أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - فتحي سيد فرج - حاضر الثقافة في مصر 1/2















المزيد.....

حاضر الثقافة في مصر 1/2


فتحي سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 4087 - 2013 / 5 / 9 - 12:09
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


فى عام 1991 نشر باحث متفرد فى موقفه من التراث ، وفى دقة بحثه ، مجموعة من الصفحات على نفـقـته الخاصة ، لم تتجاوز المائة صفحة مضروبة على الآلة الكاتبة ومصورة فى طبعة وان كانت فـقـيرة فى الشكل ولا تتعدى بضع مئات من النسخ ، ولكنها كانت بالغة الغنى والجدة فى المحتوى ، حيث أنها عبارة عن دفـقـة شعورية تخرج عن سياق الخطاب المتعارف عليه ، تحمل أراء جريئة ومحددة ، وتكشف عن المسكوت عنه فى التاريخ المتواتر والمكتوب على صفحات مصقولة .
لقد قدم " بيومى قنديل " دفاع علمى عن الهوية المصرية المسلوبة، والتى تواجه خطرين رئيسيين ، خطر الذوبان فى الخارج ، وخطر التفتت فى الداخل ، وذلك من خلال بحث يختلف تماما فى أسلوب العرض ، يتميز بصرامة المنهج ، ودقة المعلومات الموثقة من مصادر رصينة ومتعددة . ورغم كل ذلك فقد صادف هذا النص الذى كان بمثابة وثيقة دامغة فى موضوعه ، الصمت والنكران من الكتبة الرسميين ودعاة التحرر والتنوير ، لم يعرضه أو يتعرض له أحد بالنقـد أو حتى المعارضة ، ربما خوفا من نشر محتواه أو تهميشا لمضمونه أو لقوة منطقه فى الدفاع عن قضيته، وفى عام1999 أعيد طبع هذه الوثيقة فى كتاب صدرعن دار الوفاء بالإسكندرية تحت نفس العنوان " حاضر الثقافة فى مصر " .
والكتاب يتضمن من وجهة نظرى موضوعين على جانب كبير من الأهمية. الموضوع الأول عن الصراع بين بناة الحضارة الزراعية وبين البدو والرعاة ودور الغزاة فى سلب الهوية المصرية ، أما الموضوع الثانى فهو عن اللغة المصرية التى نتحدث بها فى العصر الحديث ـ يسميها البعض خاصة المتعلمين بـ " العامية " ـ فى علاقاتها مع الأبجدية المصرية القديمة فى صورها المتعددة .
فى مفتتح الصفحات يفصح عن موضوعه الأول بشكل محدد : " مالت شمس العصور القديمة إلى الغروب ، بعيد انتصاف الألف الأول لميلاد المسيح على مشهد صامت مروع ، ينهزم فيه الزارع أمام الراعى " وفى سبيل شرح هذه العبارة يسرد ما حدث فى التاريخ ، حيث نهضت فى الشرق الأوسط القديم حضارتان رئيسيتان هما البابلية فى مابين النهرين والمصرية فى وادى النيل ، أى انتقل سكان هاتين البقعتين اللتين ترويهما مياه الأنهار من حقبة البربرية إلى حقبة الحضارة الزراعية ، ولم يكن ذلك التطور إلا تتويجا لحقب طويلة من الجهود المبذولة لفهم واستئناس الطبيعة .
لكن هذا التطور ترك عدة قبائل وشعوب فى طور أدنى، حيث استمرت فى الترحال وراء قطعانها، وظل اعتمادها على الرعى كوسيلة لكسب العيش، وهذه وسيلة لا تدر سوى عائد هزيل وغير منتظم، وكان طبيعيا أن ينشأ صراع طويل المدى عميق التعاريج بين الزراع والرعاة، وبتحديد أكثر دقة بين المتحضرين والأدنى حضارة، ولقد أخذ هذا الصراع أحيانا شكل التسلل، وأحيانا شكل الهجرة والترحال، لكنه ارتدى أحيانا ثالثة شكل الغزو والاحتلال.
