أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - حمادي بلخشين - من صور انتهاك حقوق الإنسان العربي قصة عشماوي















المزيد.....



من صور انتهاك حقوق الإنسان العربي قصة عشماوي


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 3662 - 2012 / 3 / 9 - 20:08
المحور: حقوق الانسان
    


لست أدري لم يتحاشى الجيران النظر في عينيّ؟!.. صحيح أنا جلاّد، و لكن هل يعني ذلك أنني شخص كريه و ميئوس منه؟!.. من يتولى القيام " بالأعمال القذرة" لو استنكفنا عن القيام بها، من يرفع الزبالة و ينظف المجاري؟!.. في الحقيقة، لا يمكن إدراج عملي كجلاد (أو عشماوي بلغة المصريين) ضمن القذر، ما دام " زبائني" ـ لا أقول ضحاياي لأنني لا اقتلهم لصالحي، بل لصالح المجتمع ـ من مجرمي الحق العام، و ليسوا من السياسيين الذين يقتلون في بلادنا على مزاج الحاكم بأمره.

بالأمس، و أنا في طريقي الى شقتي، وحين مررت بجانب شبّاك مفتوح، سمعت جارتنا المنقبة وهي تصيح في ولدها الصغير محمود:" لو لم تكفّ عن الصّراخ فسأحملك الي جارنا عشماوي يشوف شغلو معاك! " .. لم أترك المسألة تمرّ دون تنبيه، هممت بطرق بابها، أردت أن أقول لها " يا جارتاه لم تروّعين الصغير؟" لكن سماع صوت بغلها ــ عفوا، كانت مجرّد زلة قلم ــ أقصد صوت بعلها، قد حال دون تقديم تلك النصيحة... لم أرد أن أجلب لتك الأمة المسكينة مصائب إضافيّة، خصوصا وهي تعيش معه في جحيم حقيقيّ. فزوجها ـ العورة يراها عورة كلها، حتى وجهها وكفيها... اللعنة... من أين لذلك البغل ـ لن أعتذر هذه المرّة، لأنني أقصد البغل فعلا ـ قلت لكم من أين لذلك البغل السلفي أن يدرك أن المرأة أقوى في كثير من الأحيان من الرجل و أشدّ شجاعة منه؟!، ألم يهرب الحجاج بن يوسف من قائدة ميدانية أهانته أقبح إهانة، حين نذرت بأن تصلىّ ركعتين في مسجد يقع على مرمى حجر من مقرّ قيادته؟... ألم يطلق ذلك الإرهابيّ اللعين ساقيه للريح فرارا من مواجهتها تاركا لها المجال كي توفي بنذرها؟ حتى قيل فيه:

أسد علي و في الحروب نعامة
فتخاء تهرب من صفير الصافر
هلا برزت في الوغي لغزالة
قد كان قلبك في جناحي طائر

