أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 16















المزيد.....


قراءة في طبائع الاستبداد ج 16


محمد الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 3703 - 2012 / 4 / 20 - 21:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يقول الكواكبي:
ثمَّ إنَّ التموُّل لأجل الحاجات السالفة الذِّكر وبقدرها فقط محمودة بثلاثة شروط، وإلاّ كان التموّل من أقبح الخصال:
الشرط الأول: أن يكون المال بوجه مشروع حلال؛ أي بإحرازه من بذل الطبيعة، أو بالمعاوضة، أي في مقابل عمل، أو في مقابل ضمان على ما تقوم بتفصيله الشرائع المدنية. انتهى النقل.
المال الحلال شرط أساسي حتى تقوم الدول على أساس العدل، فوجب محاربة كل أشكال التربح الغير قانوني، كالاختلاس، الرشوة، الامتياز، السرقة وغيرها كثير.
ومنه نجد ضرورة وجود نظام رقابي وضرائبي عادل، ونظام محاسبي دقيق لا يترك أي شاردة وواردة إلا وعرف مصدرها، وقانونية التربح.
ثم يقول:
والشرط الثاني: أن لا يكون في التموّل تضييق على حاجيات الغير كاحتكار الضروريات، أو مزاحمة الصنّاع والعمال الضعفاء، أو التغلُّب على المباحات؛ مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحاً لكافة مخلوقاته، وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها، وتغذّيهم بثمراتها، وتأويهم في حضن أجزائها، فجاء المستبدّون الظالمون الأولون ووضعوا أصولاً لحمايتها من أبنائها وحالوا بينهما. فهذه إيرلندة –مثلاً- قد حماها ألف مستبدّ مالي من الإنكليز، ليتمتعوا بثلثي أو ثلاثة أرباع ثمرات أتعاب عشرة ملايين من البشر الذين خُلِقوا من تربة إيرلندة. وهذه مصر وغيرها تقرب من ذلك حالاً وستفوقها مالاً، وكم من البشر في أوربا المتمدنة، وخصوصاً في لندرة وباريس، لا يجد أحدهم أرضاً ينام عليها متمدداً، بل ينامون في الطبقة السفلى من البيوت؛ حيث لا ينام البقر، وهم قاعدون صفوفاً يعتمدون بصدورهم على حبالٍ من مسد منصوبة أفقية يتلوون عليها يمنةً ويسرة.
وحكومة الصين المختلّة النظام في نظر المتمدنين، لا تجيز قوانينها أن يمتلك الشّخص الواحد أكثر من مقدار معين من الأرض لا يتجاوز العشرين كيلومتراً مربعاً؛ أي نحو خمسة أفدن مصرية أو ثلاثة عشر دونماً عثمانياً. وروسيا المستبدّة القاسية في عُرف أكثر الأوربيين وضعت –أخيراً- لولايتها البولونية الغربية قانوناً أشبه بقانون الصين، وزادت عليه أنَّها منعت سماع دعوى دينٍ مسجّل على فلاح، ولا تأذن لفلاحٍ أن يستدين أكثر من نحو خمسمائة فرنك. وحكومات الشّرق إذا لم تستدرك الأمر فتضع قانوناً من قبيل قانون روسيا، تصبح الأراضي الزراعية بعد خمسين عاماً أو قرن على الأكثر كإيرلندة الإنكليزية المسكينة، التي وجدت لها في مدى ثلاثة قرون شخصاً واحداً حاول أن يرحمها فلم يُفلح؛ وأعني به غلادستون، على أنَّ الشرق ربما لا يجد في ثلاثين قرناً من يلتمس له الرَّحمة. انتهى النقل.
ونستطيع اجمال كل ما قاله الكواكبي في أعلاه بمحاربة الاحتكار والاقطاع.
أي لو كانت الدولة تحوي نظام مساعدة اجتماعية حقيقي وواقعي، يأخذ من الأغنياء باستقطاع نسب ضرائب أعلى مما هي تقطع من قليلي الدخل، ومن ثم اعادة توزيعها على الطبقات الفقيرة، لكان هو الحل لما ينادي به الكواكبي من محاربة الاقطاع في الجانب الزراعي، والاحتكار في الجانب الصناعي.
