أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نهاد عبد الستار رشيد - مأزق الفرد في فنلندة كما يبدو في قصة ( ألبرج ) بقلم : يوها سبالا















المزيد.....


مأزق الفرد في فنلندة كما يبدو في قصة ( ألبرج ) بقلم : يوها سبالا


نهاد عبد الستار رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4308 - 2013 / 12 / 17 - 11:34
المحور: الادب والفن
    



مأزق الفرد في فنلندة في قصة البرج
بقلم : يوها سبالا
ترجمة نهاد عبد الستار رشيد

استغرق التطور الاخير في الادب الفنلندي أربع عقود حتى يظهر جليا. فبدلا من النثر الملحمي الطويل الذي كان شائعا-;- منذ زمن بعيد، لدينا الان رواية خيالية قصيرة غالبا-;-ما تاخذ شكل القصة القصيرة. وقد تم استئصال البيئة الريفية وطرق الحياة فيها من جذورها ليحل محلها نثر يخفق لايقاع المدينة.
وقد تغير، في الوقت نفسه، تصور الكاتب.لم يعد المؤلف الفنلندي في الوقت الحاضر هاويا-;-، بل انه في الغالب كاتب محترف مثقف ثقافة رفيعة، وله القدرة على الامساك بالعديد من حقول المعرفة الجديدة والمتنوعة. المثال الجيد لهذا النمط من المؤلفين المتغيّرين هو(يوهاسبالا) المولود في عام 1956، وتخرج في جامعة توركو، قسم الادب الفنلندي والتاريخ الثقافي. لم يسبق له ان زاول عملا-;-ثابتا-;-في مدرسة، على سبيل المثال، او في أي مكان آخر،كانت الكتابة عمله الدائم فحسب ، وهو يعمل بنظام دقيق وصارم، ولديه الكثير مما ينبغي انجازه:
كتب (سبالا) تمثيليات اذاعية عديدة، ومخطوطات افلام تلفزيونية وثلاث مجاميع قصصية، لاقت استحسانا-;-كبيرا-;-من قبل النقاد. كما انه يكتب نقدا ادبيا-;-بانتظام للعديد من الصحف، بالاضافة الى عمود اسبوعي لصحيفة الصباح Aamulehti، وهي من كبريات الصحف اليومية الفنلندية.
قفز (يوهاسبالا) للشهرة العالمية ككاتب في عام 1985 في تمثيليته الإذاعية (قصة المعلم أندرسن) Anderssonin Kertomus Lehtori، وسرعان ما قامت محطات إذاعية في العديد من دول العالم، فور اذاعتها، بالتهافت على شرائها .
نال (سبالا) جائزة(أركو) J.H. Erkko، والتي تمنح سنويا-;-لافضل عمل أدبي خلال العام، عن مجموعته القصصية الموسومة (البرج) Torni. أكد المحكمون، في تعليقاتهم، بان اعمال (سبالا) الادبية أثبتت ان القصة القصيرة التقليدية لها مستقبل باهر. اذ على الرغم من بساطتها الظاهرية، فان قصصه ناضجة ومدروسة دراسة جيدة.
جاء عنوان القصة (البرج) كصورة معبرة لزمنه، وتحليل ذكي لمأزق الفرد في فنلندة.
تدعى مجموعة (سبالا) القصصية الثالثة (الافق) Taivaanranta. وقد كانت (مجموعة بارعة للغاية)، كما وصفها النقاد. لقد تميّز عمله بكونه نثرا-;- اجتماعيا-;-معتدلا-;-: تكشف قصصه القصيرة، دون رحمه، قطاعا-;-من الواقع الفنلندي الحديث، من خلال شخصيات رسمها بذكاء ليجتذب الانتباه الى نبض وقلق ومجهولية العصر.


ألبرج

دخل الكلب أولا-;-، من خلال الباب، وحشا-;-كبيرا-;-طويل الشعر. لم يتكلم عنه أي شيء في الهاتف، ولكن من الملامح البادية على وجهه بوسعك القول ان قرار اخذ الكلب معه الى داخل الغابة كان قراره هو . سار متثاقلا-;-عبر الساحة، بجزمته المطاطية وحقيبته الظهرية على ظهره. مسك حامل آلةالتصويرالثلاثي القوائم بيد واحدة.

أسدلتُ ستائر النافذة.
"انتظري دقيقة." قال.
