أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد السعدنى - البرتقالة الرخيصة















المزيد.....

البرتقالة الرخيصة


محمد السعدنى

الحوار المتمدن-العدد: 3469 - 2011 / 8 / 27 - 02:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم أكد أفرغ من طعام الغداء حتى جاءنى الخادم بطبق فيه برتقالة وسكين



فرفعت السكين وهممت أن أحز البرتقالة، ولكنى أعدتها وأخذت أديرها فى قبضتى وأنظر إليها

نظرة الإعجاب، فقد راعنى إذ ذاك لونها البديع وجمالها الخلاب، وشممت لها أريجاً طيباً، ولمحت فى استدارتها ومسامها نضارة عجيبة، فأشفقت

عليها من التقطيع والتشريح، ثم نظرت إلى خادمى وقلت مبتسما: لعل برتقالة

اليوم يا سليمان لايكون بها من العطب ما كان بتفاحة الأمس؟ فقال: كلا يا سيدى فلن

يكون ذلك قط، فإن البرتقال يتميز عن سائر ألوان الفاكهة بأن العطب

يبدأ من خارجه لامن داخله، فإن وجدت قشور البرتقالة سليمة فكن على يقين بأن

لبابها سليم، كذلك فالبرتقالة أمينة صادقة لاتخفى بسلامة ظاهرها خبث

باطنها، بينما التفاحة قد تبدى لك ظاهراً نضراً لامعاً، فإذا ما شققت جوفها ألفيته أحياناً مباءً يضطرب فيه أخبث

الدود !فقلت: تلك والله يا سليمان خلة للبرتقال لم أكن أعلمها، ولكنى أتبين الآن أنها حق لاريب فيه، وأنه بهذه

الخلة وحدها لجدير من بائع الفاكهة أن يرصه فى صناديقه الزجاجية، وأن يلفه بغلاف من

ورق شفاف حرصاً على هذه النفس الكريمة أن تستذل وتهان فى المقاطف والأقفاص، فهو

لعمرى بهذه العناية أجدر من التفاح الخادع، وماذا تعلم يا سليمان من صفات أخرى للبرتقال

فقال: إنها لتشبع الحواس جميعا، فهى بهجة للعين بلونها وهى متعة للأنف بأريجها ولذة

للذوق بطعمها، ثم هى بعد ذلك راحة للأيدى حين تديرها وتدحرجها كما تفعل يا

سيدى الآن، وهى فوق ذلك كله لم تنس أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين، لأنها

قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهياً، وليس بالقليل أن يظفر

زارع البرتقال بقشوره مادام السادة قد نعموا باللباب، قلت: أفبعد هذا كله يستخف

بقدرها الفاكهانى فيقذف بها قذفاً مهملاً فى الأوعيه والسلال؟! أفبعد هذا كله

تقوم البرتقالة فى سوق الفاكهة بمليمين، وتقدر التفاحة بالقروش؟! تالله لو كنت موزع

الأرزاق لغيرت معايير التقويم وقلبتها رأساً على عقب، فلست أدرى لماذا لايكون أساس التقييم ما تبديه الفاكهة من جودة وإخلاص .







هكذا كتب

أستاذنا الفيلسوف زكى نجيب محمود فى واحدة من مقالاته فى مطلع الأربعينيات من

القرن العشرين والتى نشرت فى مجلة الثقافة التى كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة

والنشر. كانت المقالة بعنوان "البرتقالة الرخيصة" وهى واحدة من سلسلة

مقالات كتبها المفكر الكبير مودعاً فيها قدراً من فكره وبعضاً من رؤيته وكثيراً من

فلسفته وقدرته على نقد الواقع المعوج حوله والسخرية منه والتشهير به، فى محاولة

لإعادة البناء على أسس صحيحة وقواعد عقلانية ثابتة، كان ذلك فى ريعان شباب الكاتب

الكبير، ثم تلاها بمقالة ثانية تحت عنوان "ذات المليمين" وهى عملة نقدية

عبارة عن قطعة معدنية كانت تسمى "النكلة" وكانت دار سك العملة المصرية تخرج

على شاكلتها عملات أخرى من فئة الخمسة مليمات "التعريفة" أو العشرة

مليمات "القرش صاغ" وكذا "الريال" عشرون قرشاً والنصف ريال أو

"البريزة"، وكان كاتبنا يسخر من ذات المليمين التى حسبت لنفسها قيمة

أكبر مما تستأهل ووزناً أضخم مما تحلم حين وضعها البائع أو الشارى محشورة فى كيس واحد مع الريالات

وأنصافها. هكذا جاءت سخريته لاذعة وصوره الأدبية ناقدة متوعدة لكل من نسى نفسه أو

خرج عن حدود إمكاناته وقدراته وقيمته من أولئك الذين سنحت لهم ظروف المحنة أو الزمن

الردئ بالتمدد كتفاً بكتف ويداً بيد وقدماً بقدم مع أصحاب القامات العليا والسامقة،

ومن أسف أنهم ربما فاقوهم حظاً وتقدموا عليهم الصفوف.







كان والدى عبد المعز السعدنى رحمه الله مولعاً بالقراءة

حيث ولدت فى بيت لا تخلوا حوائطه وممراته ودهاليزه من مكتبات ومدونات وأوراق

ومجلات ودوريات وكتب. كنت فى بواكير الصبا عندما قدم لى الوالد رحمه الله مجلة

الثقافة وقدمنى لأدب وفلسفة وفكر زكى نجيب محمود الذى تابعته بعد ذلك لا بشغف

الحكايات والمقالات والأفكار والفلسفة، ولكن بدأب الإنسان وفهم الرجال وإرادة

أصحاب الرسالات. ويخطأ من يتصور أن زكى نجيب محمود عاش فى برج عاجى لا يعاقر

السياسة أو يتعاطاها، إذ معظم ما كتبه زكى نجيب محمود كان محوره التحديث والتجديد

والتطوير والنهضة، ولا أحسب ذلك إلا عين السياسة الرشيدة وعلامة التفانى فى خدمة

الوطن.







كان زكى نجيب محمود ناقداً ساخراً من الظلم والجور وعسف

السلطة قبل الثورة كما أسلفنا، وكان ناقداً ساخراً بعد الثورة خصوصاً ممن تقدموا الصفوف