رحم الله غزالة زوجة شبيب الخارجيّ، و رزق أمتنا المسترقـّة بكل مائة ألف فقمة أزهرية، غزالة خارجيّة واحدة تزعج الحكّام الآمنين و تعيد الإعتبار لدين ربّ العالمين... أخبروني بربكم، لماذا تشـتهر الراقصتان بديعة مصابني و بمبة كشر و يخلد ذكرهما بأفلام ومسلسلات، في حين يقع التعتيم على زعيمة و رائدة من رواد الحرية كغزالة الخارجية؟ الجواب ان المرأة العورة و المرأة الجارية هي ما يروّج له ساسة بلادنا العربية، وهذا يكذّب زعمهم الدفاع عن المرأة و تكريمها... أنا الذي يحقّ له البتّ في مسألة شجاعة المرأة من عدمها... المرأة يا سادة ــ صدّقوا أو لا تصدّقوا ـ أشدّ تماسكا من الرّجل في أعسر لحظة يمرّ بها آدميّ ... لحظة الإعدام! ... رغم كراهيتي له، فقد أعجبت بشجاعة صدّام حسين ساعة إعدامه، صحيح، لم يعرف دكتاتور العراق كيف يعيش، لكنه عرف جيّدا كيف يموت... رغم سمعتى السيّئة التي اكتسبتها كجلاّد، فقد رفضت أول أمس تنفيذ الإعدام في المواطن بشير السالمي... في البلاد العربية ليس لك الحق في رفض مهمّة ما، لأن ذلك يعني أولا وأخيرا، المسّ من هيبة رئيسك المباشر، لأن رفضك يعني إهانته شخصياّ لعدم تعاملك مع تعليمات سيادته كمحض أوامر إلهيّة غير قابلة للطعن أو المراجعة... اللعنة، نريد الإنتصار على اليهود ونحن ألعن منهم ألف مرّة... بالأمس، كنت أطالع مذكّرات جندي إسرائيلي... كتــب ذلك الجنــدي يقول: كنــت مســتغرقا في تقبيل رفيقة سلاحي راشيل، حين اقتحم علينا موشي ديان المكان.( اسمحوا لي مقاطعتي رواية الجندي كي أقول كلمة عاجلة: لقد خطر ببالي اسم موشي ديان لأنه قد ورد في رواية السّجين بشير السالمي... لنواصل الآن الإستماع الى شهادة الجندي).. في حقيقة الأمر، كنا نمارس الحب فوق مكتبه في وزارة الحربية! لم نكن نتوقع حضوره، كان الوقت فجرا، و كانت الحرب قد وضعت أوزارها، و كانت القدس قد أصبحت بحوزتنا، أتجه وزيرنا دفاعنا المنتصر مباشرة نحو أحد أدراج مكتبه، تناول ملفا قلّبه طويلا ثم إختفى، قبل أن يظهر فجأة ليقول لنا:" في المرّة القادمة، تثبتا جيّدا من إغلاق الباب، نهاية ليلة سعيدة!" تصرّف وزير الدفاع زادني اعتزازا و فخرا بيهوديّتي " انتهى كلام الجندي اليهودي... ايها السادة، أنا لست أروّج للدعارة حين سقت لكم هذا الخبر، فالفضائيّات العربية ووزراء السياحة العرب و بعض وكالات الأسفار العربية وأكثر الصحف العربية قد احتكرت هذه المهمّة منذ زمن مديد، ما أردت أن اصل إليه هو الآتي : لو حدثت تلك المخالفة العسكرية في مكتب أتفه ضابط عربيّ وأقلهم رتبة، لأوسع الجنديّ المخالف ضربا ولعنا و سجنا وحرمانا من الإجازات ثم تمديدا تعسّفيّا في خدمته العسكرية... في جيش اليهود، يتناول الضبّاط و ضباط الصف و الجنود نفس الطعام، في جيوشنا العربية للضباط طعاما، و لضباط الصف طعاما، و للجنود طعاما من زقوم لا يأكله الا الخاطئون... في الجيش اليهودي يدخل الجندي على الجنرال آمر فرقته، يلاطفه الأخير، يدردش معه، يحدثه عن مباراة أمس في كرة القدم، وعن آخر كتاب أو ألبوم حقق مبيعات قياسيّة، قبل أن يتناول قضيته أو مخالفته العسكرية... في بلادنا يصفع الجندي من صاحب أسفل رتبة الي أعلاها، كما يتمّ يوميّا لعن أبيه و أمّه و أخيه و فصيلته التي تؤويه، فلا يغادر الجيش حتى يكون خالص الكفر بوطنه... في حرب 67 ألبس جنرالات جمال عبد الناصر فساتين نساء، ثم أحاط بهم جنود اليهود و مجنداته و أجبروهم على الرقص فيما هم يصفقون سخرية منهم... في زمن السّلم، كانت تلك الأنعام الراقصة أسودا على الجنود الغلابي من أبناء جلدتهم... هناك نكتة تقول: ذات مرّة رأى المشير عامر الرئيس جمال عبد الناصر، وقد وشم على ذراعه " قريبــا سنحرّر القدس" سأله المشير:" لم فعلت ذلك يا ريّس؟" قال الريّس" كي لا أنساها" سأله المشير مرّة أخرى:" وماذا تصنع بوشمك لو حرّرت القدس؟"أجابه عبد الناصر:" أقطع ذراعي لو حرّرناها! "... لن تقوم لنا قائمة ما لم يتحرّر المواطن العربي و " ما لم يكرّ بعد ذلك وهو حرّ "... رفض مهمة ما، و مهما كانت المبرّرات، يعني تهاونك في أداء واجبك، لأجل ذلك تكون نتيجته فصلك من الوظيفة و تعريض عائلتك الى ذلّ الفقر و ألم الحرمان من ضروريات الحياة... و لأجل أن رفض تنفيذ المهام، متاح في بلاد الغرب، ولو كان ذلك في المؤسّسات الأمنية و حتى العسكريّة، فقد اشتقت كثيرا الى التبوّل على القرضاوي ــ حتى لو قطع ذكري ثمنا لتلك البولة المأجورة ــ حين علمت أن كاهن الإخوان قد حثّ المجنّد المسلم في أيّ جيش من جيوش الغرب، على المشاركة في قتال أبناء ملّته في حال أرساله الى افغانستان أو الي أي بلاد إسلامية! لأن التخلف عن تنفيذ تلك المهمة القذرة سيفقد رؤساء ذلك المجند الثقة فيه و قد يكلفه الفصل من الشغل، بل و حتى فقدان جنسيته الأمريكية الشريفة!... بالمناسبة " يقدّر مختصون انه في الحرب العالمية الأولى تمّ تجنيد 30 مليون جنديا الزاميّا و تمسّك 16 ألف من البريطانيين بحق رفض القتل. و في الحرب العالمية الثانية، تمّ تجنيد 45 مليونا إلزاميّا، و تمسّك 60 ألف بريطاني بحقّ رفض القتل"... ظفر أي جنديّ بريطانيّ رفض القتل لأسباب أخلاقية أفضل عند الله وعند أي رجل متديّن و شريف من ملء حاوية كبيرة من أمثال " فضيلة" القرضاوي... صحيح أنا جلاّد و لكنني واسع الإطلاع بالقياس الى نظرائي من حكّام العرب... لقد رفضت تنفيذ الأعدام في المواطن بشير السالمي لا لأنني اشتغل في السويد، بل لأن صهري هو مدير السّجن! لأجل ذلك، فأنا أتمتع بحقّ الرفض و أنا آمن من الرّفت!... لمّا كان صهري هو مدير السجن، فقد أتيحت لي امتيازات غير عاديّة و منحت لي صلاحيات إضافية، لأجل ذلك، كنت أتّصل بالمذنبين، و أكذب عليهم و أنا أعرّفهم بنفسي كمرشد روحي ملحق بالسجن.. كنت أحسن إليهم و أبدي لهم من ضروب التعاطف و من أصناف الرحمة و المواساة، ما يجعلهم يعترفون لي بجرائمهم، حتى أكون مرتاح الضمير، و انا أنقلهم الي العالم الآخر!


