أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عبد اللطيف - ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد اللطيف / الجزء الثاني















المزيد.....

ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد اللطيف / الجزء الثاني


سعدي عبد اللطيف

الحوار المتمدن-العدد: 4121 - 2013 / 6 / 12 - 11:23
المحور: الادب والفن
    




ترجمة: سعدي عبد اللطيف *

يلعب الحوار الداخلي واسس تركيبه دور القاعدة التي استند عليها دستوفسكي اصلا لعرض الاصوات الحقيقية للآخرين. ويجب الان ان تدرس بدقة العلاقة بين الحوارين الداخلي والخارجي وطابعها التركيبي لانها تنطوي على جوهر مفهوم ديستوفسكي للحوار.

ففي رواية” المزدوج” يقدم ديستوفسكي الشخصية الرئيسية الثانية على انها التجسيد المباشر للصوت الداخلي الثاني لكوليادكين ذاته. وبشكل مماثل كان صوت الروائي, اما في الجانب الآخر, فان صوت كوليادكين الداخلي لم يكن الا بديلا محددا يعوض عن تقديم الصوت الخارجي حقا. وبفضل ذلك اقام علاقة اساسية بين الاصوات وتوترا حادا في الحوار (على الرغم من كونه احادي الجانب). لم تعجز محاججة الآخر في” المزدوج” عن سبر غور اكثر المواقع عرضة للانكشاف عند كوليادكين, لان العبارات لم تكن سوى كلماته ذاتها لكن على لسان آخر, او انها كلمات قلبت رأسا على عقب , مع اضفاء تأكيد مشوه وحقود ومراوغ. وتمسك ديستويفسكي في كل اعماله اللاحقة بهذا المبدأ في توليف الاصوات, لكنها اصبحت اكثر عمقا وتعقيدا, وهنا تكمن القوة الخاصة بحوار دستويفسكي, اذ يقدم بطلين يتوجب على كل منهما ان يتداخل بعمق مع الصوت الداخلي للآخر. لذا تتطابق غالبا عبارات شخصية ما والافكار التي يطرحها الحوار الداخلي للآخر. ان اللحظة الثابتة والمهمة في جميع حوارات دستوفسكي البارزة تتمثل بالارتباط الاساسي العميق او التطابق الجزئي بين الكلمات المنطوقة لاحدى الشخصيات مع الكلمات الداخلية السرية للآخر, ويبني الحوار الاساسي مباشرة على هذه اللحظة.

لنعرض الان حوارا موجزا حيويا من رواية الاخوة كارامازوف.

كان ايفان كارامازوف مقتنعا تماما ان ديمتري هو من اقترف الجريمة. وفي قرارة قلبه, وبشكل غامض تقريبا حتى على نفسه, بدأ يتساءل عن ذنبه الخاص. كان الصراع الداخلي مشحونا بشكل استثنائي. في هذه اللحظة حدث الحوار التالي مع اليوشا.
كان اليوشا ينكر بشكل قاطع اقتراف ديمتري للجريمة.

-”من القاتل برأيك؟”
تساءل ايفان ببرود واضح, وبطريقة حملت مسحة خفيفة من التعجرف.
أجاب اليوشا بهدوء وقصدية:
-”انت تعرف من ؟”.
-”من ؟ سمير دياكوف؟” ذلك الأبله المجنون المصاب بالصرع الذي تنسج حوله حكايات كاذبة.
تنهد اليوشا, وكما لو ان الكلمات تحشرجت في فمه قال:
-”انت تعرف من ؟”.
-” من اذن من؟” .
صرخ ايفان بعنف تقريبا. وتلاشت بغتة كل سيطرته على نفسه.
استمر اليوشا في الكلام بهمس تقريبا.
-” اعرف شيئا واحدا. لست انت من قتل والدنا”.
صعق ايفان ثم قال :
“لست انت ! ماذا تعني, لست انت؟”.
كرر أليوشا قوله بصرامة :
-”لست انت من قتل والدنا, لست انت!”.
وساد الصمت لنصف دقيقة.
-”لاحاجة بي لان تخبرني اني لست من قتل والدنا, هل انت تهذي؟”.
قال ايفان ذلك بسخرية واهنة ومراوغة . ثم راحت عيناه تخترقان عيني اليوشا, ةكلاهما يقف على ضوء فانوس الشارع.
-”كلا ياايفان, لقد قلت لنفسك مرارا انك انت القاتل”.
-”متى قلت ذلك؟...كنت في موسكو...متى قلت ذلك؟”.
تمتم ايفان يائسا تماما:
-”قلت لنفسك ذلك عدة مرات, عندما كنت وحيدا خلال هذين الشهرين الرهيبين” .
واصل اليوشا كلامه كالسابق بهدوء ووضوح , كان يتكلم لكن العبارات لم تكن له, وتخرج عنوة منه, كما لو كانت المسألة امتثالا لأمر لايقاوم.
-”لقد اتهمت نفسك, واعترفت لها ان القاتل لم يكن سواك. لكن لست انت من قتله كان”.
انك مخطئ في هذا, لست انت, هل تسمعني؟ لست انت! لقد ارسلني الله لأخبرك بذلك”.

