أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بشير صقر - فنون المظاهرة .. وتمهيد الطريق إلى الثورة ( 1 – 2 ) .. قراءة فى القواعد والتطبيق















المزيد.....



فنون المظاهرة .. وتمهيد الطريق إلى الثورة ( 1 – 2 ) .. قراءة فى القواعد والتطبيق


بشير صقر

الحوار المتمدن-العدد: 3774 - 2012 / 6 / 30 - 04:35
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


المظاهرة .. وتمهيد الطريق إلى الثورة ( 1 – 2 )
قراءة فى القواعد والتطبيق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة قبل البدء :
كتبتْ هذه المقالة فى الشهر الأخير من عام الثورة المصرية2011 ؛ ولم يكن من المتوقع نشرها إلا أن عددا من الأحداث التى جرت فى الشهور المنقضية من عام 2012 دفعتنا لنشرها بسبب ماحدث من احتشادات جماهيرية ثورية ومضادة وأخرى تجمع خليطا منهما بالذات فى ميدان التحرير ومدينة نصر بالقاهرة وفى الإسكندرية قبيل وفى أعقاب إظهار نتيجة الجولة الأخيرة للانتخابات الرئاسية.
ولأن البعض قد يتصور أن ما نعرضه فى السطور التالية عن التظاهر ينطبق بشكل دقيق على أحداث ثورة 25 يناير 2011 وتوابعها.. فإننا نؤكد أن هذا ما لا نراه؛ لأن المظاهرة شئ ووقائع الثورة شئ آخر حيث يختلف الحشد فى كل منهما ؛ فجمهور المظاهرة لا يتجاوز آلافا- وربما مئات - محدودة بينما هناك مارد اسمه الجموع يشكل حشود الثورة .. وعلاوة على اختلاف العدد والزخم وحجم الأحداث فإن لكل منهما منطقه وقوانينه الخاصة.
صحيح أن هناك قواسم مشتركة وسمات بعينها متشابهة لكنهما – أى القواسم والسمات – تعتبران مجرد عناصر تخضع فى كل حالة من الحالتين لمنطق وقوانين غير الأخرى وبالتالى لقراءة مغايرة.
فالمظاهرات - التى هى صغيرة مهما كبرت- تحدث فى زمن السلم وفى لحظات الهدوء النسبى فى زمن الثورة.. هى ميدان للتدريب على تجمعات الحشود الكبرى بل وتسهم فى التحضير لها .. لذا لزم التنويه .
................................................