ــ 2 ـــ

لأول وهلة، و منذ وقعت عيناي على السجين بشير السالمي أيقنت أن رأسه لن تكون لي، فقد شعرت بتعاطف غريب نحوه، كان في الثالثة و العشرين من عمره، لكنه يبدو أصغر من سنه بكثير، كان فتى وسيما الى حد بعيد، كما كان متين البنيان، اذا تكلّم تكلّم همسا. كنت أعلم انه أدين بقتل اللواء مبروك البرينسي، غير أن صحفنا الثرثارة قد أحاطت قضيته بكتمان شديد و تعمية شاملة، نظرا الى "حساسيّة الموقف" الراجع الي رتبة القتيل و خصوصا قرابته الشديدة من القصر الجمهوري.
" من فضلك يا عبد الوهاب، لا تقترب من السجين بشير السالمي، فهو حالة خاصّة سأعفيك منها مسبّقا "هكذا قال لي صهري محذرّا.
رغم ذلك دفعني الفضول ثم استغلال صلاحياتي السابقة الى الدخول الى زنزانة بشير السالمي الإنفرادية و المحروسة ـ و لأوّل مرّة ـ بعنصرين مسلّحين من رجال الطلائع .

بعد جلسات طويلة، و حين اطمأن بشير السالمي الى شخصي و لمس مني تعاطفا أبويّا نحوه، اندفع يقول بكل تلقائية:
" بدأت مأساتي حين نبّهني الطبيب الى ضرورة البحث عن متبّرع لإنقاذ حياة والدتي من موت محقّق، فقد كانت تعاني فشلا كلويّا مزمنا، لأجل ذلك فقد كانت في أمسّ الحاجة الى كلية تمنحها أملا جديدا في الحياة... كانت في التاسعة و الثلاثين حين توفيت، بل حين قتلت"
مسح بشير السالمي دمعة ثم استمر يقول:
" كان فرحي عظيما و سروري غامرا حين أبلغني الطبيب، أنّ كليتي مناسبة جدّا لتكون طوق نجاة لوالدتي التي كنت على استعداد لأفديها ليس فقط بكليتي، بل بحياتي. حتى لو لم تضحّي وهي السيدة الجميلة.. بحياة زوجية واعدة في سبيل تجنيبي زوج أمّ قد يكون لئيما. بعد أن فقدت أبي و لمّا أبلغ الثامنة من العمر"
تنهد البشير السالمي ثم أردف يقول:
" طلبت إجازة بشهر قدّرت انها كافية لإجراء العمليّة ثم استعادة عافيتي... دخلت المستشفى و أجريت لي الفحوصات اللاّزمة... قبل خمس ساعات من إجراء العملية، استدعاني مدير المستشفي، حين وصلت الى مكتبه فوجئت بثلاثة عناصر من الشرطة العسكرية تقف أمامه!"
حكّ بشير السالمي شعره الأشقر، تطلّع الى سقف الزنزانة ثم أردف يقول:
" في حقيقة الأمر لم أفاجأ كليّا بحضورالشرطة العسكرية... كنت أعلم أنني قد خالفت التعليمات المهنيّة حين قرّرت إجراء عمليّة جراحية دون أوامر قيادتي... لقد ارتكبت خطا مميتا حين حدثت فؤاد بكل شيء. رغم انني أوصيته بالكتمان"
ــ من هو فؤاد؟
ــ رفيق سلاحي وصديقي و شقيق خطيبتي.
سألت بشير السالمي:
ــ هل يعني هذا أن فؤاد قد بلّغ قيادتك؟
ــ ليس هذا ما حصل بالضبط.. كل ما في الأمر، أن زميلا نذلا إشتهر باسم "أواكس"( على فكرة، أواكس اسم طائرة تجسّس حربية) قد التقط جملة من مكالمة هاتفية أجراها صديقي فؤاد مع خطيبتي، فهم من خلالها بما اعتزمت عليه، فسارع الى إبلاغ وكيل السريّة الذي أبلغ آمر السريّة الذي نقل بدوره الخبر الي اللواء مبروك البرينسي آمر الفوج، و أخسّ و أقذر مخلوق مشى على وجه البسيطة.
هتفت متعاطفا:
ـــ... يا للحظ التعيس !
ــ انقضّ عليّ عناصر الشرطة العسكرية وحملوني مكبّلا الي مكتب اللواء مبروك البرينسي.
إعتذر بشير السالمي عن قبول سيجارة عرضتها عليه، كدت ان أقول له جملتي الإعتيادية حول ضرر التدخين بصحّة شابّ رياضيّ مثله ــ سيشنق بعد أيام قليلة! ـ غير انني سحبتها في آخر لحظة لعدم مناسبتها للموقف!... فيما كنت أشعل سيجارتي طفق بشير السالمي يقول:
ـــ حين دخلت مكتب اللواء، وجدته مهتاجا، لم يترك لي فرصة التعريف بنفسي و رتبتي و فرقتي، بادرني صائحا:"هل تظن الجيش وكالة بلا بوّاب حتى تفعل ما يعنّ لك دون حسيب أو رقيب؟" قلت له" يا حضرة اللواء ان حالة والدتي تستوجب التدخل الطبيّ السّريع، ولم يكن لي أي خيار" لعنني اللواء ثلاثا قبل أن يعلمني ان القانون يحجّر على أي عسكري التبرّع بعضو من أعضائه، هممت بان اقول له ان نزع كلية من شابّ قويّ مثلي لن تؤثر على عملي كسائق، لكن مكالمة هاتفية قطعت حوارنا. زادت المكالمة الهاتفية اللواء مبروك البرينسي عبوسا و شراسة، يبدو انها زوجته.. جلس اللواء على كرسيّه الدوّار ثم اخذ يلفّ حول نفسه وهو يصيح فيها بعصبية، حين أنهى المكالمة كان وجهه في اتجاه الحائط.. زفر بعنف ثم ظلّ طويلا يتطلّع الي سقف مكتبه، يبدو انه نسيني.. فجأة رنّ الهاتف من جديد، تغيرت لهجة اللواء من الغضب الى الانشراح، وهو يصيح متهللا : " الو.. يلدز.. مش معقول!، متى رجعت من السفر؟" ظل اللواء يغازل يلدز طويلا.. دفع كرسيه الدوّار الي الأمام، ثم طفق يدور حول نفسه وهو مغمض العينين، فيما كان يسترجع مع مخاطبته أشدّ اللحظات الحميميّة التي جمعتهما في آخر مرّة، لقد تأكد لي أن اللواء قد نسيني تماما ! في إحدى اللفّات، و حين فتح عينيه و رآني لم يقطع مكالمته، بل أوقف كرسيّه الدوّار ثم أشار بإصبعه نحو الباب! ثم ولاني ظهره متابعا مكالمته... كنت أدرك أن انصرافي يعني حجزي في سجن الثكنة لمدّة لا تقلّ عن نصف شهر قد تضيع حياة والدتي خلاله، لأجل ذلك قلت للواء" حضرة اللواء، لا بدّ لي أن.." لم يدعنى أكمل جملتي، بل ضغط على زر بمكتبه.. سرعان ما دخل الجندي المكلف بخدمة اللواء متبوعا بأحد عناصر الشرطة العسكرية... لم أشأ مقاومة الشرطة العسكرية، حتى لا أوصد نهائيا أبواب الأمل عن والدتي الحبيبة، كنت آمل في حلّ قانوني... قد استطيع إقناع آمر سريتي بعدالة قضيتي... هكذا فكرّت...حين وصلت الى مقر سريتي قابلني وكيل السرية و في يده بطاقة إيداع بسجن الثكنة لمدة شهر كامل! حين طالبت مقابلة آمر السرية، أخبرني الوكيل بأن الآمر في إجازة منذ أسبوع!
وصلنا صوت عم سليمان منبها:
ــ اسمحا لي على المقاطعة، لقد آن موعد تقديم الطعام.
لم أشأ قطع حديث بشير السالمي، أمرت السجّان بترك طعام الفتى جانبا.
استمرّ الفتى بشير السالمي يقول:
ــ بعد يومين، وحين رفض اللواء استقبالي ثانية قدمت استقالتي من الجيش حتى أتمكّن من التصرّف بكليتي كما أشاء كما رجوت اللواء بما له من موقع في المؤسّسة العسكريّة اختصار إجراءات تسريحي... بعد خمسة أيام من إيداعي السجن، أخبرني زميلي و صديقي فؤاد بان حالة والدتي قد تدهورت بشكل ينذر بالخطر، إن لم تسعف بعملية في القريب العاجل، ثم اخبرني بأنه قد اتصل بمدير المستشفي وحدد موعدا جديدا لإجراء العملية وان المدير كان شهما، حين رضي بذلك رغم علمه برفض المؤسسة العسكرية إجراء تلك العملية... قبل إجراء العملية بخمس ساعات، تسللت من سجني بمساعدة آمر الحراسة الذي كان ايضا اكثر من شهم ...
تنهد بشير السالمي ثم استمرّ يقول:
ــ حين دخلت غرفة العمليات و تم حقني بالمخدر، حمدت الله كثيرا بعد تأكدي بأن خطتي قد نجحت.
أضاف محدّثي ثم وهو يضرب كفه اليسرى بجمعه الأيمن:
ــ و لكن هيهات !
أطرق بشير السالمي طويلا، رغم تلهفي الي معرفة البقية فقد احترمت سكوته.
رفع الفتى رأسه عن الأرض أطلق زفرة حادة ثم استمر يقول:
ــ حين أفقت من تأثير المخدّر، أصبت بصدمة حادة، كما أحسست بما يشبه الطعنة في الصدر حين طالعتني قضبان سجني العسكري! لكنني أسرعت بتحسّس بطني.. كان منتهى أملى و أقصى مناي أن تصطدم أناملي بالضمادات المبشّرة بإتمام العمليّة، لكنني لم أجد غير صدر لم يمسسه مشرط جرّاح... بقيت مذهولا، وأنا أتطلع الي سقف زنزانتي، كنت نهب تساؤلات عديدة أهمها :"رباه، هل تبلغ كراهية الانسان لأخيه الإنسان و حقده عليه هذا الحدّ المروّع؟" احتجت الى اكثر من نصف ساعة من الذهول، كي تنبهني برودة البلاط الى أنني كنت ملقيا على الأرض! حتى السرير الذي كان يوجد في زنزانتي قد رفع بأمر اللواء الحقود! هذا بالإضافة الي إنتصاب عملاقين من الشرطة العسكرية على باب زنزانتي و كأنني من عتاة المجرمين!
قال بشير السلمي ذلك ثم اطرق الي الأرض متجهما.