مشى خلف السيارات الواقفة في موقف السيارات، فوصل سيارته الخاصة وفتح صندوقها. شرع الكلب يدور حول ساقيه ويعوي برفق. أخرج شيئا-;-ما واغلق صندوق السيارة بقوة.
فتحت باب السيارة الجانبي لهما. بدلا من أن يقفز الى الداخل، إنسل-;- الكلب تحت السيارة وبدأ يعوي ويئن، محدثا-;-مزيدا-;-من الضجيج.
"حسنا-;-، حسنا-;-،" قال.
صعد بهدوء ليضع حقيبته الظهرية وحامل آلة التصوير الثلاثي القوائم على المقعد الخلفي. بعدئذ-;-، صرف ذهنه عن الباب ونزل من السيارة بمنأى عن الانظار. سحب الكلب العاوي من تحت السيارة، ورفعه من الحنجرة كما لو كان رجلا-;-. رفع الكلب عاليا-;-فوق رأسه وقذفه فجأة على الاسفلت. إرتد دوي نباح شديد من جدران مبان-;-مؤلفة من عدة وحدات سكنية.
ظل وجهه خاليا-;-من كل تعبير تماما-;-. وقف، على الشرفة الدنيا للمبنى الاقرب، شيخ كبير واضعا-;-يديه في جيبيه. إنه ابوه. لم يبد منه أي رد فعل البتة.
عندما فتح الباب ثانية، قعّر الكلب، المنبطح على الارض، ظهره واندفع الى الامام ليصعد طواعية الى أرضية السيارة وانبطح.
جلس بجانبي، بعد ان أغلق الباب بقوة، وراح يحدّق من النافذة الى الفناء." نحن نغادر" قال.
انطلقنا بالسيارة خلال القرية بصمت. كان أمرا-;-سيئا-;-بالنسبة لي ان أرتبط به الان، باية طريقة كانت، إذ لم يمض سوى بضعة أسابيع على اتخاذ طلاقه من (ماريوت) الصفة الرسمية . لقد قال (اركي)، مع ذلك، انه على الرغم من أي شيء، سوف يكون امرا-;-لائقا-;-ومهذبا-;-من قبلي ان ادعوه لمرافقتي كمصور. قال بان الأمر سوف لا يعود على (توبي) الأ بالخير. صرف النظر عن ذلك العمل برمته. لاطف الكلب الذي لعق يديه بلسانه المبتل. لوى رأسه وضغطه، وسمح الكلب له بذلك كالحمل الوديع.
"هل حطمت راسك؟" قال بحنان.
نظر الكلب اليه بعينين طارفتين نصف مفتوحتين.
"يحاول دائما-;-ان يجرب حظه. يا لراسه الصلب اللعين! "
حاولت ان أضحك قليلا-;-.
"ما صنف هذه السلالة؟ "
"انه كلب صيد من نوع رانوا، او من سلالة ذات شأن. من لابلاند. كلب صيد رنّهّ مهجّن. جلبته الى هلسنكي في الصيف قبل الاخير.
"كجرو-;- صغير؟ "
"نعم، قررت المحكمة عائديته لي."
نظرتُ اليه. لم يكن مبتسما-;-.
" نعم،" قلت.
كان الجو ملائما-;-تماما-;-، غائما-;-جزئيا-;-ومصحوبا-;-بنسيم بارد. وهكذا، توجّب علينا معالجة مسألة البعوض.
إنطلقت بالسيارة بسرعة ثابتة أسفل الطريق المبلطة. أردت الخروج من السيارة بسرعة ودخول الغابة. " هل جئتَ بالامس؟ " سألت.
" عند منتصف الليل تقريبا-;-. حالة من الاضطراب جرّاء العدد الهائل من الشاحنات."
لم أره منذ عام ونصف. أصبح بدينا-;-، ولكن ليس من الشراب. فهو ليس من ذلك النمط.
انعطفت الى الطريق المؤدية الى المتنزه الوطني. بدأت المنطقة التابعة له بالظهور فورا-;-. كانت هناك، على جانب الطريق، مربوطة الى عمود غليظ، علامة علّق أحدهم عليها حقيبة بلاستيكة قذرة. إنحدرت حافة الطريق إنحدارا-;-شديدا-;-على جانبي الطريق الضيقة المفروشة بالحصباء. كنا نقود السيارة ببطء على امتداد الطريق وننظر الى ما حولنا.