وفى خضم ذلك الصراع الذى اختلط فيه التاريخ بالأسطورة، والحقيقة بالخيال، ظهرت شخصية " إبراهيم " الذى يعتبرونه فى الثقافة السائدة أبو الأنبياء الساميين ، عبرانيين كانوا أم عرب ، وهو بالرغم من أنه كان صاحب قطعان من الغنم ، إلا أنه يعتبر زعيم سياسى ومنظر أدرك عن وعى وبصيرة أن هذين المجتمعين فى العراق ومصر لن ينكسروا من الخارج تحت ضغط التسلل أو الهجرة أو حتى الغزو ، وأن انكسار هما لن يتأتى إلا من الداخل ، أى عن طريق السيطرة على روح أبناؤها ، وبتحديد أكثر على عـقـولهم ووجدانهم ، وذلك بتحويلهم عن عبادة آلهتهم القومية ، ودعوتهما إلى عبادة إلاهه هو ، وتكفير من يخالف ذلك ، وبالتالى أنزل على ديانات هذان المجتمعان وسم " الوثنية " وهو حكم قيمى لا يزال حتى اليوم يتردد فى كتابات المتعلمين .
هذا وقد وضع إبراهيم أسس الديانة الإبراهيمية التى إنشعبت فى أوقات لاحقة إلى ثلاث شعب، الموسوية نسبة إلى موسى ، والمسيحية نسبة إلى المسيح ، والمحمدية نسبة إلى محمد ، ديانات لها كتب مقدسة من العهد القديم إلى العهد الجديد والعهد الأخير ، يذكر فيها الزعماء والآباء والحكماء بل والملوك العبرانيين ، كأنبياء مقدسون معصومين يتلقون الوحى من رب السماء ، بينما يقف المصريين جميعا ، فراعنة وحكماء وأهالى ككفار يعبدون الأصنام .
وإذا كانت مصر قـد تعرضت فى تاريخها الطويل إلى عديد من الغزوات بل والاحتلال، وكانت تدفع الجزية للأجانب بشكل منتظم منذ منيت بالهزيمة أمام جحافل الفرس عام 525 ق.م ، لكن الفرس لم يأتوا إلى مصر بديانة جديدة ، ولم يرموا الديانات المصرية القديمة بالوثنية ، كما لم يحاولوا فرض لغة وثقافة أجنبية على أهل البلاد ، لكن التحول الخطير بدأ مع وصول الإغريق من جنوب أوروبا ثم العرب من غرب أسيا ، ويرى بيومى قنديل أن أخطر محاولتين أثرتا على الحضارة المصرية ، هما الإغريق والعرب اللذان ينفردان معا بأنهما حاولا استبدال اللغة المصرية ، حيث كان كلاهما مسلحا بكتاب مقدس ودعوة إلى دين جديد .
ورغم أن الإغريق والعرب كانوا فى مستوى أدنى حضاريا من المصريين لدى تسللهم ثم غزوهم ، إلا أنهما نجحا فى هاتين المحاولتين ، ويستند بيومى فى مقولة الدونية بالنسبة لهؤلاء الغزاة إلى حقيقتين :
الحقيقة الأولى: عدم النضج القومى حيث أن الإغريق والعرب لدى وصولهم مصرعامى332 ق.م ، و 641 م كغزاة لم يكونوا قد تحولوا كل على حدة إلى شعب ، بمعنى جماعة قومية موحدة ، أى لم يكونوا قد غادروا بصفة نهائية ضيق الانتماءات القبلية إلى رحابة الانتماء القومى التى تعد تعبيرا عن النضج القومى ، وبعبارة أخرى لم يكونوا قد ارتقوا إلى مستوى إعلاء شأن محل الإقامة ـ أى رابطة الأرض ـ بشكل حاسم ، على رابطة الدم ـ أى رابطة القبيلة ـ .