الهندسة والزراعة علمان من العلوم الطبيعية عرفتهما البشرية منذ الأزل؛ لكل منهما بديهياته وقواعده وأسسه التى اكتشفها الإنسان وابتدعها طيلة مسيرته.
كما أن لكل منهما مدخلاته ومخرجاته التى يمكن معرفتها وحسابها أو توقعها ؛ لكنهما يفترقان فى كون الأول يتعامل مع عناصر صماء .. بينما ينفرد الثانى ببعض العناصر الحية والعوامل البيئية المتغيرة كالبذور والمناخ والنبات والحيوان.
* والسياسة أقرب ما تكون للزراعة ؛ فيها من المدخلات ما هو أصم وجامد وفيها ماهو حى ومتغير كالبشر.
* وبينما يمكن حساب المدخلات بدقة بالغة فى الهندسة ويمكن أيضا معرفة المخرجات بنفس الدقة؛ يختلف الأمر فى الزراعة والسياسة حيث المدخلات عادة تكون معروفة ومحسوبة لكنها تتعرض فى المسافة بين البداية والنهاية لعوامل حية بل ومعنوية لا يمكن حسابها أو توقعها إلا على وجه التقريب وفى بعض الأحيان وبشكل جزئى.
* هذا وتختلف السياسة أيضا عن الزراعة فى كون العوامل الحية فى الأخيرة تخلو من الشق المعنوى الذى يرتبط مباشرة بالبشر على غير الحال فى السياسة التى يلعب فيها البشر دورا مزدوجا .. أحدهما هو الأداة والثانى هو الموضوع. وتوضيحا للفكرة : يلعب البشر دور الأداة ( الزراع ) فى الزراعة .. بينما البذور والأرض والماء والنبات والحيوان .. إلخ تمثل الموضوع؛ أما فى السياسة فالبشر هم الأداة والموضوع فى آن واحد.
* والنشاط الإنسانى المتعدد الجوانب عندما يتم استخلاص أو اكتشاف قوانينه وقواعده وأسسه يتخذ صفة العِلْم ؛ لكن عندما يكون البشر عاملا ضالعا فيه ومعبرا عن الجوانب المعنوية والوجدانية فإنه يكتسب طبيعة أو طابعا فنيا ولا يقتصر لحظتها على كونه علما بل يصبح فنا فى نفس الوقت.
* ولأن تاريخ الإنسانية يزخر بكل صنوف النشاط المادى والمعنوى .. حيث انتقل الإنسان من مرحلة البدائية إلى مراحل أكثر تطورا .. فقد كان الاحتجاج عنصرا ملازما لذلك النشاط منذ تحول المجتمع البشرى إلى مجتمع طبقى.. تحكُم فيه القلة وتخضَع الكثرة، أيضا فبعد نشوء الدولة وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ باتت بعض المجتمعات تحكم أعدادا كبيرة من مجتمعات أخرى وتتحكم في مقدراتها وربما فى بقائها على قيد الحياة.
* ويتفاوت الاحتجاج من تمردات محدودة إلى هبات كبرى .. إلى ثورات هائلة؛ ومن هنا نرى أن الاحتجاج الشعبى يمكن أن يكون علما مثل علم الاجتماع ويمكن كذلك أن يتخذ سمات الفن .. حيث يتعامل فى جانب منه مع الميول والمشاعر والوجدان أو مع المزاج الإنسانى فى بعض لحظات تجلّيه وتحققه.
* ولما كان الاحتجاج كظاهرة إنسانية متعدد الجوانب والمراحل ( التمرد ،المسيرة، المؤتمر،المظاهرة ،العصيان العام ) ويمثل التظاهر واحدا من درجاته الوسطى ؛ فإن الأخير يحظى باهتمام خاص لكونه يمثل حالة انتقالية بين حالتين (( الخمول وربما اللامبالاة والمعاناة والإحساس بالظلم من ناحية .. والتوحد المؤقت فى الإرادة ورفض الظلم من ناحية أخرى )). * والتظاهر – رغم القواسم المشتركة التى تجمعه مع احتجاج أدنى منه درجة كالمسيرة وآخر أرقى منه كالعصيان العام أو الثورة – يشبه صبيا ينتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب .. لذلك يتسم بدرجة من العفوية والتلقائية وتنتابه مشاعر وأفكار شتى يعبر عنها بطريقة تمزج بين التفكير ولإعداد المسبق وبين تفجر الفطرة دون كوابح ؛ وهو فى هذا العبور يجمع بين سمات المرحلتين ؛ وأى انتقال من هذا الطراز يعنى ميلادا جديدا .
والمظاهرة - شأنها شأنأشكال لاودرجات الاحتجاج الأخرى – مدرسة لتعليم وتثقيف الجمهور وتدريبه على :
1- مواجهة قضاياه ومشاكله الحيوية واليومية.
2- وعلى عرض أو فرض رأيه استنادا لمصالحه الجمعية.
3- أو إبلاغ رسالة عامةللعالم أو لجهة محلية أو حارجية بشأن قضية أو موقف يخصه أو يخص شعبا آخر مثل الشعب الفلسطينى أو دولة أخرى كالملايات المتحدة الأمريكية.
وقبل أن نبدأ الحديث فى التطبيق نضرب مثالا عمليا لما كان يحدث فى غير زمن الثورة من مظاهرات – عدا الطائفية منها – و التى جرت بين الفترة ما بين عامى 2007-2010 حيث كانت المظاهرة بتدأ بتجمع للعمال أو الطلاب داخل ساحة المصنع (احتجاجا على رفض مطالب عمالية إقتصادية أو إدارية أو نقابية ) أو من الحرم الجامعى (اعتراضا على عدوان إسرائيلى على الشعب الفلسطينى أو على إغلاق منفذ رفح البرى على الحدود المصرية الفلسطينية إلخ ) حيث يقررون أثناء تجمعهم القيام بمظاهرة ؛ و سرعان ما يرتقى أحدهم أكتاف زملائه و يشرع فى رفع الشعارات .. يتحرك المتظاهرون داخل مقر الشركة أو الحرم الجامعى ؛ و بمجرد خروجهم للشوارع المحيطة تحاصرهم قوات الشرطة و تواجههم بالعصى و الغازات؛ و تستخدم الرصاص إذا ما وصل الاحتجاج إلى الأحياء الشعبية أو تبينت أجهزة الأمن اتساع نطاق التظاهر و انخراط قطاعات جديدة فيه ؛ كما حدث فى المحلة الكبرى فى إبريل 2008 ؛ و هكذا.
و بالتدقيق فى الأمر يتبين أن المتظاهرين لم يحددوا هدفا واضحا للمظاهرة أو لخط سيرها أو للشعارات المقرر رفعها. كذلك يتضح أنها تعرضت لكثير من الاجتهادات و التصرفات الفردية المتعارضة. و من ثم كانت عرضة لتسلل أسراب من المخبرين (رجال الشرطة المدنيين ) و عملائهم من البلطجية. و لأن المظاهرة فى نظر المتظاهرين سلمية الطابع و يصرون على استمرارها كذلك فإن المتسللين إليها يقومون بإفسادها .. ربما بتكسير بعض المحلات أو حرق بعض السيارات .. لتبرير التدخل الوحشى للشرطة ضدها ؛ و فى هذه الحالة تتحول إلى معركة دامية و ربما تتفرق أو تنقسم إلى مظاهرات أصغر و أقل عددا.
أما إذا اكتفت الشرطة بحصر سيرها فى أضيق الحدود أو بوقف تحركها تماما .. فإنها تبقى داخل مقر الشركة أو الحرم الجامعى ثم تنتفض.