فيما كان الفتى مطرقا، مسحت دمعتين سالتا على خدي و ألتقتا عند أسفل ذقني... أعلم جيدا إنكم ستتعجبون، و لكن رجاء، لا تسيئوا الظن يوما بجلاّد ما لم يكن رئيس جمهورية... فأنا قبل كل شيء انسان مثلكم.... حين أعياني انتقاء العبارات المناسبة لمواساة الفتى بشير السالمي ، إكتفيت بالتربيت على كتفه الهرقلية، داريت عجزي بإشعال سيجارة ثانية، نفثت دخانها بقوّة، ثم قلت متسائلا :
ــ ما أدهشني في القضية، هو إصرار اللواء اللعين عن إحباط مسعاك، فهو كانت بينكما حسابات قديمة؟
دون ان يرفع رأسه اجابني الفتى بنبرة حزينة:
ــ تلك هي طبيعة ضباطنا. فمخالفة أوامر أصغرهم لا يعني غير شيء واحد " تحدّي شخصه بالذات، لا مخالفة قانون قد جعل أصلا ليخرق كما قال واضعو القوانين منذ القدم. هذا بالنسبة الي ضابط صغير، فما بالك بلواء مقرّب من قصر قرطاج.. لواء قد يكون تلقى تطمينات أمريكية لخلافة رئيس الجمهورية؟
وافقت الفتى على تحليله لشخصية آمريه، أفدته بأن ذلك دأب كل المسؤولين في كل الإدارات...
كان عليّ مغادرة بشير السالمي بعد انتهاء الحصة الأولى من دوامي، ناديت عم سليمان، أمرته باحضار طعام الفتى بعد تسخينه، أوصيته به خيرا.. قبل أن أغادر سجيني سالته عما يرغب بالحـــصول عليه من خلف الأسوار، أجابني بأنه
يرغب في قلم رصاص و معجون أسنان و أمواس حلاقة.


ـــ 3 ـــ

كنت شديد التأثر بما سمعت من سجيني، حتى اضطرت زوجتي الى تنبيهي مرتين، المرة الأولى حين أسقطت سيجارتي وسط كوب القهوة، عوض منفضة السجائر !، و المرة الثانية حين دخلت الحمام و أنا أريد غرفة النوم، للرد على هاتف يرنّ بإلحاح !

حالما التقيت ببشير السالمي، و سلمت له طلباته معززة بزجاجة مشروبات غازية عملاقة، لاحظت وجود نظيرتها فارغة بين أغراضه، طلبت منه وصل ما قطعناه من حديث... بعد ان شكرني عن تعاطفي معه و خدماتي له، انطلق الفتى يقول:
ــ بعد ساعتين من إفاقتي من المخدّر، ادخل عليّ صديقي و زميلي فؤاد.. احتجت الى جهد كبير كي أتعرّف عليه.. كان حليق الرأس،حافي القدمين، مورّم العينين.. ثم ما جعل مهمة التعرف عليه أصعب هو حلق شاربه، فقد كان شاربه ضخما، ولم اكن أعرفه الا بشارب... كنت أعلم أن فؤاد كان في المستشفي حين أدخلت غرفة العمليات، ألهاني السؤال عما حدث له بسؤالي عن كيفية إحباط العملية.
نزع فؤاد سترته كوّرها جيدا، ثم وضعها تحت راسي، بعد ذلك طفق يقول:
ــ كانت قد مرّت نصف ساعة على دخولك غرفة العمليات، حين وصلتني جلبة في الممر الطويل المؤدي إليها، حين التفتّ فوجئت باللواء المتعجرف وهو يعنّف ممّرضا مسنّا لم يقدم له فروض التبجيل كما يحبّ هو، حين كان يسأله عن موقع غرفة العمليّات، كان اللواء السخيف في كامل زينته العسكرية و عصاه الماريشالية، و نياشينه الإستعراضية المثيرة للضحك... كنت قد تخيّلت هذا السيناريو، لأجل ذلك فقد أعددت خطة استباقية: الحلّ العسكري!
سألت صديقي الوفي:" و لكن ذلك يعني السجن و فقدان الوظيفة.
أجابني صديقي وهو يتحسّس عينه المتورّمة : " أي حرية و أي وظيفة يا رجل!... ثم ماذا أصنع بالحريّة وبالوظيفة، بل ماذا أصنع بحياتي و بين جنبيّ ضمير معذّب؟... ستظل روح أمك تطاردني الى آخر نفس لي لو تركت ذلك الكلب العقور يحول بينها و بين طوق النجاة الذي أصبح في متناولها"
انخرط فؤاد في ضحكة طويلة ثم قال:
ــ ما ان رآني اللواء حين صاح فيّ" يا ابن العاهرة انت هنا ايضا؟ .. انها مؤامرة حقيقية " اضاف اللواء و هو يرجّ كتفي بعنف:" اين زميلك.... اين الرقيب بشير السالميّ؟"
أجبته مضلّلا و أنا أؤدّي له التحيّة العسكريّة:
ــ لقد تمّ نقله منذ قليل من غرفة العمليّات لإعادة تحاليل جديدة... يبدو أن العملية الجراحيّة قد ألغيت تماما، تفضلّ حضرة اللواء سأقودك إليه.. فيما كنت أسير أمام اللّواء المتشنّج الذي كان يمطرني تارة ببذىء الكلام، وتارة أخرى بحارّ اللعنات و خالص التهديدات، كنت أسترق النظر حواليّ باحثا عن مكان مناسب أغيّبه فيه.
... حين رآني أنزل الدّركات الأولى من طابق أرضي معتّم، صاح فيّ اللّواء بنفس فرنسيّته المتقنة ": يا ابن العاهرة، أتحسبني مغفلا؟" قال ذلك ثم همّ بالعودة من حيث أتى، لكننّي لحقت به ثمّ أمسكته من رجله قبل أن أسحبه بقوّة جعلته يتدحرج على السلّم ليستقرّ أخيرا في بركة بول كبيرة!