وهذا يدعونا لدعم انشاء دولة الكفالة الاجتماعية، أي ان الدولة تكون هي الضامنة والمسيطرة على عملية توزيع الثروة في البلاد، وأن لا تتركها للعامة، فيستغل القوي الضعيف.
ثم يقول:
والشرط الثالث لجواز التمّول، هو: ألا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، وهذا معنى الآية: كلا إنَّ الإنسان ليطغى*أن رآه استغنى، والشرائع السماوية كلُّها، وكذلك الحكمة الأخلاقية والعمرانية حرَّمت الربا؛ صيانةً لأخلاق المرابين من الفساد، لأنَّ الربا: هو كسب بدون مقابل مادي؛ ففيه معنى الغصب، وبدون عمل؛ لأنَّ المرابي يكسب وهو نائم؛ ففيه الأُلفة على البطالة، ومن دون تعرُّض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك؛ ففيه النماء المطلق المؤدي لانحصار الثروات. ومن القواعد الاقتصادية المتَّفق عليها أنْ ليس من كسب لا عار ولا احتكار فيه أربح من الربا مهما كان معتدلاً، وأنَّ بالربا تربو الثروات فيختلُّ التساوي أو التقارب بين النّاس. انتهى النقل.
صحيح ما يقوله الكواكبي، فكثرة المال تشجع على الفساد، وفساد خلق جامع المال يؤدي لفساد المقربين والمتعاملين معه، وبالنتيجة فساد المجتمع.
ويقول بعدها:
وقد نظر المالّيون وبعض الاقتصاديين من أنصار الاستبداد في أمر الرِّبا، فقالوا: إنَّ المعتدل منه نافع، بل لا بدَّ منه. أولاً: لأجل قيام المعاملات الكبيرة، وثانياً: لأجل أنَّ النقود الموجودة لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسماً منها أيضاً؟! وثالثاً: لأجل أنَّ كثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح أو لا يقدرون عليها، كما أنَّ كثيراً من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان. فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات بعض الأفراد. أما السياسيون الاشتراكيو المبادئ والأخلاقيون، فينظرون إلى أنَّ ضرر الثروات الأفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها. لأنها تمكِّن الاستبداد الداخلي، فتجعل الناس صنفين: عبيداً وأسياداً، وتقوّي الاستبداد الخارجي، فتسهِّل للأمم التي تغنى بغناء أفرادها التعدّي على حرية استقلال الأمم الضعيفة. وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة؛ ولذلك يقتضي تحريم الرِّبا تحريماً مغلَّظاً. انتهى النقل.
مشكلة تحريم الربا مشكلة اقتصادية كبيرة لا يمكن حلها بجرة قلم، فحتى لو قامت دولة ما بتحريمه ومنعه، فكيف يمكن منعه عالميا؟
ثم كيف الحل لتلك الدولة لو احتاجت للاستدانة من غيرها من الدول، فحتى لو كانت نسبة الربح بسيطة، كواحد بالمئة، ولكن ما زال هناك ربا، ولا يمكن الحصول على المال دوليا إلا عن طريقه.
هذا الأمر يحتاج لجهد كبير من الاقتصاديين كي يجدوا طريقة جديدة لعمل الاقتصاد العالمي بدل الربا.
ولكني أضم صوتي لصوت الكواكبي بوجوب منعه نهائيا، لان الدولة التي تستدين لا بد وأنها تمر بظروف صعبة أجبرتها على هذا الخيار، وبالتالي بدل مساعدتها ماليا بالعطاء أو الاستدانة الخالية من الربح، يتم تحميلها ارباح المبلغ المستدان، مما يضاعف المبلغ الأصلي.
فهناك كثير من الدول حول العالم تشقى كثيرا لتدفع فقط ارباح مديونيتها، وليس اصل الدين، وبالتالي تتوقف لديها برامج التنمية والتربية والصحة، وغيرها كثير من الخدمات التي تقدمها الدولة، وبالنتيجة الطبقة الضعيفة والفقيرة ستكون هي اول المتأثرين بفعل ربح الدين.