" عم-;- تبحثين ؟ " سأل.
انتظرتُ.
" أية صور، ما نوعها؟ " كان صوته متوترا-;-.
" كبيرة وصغيرة. إستعراضات واشياء رقيقة وحساسة، وقفزات لبعض الحيوانات. عناصر الطبيعة كلها مجتمعة: الغابة، البحيرة، المتستنقع. قضم شفته.
ال
الأفكار التقليدية التي يريدها قراء المجلة، أليس كذلك؟ "
" فهمتَ القصد. "
يمكنك ان تشاهد، بين جذوع اشجار الصنوبر على جانبي الطريق المياه والبرك الصغيرة. بالرغم من بقاء الكلب تحت طوال الوقت، فقد بدأ ينتابه القلق.
" هل كنتَ هنا؟ "
" مرة. " نقر على النافذة بسبابته." لنحصل على خريطة من محطة الحراسة تلك. "
واصلنا السير في السيارة لبضعة كيلومترات اخر. كانت هناك ثمة برك تنضح على امتداد جانب الطريق.
توجد سيارتان واقفتان في باحة وقوف السيارات. خرج الكلب وراح يقفز هنا وهناك بانفعال، حتى وثقه بالرسن. ابقيت السيطرة عليه فيما كان هو يقوم بتنظيم آلة التصوير وإعدادها.
كانت المحطة منزلا قديما لاسرة داخل الاحراج او منزل مزارع مستأجر. اهملتْ الحديقة فأقفرت. كان هناك عدد وفير من أشجار التفاح الكثير العُقد التي جفّت منتصبة، وأزهرت كروم بيض في الساحة، وانتصبت شجرة بتولا ضخمة في الوسط.
قرأنا قواعد المتنزه الوطني من على جدار المبنى الملحق ودرسنا طرق التنزه الطويلة سيرا-;-على الاقدام، التي كانت مرسومة بخطوط مميزة على خريطة كبيرة. كان الكلب يندفع في كل الاتجاهات ويحاول ان يستشم على أساسيات المبنى الملحق.
" صور ؟ " سأل وهو يشير الى المبنى الرئيسي الطويل.
" نعم، لم لا ؟ " قلت.
ذهب ووقف على بعد قرابة عشرين مترا-;-من المنزل وشرع ينصب حامل آلة التصوير الثلاثي القوائم. ثم ادار آلة التصوير لولبيا-;- لتثبيتها. كان يرفع رأسه مرة ويحني جسمه مرة اخرى، لمدة طويلة، وهو يحاول التحديق خلال العدسة بعينين نصف مغمضتين.
اقتربتُ. كان الكلب، بعد ان نفد صبره، يقذف راسه من جانب الى اخر مطلقا-;-انينا-;-واهنا-;-.
ما ان رفع عتلة حتى بدأت آلة التصوير تطلق طنينا-;-. التقطت جميع الصور وحدها.
التقطنا، في الغرفة الرئيسة الواسعة لبيت المزرعة، بعض الصور الداخلية للغرفة واشترينا خريطة.
" نحن لانعتزم القيام برحلة حقيقية للبرية تنطوي على مصاعب ، أليس كذلك؟ " قال، فيما كنا في طريقنا الى السيارة.
" لا أعتقد ذلك. "
لدى العودة الى السيارة، تفحصنا الخريطة واخترنا ثلاثة كيلومترات تقريبا-;-من ممر طبيعي في طريق وعرة ومتمعجة عبر غابة المتنزه الشهيرة، الموغلة في القدم.
كانت مقدمة الممر تبعد بضعة كيلومترات. صعد الكلب، في هذه الاثناء، داخل السيارة ولم يطلق أنينا-;- في أثناء مدة القيادة.
" هل بدأت عطلتك ؟ "
" ثلاثة اسابيع. "
جلس صامتا-;-بجانبي وحدّق الى الطريق بلا مبالاة.
" الطقس جيد، " قلتُ.
" ليس سيئا-;-، " قال.
خرجت ورحت القي نظرة على الصخور وعلى مواضع جدع الاشجار قبل ارجاع السيارة الى الوراء داخل الغابة. اطلق سراح الكلب.
بدأ رحلته وهو يتقدمني أسفل الممر واضعا-;- حامل آلة التصوير على كتفه. مضى الكلب أولا، وكان يتوقف بين الحين والاخر لينظر الى الوراء.