و عند تقييم الأحداث فى الحالتين من جانب القائمين عليها لا نرى تقديرا واحدا أو تحديدا واضحا للأسباب التى أدت لضعف مردودها مقارنة بما بذل فيها من جهد و بما أثارته من زخم و حماس .. هذا فى الحالة الأولى ؛ بينما فى الحالة الثانية نجد الشكوى ربما من ضعف الحشد أو من تعارض الشعارات المرفوعة أو تضاربها أو من لا مبالاة بعض المتظاهرين.
هذا وبقراءة المثال السابق على ضوء تصورنا .. يهمنا توضيح الآتى:


* للمظاهرة أربعة أركان أو شروط:
أولها: الوعى بالقضية أو الموقف محل التظاهر والهدف منه.
وثانيها : المزاج الجماهيرى المستجيب لتلك القضية أو الموقف .. .والتفاعل معه. وثالثها : المكان الذى تنطلق منه والمسار الذى تتخذه.
ورابعها : الشعارات ( الهتافات ) التى ترفعها؛ فالمظاهرة الخالية من الشعارات تصبح مسيرة صامتة لا أكثر ، حيث يتصور البعض خطأ أن المظاهرة لا تتطلب أكثر من حشد وعدد من الشعارات .. وهو ما يهمل كثيرا من مقوماتها ومتطلباتها التى يجب توفيرها والإعداد المسبق لها..
وسوف نفرد لها مقالا مستقلا .