يكشف محتوى الحوار عن ذاته هنا ويعرض الطريقة التي يتبعها دستوفسكي. ويقول اليوشا بصراحة انه يجيب على سؤال طرحه ايفان على نفسه في حواره الداخلي. ويمثل هذا المقطع شكلا نموذجيا للكلمة الدقيقة ذات المعاني السامية ودورها الفني في الحوار. وما يلي ذلك يمتلك اهمية خاصة, اذ تثار على لسان شخص آخر كلمات ايفان التي لم يقلها مما دفعه الى مقاومة اليوشا والحقد عليه. لا لأنها- اي الكلمات- تتعرض فقط لموضوع جد حساس بالنسبة له, بل لأنها اجابت بشكل قاطع على سؤاله. وايفان ليس مستعدا للقبول باي حديث لانها ايضا تكشف عن المحاكمة الداخلية فيه التي تبدو على لسان آخر. ويدرك اليوشا ذلك تماما, لكنه يتوقع ان ايفان الذي يملك”ضميرا عميقا” سوف يجيب عاجلا ام اجلا على السؤال الذي يعذبه بطريقة ايجابية صريحة”انا قتلته”.

والحق, طبقا لمفهوم ديستوفسكي, يستحيل على ايفان ان يطرح على نفسه اي سؤال آخر. في تلك اللحظة, اصبحت كلمات اليوشا النوعية تستعمل على انها كلمات شخص آخر: ويجب مقارنة كلمات اليوشا, في تداخلها مع حوار ايفان الداخلي, مع حديث الشيطان الذي يعيد ايضا كلمات ايفان وافكاره.

ويتضمن حوار ايفان الداخلي معاني من السخرية والادانة اليائسة مما يذكرنا بصوت الشيطان في اوبرا تريشاتوف, الذي جعل لحن الشيطان يتردد”الى جانب التراتيل, سوية معها, وبالتزامن تقريبا” .

ان الشيطان يتكلم مثل ايفان, لكن كشخص”آخر” في الوقت نفسه, وبطريقة مبالغ بها, ويحرف نبرات ايفان بقصدية عدائية. ويقول ايفان للشيطان”انت انا, انت ذاتي, ولا يختلف الا وجهك فقط”. ويولج اليوشا ايضا من الخارج صوتا في الحوار الداخلي لايفان, لكن انطلاقا من الاتجاه المعاكس. ان اليوشا بوصفه شخصا”آخر” يدخل نداءات الحب والوفاق والتي يستحيل على ايفان ان يتفوه بها حيال نفسه. ان حديث اليوشا والشيطان يكرر كلمات ايفان, مانحا تأكيدا متعارضا لكل ما في الكلمة من معنى. اذ ان احدهما يؤكد على محاججة ما في حواره الداخلي, اما الآخر فيشدد على محاججة اخرى.

