوابيس السمان، فعندما يشتدّ القصف على بيروت، كانت تهرب من الغرف المطلّة على الشارع، وتختبئ في الممشى الذي يتوسط البيت، وكان الممشى يضمّ مكتبةً ضخمة تمتدُّ كتبُها من الأرض إلى السقف، وعندما كانت السمان ترى الموت محيطاً بها من كل الجهات، أحسّتْ بأن نهايتها ستكون شبيهةً بنهاية الجاحظ، تقول في الكابوس 35 :
" في الممشى أمامي على طول الجدار مكتبةٌ تمتد من الأرض إلى السقف، ليس الممشى آمناً بقدر ما كنت أظن. ففي حال انفجار داخل البيت قد تنهار الكتب كلها فوق وتقتلني!".
------------------------------------------------------------------------------


المراجع:
1- ويكيبيديا: الموسوعة الحرة http://www.wikipedia.com
2- غادة السمان، كوابيس بيروت، منشورات غادة السمان، بيروت 1976.
3- جورج أورويل، مزرعة الحيونات، ترجمة: رنا اسكندر، دار الفكر العربي، بيروت 2005.
4- توفيق الحكيم، المسرح المنوّع، مكتبة الآداب، القاهرة 1955.



#عبد_الكريم_بدرخان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميّات الجرح السوري (شِعر)
- المرأة بوصفها رمزاً للحرية - قراءة في مجموعة للشاعر فرج بيرق ...
- دُوَار (شِعر)
- مدينة الأحزان (شِعر)
- في مطلعِ السنة الجديدة (شِعر)
- هذا المساء (شعر)
- سلطة النموذج في العقل العربي
- حمص: الأسطورة تجدّد شبابها
- إلى شاعر معتقل
- هل كان الماغوط معارضاً للنظام؟
- هل العنف ظاهرة دينية؟
- النظام الوراثي.. من الدين إلى السياسة
- الصراع السنّي- الشيعي بديلاً عن العربي- الإسرائيلي
- (الدولة العلوية) ورقة الأسد الأخيرة
- قصيدة الأرض
- موت المؤلف والصحف العربية
- التحوّل الديمقراطي ومشكلة الأقليّات
- الدولة المدنية في الإسلام
- الإسلام السياسي والمأزق الفكري
- الشباب العربي وقتل الآباء


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الكريم بدرخان - أثر المكوّنات الثقافية في السرد النسائي