الحقيقة الثانية : وضع المرأة ، وذلك لأن الشواهد على أن المرأة كانت تتمتع فى مصر بمكانة اجتماعية وقدر من الاستقلال لم تعترف به الشرائع للمرأة عند الإغريق أو العرب ، ، فالإغريق لم يعطوا للنساء حق التمثيل السياسى كالرجال الأحرار ، بل ساووهم بالعبيد ، ولم يكن للمرأة ملكية خاصة بها ، أو استقلالية فى تصرفاتها أما المرأة عند العرب فالأمر كان وما يزال شديد السطوع ، ويكفى أن نعيد إلى الأذهان أن النسق القبلى العشائرى لدى هؤلاء الأقوام كان ينظر للمرأة باعتبارها كيان تابع للرجل وضمن أملاكه ، وما تزال عند العرب تخضع لمشيئة الرجل ، ويتم التعامل معها فى الميراث والحقوق الشرعية باعتبارها كيان ناقـص لا تماثل الرجل ، بينما كانت المرأة فى مصر الفرعونية لا تتزوج إلا بموافقتها ، ولا تستمر فى الزواج إلا برضاها ، وكان يتم التعامل معها باعتبارها كيان يتمتع بكافة الحقوق مثلها مثل الرجال ، وقد وصل الأمر إلى أن تقلدت المرأة فى مصر القديمة الحكم وكانت حاكمة لبعض الأقاليم ، بل وأصبحت ملكة تحكم البلاد كلها .
كان أخطر ما فعله الإغريق والعرب هو فرض لغتهم من خلال الأديان الإبراهيمية، فقد انتشرت المسيحية فى مصر عن طريق اللغة اليونانية، مما أدى إلى استبدال اللغة المصرية المحلية ـ الديموطيقية ـ باليونانية ، وكان طبيعيا أن تقـف الديانة الجديدة ضد الديانات المصرية القومية بدعوى أنها ديانات وثنية ، ولا تزال المعابد التى حولها المسيحيون الورعون إلى كنائس شاهدا يوازى الشاهد الأخر على تحويل الكنائس إلى جوامع على أيدى العرب المسلمين ، كما أن اللغة العربية قد حلت محل اللغة القبطية ، مما دعى كثيرا من الدارسين الى التساؤل عن هذه الظاهرة ، وهى تخلى شعب عريق فى المدنية والحضارة كالشعب المصرى عن لغته ، واتخاذه لغات شعوب لا توازيه فى الحضارة .
وعند هذا الحد يطرح بيومى قنديل سؤلا شديد الأهمية : أكان للزراعة أن تنهزم أمام الراعى أو هل كان للحضارة أن تندحر أمام البدواة ؟ وفى سبيل الإجابة عن هذا السؤال الهام يعرض مجموعة من الأسباب تتعلق بتطورات الحالة الدينية والأمور الثقافية دون أن يتعرض للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والتى نرى أنها الأقدر على الإجابة الحقيقة عن هذا السؤال ، وهذا ما سنوضحه فى التعليق على ما ساقه من أراء تتمثل فى النقاط الآتية :
• عن تطورات الحالة الدينية يقول بيومى قنديل : عقب الانقلاب الذى قام به الملك الشهير " إخناتون " أخذت الديانة الأمونية ترث الأتونية ، وبمعنى آخر أخذ " آمون " بعد اكتسابه بعض صفات " آتون " يستبعد سائر الآلهة الأخرى عبر عملية غاية فى الخصوصية ، إذ بدا يترأسهم فى المجمع الإلهى " التاسوع " ثم فى الثالوث ، ويدمجهم فى ذاته ويحولهم إلى أبناء وبنات وزوجات له ، وأحيانا إلى صفات وأسماء له ، وفى جملة واحدة . كاد " آمون " أن يغدو الإله الواحد الأحد، رب المصريين بل رب العالمين على نحو ما دعا " إخناتون " لإلهه " آتون " وأخذ كهنة آمون يحقـقـون لأنفسهم الإنفراد فى الساحة الدينية وفى الساحة الدنيوية ، وواصلوا زحفهم نحو هدفهم فى السيطرة حتى ارتقى عرش مصر الكاهن الأعلى لـ " آمون " وهو " حريحور " حوالى سنة1100 ق.م . ومنذ ذلك الحين بدأ أن المصريين أو المتعلمين منهم تحديدا عاجزين عن التطور . والذين يعجزون عن التطور لا ينهزمون فحسب بل يسلمون أقدامهم دون وعى وبصيرة لبداية الطريق الذى ينتهى بهم إلى الاندثار.