ان ترتيب الابطال بهذه الطريقة واقامة علاقة متبادلة بين الكلمات يعتبر اسلوبا نموذجيا للغاية عند ديستوفسكي, فالقضية في الحوار ليست مجرد اصوات مونولوجية مستقلة تتعارض وتتناقش كصوتين مستقلين (احدهما على الاقل يكون منفصلا على الدوام). فما يقوله احد ما بصوت عال غالبا مايكون جوابا على فكرة خفية تراود الآخر. اذ حين تسيطر الشخصية الواحدة على شخصيتين آخريين, تتكيفان لسماع الحجج المتضادة في” المونولوج” للأول.

وكي نتوصل الى فهم افضل الى ما يسعى اليه ديستوفسكي, من المهم جدا ان ننتبه دوما الى تقييمه للدور الذي يلعبه الشخص الآخر, في خصوصيته كـ”آخر” لان التأثير الفني ينجز عبر تحويل نفس الفكرة المصرح بها من صوت الى آخر على تناقضهما.
وفي رواية”الأبله” نجد ترتيبا مماثلا للشخوص. اذ نواجه طرفين اساسيين: يتمثل الاول بناستاسيا فيليبوفنا وميشيكين وروجويين, والآخر بناستاسيا فيليبوفنا وميشكين واغلايا.

وسنقتصر هنا على تحليل الاول. ينشطر صوت ناستاسيا ليتحول الى صوت يقر بالاثم ك”امرأة ساقط”, وصوت يبرر وضعها ويتصالح معه. ويحفل حديثها بالقاء متقطع بين هذين الصوتين, تارة يهيمن صوت, وتارة الآخر, دون ان يطغى صوت على الآخر. وما يقوي نبرات كل صوت او يقاطعه الاصوات الحقيقية للناس الآخرين. اذ ان اصوات الاستهجان والادانة تدفعها الى المبالغة في صوتها الذي يلقي الاتهام كي يغيظ الآخرين.

لذلك يبدو الندم مثل ذلك الذي لدى ستافروجين, اي بكلمة اوضح مثل ندم بطل رواية”من قبوي”. فهي عندما تذهب الى شقة غانيا وتشعر انها مرفوضة هناك, تؤدي دور العاهرة على نحو متعمد, غير ان صوت ميشكين لوحده يقطع حوارها الداخلي دافعا اياه الى الاتجاه المعاكس, ويجبرها على احداث تغيير مفاجئ في نبرة صوتها فتقبل باحترام يد أم غانيا التي كانت قبل لحظة تعرضها للسخرية.

ان مكانة ميشكين وصوته الحقيقي في حياة ناستاسيا يوضحه بما يتجلى في احد الحوارات الداخلية” لا كما لو احلم بك بنفسي اليس كذلك؟ انت هناك تماما, لقد حلمت بك فترة طويلة, منذ ان سكنت ضيعته في الريف, عشت خمس سنوات مع نفسي, وكنت اجلس مفكرة واحلم بالنهار, افكر وأحلم – واتخيل دائما بشخص ما يشبهك, شخص عطوف, شريف طيب وبسيط, يأتي فجأة ويقول: لم يكن ذلك خطأك ياناستاسيا فيليبوفنا, واني اعبدك! نعم, احيانا تغدو كثيرا محمولا بالاحلام, تغدو ساهما تماما...”
اسرت ناستازيا بهذه الكلمات الى نفسها كما لو ان شخصا آخر تفوه بها, وكان عليها ان تسمع فعلا الى هذه الكلمات في صوت ميشكين الحقيقي, التي تكررها حرفيا تقريبا خلال الامسية المدمرة في بيتها.

اما وضع روجين فيختلف تماما. فهو بنظر ناستاسيا, ومنذ البدء, التجسيد الرمزي لصوتها الثاني. اذ هي تكرر” أنا روجين” . وحين تحتسي الخمر باسراف وتستسلم به, فان ذلك بنظرها هو السبيل لتمثل صوتها الثاني والتوحد به. فروجين الذي تنتابه حالات سكر وحشية ويعرض شراء ناستاسيا بالنقود يمثل الرمز المهول الماكر في سقوطها.