ما ان فرغ صديقي فؤاد من نوبة الضحك التي اعترته، حتى استمر : " كان حضرة اللواء معفّـر الوجه بالسّخام، كما كان مبتلّ الثياب بما علق به من بول قديم، حين كان يحاول النهوض قبل ان يسقط من جديد!.. من محاسن الصدف".. سكت صديقي فؤاد ثم أضاف مستدركا" أمـــا الآن، وقد فشل مخططنا فيمكن لي أن أقول من مساوئ الصّدف، أنني وجدت باب مستودع المهملات مفتوحا... فأدخلت اللواء الذي كان يتوسل اليّ تارة كطفل صغير، و يهدّدني تارة أخرى بعظائم الأمور ثم ظللت أسحبه ورائي، حتى صادفت مرحاضا مهجورا تنبعث منه رائحة بول نفاذة، دفعته هناك، ثم أغلقت عليه الباب... حين حاول الخروج أمسكت قضيبا حديديا ثم هددته بتهشيم رأسه لو لم يلزم مكانه، حينئذ كفّ اللئيم عن المحاولة... احتجت الى إحضار عمود حديدي وضعته بين باب المرحاض و الجدار الذي يواجهه، ثم ضغطت عليه بشكل يستحيل فتحه من الداخل. ثم رجعت الى مكاني أمام غرفة العمليات... لم أمكث هناك أكثر من عشر دقائق حتى داهم المكان فصيل كامل من الشرطة العسكرية اتجه بعض أفراده نحوي فيما اتجه البعض الآخر الى حيث مخبأ اللواء التعيس... بعد ذلك وقع تكبيلي ثم شحني على سيارة جيب... ظللت هناك أقلّ من خمس دقائق قبل أن يطلّ عليّ لواء جريح الكرامة مسلوخ الوجه، صاح فيّ بفرنسية متقنة: "يا ابن العاهرة لقد ضعت تماما... ستدفع الثمن غاليا " قبل أن يهرع الى غرفة العمليات الجراحية ليفسد كلّ شيء!... أخبرني بعض أفراد الشرطة العسكرية ان اللواء كان يجذب مدير المستشفي من ربطة عنقه وهو يصيح فيه: " لم تلده أمه بعد، من أراد تحدّي أوامر الجنرال مبروك البرينسي! "
سألت بشير السالمي:
ــ عذرا على المقاطعة، ولكن من أعلم الشرطة العسكرية بمكانك؟
ثم اضفت مستدركا:
ــ ثم من أعلمهم قبل ذلك بمخبأ اللواء؟
ندّت عن بشير السالمي ابتسامة ساخرة، دوّح رأسه يمينا و شمالا، أرسل زفرة حرى ثم قال:
ــ لقد غاب عن صديقي فؤاد و ربما عن الشيطان أيضا، أن اللواء كان مسلّحا بهاتف جوّال كان باكورة الأجهزة التي دخلت تونس قبل أن تنتشرفيها، و كما في كل أرجاء الدنيا، انتشار النار في الهشيم!
صحت دون شعور:
ــ يا للحظ السيّء!!
سالت الفتى مرة أخرى:
ــ ولكن من بلّغ اللواء أصلا بخروجك من السّجن؟!
أجابني الفتى بشير السالمي وهو ينكت الأرض بمؤخرة قلم الرصاص:
ــ أواكس... مرة أخرى!
ثم مضيفا وقد ازداد ضربات قلمه شدة:
ــ كانت لزميلي أواكس عيونا إضافية، فقد أطلعه جندي كان يقوم بالحراسة في تلك الليلة بكل شيء، فسارع هو بأخبار وكيل السرية الذي اطلع اللواء مباشرة بصفته نائب آمر السرية.
قلت متعجبا:
ــ والله لو كان هذا الحزم العسكري موجها نحو أعداء أمتنا ما أحتلت ذرة من ترابنا!
استمر بشير السالمي يقول:
ــ بعد اسبوع واحد من توقيفي، أبلغت بوفاة والدتي، و بعد يومين من وفاتها، أبلغت بقبول مطلب تسريحي من الجيش!!، لقد وقع تسريحي بسرعة قياسية، كإجراء انتقامي من اللواء الخبيث... رغم تسريحي من الجيش ظللت سجينا حتى أكملت مدة عقوبتي...
سألت السجين بشير السالمي :
ــ و لكن كيف حدث القتل؟
سكت الفتى طويلا ثم قال:
ــ كان البهدلة و الاهانة التي لحقت اللواء بسببي، و قدر الله بان انتهي مشنوقا، و أن ينتهي اللواء مكسّر الرقبة، هي التي حملت اللواء على استدعائي الى مكتبه، و الاّ فقد انتهى كل شيء بيني و بينه بعد أن سرّع عملية فصلي عن وظيفتي... حين وصلت الى مكتب اللواء، رأيت مجموعة كبيرة من عناصر الشرطة العسكرية ترابط أمامه.. حالما دخلت المكتب، وجدت عنصرين من أطول الشرطة قامة و أضخمهم جثة يقفان على يمين و يسار الباب، بمجرد دخولي بادرني اللواء قائلا:

ــ من يتحدّى أوامر الجنرال مبروك برينسي، لم تلده أمه بعد.
هممت بسؤال اللواء، لكن دخول الجندي المكلف بخدمته ليعلمه بأن سيارته قد أصبحت جاهزة.. قد حال دون ذلك.. و أنا أشيّع الجندي الذي غادر المكان، رأيت قفل المكتب يتوسّطه مفتاح.. لم يحتج الأمر سوى خطوة سريعة الى الوراء تمكّنت بعدها من إغلاق المكتب ووضع مفتاحه في جيبي!.. كنت أدرك ان عنصريّ الشرطة العسكرية كانا مجرّد قوة عمياء بلا أي مهارة... لقد غاب عن الجميع، وهم يهيئون لي عملاقين يتقدّمان فصيلا كاملا من الشرطة العسكرية أنني بالإضافة الى تدريبي العلني في رفع الأثقال، كنت حاصلا و بطريقة سريّة غابت هذه المرة حتى على أواكس نفسه، على حزام أسود في الجيدو!!.
قلت لبشير السالمي بين بسمتين:
ــ الآن فقط أدركت سر وجود الحارسين المسلحين أمام زنزانتك!
ــ هرش الفتي رأسه ثم أضاف:
ــ بعد فراغي ـ و بدون إحداث ضجة ـ تثير ريبة من في الخارج، من عنصري الشرطة العسكرية، و تعاملي معهما إسقاطا ثم تكبيلا بالكلبشتين التين يحملانها، جلست على مكتب اللواء المرتجف...مددت يدي الى بدلته الإستعراضية، قلعت كتفيّته اليمنى التي تحمل نجمتين و شعار تونس و سيفين متقاطعين.. قلت له و أنا أرمي بها خلف ظهري :
" هل بلغ حضرة اللواء الشهم وفاة والدتي؟ "
اجابني الجنرال المرعوب وهو يبتلع ريقه بصعوبة:
ــ أجل يا ولدي... الأعمار بيد الله.
تابعت وانأ أقتلع كتفيّته اليسرى:
" و هل تعلم ايضا أنك من قتلها؟ "
أضفت و أنا أقذف بكتفيته المذهّبة خلف ظهري:
" حضرة اللواء، ما كان يضير الجيش التونسيّ، لو ظللت أشتغل بكلية واحدة، ثم ما يضير وزارة دفاعنا التي لا تدافع الا عن التافهين من أمثالك، لو وقع تسريـحي من الجيش في وقت استعجاليّ لأسـباب إنسانيّة حتى أدرك والدتي قبل فوات الأوان؟
ثم و أنا اقلتع نياشينه واحدا واحدا:
" ألم يجعل الجيش لخدمـة "الشعب الكريم"، ألم تدرّسونا ذلك، أليست والدتي القتـيلة من أفراد الشعب الكريم، أم تراها من فئة المنبوذين؟ أليست ابنة شهيد حائز على الصنف الثاني من وسام الإستقلال؟
حين عجز اللواء عن الردّ، أضفت و انا أسحبه إليّ من ربطة عنقه:
" حضرة اللواء ، لا أشكّ أنك تعلم جيّدا ماذا يحدث مباشرة لعسكريّ قد جردّ من رتبته و نياشينه؟!
ـــ....
ـــ لا أِشك أنت قد شهدت حفل إعدام كبّار ضباط، من تلك التي حدثت في العهد البورقيبي!
غشيت وجه اللواء صفرة الموت، جثا على ركبتيه؟؟ حاول تناول يدي للثمها، لكنني دفعته بركبتي فانقلب على ظهره، وعدني متوسلّا:
" سأرجعك الى وظيفتك معزّزا مكرّما، بل سأمنحك رتبة لم تحلم بها ثمّ...
قلت له مقاطعا:
" ما أريده منك هو إعادة والدتي الى الحياة! "
أجابني مرتجفا و قد هالتني صفرة وجهه، حتى أدركتني لحظة ضعف هممت فيها بتركه:
" ذلك ما ليس في إمكاني! "
صحت به موبخا:
" كنت أعلم أن في إمكانك الإماتة دون الإحياء، و التخريب دون البناء"
رفعت اللواء المذعور بيدي ككيس فارغ، ثم أجلسته على كرسيّه الدوّار، جلست القرفصاء أمامه، قلت له و أنا أضع كلتا يديّ على فخذيه المرتجفتين:
" أخبرني أيها الكلب العقور.. هل تظن أن كلية إضافية أو عينا إضافية يمكن أن تصنع من ميت مثلك إنسانا حيّا، و من جنرال فاشل قائدا حقيقيا؟ أخبرني أيها الجنرال الكرتوني؟ هل أغنت عنك شيئا وعن غيرك من مئات الجنرالات العرب عيونهم اليسرى أو اليمنى لا أذكر بالتحديد، أمام جنرال كموشي ديّان لم يمنعه عوره من تمريغ شرفكم العسكريّ ــ الممرّغ أصلا ــ في الوحل؟!
ثم و أنا أنهض كي أقف وراء كرسيّه الدوّار، جاسّا عنقه، فيما كان ينتفض بين يديّ كقصبة في مهبّ الرّيح:
" أخبريني أيتها الأفعي السّامّة التي تضرّ ولا تنفع، و التي تجدّف و لا تسبّح، مع اعتذاري لكل الأفاعي السّامّة التي تسبّح بحمد ربّها ككلّ كائن حيّ، و إن لم نفقه تسبيحها، و التي تنفع الناس بسمّها الذي تعالج به الأمراض... أخبرني أيها الجنرال... اذا كانت المجنّدة اليهوديّة التي هزمتكم في كلّ الحروب، تقدر على سياقة دبابة تزن عشرات الأطنان بذراعيها الرقيقتين، فهل أن نقصان كلية واحدة كانت ستعيد الحياة الى إمرأة عظيمة، كانت ستمنعني من قيادة سيارة خفيفة بذراعين جبّارتين؟ ما إن أتتمت كلامي حتى أحكت مسك رأسه بيديّ ثم أدرتها بقوّة جنونيّة كانت كافية لإزهاق روحه في الحال بعد أن سمعت لها طقطقة مزّقت صمت المكتب.
ــ 4 ـــ
قبل ان أغادر الفتى بشير السالمي تركت له مجالا كي يبحث طويلا عن ورقة كي يسجّل عليها أسماء كتب طلب مني إحضارها من المكتبة العموميّة حين أخبرته بأنني أملك بطاقة اشتراك، كنت أرحم من أن أبلّغه بأنه لن يقرأ من تلك الكتب حرفا واحدا، لأنّ برقيّة سريّة عاجلة قد وردت قبل ساعتين من وزارة الداخليّة تحدّد تاريخ الإعدام، بعد أن أقرّ رذيلة مفتي الجمهوريّة الحكم الصادر في حقّ الفتى المظلوم.. حين ودّعت بشير السالمي، كنت أعلم علم اليقين أنني لن أراه ثانية، لأن التنفيذ سيكون فجر غد!