مقومات ( عناصر ) المظاهرة :
1-الإعداد والحشد : ويتضمن أ- تهيئة الجمهور المشارك لها قبلها بأيام أوبساعات ؛ وتوضيح هدفها؛ وخط سيرها ؛ وضوابطها .. وهو ما يساعد على إنجاحها وربما يساهم الإعداد فى اكتشاف عناصر مؤثرة أو أفكار هامة تفيد المظاهرة أو تجنبها انحرافا أو أخطاء بعينها. ب- كما يتضمن الشعارات، ورافعى الشعارات، ومكان الانطلاق بها، وخط السير ، والأدوات المصاحبة ( بيان ، صور،لافتات.. إلخ ) ، وتحديد كيفية التجمع وكيف ستنطلق؟.. من مكان معين أم من عدة أماكن متقاربة؟ لتتجمع فى أحدها بعد تهيئة كل الأماكن المذكورة لذلك ؛ وهل ستنطلق فى أعقاب مؤتمر ( نقابى أو سياسى ) أم قبله ؟ وفى الحالة الأولى يجب الإعداد له جيدا وضبط الأمور فور انتهائه لتبدأ المظاهرة.. وفى الحالة الثانية يجب ألا يتم إنهاك قادة المؤتمر ومنظميه بشدة فى المظاهرة.. وهكذا.

2- الشعارات ورافعوها: يجب إعداد الشعارات مسبقا قدر الإمكان بحيث تكون منضبطة على المطالب والأهداف وتغطى جوانب القضية أو الموقف،وتلعب دور إعلام الجمهور المشاهد بها وتثقيفه مع جمهور المظاهرة. كذلك تحديد رافعى الشعارات ومواقعهم وطريقة إلقائهم لها ( حملا على الأعناق أم سيرا وسط الجمهور )؛ وإمكانية ارتجالهم لشعارات غير معدة مسبقا ردا أو تفنيدا لوجهات نظر مناوئة أو استجابة لمستجدات هامة إلخ، مع ضرورة توفير أكثر من رافع للشعارات واحتياطى لهم،وإمكانية تنوعهم ( شاب ؛ فتاة ؛ فلاح ، عامل ) حسب نوع المظاهرة،وعموما فرافعو الشعارات هم عمليا قادة المظاهرة الميدانيين.

3-توجيه المظاهرة: من المنظمين لها ( وهم غير رافعى الشعارات) ويتركز دورهم فى متابعة المظاهرة بشكل عام ومراقبة تنفيذ ما اتفق عليه فى الإعداد عموما وتعديله إن تم الإخلال به ؛ ومتابعة تأثير الشعارات على جمهور المظاهرة والجمهور المشاهد ومدى استجابتهما لها.. مما قد يفرض عليهم توجيه رافعى الشعارات لأمور بعينها قد تفتقدها المظاهرة أو تستجد على الموقف أو تسد ثغرات تتضح أثناء السير.

4- حماية المظاهرة: لمراقبة أو منع دخول أية عناصر - مشبوهة أو أمنية أو خارجة على القانون أو سيئة السمعة- تحاول إفساد المظاهرة، والالتزام بخط السير المتفق عليه.

5- مسار المظاهرة: سواء كانت داخل حيز محدود ( مصنع – جامعة ) أو فى الشارع يجب الالتزام به لأن مسار المظاهرة يرتبط بعاملين شديدى التأثير على نجاحها هما:
الأول: إبراز الهدف من المظاهرة ( مطالبة بتعديل رواتب أو إجازات أو لوائح طبية أو جزائية؛ أو إفراج عن معتقلين أو إعادة مفصولين أو دعم فئات أخرى كالفلاحين ومنع طردهم من أراضيهم أو شعوب أخرى أو احتجاج على اتفاقية أو على دفن نفايات خطيرة أو تواطؤ على حقول ألغام أو على التنكيل بشعب أو بقومية أو أقلية واضطهادها أو على سياسة محددة .)
الثاني: ضرورة استكمالها دون صدام مع قوى أخرى مناوئة أو مع الأمن حيث قد يمثل الصدام عادة إجهاضا للمظاهرة وإفسادا للهدف منها أو ترويعا لجمهورها بالذات لو كان حديث العهد بذلك أو محدود الوعى .. وهذا يتطلب تجنب المرور فى تجمعات أو شوارع لا يتعاطف المتواجدون بها مع المظاهرة أو يعادونها ، مع ضرورة البقاء فترة أطول نسبيا فى المناطق أوالأحياء أوالتجمعات أو المدن السكنية الفئوية لإشعال حماس سكانها أو مرتاديها أو المتواجدين بها وحفزهم للمشاركة فيها.

