أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - يوميّات!! قصة قصيرة















المزيد.....

يوميّات!! قصة قصيرة


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 3670 - 2012 / 3 / 17 - 15:39
المحور: الادب والفن
    


يوميّات!!

ـــ 1 ــــ

حالما دخلت شقتي هرعت الى غرفة الجلوس..حمدا لله زوجتي ــ على غير عادتها ــ هنا... كانت زوجتي ــ على عادتها ــ تقوم بإجراء مكالمة هاتفيّة... كدت أسألها " مع من تتحدثين"، غير أن سماعي صوت أخيها الذي وصلني من مكبّر صوت هاتفها المحمول، قد وفـّر عليّ السؤال... على فكرة، لقد ثبت علميّا خطورة الهاتف المحمول على الدماغ، و تسببه في سرطان أكيد لمن استعمله أكثر من خمس دقائق في كل مكالمة.. على شرط أن لا تكون المكالمات متتابعة كالتي تجريها زوجتي بشكل محموم.. قد تقول: تلك مجرّد إشاعات لا أكثر و لا أقل، ولكنك لو علمت بتكالب الشركات الصناعية الكبرى على تحقيق أرباح سريعة على جثث المستهلكين، لغيرت رأيك في الحين.. فشركات التدخين ــ مثلا ــ، ظلّت في أواسط أربعينات القرن الماضي ولمدّة ثلاث سنين كاملة، تتكتّم عن التقارير الطبية التي أثبتت ضرر التدخين بالصحّة، و تسبّبه في سرطان الرئة... بالأمس تابعت برنامجا إذاعيا يتحدث عن نوع من البهارات الصناعية دخل بقوة الى المطبخ العربي وأصبح حضوره كالملح في الطعام، بعد أن غزا الأسواق بفعل الدعاية الإذاعية و التلفزيونية... بدأ مقدم البرنامج باستشارة خبيرة تغذية حول القيمة الغذائية للمنتوج، أكدت الخبيرة و بطريقة علمية مدعومة بالأرقام و آخر الإحصائيات، بأنّ المنتوج لا يضرّ كثيرا اذا وقع تناوله مرّة في كل نصف شهر، امّا اذا وقع تناوله يوميّا او حتى مرتين في الأسبوع، فانه يسبب هلاكا محققا لمستهلكه... أثنى مقدّم البرنامج كثيرا على غزارة معلومات الخبيرة و ضميرها المهني اليقظ، و حسّها الوطني المرهف الذي حتّم عليها الإدلاء بكل تلك المعلومات القيّمة، قبل ان يلطم المستمعين بآخر بكائيات " سلطان الطرب" جــورج وسّــوف( اسمحوا لي بملاحظة سريعة:
ظللت أتساءل لسنوات عديدة: لم يذكّرني جورج وسّوف بأي حاكم عربيّ حتى توصلت أخيرا الى قاسم مشترك يجمع بينهما... فكلما ساء أداء الحاكم و كثر إفساده كثرت ألقابه وزاد التطبيل له.. بعد انتهاء الفاصل الجنائزي إستقبل مقدم البرامج الناطقة الرسمية عن الشركة التي تصنّع و تروّج المنتوج القاتل... بمجرّد تناولها الكلمة، شرعت تسفّه آراء الخبيرة الصحيّة، و تستهين بكل ما أدلت به من حقائق و قدمته من أرقام، قبل أن تصف كلامها بالمبالغة الشديدة و الحذر المرضيّ و التوجّس من كل جديد، وقد راعني ان مقدّم البرنامج كان يؤيّد كلّ جملة تقولها بأكثر من حماسها، حتى كأنه هو من كلّف بالدعاية لذلك المنتوج!... حين لم أستطع صبرا، أغلقت المذياع، لكنني فتحته بعد أقل من دقيقتين، لأجد مقدّم البرنامج يستأذن المستمعين للتمكين له من فاصل إشهاريّ قصير أستهل ثم أختتم، بالدعاية للمنتوج القاتل!.. لك الله يا شعوبنا اذا كانت حكوماتك لا تتقن سوى صناعة الموت... ملاحظة أخيرة: رغم هذه الإطالة فأنا لا أجد أي ضرورة للاعتذار عنها، لأن القصّة التي سأرويها لكم لها صلة وثيقة بالموت و الحياة.


