أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - خريف العمر














المزيد.....

خريف العمر


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 3900 - 2012 / 11 / 3 - 17:04
المحور: الادب والفن
    


ما من قريب أو صديق سمع بقصة الحادث الذي وقع لوالدتي وأدّى إلى كسرٍ في عنق الفخذ, إلا وأطلق عليه تسمية (كِسْر الموت). خاصةً وأن والدتي تخطّت الثمانين من عمرها. ولديها من الأمراض والأوجاع المتراكمة بفعل الزمن ما يجعل أيّ امرئٍ يصدّق تلك العبارة اللئيمة: (كِسْر الموت). إلا أن عزيمتها وإيمانها بأنها يجب ألا تستسلم, وأنها مستعدة لأيّ شيء إلا أن تكون مقعدة, جعلها تُقبِل على العملية الجراحية بمنتهى التحدّي والرضا.
قال لها الطبيب: سنركّب لك مفصلاً اصطناعياً يا خالة, ولكن يجب أن تنفّذي كل تعليماتنا ونصائحنا. أجابته: أعاهدك بذلك, ولكن بشرط أن أعود وأمشي كما كنت. وبالفعل, بعد العملية الناجحة بيومين كانت أمي تمشي بمساعدة (الووكر) مصمّمةً على تجاوز هذه المحنة بحماس نبيّ جديد. ووافقت أن تكرّمني وتمضي نقاهتها في بيتي؛ عند أكثر من سبّب لها من بين أولادها خلال حياتها كلها, المرارة والهمّ والقلق والأسى والدموع.. وهذه أثمن ضريبة سددتها في حياتي.
وأخيراً يا أمي جاء دوري لأشيل عنك بعضاً من التعب, وأردّ لك جزءاً يسيراً من ديوني المستحقة لك. وأقسم لك بكل المقدّسات التي تؤمنين بها والتي أحترمها, بأنني لم أكن يا أمي أرغب بتسديدها. ليس تهرّباً من التزاماتي, لا والله, بل لأنني أتمنى لو بقيتِ كما كنتِ, مستغنية, عصامية, معطاءة.. وأنت في خريف العمر. ولكن هكذا شاءت الأقدار وعلينا تحمّل مصاعب الحياة.
هذه المرة ستبتعدين عن الضيعة مدة طويلة يا أمي. سنقيم معاً كما كنا منذ أكثر من ربع قرن.. سأشرب معك كل يوم قهوة الصباح. ولن أتعبك بأحاديثي السياسية. سأعوّض لك شقاء عمرك كله يا أمي. لن أغوص في مرحلة كفاحك الطويلة وأستذكرها كلها, فهي ملحمة زاخرة بالتفاني والتضحية والعذاب.. أكثر من ثلاثين عاماً وأنت تعملين في (الريجي) تذهبين سيراً على الأقدام, تقطعين مسافة خمسة كيلومترات يومياً ذهاباً وخمسة أخرى إياباً لتطعمي أولادك السبعة. عبق التبغ ظلّ يفوح من أصابع يديك حتى بعد إحالتك على المعاش شهوراً عديدة وكأنه غدا جزءاً منك. وقبل الريجي عملتِ بمعمل الزيوت القطنية, وقبله مزارِعة في الأرض. منك تعلّمت مبدأ إيثار الغير على الذات. دون أن تتفوّهي بكلمة واحدة عن هذا المبدأ, بل من خلال ممارستك له. كنتِ تتشاغلين عنا دائماً بأيّ شيء عندما يكون على المائدة طعامٌ طيبٌ, لتتركي لنا الوقت الكافي لنأكل حاجتنا وبعدها تأكلين.
وأنت في المشفى طلبتِ تدخين سيجارة. خلسةً قدّمت لك واحدة. فأنا وأجهزة القمع في بلدي جعلناك من المدمنات على التدخين. يوم اعتقلوني يا أمي قالت لك زميلاتك في العمل: دخّني يا أم ضياء! التدخين يفرّج الهموم ويبعدها عنك ويجعلك أكثر مقدرة على الصبر لغياب ضناكِ. صدّقتِ تلك الكذبة وبدأتِ التدخين. ومع مرور الأيام أصبحت السيجارة لا تفارق أصابعك النحيلة. وتعطّلت جزئياً رئتاك لتعملان بنصف طاقتهما. ولم تتبدّد الهموم ولم تحلّ مشاكلك, لا مع الفقر ولا مع ابنك (العاق) الذي أصرّ على شيوعيته بالرغم من كلّ توسّلاتك وتهديداتك الحنونة.
ليتك تعلمين يا أمي كيف كنت أرفرف بالسعادة عندما كنت أقصّ لك أظافر قدميك على الشرفة بعد خروجك من المشفى, حيث قلتِ لي بحزن: إنني أخجل من أن يراك أحد وأنت تقصّ أظافري يا بنيّ, أرجوك اذهب واغسل يديك ولا تزدْ في تعبي. تمنيت عندها أن أكون مارداً يجندل كل تعب الدنيا في حضورك.
قلت لك في سرّي: لا يا أمي.. إنني أتطهّر بهاتين القدمين وأودّ تقبيلهما. لم أستطع أن أعبّر عن عواطفي علانيةً أمامك.. فالسلطات الأمنية عوّدتني منذ يفاعتي على كتم أنفاسي, على ألا أبوح بمشاعري حتى الإيجابية منها لمن أحبّ. دائماً كنت تقولين لي: يا ولدي أنت أحبّ أبنائي إلى قلبي ولكنك أكثرهم عناداً.. آخ لو تعود إلى رشدك وتترك الشيوعية التي لم تطعمنا إلا البهدلة والكمد ووجع القلب..
يا ابني العين لا تقاوم المخرز..
لذلك يا أمي وبسبب كثرة استخدامك لتلك العبارة كان إهدائي في مقدمة مجموعتي القصصية الأولى (زفرات على أرصفة الخوف): "إلى من تبقّى من بشر ما زالوا يؤمنون بأن العيون, وحتى التعبة منها.. تقاوم المخارز و.. والخوازيق أيضاً".
صحيح أن مجموعاتي القصصية الخمس لم ترَ النور رغم محاولاتي المتكررة, طبعاً بفضل النظام الاستبدادي الذي ترعرعنا في ظله وما زلنا نعاني من شراسته حتى الآن. ولكن سيأتي الوقت الذي أحتفل فيه بواحدة منها على الأقل خلال حياتك يا أمي.
أمي! كل ما أرجوه منك أن تزيحي غمامة الحزن من سمائك وتبتسمي للأيام القادمة.. وثقي بأننا سنحتفي بسقوط الاحتمالات الحزينة ونغنّي..
فالفجر أوشك على البزوغ والطلّ سيبلل جبين الصباحْ..



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تحت الدلف إلى تحت المزراب
- البصلات المحروقة
- غاز.. غاز!
- حَدَثَ في -بوركينا فاسو-
- اللاءات الخمس و(النعمات) العشر
- الفاكهة المحرّمة
- الطبيب الذي لا يخاف
- قراءة في أعمال المجلس المركزي لهيئة التنسيق الوطنية
- رخصة بيع فلافل
- حكايات شخصية
- الثعلب
- حمامة وكوسا وأشياء أخرى...
- حين يتّسخ الضوء
- الجار قبل الدار
- سوبر ديلوكس
- القتل الرحيم
- الاحتفال الطبقي
- عزة نفس
- بعض أسرار الحرب السادسة
- القدر


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - خريف العمر