ثم يقول:
حِرْص التموُّل، وهو الطمع القبيح، يخفُّ كثيراً عند أهالي الحكومات العادلة المنتظمة ما لم يكن فساد الأخلاق منغلباً على الأهالي، كأكثر الأمم المتمدِّنة في عهدنا؛ لأنَّ فساد الأخلاق يزيد في الميل إلى التموُّل في نسبة الحاجة الإسرافية، ولكنَّ تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسيرٌ جداً، وقد لا يتأتى إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطّة، أو التجارة الكبيرة التي فيها نوع احتكار، أو الاستعمار في البلاد البعيدة مع المخاطرات، على أنَّ هذه الصعوبة تكون مقرونة بلذّة عظيمة من نوع لذّة من يأكل ما طبخ، أو يسكن ما بنى. انتهى النقل.
لدى الدول التي تمارس العدل بين أفرادها يصعب وجود حالة تجميع للمال بطرق الغش والخداع إلا ما ندر، وهكذا دول يسعد عيش الفقير فيها.
ثم يقول:
وحِرْص التموّل القبيح يشتدُّ في رؤوس الناس في عهد الحكومات المستبدِّة؛ حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدّي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء، ورأس مال ذلك هو أنْ يترك الإنسان الدِّين والوجدان والحياء جانباً وينحطَّ في أخلاقه إلى ملائمة المستبدّ الأعظم، أو أحد أعوانه وعماله، ويكفيه وسيلةً أن يتّصل بباب أحدهم ويتقرَّب من أعتابه، ويظهر له أنَّه في الأخلاق من أمثاله وعلى شاكلته، ويبرهن له ذلك بأشياء من التملُّق وشهادة الزور، وخدمة الشهوات، والتجسس، والدلالة على السّلب ونحو ذلك. ثمَّ قد يطلع هذا المنتسب على بعض الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها خوفاً حقيقياً أو وهمياً، فيكسب المنتسب رسوخ القدم ويصير هو باباً لغيره، وهكذا يحصل على الثروة الطائلة إذا ساعدته الظروف على الثّبات طويلاً. وهذا أعظم أبواب الثروة في الشرق والغرب، ويليه الاتِّجار بالدّين، ثمَّ الملاهي، ثمَّ الربا الفاحش، وهي بئس المكاسب وبئس ما تؤثِّر في إفساد أخلاق الأمم. انتهى النقل.
صحيح ما قاله الكواكبي، فبوجود الحاكم المستبد تفسد بطانته، وبالتالي ستجد طبقة المنتفعين والوصوليين طريقها سالكا لتتقرب من بطانة الحاكم، فتفيد، وتستفيد، وبالنتيجة فساد مستشري في المجتمع، وفقد للعدالة، وتوزيع مجحف للثروة، والفقراء يزدادون فقرا وذلا يوما بعد آخر.
ثم يقول:
وقد ذكر المدققون أنَّ ثروة بعض الأفراد في الحكومات العادلة أضرّ كثيراً منها في الحكومات المستبدَّة؛ لأنَّ الأغنياء في الأولى يصرفون قوّتهم المالية في إفساد أخلاق الناس وإخلال المساواة وإيجاد الاستبداد، أمّا الأغنياء في الحكومات المستبدّة فيصرفون ثروتهم في الأبَّهة والتعاظم إرهاباً للناس، وتعويضاً للسّفالة المنصبّة عليهم بالتغالي الباطل، ويسرفون الأموال في الفسق والفجور. انتهى النقل.
وهذا توصيف رائع من الكواكبي، ففساد بعض الافراد في الدولة الفاسدة يكون أقل ضررا منه في الدولة العادلة، لأنه في الفاسدة، نجد الفساد مستشري، بينما في العادلة قلة الفساد يؤثر فيه بروز فاسد جديد.
ثم يقول:
بناءً عليه؛ ثروة هؤلاء يتعجّلها الزوال؛ حيث يغصبها الأقوى منهم من الأضعف، وقد يسلبها المستبدُّ الأعظم في لحظةٍ وبكلمة. وتزول أيضاً – والحمد لله– قبل أن يتعلّم أصحابها أو ورثتهم كيف تُحفظ الثروات، وكيف تنمو، وكيف يستعبدون بها الناس استعباداً أصولياً مستحكماً، كما هو الحال في أوربا المتمدنة المهدَّدة بشروط الفوضويين بسبب اليأس من مقاومة الاستبداد المالي فيها. انتهى النقل.