كان الممر يرتفع وينخفض مع ارتفاع وانخفاض حافة الطريق، التي تم تأشيرها باشرطة برتقالية اللون. كانت هناك، في أماكن مختلفة من جانب الممر لوحات تم-;- تغليفها بالسيلوفين لوقايتها، تحمل معلومات عن الحياة النباتية في الغابة.
نضح العرق بسهولة وجاء معه البعوض. أشجار الصنوبر المعمرة، التي تبلغ من العمر مئات السنين، ظلّلت الممر على إمتداده. كانت الشمس ،على بعض الروابي الجرداء فقط، تبهر عيوننا حقا-;-.
كانت الغابة حافلة بجذال الاشجار ذات المتر سمكاً، منتصبة-;- وطريحة الارض. كانت تبدو، بأغصانها الملتفّة في كل الاتجاهات، كنُصب تذكارية مثيرة للشجون.
كان حامل آلة التصوير يتأرجح بشكل ايقاعي على كتفه. هناك ثمة تصميم ملتهب لهذه المسيرة ذات الخطى الواسعة، وكنا نسير بسرعة جعلتني ألهث في المنحدرات الاكثر سوءاً. كان الكلب يركض في المقدمة لاهثاً، دالعاً لسانه.
توقف على نحو مفاجيء، حتى كدتُ أصطدم به. غرز قوائم حامل آلة التصوير في الارض ونظر الى فوق. انه جذع صنوبر ضخم جداً تجاه سماء زرقاء ساطعة.
" إذا كانت هناك ثمة افكار تقليدية، فهي هذه،" قال.
التقط لها عدداً كثيراً من الصور، وهو يضرب البعوض الملتف حوله بعنف ويشتم. جلس الكلب على مقربة منه وانتظر. كانت الرياح تعصف فوق الرؤوس عند قمم الاشجار لكنها لم تصل الى الاسفل داخل الغابة.
واصلنا السير مشياً، ولاحظت أنه هو أيضاً كان مقطوع الانفاس ويتصبب عرقاً.
" لقد انهكت قواي،" قال . " لم اعد فتى كشافاً بعد الان." قال
احتاج الكلب شيئاً ما يشربه ولكن ليس هناك ماء ضمن مدى البصر. كانت السيارة ساخنة، وفاسدة الهواء في الداخل. أمضينا مدة طويلة، بعد ان بدأت رحلتنا، في ضرب البعوض الذي كان يتجمع في الداخل عند فتح الابواب.
كانت طريق الغابة تسير متلوّية عبر أشجار صنوبرية منتصبة. القيادة المنفردة تجعلك تشعر بصفاء الذهن وارتياح الاعصاب الى حد ما.
لقد قضى مدة طويلة مع (مارجوت)، كانا متزوجين، من دون شك، لمدة سبع سنين. كانت امرأة سمراء وثدياء. لم يعد (توبي) يداعب ثدييها عصراً بعد الان.
نشر الخريطة على ركبتيه وراح يدرسها بامعان. اقحم الكلب انفه تحتها." على مقربة من هذا المكان، الى جهة اليمين، يوجد مستنقع كبير. "
" لطيف. "
كان يتعين علينا ان نشق طريقنا بجهد جهيد اسفل تلك الطريق لمدة لايعلمها الا الله. لم يعد للزمان والمكان أي معنى، فلا وجود لهما هنا. لايوجد هنا سوى جذوع الصنوبر تتوهج في ضوء الشمس، وهذه المسافة الطويلة الضيقة المصفر-;-ة من الطريق، التي اجتذبتنا قدماً. كانت عينا الكلب مغمضتين.
" هنا، " قال، وهو ينهض من مقعده ويحدّق باتجاه اليمين الى داخل الغابة. رفع الكلب رأسه، في الحال، وأتلع أذنيه. كان هناك، على جانب الطريق، مساحة طويلة وضيّقة من اشجار الصنوبر المعوّقة النمو. ظهر المستنقع للعيان وراءها.
انا ايضاً، لبست جزمتي سحباً. اقحم يده داخل حقيبته الظهرية وأخرج آلة تصوير اخرى. كان الكلب في طريقه الان.