6- حصاد المظاهرة :
لتقدير ما تحقق من نتائج وأهداف؛ وقطف ثمارها ببروز عناصر قد تلعب أدوارا أكبر وأهم ( جماهيريا وتنظيميا ) فيما بعد.، علاوة على انخراط أعداد أو قطاعات جماهيرية جديدة للحركة أو إشادة الآخرين من الجمهور بها أو رفضهم لها إلخ. ويتم ذلك من خلال عملية تقييم بعد انتهاء المظاهرة والاستماع للملاحظات التى يبديها كل من شارك فى تنظيمها وإدارتها والتحضير لها .

أهم المخاطر التى تتعرض لها المظاهرة:
أ- من داخلها: يعتبر الحماس المفرط وضعف الانضباط الذاتى فضلا عن التصرفات الفردية هى أكثر العناصر خطرا عليها وتفتح الطريق لإفسادها بسهولة لمن يتربص بها، علاوة على إنهاء المظاهرة بشكل مفاجئ غير متدرج ودون تفريغ حماس أعضائها بطريقة مناسبة. ب - من خارجها : عدم التنبه وقلة الخبرة فى تحديد خط سيرها والمناطق التى تمر بها والتى قد تكون معادية أو معزولة مما يسهل على الأمن حصارها.
والمظاهرة تختلف بالقطع عن أى تجمع احتجاجى غير متحرك- وإذا ما تم التحضير لها جيدا والالتزام بالتقديرات المشار إليها وبما اتفق عليه تُشعِرُ الجمهور بأن وراءها جهدا حقيقيا وقادة أكفاء وهو ما يوحده معها ومع قادتها من رافعى الشعارات، وحيث أن المظاهرة لخصت احتجاجه بدقة وكفاءة ورفعت روحه المعنوية فإن الحشد الجماهيرى يتحول إلى جسد واحد مستجيب سهل التوجيه.. لذا يتحتم التعامل معه بحرص بالغ وبعين مفتوحة وآذان مرهفة وبعد نظر لأن وصول الحشد المتظاهر إلى هذه الحالة ( حالة التوحد مع رافع الشعارات وكونه صار جسدا واحدا لا مجموعة أفراد ) هو ما ينقل المظاهرة ككل إلى حالة نفسية ومعنوية مختلفة ويخلق الثقة بالنفس وبها ويُشعِر كل فرد أنه وحيد بدونها وأنها ملأته بالقوة وأشبعته بالإنسانية ؛ بل وسيّلت حرارتُها كثيرا من همومه الجامدة المتراكمة. هذا وكلما طال وقت تلك الحالة كلما أثرت المظاهرة فى أعضائها من الجمهور بشدة وانعكس ذلك على الجمهور وعليه لا يجب الخضوع لأية انحرافات أو تصرفات أو عوامل تغير هذه الحالة.