هنا أخالف الكواكبي فيما توصل اليه، فالفاسد في الدولة الفاسدة يعلم ابنائه كيفية الفساد، وبالتالي يكون كالسرطان المستشري، يأكل سائر الجسد، بينما في الدولة العادلة يمكن القضاء عليه وعلى فساده لأنه واضح للعيان، وبالتالي بإمكان الدولة العادلة محاربته ومحاربة فساده.
ثم يقول:
ومن طبائع الاستبداد أنَّه لا يظهر فيه أثرُ فقر الأمة ظهوراً بياناً إلا فجأةً قُرَيب قضاء الاستبداد نحبه. وأسباب ذلك أنَّ الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغرّبهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب، فتتقلّص الثروة، وتكثر النقود بين الأيدي. وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح. انتهى النقل.
هنا أخالف الكواكبي فيما توصل اليه، صحيح أن فقر الامة يكون مستشري جدا قبل سقوط المستبد بقليل، وسبب ذلك ان الاستبداد والفقر وصل لحد لا تستطيع الامة العيش معه، فيكون سقوط المستبد بلحظة الوصول للنقطة الحرجة في معيشة الناس عامة، ووصول الاستبداد لدرجة لا يمكن السكوت عليها، وليس للشعب ما يعيش به، فيصبح عند افراده لا فرق بين حياة او ممات.
ثم يقول:
ولنرجع إلى بحث طبيعة الاستبداد في مطلق المال فأقول: إنَّ الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المستبدّ وأعوانه وعمّاله غصباً، أو بحجةٍ باطلة، وعرضةً أيضاً لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يُحصَل إلا بالمشقّة، فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم المنِّ على الانتفاع بالثمرة. انتهى النقل.
وهذا حق، ففي زمن المستبد، يرتع اللصوص والخونة، وفي دولة العدالة يضمحل دورهم إن لم ينقرض.
ثم يقول:
حِفْظُ المال في عهد الإدارة المستبدّة أصعب من كسبه؛ لأنَّ ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يُضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر والفاقة، ولهذا ورد في أمثال الأُسراء أنَّ حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأنَّ العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأنَّ أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكّام ولا يعرفونه. انتهى النقل.
أؤيد ما قاله الكواكبي، فظهور المال عند الفرد زمن المستبد يدعو باقي اللصوص للتوجه نحوه، والغدر به للاستحواذ على ماله، وهذا ما لا يكون في زمن العدل، ولكن كذلك زمن الاستبداد تسعد الناس الفاسدة بإظهار أثر المال على حياتهم، فتراهم يقتنون أغلى المنازل والتحف والكنوز، حيث أن من آثار فسادهم أيضا هو حب التفاخر والتباهي.
ثم يقول:
ومن طبائع الاستبداد، أنَّ الأغنياء أعداؤه فكراً وأوتاده عملاً، فهم ربائط المستبدِّ، يذلُّهم فيئنّون، ويستدرّهم فيحنّون، ولهذا يرسخ الذلُّ في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبدُّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضاً قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءةٍ ونذالة، خوف البغاث من العقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلاً عن الإنكار، كأنهم يتوهَّمون أنَّ داخل رؤوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرّهم فعلاً رضاء المستبدِّ عنهم بأيِّ وجهٍ كان رضاؤه. انتهى النقل.
الأغنياء عامة يحبون المستبد، لأنه تحت وصايته يمكنهم عمل ما يحبون، وجني مال بطرق شتى، أكثرها غير قانونية ولا أخلاقية، فمهما أخذ منهم المستبد، وحتى لو كرهوه لتصرفاته، ولكنهم يحبونه ويرغبون بدوام سلطته لان به حياتهم ومنفعتهم ورخائهم.