" حتى العجلة السننة الملعونة كادت تنفصل في يدي، " قال. ربط حامل آلة التصوير على كتفه باحكام وبدأ رحلته خلف الكلب بسرعة. لحقت بهما عند حافة المستنقع. وقفنا هناك بهدوء ورحنا نتطلع. كان المستنقع أشبه ببحيرة بيضاء واسعة وسط الغابة، وقد غطتها باقات من ازهار القطن البيضاء من احدى حافاتها الى الحافة الاخرى، وهي تتلاطم برفق كالموج تماماً. هناك، على مقربة من وسط المستنقع، بضع اكمات صغيرات، تشبه الجزر، نمت عليها بضع شجيرات ملتوية الاغصان. كانت السماء الصاحية عالية فوقنا.
" لو كان بوسع المرء المجيء الى هنا للاقامة، " قال بحماسة.
" صحيح. "
وشرع ينصب معداته. " من الصعب تنصيبها على ارض سبخة، لذا كان يتعين علينا الرجوع الى الوراء قليلاً. "
" وجزمتي، اخذ الماء يتسرب الى داخلها، " قال مكشراً.
جلس الكلب بقربه، وقد امال رأسه الى احد الجانبين، وكأنه يريد التقاط صورة له.
عدنا الى السيارة.
وعلى امتداد المستنقع ذهبا رافعين جزمهما. " قلتُ.
" ماذا قلت-;-؟ "
" لاشيء. "
لدى العودة الى داخل السيارة، شعرنا بوطأة الخدر الثقيلة علينا. أحسستُ ان كلينا كان يرغب في التفرد الان، في أن يختلي مع نفسه.
قدتُ السيارة الى الامام ببطء. أمال رقبته الى الخلف ليدع رأسه يتكىء، وابقى عينيه مغمضتين.
" هل لديك ما آكله؟ " سألتُ.
" قليل، " أجاب، وكان النوم قد انساب الى نصف جسمه الان.
" لدي قهوة. "
" الى جهنم، " قال بطريقة آلمتني قليلا-;-.
ثم فتح عينيه وانتصب جالسا-;-.
" قودي السيارة الى هناك، " قال بطريقة عمليه.
توجد شقة ارض ضيقة وصغيرة بين بركتين يمكن ان تكون مصدر الهام لناظمي الاناشيد الرعوية. هناك مكان واسع وضع عليه اشارة (P) . لا توجد مناضد او كراس-;-.
غيرت جزمتي المطاطية وعدت لارتدي حذائي الخفيف. اخذتُ حقيبتي من تحت المقعد وتوقعته يفعل الشيء نفسه. لكنه ترك حقيبته في السيارة. بينما كنا نتمشى على الجسر الخشبي، رأيتُ بسكويتتين رقيقتين مضغوطتين في يده. جلسنا على الضفة، سلّمته كوزا-;- من القهوة بيده، فاخذه من دون ان يشكرني. راح الكلب يشرب الماء الاسود من البركة بشراهة. تناولنا غدائنا، ونحن ننظر بصمت الى سطح الماء عند الشاطيء المقابل الذي برز مثل جدار مرتفع خلفه، والى صغار البط ذوات العيون الذهبية في وسط البركة. اختفت البطيطات تحت الماء لمدة طويلة ثم صعدت من جديد في مكان مختلف تماما-;-.
أعطيت الكلب شيئا-;-سائغا-;- من الكعكة، لكنه شمّها شمة-;- واحدة وتركها.
" ملعون يتجوّد في مطعمه، " قال.
يبدو انه اكبرسنا-;-ايضا-;-. لم يكن يعرف، في الواقع، ما يتعين عليه ان يفعله او يقوله بعد انتهائه من اكل البسكويتتين الهشتين، ولاحتى انا.
التقط قضيبا-;- صغيرا-;- واقحمه داخل الارض الرخوة. كان (اركي) قد ذكر بان (مريوت) وجدت نموذجا-;- تخطيطيا-;- لتفصيل الياقه والرباط. هذا كل ما كان يعرفه او، على اية حال، ما كان يرغب في قوله.
" هل يمكننا الحصول على لقطات مائية هنا ؟ " لمحّتُ.
" لم-;- لا ؟ " قال، بنبرة غير متحمسة.
انتظرتُ على الضفة فيما كانا يذهبان للحصول على العجلة المسنّنة لالة التصوير. كان الكلب يسير بمثل سيره البطيء المتكاسل. أدار العدسات حول المحور على امتداد الشاطيء لمدة قصيرة ثم ثبّت آلة التصوير لولبيا-;- على المحور. التقط صورا-;- لثلاثة او اربعة مواقع مختلفة.
" واستمرت الرحلة ، وما زالت الضجّة ترن، " قال.