• يحار علماء المصريات طويلا أمام حقيقة أن المصريين القدماء توصلوا إلى نحو 24 علامة هجائية ، تشير كل علامة منها إلى صوت منفرد متميز ، كانت تكفل لهم أن يكتبوا لغتهم بصورة أبجدية خالصة ، وأعاروها لليونانيين عبر الفينيقيين ، كما أعاروها للعبرانيين وأشقاهم العرب ، وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط . وظل المصريون يحافظون على كتابة لغتهم لما يزيد على أربعة آلاف سنة بالخط الهيروغليفى الذى احتاج إلى جهد شاق ووقت مديد لتخريج ناسخيه ، حيث بلغت علاماته نحو 700 علامة مختلفة ، وهذه كتابة غير منطقية تماما من الناحية العلمية على حد تعبير " مارينا سكريابين " رئيس قسم الأبحاث بالمركز القومى للبحوث العالمية فى فرنسا ، وبذلك يكون المتعلمون المصريون القدماء قد كشفوا ومنذ ذلك الوقـت المبكر عن آفة مرزولة ـ أخذت تلازم المتعلمين فى كل زمان ومكان على ما يبدو ـ أن يقعوا أسرى ما تعلموه ، ويرفضون بإصرار كل ما يخالفه ، ويتأسس على هذا ، وكنتيجة حتمية ، فأن المتعلمين المصريين كانوا قد دخلوا مرحلة الشيخوخة أى ما أسموه بالقـداسة وإجلال التقاليد العريقة ، وهو لا يزيد عن فرض الثبات على العالم المتغير ، كان منطقيا أن يسقط من أيديهم مشعل أعظم حضارة عرفها العالم القديم .
• اهتدى المصريون القدماء إلى التوقيت الذى يعد أقدم توقيت شمسى والأدق نجمى عرفه الإنسان ، إذ حسبوا ما بين كل ظهور صادق وظهور صادق آخر لنجم الشعري اليمانية ـ الذى اعتبروه أنثى وأطلقوا عليه إسم " سيدت ":أى جالبة الفيضان ـ فوجدوه 365 يوما ، وقسموه إلى ‘ثنى عشر شهرا قمريا وكسور لا تصل إلى نصف شهر فأكملوا عدة كل شهر ثلاثين يوما ، وبقيت خمسة أيام أسموها الشهر الصغير ، وكان ذلك منذ سنة 2773 ق.م فى أرجح الأراء ، وإن كان " برستيد " يرجع ذلك إلى سنة 4241 ق.م ، ويقف هذا التوقيت وراء التواقيت الشمسية الأخرى التى ظهرت فى العالم القديم ، وبعد بعض التعديلات الطفيفة انتشرت وأصبح أكثر من ثلثى البشر يسيرون وفقا لها وإن حملت إسما غير مصريا . وغنى عن الذكر أن هذا التوقيت لا يزال حيا فى عقل ووجدان الأميين المصريين ، فى الوقت الذى يجهله المتعلمون المصريون ، وبعبارة أدق من يفرض عليهم التعليم المصرى السائد أن يجهلوه ، وأن يجهلوا ارتباطاته خلال حصار الصمت المحكم حوله ، وحول الثقافة المصرية القومية بصفة عامة ، وقد لا أبالغ إذا قلت أن المصريين الذين يستطيعون تذكر الشهور القبطية الإثنى عشر أى الشهور المصرية الحقيقية ، يتناقصون كلما أوغلوا فى مدا رج التعليم ، دع عنك أن يتذكروا الأمثال والحكم والأقوال المأثورة التى يربط الأميون بينها وبين شهورهم .