ـــ 2 ــ

قبل ان أتمكن من الإفصاح لزوجتي بما يدور في ذهني المضطرب، وعقلي المشوّش، بسبب ما رأيت و هول ما سمعت منذ أقلّ من ساعة، فهمت من مكالمتها انها تنتظر سمكا طازجا سيأتيها به شقيقها من بيته، بعد قطع" مسافة السكّة"، لأجل ذلك سارعت مقاطعا:

ــ أطلبي منه إذن إحضار الأمانة رقم 2 معه.
سألتني باستغراب:
ــ أية أمانة؟
ــ هو يعرف... هو يعرف.

دخلت المطبخ، رغم جوعي الشديد، فقد كنت فاقد الرغبة في الطعام، فتحت درج الخزانة، التقطت ولاّعة دسستها في جيبي... يقول المثل الإسبانيّ" الرّجل السعيد هو من يفضي الى زوجته بكلّ أسراره"... حين لم أكن من ذلك الصنف من الأزواج، فقد أخفيت على زوجتي حكايات كثيرة من ضمنها حكاية الأمانة رقم 2.. كما لم أر أي داع للكشف عنها السّاعة، خصوصا في هذا الظرف العصيب ... ذات قمامة عربية، صرّح القذافي بان لا شيء يوحّد بين حكّام العرب غير وجودهم تحت سقف قاعة المؤتمر!.. أنا أيضا، لا شيء يوحّد بيني و بين زوجتي سوى سقف بيت الزوجية.. قد تسألني لم لا تطلقها و تتخلص من قرف العيش معها، هنا أجيب بأنني أقل قسوة من تأسيس حياة جديدة ـ ستكون اقل تعاسة دون أدنى ريب ــ على حساب ابنتي ّ اللتيّن ستدفعان ثمن" غلطة عمري" باهضا.... ذات جلسة محكمة، فوجىء القاضي بزوجين قد تجاوزا التسعين وهما يصرّان على إنهاء حياتهما الزوجية التي استمرت سبعة عقود من الشجار، حين سألهما القاضي عن سبب تأخرّهما عن إتمام الطلاق، أجابا بصوت واحد" كل ننظر وفاة كلّ أولادنا.. رحمة بهم! "... انا أيضا و كما قلت لكم ضد الطلاق المسبب في تشريد الأطفال... فما ذنب تلك النفوس البريئة كي تعيش ممزقة بين والدين مطلقين... لأجل ذلك فان شعاري في الحياة الزوجية" ادفع ثمن غلطتك كاملا و الى النهاية، ما دمت قد تورّطت في إنجاب أطفال مع إمرأة ليست في مستوى ان تكون امّا او زوجة او حتى مجرد جليسة عابرة في قطار.. " إلّى دارها بيديه يفكّها بسنّيه" هكذا غنى حميد الزاهر وهكذا أفكها أنا، لأجل ذلك، أوصى كلّ المتزوجين مسلمين كانوا او حتى عبّاد بقر، بان لا يبادروا بانجاب أي طفل قبل التأكّد من صلوحية أزواجهم كامراة و أم، أو كرجل وأب... لو كنت حاكما لوضعت قانونا في هذا الشأن، فعالمنا البائس أغنى ما يكون عن أطفال تعساء جدد... نظرت الى ساعتي.. في انتظار قدوم صهري، دخلت الحمام، راعني شحوب وجهي و صفرته الشديدة، تذكّرت جزع صديقي عبد الغفار سعيدان وهو يسلّم يديه المرتعشين الى أصفاد شرطيّ شابّ، مستقبلا حياة سجن سيغادره جثة هامدة.. ستكون صورته معروضة للجميع في جرائد الغد...