ثم يقول:
وقد خالف الأخلاقيون المتأخِّرون أسلافهم في قولهم، ليس الفقراء بعيب، فقالوا: الفقر أبو المعائب؛ لأنه مفتقرٌ للغير، والغناء استغناءٌ عن النّاس، ثمَّ قالوا: الفقر يذهب بعزّة النفس، ويفضي إلى خلع الحياء، وقالوا: إنَّ لحسن اللباس والأمتعة والتنعّم في المعيشة تأثيراً مهماً على نفوس البشر، خلافاً لمن يقول: ليس المرء بطيلسانه، وحديث (اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم) هو لأنّه يحمل على التعوّد جسماً على المشاقّ في الحروب والأسفار وعند الحاجة. فقالوا: إنَّ رغد العيش ونعيمه لمن أعظم الحاجات، به تعلو الهمم، ولأجله تُقتَحم العظائم. انتهى النقل.
الفقر عيب أو ليس بعيب يرجع لثقافة المجتمع، فهي قيمة نسبية، وليست مطلقة، فلو نظرنا حسب الثقافة الشرقية، نجد انه ليس بعيب، ولكن حسب الثقافة الغربية فهو عيب، لأنه يعني الانسان لغيره، وفي الحاجة نقص للحرية، وفي نقص الحرية شرخ للكرامة الانسانية.
ثم يقول:
يُقال في مدح المال: إنَّ ما يحلُّ المشكلات الزمان والمال. القوة كانت للعصبية، ثمَّ صارت للعلم، ثمَّ صارت للمال. العلم والمال يُطيلان عمر الإنسان؛ حيث يجعلان شيخوخته كشبابه. لا يُصان الشّرف إلا بالدمّ، ولا يتأتى العزُّ إلا بالمال. وقد مضى مجد الرجال وجاء مجد المال. وورد في الأثر: إنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى. وأنَّ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر. ولم يكن قديماً أهمية للثروة العمومية، أما الآن وقد صارت المحاربات محض مغالبة وعلم ومال، فأصبح للثروة العمومية أهمية عظمى لأجل حفظ الاستقلال، على أنَّ الأمم المأسورة لا نصيب لها من الثروة العمومية، بل منزلتها في المجتمع الإنساني كأنعام تتناقلها الأيدي، ولا تعارض هذه القاعدة ثروة اليهود؛ لأنها ثروة غير مزاحمين عليها، لأنها فيما يقوله أعداؤه فيها: ثروة رأسمالها الناموس، ومصرفها الملاهي والمقامرة والربا والغشّ والمضاربات، ولا يخلو هذا القول من التحامل عليهم حسداً ممن يقدمون إقدامهم ولا ينالون منالهم. انتهى النقل.
أصبح للمال مكان عظيم في عصرنا، فبه تستطيع فتح أبواب كثيرة مغلقة، هو كالمفتاح الذي يفتح لك ما تحب من أبواب، ولكنه لا يمكنه من شراء كل شيء، فيمكنك بالمال شراء أرقى وأحدث التكنولوجيا، ولكن لا يمكن شراء قلب كاره أو باغض ليصبح محب مثلا.
ثم يقول:
هذا وللمال الكثير آفات على الحياة الشريفة ترتعد منها فرائص أهل الفضيلة والكمال، الذين يفضلون الكفاف من الرِّزق مع حفظ الحرية والشرف على امتلاك دواعي الترف والسّرف، وينظرون إلى المال الزائد عن الحاجة الكمالية أنّه بلاء في بلاء في بلاء؛ أي أنّه بلاءٌ من حيث الافتكار بإنمائه، وأما المكتفي فيعيش مطمئناً مستريحاً أميناً بعض الأمن على دينه وشرفه وأخلاقه. انتهى النقل.
وهذه هي أعظم حكمة، فالمال الذي يجعل صاحبه مكتفي عن حاجة الناس المذلة لكرامته، والذي يكفيه غذاءه ليومه وغده، ويعطيه بيتا ليعيش فيه، مع اسرته وكل محبيه، لهي أفضل بكثير من أن تملك المليارات، وتفكر بها ليل نهار، كيف تكبرها وتنميها، ولا تفكر أو تدري أهناك من تضرر من مالك وأعمالك، أو هناك من هم بحاجة ماسة لبضعة أوراق من ملياراتك المكدسة.