إنهاء المظاهرة:
ولإنهاء المظاهرة يلزم أن يتم ذلك بشكل متدرج بمعنى ألا يتم إنهاؤها والجمهور فى هذه الحالة بل يجب إخراجه منها ؛ لأنه لو تم إنهاؤها فجأة ربما تتحول – تحت وطأة الحماس - إلى عدة مظاهرات صغيرة ؛ ومن ثم لا يمكن السيطرة عليها وربما تتعرض للاعتداء عليها أو للجنوح.. وهكذا. ولعل البعض يندهش من كون خط سير المظاهرة أحد هذه العوامل المحددة لكفاءة المظاهرة ، والحقيقة أنه لا مظاهرة دون خط سير ودون مرور فى وسط جمهور على جانبيها سواء كان ذلك فى حى أو مستعمرة سكنية أو منطقة لمؤسسات حكومية أو طرقات قرية أو منطقة صناعية؛ فعلاوة على أن أعضاء المظاهرة من الجمهور هم أحد أهدافها وأحد أدواتها فى وقت واحد ؛فإن الجمهور المشاهد لها ( مباشرة أو من خلال صورة حية ) هو أحدأهدافها الهامة.

دور الجمهور فى المظاهرة والملعب والمسرح:
وبمقارنة المظاهرة بجمهور مباراة رياضية أو بمسرحية نجد أوجها للتشابه ؛ منها أن درجة الإجادة من ( اللاعبين والممثلين ) ترفع حرارة وحماس الجمهور فى المباراة والمسرحية وهو نفس ما يحدث فى المظاهرة من رافعى الشعارات الذين لهم نفس التأثير على جمهورهم .. بل ويتجاوز تأثيرُهم ما يحدث فى الملاعب وقاعات المسارح لأن التفاعل فى حالة المظاهرة يكون مع أوضاع حية مثل كهموم المتظاهرين وآلامهم وتطلعات من يشاهدونهم. ولأن الجمهور ( فى الملاعب و المسارح والشوارع ) هو أحد مستهدفات المباراة والمسرحية والمظاهرة ؛ لكن الوضع فى المظاهرة يختلف فعندما يستبد الحماس بجمهور المظاهرة يمكنه الانخراط فيها ليصبح جزءا منها – وهذا قمة التفاعل- وهو شئ مسموح به وينال رضى المتظاهرين ويرفع روحهم المعنوية إلى عنان السماء بل ويشعرهم بنجاحهم فى مهمتهم ، وهو ما لا يمكن حدوثه فى الملاعب والمسارح وهنا يبرز الفارق بين الحالتين .
ولهذا السبب يسعى المتظاهرون لجذب الجمهور المشاهد ( المحيط بهم ) إلى صفوفهم بينما تشرع القوى المناوئة ومنها النظام الحاكم لعزله عنها وتفريقه ، وحيث يجتهد المتظاهرون فى توعيته وتثقيفه بشعاراتهم .. تستميت المناوئة فى تضليله وتنفيره من المظاهرة، ولأن المتظاهرين يضربون المثل والقدوة فى الجسارة وإنكار الذات يبحث المناوئون عن مبررات لتشويه قادتها والإيحاء للجمهور بأن لهم مآرب شخصية وادعاء بطولة؛ وبينما يشعل المتظاهرون في الجمهور النخوة والحماس ويشعرونه بقوته وإنسانيته واقتراب ساعة خلاصه وبقدرته على بناء مصيره بيديه ..يصر المناوئون على تيئيسه وبربط مستقبله بالمجهول والقدر وبحكام مستبدين .
بهذه الطريقة يدور الصراع بين الشعب وأعدائه أو بين مظاهرة من عدة آلاف مواطن وبين أجهزة أمن مسلحة وإعلام فاسد.
المزاج الجماهيرى:
هو ذلك الغائب الحاضر فى كل أشكال الكفاح الجماهيرى ومنها المظاهرات ويُعرَف بأنه ( الخلطة السحرية لجملة العوامل و العناصر المادية والمعنوية المتفاعلة التى تصنع الحالة النفسية للجماهير أو لقطاع منها فى لحظة معينة.) وتتمثل العوامل المادية فى مدى الوفاء بالاحتياجات المعيشية المتنوعة والإمكانات المتوفرة لتذليل العقبات والمشاكل التى يعانى منها ذلك المجتمع ؛ بينما تتمثل العوامل المعنوية فى المستوى الذى يتمتع به المواطنون بالأمن والاستقرار والبهجة وينعمون بنتائج وآثار التعليم والثقافة والعلاج والترفيه ويمارسون حقوقهم فى حرية التعبير والتنظيم والاحتجاج وحفظ الكرامة الشخصية والإحساس بالثقة بالنفس والوطن والاعتزاز به وبهيبته وحضارته ووزنه الدولى والإقليمى بالمقارنة بمواطنى المجتمعات الأخرى. ولا يخفى علينا أن دور المناضلين السياسيين والمثقفين والإعلام يسهم يشكل أو بآخر.. وبدرجة أو بأخرى فى تشكيل هذا المزاج سلبا وإيجابا .