ــــــ 3 ـــــ

كانت زوجتي تحتضن بعينيها ممثّلا مكسيكيا شديد الفتنة حين أعلنت لها:
ــ قد أتاخر قليلا هذه الليلة.
سألتني دون ان تغادر وجه بطلها الوسيم:
ــ و السّمك الطازج؟
ــ اتركي لي نصيبي نيئا، سأطبخه حين أعود، و على مزاجي.
ــ لا تنس ان أمامك حوضا مسدودا لا بد من اصلاحه قبل الغد. فأنا لم اعد أطيق..
قبل ان تكمل كلامها، طرق سمعي جرس، انه صهري سليمان دون شك، حالما فتحت الباب تسلمت الامانة رقم 2 دسستها في جيب معطفي ثم انغمست في ظلمة الليل البهيم... كان عليّ الإختلاء بنفسي، حتى أتلفها بشكل كامل ونهائيّ... لم يعد هناك أيّ مجال للتهاون أو التأخير.. أنج سعد فقد هلك سعيد، و العاقل من اتعظ بغيره هكذا قيل قديما.. فالحذر واجب و السرعة مطلوبة... إستغرق وصولي الى بيت شقيقتي المهجور نصف ساعة كاملة قضيتها نهب الخواطر المزعجة و السيناريوهات الدّامية، كنت أفكّر بما كان سيقع لي لولا لطف الله، كما كنت مشغولا بما وقع فعلا لصديقي و استاذي عبد الغفار سعيدان.

فور وصولي توجهّت نحو قاعة الجلوس، الى حيث المدفأة بالتحديد.. لم أحتج إلى جلب حطب من القبو، فقد كانت جاهزة منذ الشتاء الماضي، كان بعض الورق كفيل بإشعال النار لكنني سكبت كثيرا من البنزين لهفة منّي على إكمال مهمّتى على أحسن وجه و بأقصى سرعة... سحبت ولاّعتي اشعلت الحطب، ثم جلست أراقب النار وهي تلتهب، ما ان استقرّ بي المقام حتى أنتشلت الأمانة رقم 2 من جيبي، استعذت بالله من شرّها و انا أضعها أمامي، لم أجرؤ على مجرّد فتحها، أعلم انها تضمّ سبع كراريس ملغومة كلّ واحدة منها في حجم الكفّ كنت قد دوّنت فيها يوميّات سبع سنين عجاف من حياة زوجيّة عاصفة... منذ بلوغي العشرين أعتدت تدوين يومياتي، حتى حصلت لي خمس عشر كرّاسة شكّلت حزمة كتبت عليها "الأمانة رقم 1 "، قبل أن أودعها خزانة صهري سليمان المعصومة من النيران، شفقة عليها من الضياع او التلف، ثم أضفت إليها بعد سبع سنوات "الأمانة رقم 2"...

منذ مطلع السنة الجديدة، و مع تفاقم خلافاتي الزوجية شملني إحباط و غشيني يأس و سربلني شقاء أفقدني الرغبة في أشياء كنت أجد في السابق متعة في ممارستها، بما في ذلك كتابة يومياتي السّخيفة والخطرة أيضا (الأمر الذي كان غائبا عنيّ الي حدّ هذا اليوم الأغبر )... حين أمسكت النار في الحطب، أمسكت بالأمانة رقم 2 بكثير من الحذر و التوجس، كما يمسك المقاتل بقنبلة يدوية نزع صمامها وقرب إنفجارها، ثم ألقيتها في أتون السّعير الملتهب.. انتشيت كثيرا لرؤية غلافها البلاستيكي وهو ينحسر عنها من أثر الحرارة، ثم ينكمش فيسودّ، قبل أن تتحوّل بأكملها الى كتلة من اللّهب... بعد مرور خمس دقائق، كان عليّ الاستعانة بقضيب حديديّ لتقليب كتل من صفحات لم تنل منها النيران، فعلت ذلك بعينين نصف مغمضتـين، و وجه مصروف عنها، خشية قراءة جملة او نصف جملة قد تدفع بي إلى عمل أحمق... حين خبت النيران مسفرة عن بقايا رمادية باهتة هي كل ما تبقىّ من الأمانة الرهيبة، أحسست براحة من تخلّص من حمل كان يثقل كاهله و ينقض ظهره. حتى انني افتقدت سيجارة إحتفالية أتوّج بها هذا العمل الذي حقن دماء شخصين بالغين، و جنّب زهرتين نضرتين شقاء اليتم و مرارة التشرّد، ولكن هيهات فقد أبطلت التدخين منذ سنة و شهرين، لا رغبة في الحياة و تعلقا بأهدابها، بل صيانة للنفس التي ليس من حقّي قتلها بغير حقّ، بعد أن ثبت أن التدخين يترأس قائمة المبيدات البشريّة. "صحيح ليس كل مدخّن يصاب بالسّرطان ولكن كلّ من أصيب بسرطان الرئة و الحنجرة و اللثة كانوا كلهم من المدخنين!"... دعنا من التدخين و ما قيل عنه، و لنعد الي قصة "الأمانة رقم 2 " تلك التي أصبحت أثرا بعد عين، فلا أشك لحظة انكم قد تساءلتم كثيرا عن سبب هوانها عليّ و إتلافها بيديّ، رغم حرصي السّابق على سلامتها من الضياع و صونها من التلف، كما لا أشك أيضا في رغبة اطلاعكم على علاقة الأمانة المحروقة بصديقي المدان عبد الغفار سعيدان، وهذا ما سأوافيكم به في الإبّان!