هذا ليس انصافا بالنسبة لروجين, اذ انه منذ البداية لم تكن لديه ادنى رغبة في ادانتها, ولو انه يمقتها الى حد اشهار السكين عليها, وهذا ماتعرفه. هكذا كان تركيب هذه المجموعة. اذا تتمازج وتتشابك الاصوات الحقيقية لميشكين ورجوين مع اصوات”المونولوج” . ان الصراع المتقطع لاصواتها يجري تحويله الى صراع مماثل في علاقتها مع ميشكين ورجويين, فحالات الهروب المألوفة والمتكررة من ميشكين الى روجويين, وبالعكس يدفعها الى الحقد على اغلايا وحبها في الوقت نفسه.
اما حوار ايفان كارمازوف مع سميردياكوف فينطوي على طبيعة مختلفة وهنا يتوصل دستوفسكي الى ذروة سيطرته على الحوار.

ان رغبة ايفان في موت ابيه تشترط وان تكن غير ملحوظة ونصف مدركة, احاديث معينة ادلى بها في بداية الرواية. ويلج سمير دياكوف الى داخل هذا الصوت الخفي,
ويسمعه بوضوح مطلق لايترك اي مجال للشك.

وحسب مفهوم ديستوفسكي, فان ايفان يرغب في قتل ابيه, لكن شرط ابقاء نفسه خارج نطاق التأثيرلا خارجيا فحسب بل داخليا ايضا. كان يريد ان تحدث الجريمة كما لو انها حتمية قدرية, لا بصرف النظر عن ارادته بل بالرغم عنها. ويقول لاليوشا” اريدك ان تعلم اني سأدافع عنه (اي الاب) على الدوام. اما بالنسبة لرغباتي في هذه القضية الخاصة, فهي رغباتي ولها ان تبحر اينما تريد” ويمكن عرض الانفصام في ارادة ايفان عبر”المونولوج” , مثل الملاحظات التالية:

“ لا أريد قتل والدنا, واذا حدث ذلك فأن مايحدث ضد ارادتي” ,” لكني اود لو تقع الجريمة بالضد من ارادتي, عندئذ لن اعاني داخليا ولن امتلك سببا لتأنيب نفسي” .

هذا هو تركيب الحوار الداخلي لايفان. لقد خمن سميردياكوف او اسمع غريزيا الجملة الثانية في”المونولوج” لايفان. لكنه فهم المعنى الذي تضمنته بطريقته الخاصة, فايفان حذر ان لايترك اي دليل يثبت تورطه بالجريمة, حذر شديد خارجي وداخلي شبيه”بالرجل الذكي” الذي يتجنب جميع الكلمات المباشرة التي تفضحه ولهذا” فمن المسلي اجراء الحديث” ولا يمكن التحدث عن لاشئ سوى التلميحات. وقبل الجريمة شعر سميردياكوف ان صوت ايفان متراص كليا وليس منفلقا. وبدت له الرغبة في موت ابيه كاستننتاج طبيعي وواضح تماما يمكن استخلاصه من الاراء الايديولوجية لايفان, ومن توكيده ان” كل شئ مسموح به” وعجز سميردياكوف عن سماع الجملة الاولى لحوار ايفان الداخلي ولم يصدق حتى النهاية ان صوت ايفان الاول لم يكن حقا جادا في موت ابيه. ووفقا لمفهوم ديستوفسكي كان الصوت جاد حقا, مما يقدم لاليوشا دافعا جيدا لان يعذر ايفان, فاليوشا نفسه يعي جيدا صوت” سميردياكوف” الثاني في ايفان. وأخذ سميردياكوف على عاتقه تنفيذ ارادة ايفان بقناعة واصرار كبيرين, أو نسب بالاحرى الى هذه الارادة شكلا محددا لرغبة واضحة. وعبر سميردياكوف تم تحويل الجملة الداخلية لايفان من رغبة الى فعل. ويمثل الحوار بين سميردياكوف وايفان قبل رحيله الى تشيرماشنيا عرضا خارجيا مدهشا ومؤثرا من الناحية الفنية ل”الاحاديث” التي تجري بين ارادة سميردياكوف الواعية والصريحة ( والتي كانت مصاغة على شكل تلميحات حين يريد التكلم بقصدية فقط ) وارادة ايفان الخفية ( حتى عن نفسه) وفي المقدمة ارادته الواعية والتي عبر عنها بصراحة. ويتحدث سميردياكوف بمباشرة وثقة موجها تلميحاته وعباراته الثنائية المعاني الى الصوت الثاني في حوار ايفان الداخلي. اما الجواب فقد قدمه الصوت الاول لايفان.