كذلك فهذه العوامل المادية والمعنوية تتأثر بالأحداث اليومية التى يتعرض لها الجمهور وبالأحداث التى تخص شعبا أو قومية أخرى وتصل إليه من خلال وسائل الاتصال المتنوعة- وتتفاعل معها – ومن ثم تلعب دورا فى تأجيج شعوره بها أو إخماده ؛ وبالتالى تخلق الحالة المزاجية للجمهور فى لحظة بعينها.
والمزاج الجماهيرى فى لحظة بعينها إن تم استشعاره واستثماره؛ يمكن الاستفادة منه لتحريك الجمهور الذى يعيش هذه الحالة فى الاتجاه الصحيح الذى يتمناه.، وعلى العكس من ذلك إن لم يمكن من اسشعاره أو استثماره فى الوقت المناسب.. فإنه يتبدد كأية فرصة لا يجيد الإنسان انتهازها. ويمكن القول أن المزاج الجماهيرى هو العامل غير المرئى فى عمليات الاحتجاج والتمرد ومواجهة الأعداء ؛ ويعتبره بعض المحللين نوعا من الخيال الثورى أكثر منه مُعْطى معنويا أو ماديا .. بينما يعتبره بعض آخر منهم ضربا من التخمين أقرب إلى الأوهام، لكنه فى كل الأحوال يكون هذا المزاج هو الجندى- الذى يبدو مجهولا- فى معسكر الجماهير ؛ ويمثل ركنا قويا لا يمكن تجاهله فى المعادلة التى تصوغ العلاقة بين المعسكرين المتصارعين ( معسكر الجماهير ومعسكر أعدائها )، وهذا المزاج أعْقد فى توقعه أو استشعاره من توقع اكتشاف العناصر الكيماوية غير المعروفة فى الجدول الدورى للعناصر للعالم الكيميائى مندلييف؛ لكن المناضلين الحقيقيين المرتبطين بالجماهير تتخلق لديهم بالخبرة والتجربة القدرة والحاسة السادسة التى تمكنهم من هذا التوقع الذى يبدو أحيانا كلغز عسير الفهم.
ولأن بعض المفكرين والسياسيين المحافظين يرون النشاط السياسى مجرد معادلة حسابية طرفاها معسكران متصادمان .. إلا أن الحقيقة ووقائع التاريخ أثبتت أن تلك المعادلة ليست حسابية ولا بسيطة ولا مجردة ؛ بل هى معادلة حية من نوع فريد .. والسبب هو عامل المزاج الجماهيرى.. ذلك الغائب الحاضر فى كل نضال ؛ الذى لا يجيد أمثال هؤلاء السياسيين معرفته أو توقعه.
خاتمة:
نخلص من ذلك إلى أهمية هذه الأداة السحرية ( المظاهرة ) التى تظهر عند احتشاد أعداد من الجمهور – لأسباب متعددة- منها:
1- أن كل فرد من الجمهور فى وقت الخطر أو الأزمة يشعر بالوحدة والضعف كلما ظل واحدا .. ويتخلص تلقائيا من هذا الشعور بمجرد التقائه بمجموعة من أمثاله يعانون نفس الخطر؛ ويزداد شعوره بالقوة كلما ارتفعت أعداد المحتشدين معه ، كما أن الحشد لا يُزيد الشعور بالقوة فحسب بقدر ما يزيد القوة نفسها.
2- ومنها أن الإنسان كائن اجتماعى بالفطرة لا يشعر بوجوده إلا مع الآخرين.
3- ومنها أن الفرد يشعر عادة بحريته ضمن هذه الحشود على عكس ما يتصور الكثيرون؛ كما أنه يحس أيضا بالمساواة - مهما كانت طبقته الاجتماعية حيث تزول الفوارق التى صنعها المجتمع والنظام بينه وبين أقرانه. إن حالة من الحرية والمساواة والقوة ومن الترابط والألفة والإنسانية تتخلق فى حالة الاحتشاد خصوصا إذا ما استمرت لفترة من الزمن .. لأن الجمهور يفتقدها عندما يكون مبعثرا فى جنبات المجتمع ..حيث الوحدة والاغتراب والبرودة.
هذا وتلعب الشعارات ورافعوها في هذه الحالة دورا حاسما فهى تلحمهم ببعضهم وتوثق الصلة بينهم وتحولهم- فى لحظات احتشادهم - إلى معطى اجتماعى جديد مسيطر على المساحة- الشوارع - التى يتحركون فيها ؛ علاوة على ما تثيره المظاهرة من خيال متأجج يفجر الطاقات المخزونة ويُشعرهم بإمكانية تحقيق آمالهم الضائعة وطموحاتهم المغتصبة؛ ومن ناحية أخرى تساهم هذه الأداة الاحتجاجية فى تدريبهم على الانخراط فى مواجهات أوسع وأصعب وبالتالى الانتقال إلى أدوات الحسم النهائى.. إلى العصيان العام والثورة.