ـــ 4 ـــ

كنت بصدد البحث بين أكوام الخردوات عن مفكّ براغيّ مناسب لإصلاح حوض المطبخ الذي امتلأ بعد ان سدّ منفذه بفعل تسرّب بقايا الطعام من بين فتحاته الدقيقة، حين رنّ هاتفي المحمول " محمود، محمود أدركني يا ولدي بسرعة... ـ ثم بعد صمت لم يطل ـ لقد ارتكبت جريمة!" سألت صديقي وزميلي و أستاذي السابق عبد الغفار سعيدان و أنا غير مصدّق:"هل تمزح يا دكتور" ..أغناني نشيج مخاطبي عن أي جواب، قلت له مطمئنا" عشر دقائق و أكون إلى جانبك"... سارعت الى ارتداء معطفي متسائلا، هل يعقل هذا؟ كيف يمكن لرجل مسالم مثل عبد الغفار سعيدان ان يقتل فأرا فضلا عن ارتكاب جريمة؟ ثم من تلك الضحيّة التي أستهدفها؟..أعلم جيدا أن أستاذي و صديقي و زميلي السابق، يقيم مع زوجته بعد انتقال ابنته للسكني في الخارج، فهل يعقل أن يقتل زوجته وهو الذي كان يعاملها بكل احترام و يتحمل زلاتها بصبر جميل أثار غيظ زوجتي و غيرتها، الى حدّ جعلت منه مادة لتعييري واتهامي بالغلظة تجاهها؟! لا يمكن لعبد الغفار سعيدان ان يفعل هذا أبدا، هدأت نفسي قليلا حين فكرت في إمكانية دفاع شرعيّ أضطر أستاذي معه الى استخدام مسدّس ـ أعلم أنه يملكه ــ ضد لصّ تسلّل الى بيته... سيكون الدفاع الشرعيّ عن النفس و الممتلكات مسوّغا لتبرئة رجل محترم مثل الدكتور عبد الغفار سعيدان من جريمة فرضت نفسها عليه... حين تقدمت نحو البيت طالعني صديقي الدكتور وهو يراقب قدومي من وراء نافذة الطابق الأرضي لفيلّته الفخمة، ما ان أدركته حتى استقبلني بوجه شاحب ثم قادني بيديه المرتعشتين الى أقرب أريكة من الباب.
سألته صديقي عبد الغفار سعيدان و انا أساعده على الجلوس:
ــ اخبرني يا دكتور مالذي حدث؟
أشار الدكتور باصبعه الى الطابق العلويّ.. غطّى وجهه المغضّن بالتجاعيد وهو ينشج بصوت كسير:
ــ لقد قتلت سنيّة!
ــ خالتي سنية... زوجتك.. مش ممكن؟!
هزّ رأسه مؤكّدا، ثم انخرط في بكاء مرير.
جلبت لصديقي شربة ماء، تناول منها رشفة، استأذنته في معاينة الجثة، فقد تكون المسالة مفبركة، فلكبار السنّ سيناريوهات يختلقونها اختلاقا بفعل تدهور إمكانياتهم العقلية... حين صعدت الى الطابق العلوي، لم تربني أيّ فوضى تشي بوقوع صراع ما، كان كلّ شيء في مكانه، دفعت باب غرفة النوم بحذر.. كانت أرضيتها المكسوّة بالسجّاد الفاخر تخلو من أي جثة ملقاة عليها، حين تطلّعت الى السرير الزوجيّ الفاره، خيّل لي و لأول وهلة انه خال لكنني حين تقدمت قليلا، تبيّنت لي هيئة آدمية ضئلية عرفت فيها خالتي سنيّة ذات البنيان الهزيل.. بيد مرتجفة أزحت الغطاء عن رأس العجوز، كان وجهها قد دفن في مخدّتها الوثيرة، لكن الثقب الأحمر الذي يتوسّط شعرها الثلجيّ لا يمكن للعين أن تخطئة أبدا... رغم إصابتها في مقتل، فقد كان عليّ جسّ نبضها للتأكد من وفاتها.