لهذا فان كلمات ايفان التي فهمها سميردياكوف كقصة رمزية يجب تفسيرها بالمعنى المباشر المعاكس, ليست في الواقع رمزية على الاطلاق, اذ هي كلمات ايفان الصادقة ذاتها. وهذا الصوت الذي اجاب سمير دياكوف يقاطعه هنا وهناك الصوت الثاني الخفي. وتصبح النتيجة فجوة متقطعة تمكن سميردياكوف من البقاء واثقا بصفاء باستحسان ايفان.

هذه الفجوات في صوت ايفان دقيقة تماما ولا يعبر عنها بالكلمات بل بالوقفات التي لا تطابق المعنى الذي يقصده, وبتغيرات في النبرة لا تتخللها اعتقادات الصوت الاول, وبضحات مفاجئة ورديئة التوقيت..الخ. فلو كان صوت ايفان ذا الذي استجاب له سميردياكوف صوته الوحيد, اي صوت حوار صاف, تغدو جميع هذه الظواهر مستحيلة. اذ هذه الظواهر ماهي الا نتيجة التصادم والتداخل لصوتين في صوت واحد, وجملتين في جملة واحدة. كهذا كان شكل تركيب حوار ايفان مع سميردياكوف قبل وقوع الجريمة.

ونظم الحوار بعد الجريمة بشكل مختلف, اذ يجبر ديستوفسكي ايفان هنا ان يكتشف تدريجيا, بتشوش وغموض بداية ثم بوضوح وصفاء, ان ارادته الذاتية المخفية تكمن في رجل آخر. لقد اخذ سميردياكوف تلك الرغبة التي اعتبرها ايفان مختفية حتى عن نفسه, وهامدة وبالتالي بريئة لتصبح تعبيرا واضحا ومتميزا لارادته, والتي تصرف على اساسها. ويبدو ان اصداء صوت ايفان كانت تتردد وتلقي اوامره, بينما لم يكن سميردياكوف اكثر من اداة لارادته وخادم مخلص لها.

في الحوارين الاولين, غدا ايفان مقتنعا, داخليا على الاقل, بتورطه في الجريمة, لانه كان يرغب حقا في حدوثها وعبر عن هذه الرغبة بطريقة بدت للآخر واضحة تماما. وفي الحوار الاخير اكتشف تورطه الخارجي الحقيقي بالجريمة.

لنلف نظرة متفحصة على اللحظة التالية:
عندما اخذ سميردياكوف صوت ايفان على انه محض حوار داخلي, اصغى الى رسالته التي تقول ان اي شئ مسموح به واعتبرها صادرة عن ملهم ومعلم واثق من نفسه. ولنبدأ القول انه لم يفهم ان صوت ايفان كان منفلقا وان نبرته المقتنعة والواثقة كانت في الحقيقة تهدف الى ان تساعد على اقناع نفسه وليس لعب دور الموصل المقنع لأرائه الى الآخر.

ان نبرة الاقتناع العميق في كلمات ابطال دستوفسكي تظهر في اغلب الحالات كنتيجة لحقيقة ان الكلمة المنطوقة تمثل خطابا ينبع من”المنولوج” ويهدف الى اقناع المتكلم ذاته. ويشي تكثيف نبرة الاقتناع بالمقاومة الداخلية للصوت الآخر للبطل, ويصعب تماما العثور على كلمات خالية من مثل هذا الصراع الداخلي في شخصيات دستوفسكي.

ويتمثل النمط الخاص للحوار في حوار راسكولنيموف مع بورفيري, بالرغم من انه يشبه خارجيا حوار ايفان مع سميردياكوف قبل قتل فيودور بافلوفتش. اذ بورفيري يلمح ويوجه الحديث الى الصوت الخفي لراسكولنيكوف. وحاول راسكولنيكوف ان يلعب دوره بحسابات باردة. كان بورفيري يهدف الى اجبار الصوت الداخلي لراسكولينوف على الاختراق وخلق فجوات في اجوبته المقننة بمهارة والمحسوبة سلفا.