الاثنين 5 ديسمبر 2011 بشير صقر ..
لجنة التضامن الفلاحى / مصر






#بشير_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفسيران مختلفان لتنصيب رئيس جديد على مصر
- من دروس الثورة المصرية : انتهت البروفة.. وبات الإعداد للجولة ...
- السيناريو القادم فى مصر .. لا عزاء للثوار
- ما حك جلدَك مثلُ ظفرك.. يا جماهير الثورة المصرية
- مخاطر حقيقية تنتظر الثورة المصرية
- الطريق الثالث.. بين التزامات البناء الحقيقية.. ومراوحات النخ ...
- الأزمة تمسك بتلابيب أطراف العملية السياسية فى مصر
- عن انتخابات الرئاسة المصرية
- رسالة إلى الأصدقاء الأعزاء .. فى معسكر الثورة المصرية
- ليست نبوءة.. خُطط العسكر لترويض الثورة المصرية وألاعيب الإخو ...
- عن الزعماء الثلاثة .. غاندى الآسيوى ، ومانديلا الإفريقى ، وج ...
- فى يناير تحدث الثوار المصريون بالفرنسية .. فهل يتحدثون الآن ...
- السيناريوهات المحتملة لعودة المجلس العسكرى فى مصر لثكناته
- السبت الذى تحول.. من بروفة لإعدام الثورة .. إلى استعادة لروح ...
- جماعة الإخوان .. وأردوغان : من صلاح الدين.. إلى فساد الدين و ...
- بعد مهزلة وزارة الزراعة فى 9 سبتمبر باستاد القاهرة: طريقة مخ ...
- 9 سبتمبر.. الفلاحون وعيدهم .. والمتحدثون باسمهم .. عن القط و ...
- فى مدينة شبين الكوم: مستقبل مائتى طالب مصري معرض للضياع
- عن شهداء رفح الثلاثة واتفاقية الصلح مع إسرائيل
- طلخا .. صنعاء .. العريش .. وبالعكس.. مجموعة ال19 من المقاتلي ...


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بشير صقر - فنون المظاهرة .. وتمهيد الطريق إلى الثورة ( 1 – 2 ) .. قراءة فى القواعد والتطبيق