حين عدت الى الطابق الأرضيّ، وجدت عبد الغفار سعيدان حيث أجلسته.
بحزن عميق سألته:
ــ كيف حدث هذا؟
أجابني وهو يكفكف دمعة بيد مرتعشة:
ــ كل ذلك بسبب اليوميّات اللعينة التي دأبت على تدوين كل خلافاتي الزوجية فيها و بشكلّ مدقق.
صحت متعجبا:
ــ و هل لسيادتكم أيضا خلافات زوجية؟
أجابني وهو ينزع نظارته الطبية:
ــ نعم يا ولدي... ككلّ الأزواج.
ثم وهو يمسح زجاج نظارته بكمّ ثوبه:
ــ غير إنني اتفقت مع المرحومة على كتمان خلافاتنا عن الجميع، حفاظا على المظاهر الكاذبة ودفعا للغير عن التطفل على حياتنا ...
اضاف وهو يثبت نظارته في مكانها من وجهه المعروق:
ــ... التي كانت و الحق أجدر بأن يقال، سعيدة نسبيّا في معظمها.
ـــ و ما علاقة يومياتك بما حدث؟
تنهد عبد الغفار سعيدان سكت طويلا ثم استمرّ:
ــ بعد شجار قويّ حدث أول أمس، أقسمت بأغلظ الأيمان أن لا أبادل زوجتي الحديث ولا حتى النظر ليومين كاملين، لأجل ذلك حبست نفسي في مكتبي.
انتابت محدثي نوبة سعال حالما فرغ منها شرع يقول:
ــ هذا السعال من آثار تعطل سخّان مكتبي عن العمل.
اضاف وهو يخرج منديلا ورقيا من جيبه :
ــ لمّا كان مكتبي غير مزوّد بتلفزيون يهوّن عليّ حبسي الطوّعي، فقد نفضت الغبار عن يوميات تسع و عشرين سنة كاملة، و شرعت في مراجعتها بالترتيب... فقد كان من عادتي تخصيص الجانب السفلي من كل صفحة منها لتدوين خلافاتي الزوجية بصفة تفصيلية لا تغفل شتيمة ولا اساءة.
كفكف محدثي ما سال من انفه من ماء ثم استمر يقول:
ــ كنت افعل ذلك لاول مرة بعد كتابتها، وهذا موضع الخطأ، وسرّ الثورة البركانية التي أعمت بصيرتي و جعلت بيني و بين عقلي حجابا و حولتني الى وحش مسعور.
ــ ...!!!
ــ كانت صورة زوجتي تزداد بشاعة كلما أوغلت في قراءة تلك اليوميات اللعينة التي كان تشحنني بحقد يتزايد تدريجيّا مع تقدّمي في القراءة، أحسست بانني قد غبنت حين اخترتها زوجة.. حين أتممت قراءة استغرقت ليلة و نصف يوم، كان السؤال الذى يشغلني هو كيفية تصفيتها؟
ـــ ...!!!
ـــ قرّرت أول الأمر سكب البنزين عليها ثم إضرام النار فيها، لكن مراعاتي للعشرة الطويلة دفعني الى التخلّص منها بطريقة حضارية !