وهكذا يخلص بيومى إلى نتيجة نهائية : لقد كان الأميون المصريون دون متعلميهم هم الذين واصلوا احتضان الحضارة المصرية فى أعماق وجدانهم ، بعد سقوط مشاعلها ، وذلك فى وجه الثقافات الأجنبية المتخلفة للغزاة الفاتحين أو الوافدين المستوطنين الذين قدموا من جنوب أوروبا أو غرب أسيا . فلقـد قدم الأميون المصريون الشهداء تلوا الشهداء فى المقاومة ضد هؤلاء الغزاة ، وهم الذين طالبوا قادتهم الروحيين بأن يترجموا لهم الكتاب المقدس إلى لغتهم التى يفهمونها أى القبطية ، فانقذوا بذلك مرحلة من مراحل تطور اللغة المصرية القديمة ، كما يؤكد أن دور الأميين فى ثورة برمهات / مارس 1919 أحدث شرخا فى بنية الثقافة المصرية السائدة خلال العصر الحديث ، حيث أعاد الاتصال بين المصريين المحدثين والمصريين القدماء ، وترك للمتعلمين الذوبان فى ثقافة مضطهديهم من الغزاة والمحتلين ، مما جعل النحات العظيم محمود مختار يلتقط الأزميل الذى سقط من أيدى جدوده ، وأن يلتفت الموسيقار العظيم سيد درويش إلى الألحان الكنسية الشعبية التى تخمرت فى ترانيم المعابد ، وأن يغنى لأول مرة فى تاريخ الغناء الحديث للشمس " طلعت يا محلا نورها . شمس الشموسة " بدلا عن القمر الذى يتربع على قمة التشبيهات والاستعارات كرمز للجمال والأنثوى منه على وجه الخصوص ، وليس غريبا أن يبرز طه حسين ، قمة ما أبدعه العقل المصرى ذلك الشرخ ، ويفرق بين ثقافة الأميين ذات الطابع القومى ، وبين ثقافة متعلميهم التى تعبر عن ذوبانهم وتمجيدهم لثقافة الغزاة الأجانب ، فضلا عن تشرب طه حسين لروح الصلابة والشموخ التى يسخر منها فى نكاتهم المبتذلة المتعلمون المصريون من أبناء الحضر الذين يضمون فى صفوفهم الأولى سقط الغزاة الأجانب ، أولئك الذين لا يزالوا ينعون على المصريين أنهم فلاحون مرة وصعايدة مرات .
ولقد لاحظ بحق وصدق فرج فودة ، شهيد الكلمة هذه الملاحظة الذكية : " يجب أن نعترف بأن فى مصرقدر من التعصب الدينى ، وأن هذا القدر له من الخصائص ما يتناقض مع المنطق ، فهو يزداد مع المستوى العلمى فيتواجد فى بعض الأقسام العلمية فى الجامعات بشكل أوضح ، ويقل كثيرا فى القرى أو المدن الصغيرة " وغنى عن الذكر أن التعصب نوع من الانحطاط العقلى والخلقى ، بمعنى أنه لا يغدوا كونه تكلسا للعقل الحر وضمورا للضمير الحى ، وهو بذلك ألصق بالبداوة منه بالحضارة .
وهذه الأسباب لا تخرج عن كونها دفاع حماسى عن إنجازات الحضارة المصرية واستمرار تراثها بين الطبقات الشعبية ، بينما الطبقات الوسطى والعليا أخذت تتغير وفقا لتغير مصالحها ومن خلال ارتباطها بمواقف الحكام الأجانب طوال فترات الغزو والاحتلال ، وقد ركز بيومى قنديل أسباب سقوط الحضارة الزراعية على عوامل البناء الثقافى التى تعود إلى تطور الحالة الدينية أو تغير اللغة ، ولم يهتم بالتحليل الاجتماعى والأسباب الاقتصادية التى يرى عديد من المفكرين أنها تشكل العوامل الأساسية للتطورات والتغيرات فى التاريخ الانسانى .
فيرى سعد زهران : أن ظهور القوميات الأولى فى موطن نشؤ وازدهار الحضارات الزراعية فى وادى الأنهار الكبيرة ، حيث كان الاعتماد أساسا على الرى النهرى ، فى وادى النيل ، وما بين النهرين ، ووديان الأنهار فى الهند والصين ، وساعدت ضرورة تنظيم الرى النهرى على سرعة التوحيد الاقتصادى ، وإنضاج جهاز الدولة المركزية ، وعلى أطراف هذه الحضارات ، ظهرت مجتمعات زراعية مطرية ظلت فنون الزراعة فيها متخلفة ، وكان الرعى يشغل مكانا هاما فى اقتصادياتها ، فى مثل هذه المجتمعات لم تتهيأ الشروط الموضوعية للتوحيد القومى إلا فى عصور متأخرة ، وحين أخذت التجارة البعيدة بين المراكز الأولى للحضارات الزراعية تحتل مكانا هاما فى اقتصاديات هذه الأطراف .