عندما نظر الى الخريطة مجددا-;-، انتابه قدر ضئيل من الشعور بالبهجة. اصر-;- أن نقوم بزيارة قصيرة لمخيّم قديم لقاطعي الاشجار الذي كان يبعد كيلومترين عن الطريق.
" يمكننا الوصول الى هناك بالسيارة، " قال.
كان المبنى كبيرا، تمّ تشييده من زنود الخشب في وقت ما قبل الحرب. هناك العديد من قشور البرتقال منثورة حول الفناء. تطلّع اليه لمدة طويلة من جوانب عديدة ثم مضى، بكامل عدّته، الى حافة الحجرة مباشرة. كان يشعر الان، ولاول مرة ، بالمتعة حقا-;- لما يلتقطه من صور. بنظرة مركزة، راح يعّدل ويركز آلة التصوير مرة بعد اخرى على الرؤوس المستديرة لزنود الخشب الاخيرة للحجرة.
" ساعديني. هذا لايتلاءم مع موضوع المقالة. نقلنا السُلّم الخشبي الثقيل، سوية، الى مكان أبعد من جدار المبنى. أخذ يركز النظر قي المرقب، مرة اخرى، على نهايات زنود الخشب وترك آلة التصوير تلتقط صورا-;- لها.
" صغيرة وحساسة، " قال.
بدا مسرورا-;-. أرجعنا السُلّم الى مكانه. نظر الى المبنى مرة اخرى لمدة قصيرة قبل الصعود الى السيارة. بدا الكلب مضطربا-;-.
" هل أنهيت لقطتك ؟ " سألت فيما كنا ننصرف.
" ظلت بعض الصور التي تشكل خلفية العمل. سوف التقط، ونحن في طريقنا، بعض الصور عن برج المراقبة.
عندما وصلنا الى الطريق الواسعة، قدتُ السيارة بسرعة أكبر قليلا-;-. عند الاقتراب من الطريق السريع، أصبح حرف الطريق اكثر ضيقا-;- وأشد انحدارا-;- مرة اخرى، مما كان عليه عند قدومنا.
طوى الخريطة، وضعها في غلافها البلاستيكي المالوف وفي داخل حقيبة الظهر. مسّد الكلب وتحدث اليه، كما يتحدث مع طفل. رأيت البرج على مبعدة من الطريق. كان على ارتفاع خمسة وعشرين مترا-;- تقريبا-;-، خشبي البناء، رمادي اللون مثل عُثّة الملابس، كان اعلى ارتفاعا-;- من اطول اشجار الصنوبر.
أوقفتُ السيارة على أرض بور صلبة. قفز الكلب خارج السيارة ورفع بصره، وراح يُحدث صريرا-;- ذا طبقة صوتية عالية في حنجرته. كانت الرياح تعصف بعنف على القمة، والاشجار تنحني من جانب الى اخر، وكانت منصة البرج تبدو في حركة واضحة. وقفنا هناك ونظرنا الى البرج. لم يكن لديه سوى آلة التصوير في يده.
" أيها المسيح، أتظن التسلق الى هناك مستحيلا-;- ؟ "
" قلت شيئا-;- عن البانوراما. "
سحب سحّابة سترته القتالية الى حنجرته طول الطريق. دس-;- آلة التصوير في جيب سترته الايمن. لم يتكلم ببنت شفه. مضى ووقف بجانب السلّم الخشبي، الذي كان مثبتا-;- على البناء، وبكلتا اليدين، راح يمسك باحكام درجة السلّم عند مستوى النظر. بدا صاعدا-;- بثبات.
" كن حذرا-;-. "
كان هناك، على جانب يده اليمنى، سياج او مسند لليدين، ولولاه لكانت الطريق كلها صعودا-;- مباشرا-;- الى القمة.
اخذ الكلب يعوي بنبرة اشد فيما بدأ هو يتسلق. راح يتسلق مترين او ثلاثة في كل مرة ثم ينتظر قليلا-;-. بدأ الخشب الجاف يصرّ. وقفتُ عند الحافة السفلى للبرج ومؤخرة رأسي ملصقة على رقبتي.
كانت الرياح تحافظ على زيادة سرعة هبوبها. في منتصف الطريق، نظر الى الارض تحته. بدا الان صغيرا-;- تماما-;-. كان يحمل في داخله تعبيرا-;- باطنيا-;- مركزا-;-. بدت عيناه كأنهما تعودان لشخص آخر. استراح الكلب على عجزه، وذيله على الارض، وراح يطلق بين حين وآخر عواء-;- حزينا-;-. بدا الان يتسلق بضع درجات فقط في كل مرة.