فالكلمات وارتفاع طبقة الصوت وانخفاضها في الدور الذي كان راسكولنيكوف يمثله كانت الاصوات الحقيقية تقاطعها على الدوام. وكان بورفيري ومن خلف الدور المفروض ذاتيا بشرطي سري لاتساوره الشكوك يكشف لنا بين حين وآخر عن وجهه الحقيقي كرجل ذي قناعة, بين جمل زائفة يتحدث بها الطرفان وتتصادم وتلتقي فجأة جملتان حقيقيتان ونظرتان انسانيتان حقا. وبالنتيجة ينعطف الحوار من حين لآخر من سطح (كاذب) الى سطح آخر ( واقعي), ولكن للحظة قصيرة فقط. وفي الحوار الاخير نحصل على التدمير الفعال للسطح (الكاذب), والدخول النهائي والتام للكلمة الى سطح الواقع. هنا يظهر الانفجار المفاجئ في سطح الواقع: ففي بداية الحديث الاخير مع راسكولنيكوف بعد اعتراف مكيولكا يبدو ان بورفيري بتروفتش قد تخلى عن جميع شكوكه لكن وبعد اقتناص لحظة باغت بها راسكولنيكوف, اعلن ان ميكولكا لايمكن ان يكون القاتل.

“كلا, لم يفعل ميكولكا ذلك ياعزيزي روديون رومانوفتش, ليس ميكولكا!”
هذه الكلمات الاخيرة التي قيلت قبلا, وترددت كأنها تخل من اي شك, كانت غير متوقعة ابدا, وارتجف راسكولنيكوف كما لو انه طعن.
“ اذن...من...من يكون القاتل؟” تساءل بصوت خافت , اذ لم يستطع المقاومة. وتأرجح بورفيري بتروفتش في مقعده, كما لو انه لم يكن اقل اندهاشا بالسؤال.” ماذا تعني – من كان القاتل؟” كرر ذلك كما لو انه لايستطيع تصديق اذنيه.
“ انت كنت القاتل, طبعا ياروديون رومانوفتش! انت القاتل , ياسيدي العزيز...” اضاف ذللك بهمس تقريبا, وبصوت مقتنع تماما.
قفز راسكولنيكوف من الكنبة, ووقف بضع لحظات, ثم جلس ثانية دون ان ينبس بشئ. كان وجهه يختلج...
“ لم اكن انا...” همس راسكولنيكوف مثل طفل خائف وقع في الفخ.

يتبع الجزء الثالث...


* سعدي عبد اللطيف: كاتب وناقد واعلامي عراقي مقيم في المملكة المتحدة واستاذ سابق للادب الانكليزي في العراق والجزائر. ترجم ونشر عشرات النصوص الفلسفية والشعرية والوثائق السياسية الى جانب ما له من دراسات ومحاولات في النقد الادبي المعاصر والفن.



#سعدي_عبد_اللطيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد ا ...
- ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد ا ...
- سعدي عبد اللطيف يحاور شاكر لعيبي عن قصيدة النثر المقفاة
- حضارة بابل اضفت على لندن بهجة عميقة
- الكتابة واللغات في العراق القديم
- في ذكرى معرض بابل: الاسطورة والحقيقة في المتحف البريطاني
- نبذة موجزة عن تاريخ المتحف البريطاني
- الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف
- لماذا تجاهل العالم.. الآثاري العراقي الكبير هرمز رسام
- زمن لا تستيقظ فيه الطيور
- ابنة -تشي- تجاهد للحفاظ على صورته كثوري مثالي !؟
- الموسيقى توحد العراق دائما...
- كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة س ...
- كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل ا ...
- كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة س ...
- كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل ...
- كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين
- من أجل السلام الذي ترعاه: أحمد مختار مشرفاً موسيقياً في مشرو ...


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عبد اللطيف - ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد اللطيف / الجزء الثاني