وقامت التجارة البعيدة بنقل جزء من الفائض الاقتصادى من المجتمعات الزراعية النهرية الغنية إلى ثروات التجار المتمركزين فى المدن ، وتمكن هؤلاء من تقوية نفوذهم المحلى والصعود إلى مواقع السلطة ، ولما كانت التجارة مرتبطة دائما بتقوية وسائل الحماية المسلحة للقوافل ، فقد حدث اندماج طبقى ضم مهن التجارة والحرب ، وتشكلت طبقة اجتماعية يمكن تسميتها " مركب التجار المحاربين " وتلك هى الطبقة التى أنجزت التوحيد
القومى فى تلك المجتمعات الطرفية ، وأشهر عمليات التوحيد القومى فى تاريخ الشرق الأوسط هى :
• التوحيد القومى الإغريقى ، التى قادها فيليب المقدونى ، ودعمها أبنه الاسكندر ، وأفضت إلى قيام إمبراطورية الاسكندر الأكبر فى القرن الرابع قبل الميلاد .
• التوحيد القومى الرومانى ، التى قادتها أرستقراطية التجار المحاربين الرومانيين قبيل التقويم الميلادى ، وأفضت إلى قيام الإمبراطورية الرومانية .
• التوحيد القومى العربى ، التى نضجت بظهور الإسلام ، وأفضت إلى قيام الدولة الإسلامية فى القرن السابع الميلادى .
وبهذا ترى أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية هى التى لعبت الدور الأساسى فى تغلب الشعوب المتخلفة على الحضارات الزراعية ، بفضل انتقالها إلى النشاط التجارى وقدرتها على تكوين فائض اقتصادى اتاح لها التفوق خلال هذه الفترة من التاريخ ، ورغم أننا لا ننفى دور العوامل الثقافية إلا أنها تظل عوامل ثانوية فى حدوث التطورات وتغير موازين القوى . وقد أكد بيومى قنديل نفسه ذلك فى استعراضه لأسباب مجىء العرب إلى مصر ، واتفاقهم فى الغرض الذى جاء من أجله كل الغزاة والمحتلين ، فهل نهض أهل المدينة المنورة أو يثرب إلى فتح الطائف ، وسائر البلدان بما فيها مصر ، كى ينشروا الإسلام وحسب أو حتى بصفة رئيسية ، أم من أجل الجزية والفيء والخراج ، والأهم من ذلك فتح وتأمين طرق التجارة بين الشرق والغرب ، أى بين بلاد الهند وبلاد الإفرنج .



#فتحي_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور المثقفين المصريين في الدفاع عن حرية الفكر والإبداع 2/2
- دور المثقفين المصريين في الدفاع عن حرية الفكر والإبداع 1/2
- ملاحظات نقدية على النمط المصري للإنتاج 3 من 3
- النمط المصري للإنتاج 2 من 3
- النمط المصري للإنتاج 1من 3
- رؤوى مستقبلية لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة
- مسار الخريطة الانتخابية - ثالثا: الانتخابات الرئاسية 3/1
- مسار الخريطة الانتخابية بعد ثورة 25 يناير 3/2
- مسار الخريطة الانتخابية بعد ثورة 25 يناير 3/1
- مسار الخريطة الانتخابية بعد ثورة 25 يناير
- قراءة في تاريخ الأحزاب المصرية
- حقوق المرأة في معركة صياغة الدستور
- الربيع العربي دعوة لنموذج جديد للتنمية
- ذكري إنتفاضة 18/19 يناير 77
- كيفية اكتشاف ورعاية المبدعين؟
- استطلاع الرأي الثالث
- تقييم انتخابات حزب الجبهة الديمقراطية
- استطلاع الرأي الثاني
- مواطنون لا رعايا
- استطلاع رأي


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - فتحي سيد فرج - حاضر الثقافة في مصر 1/2