ثم يقول:
قرر الأخلاقيون أنَّ الإنسان لا يكون حراً تماماً ما لم تكن له صنعة مستقلٌّ فيها؛ أي غير مرؤوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء. وعليه تكون أقبح الوظائف هي وظائف الحكومة. وقالوا: إنَّ للصنعة تأثيراً في الأخلاق والأميال، وهي من أصدق ما يُستَدلُّ به على أحوال الأفراد والأقوام. فالموظفون في الحكومة مثلاً يفقدون الشفقة والعواطف العالية تبعاً لصنعتهم التي من مقتضاها عدم الشعور بتبعة أعمالهم، وقال الحكماء: إنَّ العاجز يجمع المال بالتقتير، والكريم يجمعه بالكسب، وقالوا: إنَّ أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد، وقالوا: خير المال ما يكفي صاحبه ذلّ القلة وطغيان الكثرة. وهذا معنى الحديث (فاز المخففون) وحديث (اسألوا الله الكفاف من الرزق). ويُقال: الغنى غنى القلب، والغني من قلَّت حاجته، والغني من استغنى عن الناس. وقال بعض الحكماء: كلُّ إنسانٍ فقير بالطبع ينقصه مثل ما يملك، فمن يملك عشرة يرى نفسه محتاجاً لعشرة أخرى، ومن يملك ألفاً يرى نفسه محتاجاً لألفٍ أخرى. وهذا معنى الحديث: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحبَّ أن يكون له واديان). انتهى النقل.
وهي حكم رائعة، يا ليت الناس تعمل بها، وليس فقط تقرأها.
ثم يقول:
ولا يقصد الأخلاقيون من التزهيد في المال التثبيط عن كسبه، إنما يقصدون أن لا يتجاوز كسبه بالطرائق الطبيعية الشريفة. أما السياسيون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت، والغربيون منهم يُعينون الأمة على الكسب ليشاركوها، والشرقيون لا يفتكرون في غير سلب الموجود، وهذه من جملة الفروق بين الاستبدادين الغربي والشرقي، التي منها أنَّ الاستبداد الغربي يكون أحكم وأرسخ وأشدّ وطأةً، ولكنْ؛ مع اللّين، والشرقي يكون مقلقلاً سريع الزوال، ولكنّه يكون مزعجاً. ومنها أنَّ الاستبداد الغربي إذا زال تبدّل بحكومة عادلة تُقيم ما ساعدت الظروف أن تقيم، أما الشرقي فيزول ويخلفه استبداد شرٌّ منه؛ لأنَّ من دأب الشرقيين أن لا يفتكروا في مستقبل قريب، كأنَّ أكبر همهم منصرف إلى ما بعد الموت فقط، أو أنهم مبتلون بقصر النظر. انتهى النقل.
حكمة جميلة كلمات الكواكبي الأخيرة، فالشرقي لا يفكر بمستقبله، بل كل همه ما بعد الموت، أي جنة ونار، ومع هذا فهو لا يعمل لها عملها، بل يقتل هذا، ويسب ذاك، فخسر يومه لأنه نساه، وخسر غده لأنه لم يعمل له.
وخلاصة القول: إنَّ الاستبداد داءٌ أشدُّ وطأةً من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السّيل، أذلُّ للنفوس من السؤال. داءٌ إذا نزل بقومٍ سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرض تناجي ربّها بكشف البلاء. الاستبداد عهدٌ؛ أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجّلون الموت فيحسدهم الأحياء.



#محمد_الحداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 15
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 14
- مقالات علمية بسيطة ج 5
- مقالات علمية بسيطة ج 4
- مقالات علمية بسيطة ج 3
- دمقرطة وعصرنة الاسلام ج 2
- النساء ليس جمع امرأة
- قتل القذافي وابنه المعتصم جريمة حرب
- دمقرطة و عصرنة الإسلام
- الحوار المتمدن يسأل... ونحن نجيب
- أوقفوا الزيادة قبل فوات الأوان
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 13
- 2083 ج 7
- لورنس العرب الجديد برنار هنري ليفي
- محكمة فاطمة الزهراء
- انكحوا ستة عشر امرأة
- زحل يعتذر
- 2083 ج 6
- 2083 ج 5
- 2083 ج 4


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 16