دون شعور وجدت نفسي، ابتعد بعض بوصات عن صديقي و استاذي و زميلي عبد الغفار سعيدان، بعد ان غمرني ريب في امكانياته العقلية، خصوصا وقد سبقت جملته الأخيرة ثم أعقبتها ابتسامة غريبة و نظرة أغرب لم أعهدهما منه فيما سبق من عشرتنا الطويلة.

كنت محتارا كيف أتصرّف حيال هذا الموقف الشائك، حين بلغتنا جلبة من الخارج تلاها صوت جرس أعقبه طرق عنيف على الباب الخارجي... لم يحرّك صديقي العجوز ساكنا حين رآني أتقدّم نحو الباب مفسحا المجال لضابط شرطة منتفخ متبوع بجار اعرفه جيدا بحكم تردّدي على الدكتور عباد الغفار سعيدان.. سألني الضابط بغلظة وهو يراوح بصره بيني و بين الجار المذكور:
ـــ جئنا كي نتثبت من شبهة إطلاق نار بلغ سمع الجيران.
أشرت بإيماءة من رأسي مؤكّدا ما حدث، ثم انتحيت بالضابط جانبا و شرحت له مكانة القاتل العلمية و سنّه المتقدّمة و ظروفه الصحيّة و ربما العقلية التي تستوجب الرحمة و الأخذ بعين الإعتبار، لكن كلامي كان بمثابة قول أعمي لأصم" نتشاوف"، فسرعان ما أمر الضابط المتعجرف شرطيا بتكبيل الشيخ و دفعه بغير قليل من الغلظة نحو سيارة كانت رابضة أمام البيت.

كنت في حالة من الجزع لمصير أستاذي الفاضل و زميلي الودود و صديقي الأثير عبد الغفار سعيدان حين التحقت ــ رغم الضيق و الوجوم الذي كسا سحنات الضابط الفظـ ــ الى حيث حشر صديقي بين شرطيين، سالته و سباب الضابط ينهال على ظهري و يلطم قفاي:
ــ بماذا أخدمك يا سيدي الدكتور... هل توصي بشيء؟
قال لي المتهم عبد الغفار سعيدان وقد استعادت نظرته إتزانها:
ــ أما لشخصي فلا.. ولكن لا تنس بحق عشرتنا، و أنت الصحفيّ المتمرّس، أن تحذر كلّ المتزوجين من خطر تدوين يومياتهم... و ان كانوا فاعلين و لا بدّ، فليسقطوا منها كل ما شان و قبح، و ليثبتوا فيها كل ما يسرّ النفس و يطيّب الخاطر!

اوسلو 30 /09/2009



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منحتان قصة قصيرة
- قدر قصة قصيرة .
- إثارة قصة قصيرة
- من صور انتهاك حقوق الإنسان العربي قصة عشماوي
- يأس قصة قصيرة حمادي بلخشين
- شماتة !! قصة قصيرة حمادي بلخشين
- تواكل قصة قصيرة حمادي بلخشين
- نكوص قصة قصيرة حمادي بلخشين
- حصان قصة قصيرة
- راشد الغنوشي و جماعته يتجاوزون الخط الفاصل بين الكفر و الإيم ...
- المنظومة السنيّة في ثاني أقبح تجلّياتها الكارثيّة.
- راشد الغنوشي و رحلة التّيه قصة بالمناسبة
- تذمّر قصة قصيرة
- غلمة ! قصة قصيرة
- تطيٍّر قصة قصيرة
- من مظاهر الإستهانة بانسان عالمنا العربيّ قصة بالمناسبة
- خروج قصة
- راشد الغنّوشي و الشيطان، حدث ذات مرّة
- يا متخلف يا حمار كن من أهل اليسار!
- حركة النهضة تحتفل قريبا بأربعينيّة غنّوشي.


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - يوميّات!! قصة قصيرة