بالتزلف والنفاق والقدرة على التلون بينما هم أصحاب عقول ملساء وقدود فكرية محدودة

وأفكار بدائية سقيمة، وكانت وظيفتهم التبرير للثورة لا التغيير بالثورة، وأنظر

ماذا كتب هو بنفسه عن هذا فى كتابه "أفكار ومواقف". "صب الكاتب - يقصد نفسه -

سخرية هى أمر السخرية بمن كانوا يلوكون فى أفواههم كلمة "الشعب" ومصالح

الشعب، حتى إذا ما انكشفت له حقيقة الأمر وجد هؤلاء السادة فى واد وجموع الشعب

الحقيقى فى واد آخر، وفى سبيل تصويره لهذه المفارقة، صور قرية على قمة جبل يرتفع

برأسه فوق مستوى السحاب، وكانت طبقات السحاب من الكثافة بحيث يتعذر على ساكن القمة

أن يرى شيئاً مما يقع فى أسفل الجبل، ولقد أتيح للكاتب الرحالة أن يقضى يوماً فى

قرية السادة، فإذا هى هادئة الطرقات، ومعظم دورها مغلق النوافذ والأبواب، فلا يدرى

السائر فى الطريق من بواطنها قليلاً ولا كثيراً، لكن صاحبنا الكاتب الرحالة لم

يلبث أن وقع فى تلك القرية على نشاط عجيب وراء الجدران فما إن فتحت له الأبواب،

حتى جاءته من الداخل أصوات كالرعود، وضجة لا يكاد يميز فيها بين متحدث ومتحدث، لكن

كلمة "الشعب" لم يخطئها سمعه وسط الضجيج المختلط، لأنها كانت أكثر

الكلمات دوراناً على ألسنة المتكلمين، وعجب الكاتب الرحالة بينه وبين نفسه: أى شعب

يا ترى؟ إنه لم ير فى طرق القرية شعباً، وكان كل ما رآه بيوتاً نظيفة جميلة وعدداً

قليلاً من المارة إتسموا جميعاً ببدانة الأجسام واسترخاء الأطراف وبطء الحركة، فلم

يسع كاتبنا الرحالة إلا أن يسأل من وقف إلى جانبه: أين الشعب هنا؟ فأجابه فى استنكار

قائلاً: شعب؟ ليس الشعب هنا على القمة؟ إنه هناك على السفح عند أسفل الجبل.







وهبط كاتبنا الرحالة إلى

السفح فى طريق عودته، فكان أول من لقيه من الناس إمرأة عجوز متهدمة جلست على جانب الطريق،

وأمامها صندوق خشبى صغير تناثرت على ظهره سبع قطع من الحلوى، ترى كم مليماً تربح

هذه المسكينة فى يومها؟ وأين تسكن؟ وعلى أى كومة من التراب والحصى تضع جنبها سواد

الليل؟ وماذا تأكل؟ وكيف تغطى جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ ومن ذا يجيبها إذا

تأوهت من ألم، كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأوهوا كلما اشتد بهم الألم؟ تقدم

صاحبنا من بائعة الحلوى: بكم تبيعين القطعة يا أمى؟ فأجابته بصوت مرتعش: القطعة

بمليم، فقال لها: سأشترى حلواك كلها لأولادى! فأخذت المسكينة تدعو له ولأولاده

بطول البقاء، فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشاً كاملاً ثمناً لحلواها، لا تنسى يا

أمى أن تطلبى من الله فى دعائك، رحمة لأولئك الذين يرعون مصالحك هناك فوق قمة

الجبل، فلقد رأيتهم وهم يبذلون كل جهدهم فى سبيلك، إذ رأيتهم وهم يبحثون لك عن

أفضل دستور يلائمك من بين دساتير أوروبا، ورأيتهم وهم يتجادلون من أجلك فى هل يكون

الفن للفن أو يكون الفن للمنفعة؟ ورأيتهم وهم يهيئون لك مصطافاً على شاطىء البحر،

تلوذين به من قيظ الصيف". هكذا كتب زكى نجيب محمود ناقداً للنخبة ساخراً من

أفاعيلها، وبينما انتقل هو إلى بارئه، لاتزال البرتقالة قياساً بالتفاح رخيصة



#محمد_السعدنى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معجزته ليست في ذاتها
- لن تخبو نار بروميثيوس
- أوهام التعليم العالي وخطاياه
- مطعم القردة الحية
- صفحات في ذاگرة التراث
- ذهنية -خراسان- وأصولية السياسة
- أقروا الماجنا كارتا وخذوا كل المقاعد
- إنتاج وإدارة المعرفة
- »فصل المقال فيما يكتب عن الدستور أو يقال
- ضرورات الثورة ومحاذير الفوضي
- الكومبرادور يحاول إغتيال الثوره
- إستراتيچيات المشروع العلمي للثورة
- الزمن ما بين نيوتن وجويدة
- عن الثورة وجمال عبد الناصر
- من الثورة إلى النهضة..كيف؟
- إنتروبيا العلم والسياسة
- التعليم واقتصاد المعرفة
- العلم شفرة النهضة ورهانها
- براءة الثورة ودهاء السياسة - المجلس العسكري والثورة مابين مط ...
- ثورة تبحث عن مؤلف .. (علي المجلس العسكري أن يتحمل مسئولياته ...


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد السعدنى - البرتقالة الرخيصة