الرياح العاصفة نفشت شعره، وضربت البرج وقمم الاشجار كأنها يدان ضخمتان خفيتان حاولتا اقتلاع قمة الشقه المرتفعة المتطاولة من الارض. أخذ البرج يتارجح بكامله ويطلق صريرا-;-. شعرتُ فجأة بانه قد ينهار على رأسي. سحبت نفسي الى الخلف بضعة أمتار واتكأتُ على شجرة. ألقى الكلب عليّ نظرة عجلى الآ أنه واصل عواءه الكريه المرعب فورا-;-.
كان عند القمة تقريبا-;-، عاليا-;- لدرجة يبدو وكأن بميسوره الآن ان يُحدثَ فتحة في السماء وحالما يمدّ ذراعه يستطيع التقدم خلالها. استلقى على المنصة. سقطت قطع خشبية صغيرة من الاشجار الى الارض واخذت الرياح تعصف بها فتطايرت هنا وهناك. خطوتُ خطوة او خطوتين باتجاه السيارة رأيته مستلقيا-;- على الجنب على حافة المنصة. كانت آلة التصوير امامه. بيده اليسرى، مسك المنصة بقوة. من الجائز انه كان يلتقط صورا-;-، الى مكان ما باتجاه الغرب حيث تومض المياه والغابات النائية.
نهض على ركبتيه بتردد ثم وقف في ذلك المكان، ماسكا-;- السياج باحكام. هناك صوت تكسّر مرتفع وطارت لوحة خشبية بكاملها بعيدا-;- الى تحت نحو واد-;- ضيّق صغير شديد الانحدار.
" كفى، " صرختُ احتجاجا-;- باعلى ما أستطيع، الا ان صراخي تطاير ادراج الرياح.
صرخ الكلب وعوى ونبح كما لو كان متأهبا-;- لمهاجمة شيء ما.
وقف باستقامه بكامل طوله، وبكامل وزن جسمه راح يهزّ المنصة. عصفت الريح بعنف على شعره وطيّة سترته حتى انه بدا مثل حشرة تناضل في شرك العنكبوت او مثل شبح.
" جحيم داعرة، جحيم داعرة، جحيم داعرة، " صرخ على ايقاع تواتر تارجحه.
لم أعد أعرفه بعد الان. إزداد هيجان الكلب. كانت قطع صغيرة من أغصان الاشجار الجافة تنهمر كالمطر على الارض طوال الوقت فيما واصل تذمره صارخا-;- ومستر سلا-;- في السباب على قمة البرج.
نظرت فيما حولي. ذعر مفاجيء هدّد باكتساحي، لكنني ادركت ان لاطائل في الصراخ طلبا-;- للنجدة. انتاب مؤخرة رقبتي ألم متواصل.
" ... الجحيم ... " انساقت برفق الى الارض لتغمر الغابة الواسعة. بعدئذ، على المرتفع فوقنا، أصبح كل شيء هادئا-;-.
جلستُ بوهن على الارض. واصل الكلب نباحه. لم أتابع نزوله. لا بل انني لا أعرف كم إستغرق من الوقت.
فاذا بجزمته السوداء أمامي. قفز الكلب نحوه. عانقه ولاعبه لمدة طويلة، وتحدث معه بلغة مهدّئة.



#نهاد_عبد_الستار_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مريم التيجي ومجموعتها القصصية الأولى
- قصة قصيرة بعنوان ( بطاقة عودة الى بغداد )
- ( في الأرض متسع للعيش ) قصة قصيرة بقلم نهاد عبد الستار رشيد
- قصة قصيرة بعنوان ( مفاهيم خاطئة ) بقلم : نهاد عبد الستار رش ...
- في دار السفير الفنلندي في بغداد
- ماذا قالت لي رفيقة ( البرتو مورافيا )
- قصة قصيرة بعنوان : من رحم الآلام تولد الآمال
- قصة قصيرة / التحدي
- ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الر ...
- هكذا عرفت الروائية ابتسام عبد الله
- في لقاء لي مع ( فيو ميري )
- واخيرا التقيت بها


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نهاد عبد الستار رشيد - مأزق الفرد في فنلندة كما يبدو في قصة ( ألبرج ) بقلم : يوها سبالا