ــ 5 ــ

في اليوم الموالي لإعدام بشير السالمي، وجدت نفسي اكتب استقالتي.. حين سألني صهري عن السبب قلت له:
" والله حرام في هكذا نظام، أن نقدّم للمسؤولين فيه شربة ماء... فضلا على إزهاق دماء الخلق.. فالنظام خربان من بابه الى محرابه،و العفن قد أدرك النخاع" ثم و انا اقول له مازحا:
ــ قد أعود يوما لممارسة مهنتي، حتى دون مقابل، و لوجه الله تعالى، إذا وجدت الرؤوس المؤهّلة...
ثم وانأ اشير برأسي الى فوق:
ــ للتعامل معها بما يرضي الشعب التونسي المعذّب، و بما يرضي البشير السالمي ووالدته في قبريهما!

ــ 6ـــ

في ظهيرة يوم خريفيّ مشمس.. أعترتني نشوة غامرة حين خلّفت وراء ظهري رؤوسا أينعت و حان قطافا و لست بقاطفها أبدا... كما داهمتني سعادة لا توصف، و أنا أحثّ الخطى نحو بيتي السّعيد، حاملا تحت إبطي صندوقا من الورق المقوّى يضمّ بين جنباته قطارا كهربائيّا سأهبه الى محمود، جاري المروّع، كي أدفع به عن نفسي و عن فؤاده الصغير، و الى الأبد، وصمة الإرهاب التي طالما ألصقت بي ظلما وعدوانا!



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يأس قصة قصيرة حمادي بلخشين
- شماتة !! قصة قصيرة حمادي بلخشين
- تواكل قصة قصيرة حمادي بلخشين
- نكوص قصة قصيرة حمادي بلخشين
- حصان قصة قصيرة
- راشد الغنوشي و جماعته يتجاوزون الخط الفاصل بين الكفر و الإيم ...
- المنظومة السنيّة في ثاني أقبح تجلّياتها الكارثيّة.
- راشد الغنوشي و رحلة التّيه قصة بالمناسبة
- تذمّر قصة قصيرة
- غلمة ! قصة قصيرة
- تطيٍّر قصة قصيرة
- من مظاهر الإستهانة بانسان عالمنا العربيّ قصة بالمناسبة
- خروج قصة
- راشد الغنّوشي و الشيطان، حدث ذات مرّة
- يا متخلف يا حمار كن من أهل اليسار!
- حركة النهضة تحتفل قريبا بأربعينيّة غنّوشي.
- لوبي قصة قصيرة
- من صور التديّن السلفيّ السّخيف قصة
- خالد مشعل يتاجر بكرامة الفلسطينيين
- عبور قصة قصيرة


المزيد.....




- تعذيب وتنكيل وحرق حتى الموت.. فيديو صادم يظهر ميليشيا موالية ...
- الأمم المتحدة: أكثر من مليون شخص في غزة يواجهون انعدام الأمن ...
- الأمم المتحدة: أكثر من مليون غزي يواجهون انعدام الأمن الغذائ ...
- زاخاروفا تضيف سؤالا خامسا على أسئلة أربعة وضعتها برلين شرطا ...
- مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلس ...
- الأردنيون يتظاهرون لليوم الرابع قرب سفارة إسرائيل ومسيرات بم ...
- أكاديمي أميركي: المجاعة في غزة قد تتسبب بإدانة إسرائيل بالإب ...
- حرية الصحافة في أوروبا.. بين القرارات البرلمانية والتطبيق عل ...
- اعتقال 3 أشخاص بعد اكتشاف مخبأ أسلحة في مرآب سيارات في شمال ...
- إصابات.. الاحتلال يشن حملة اعتقالات واسعة في الضفة والقدس


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - حمادي بلخشين - من صور انتهاك حقوق الإنسان العربي قصة عشماوي