أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد الغني سلامه - هل دخلت البشرية طور الحضارة ؟!















المزيد.....


هل دخلت البشرية طور الحضارة ؟!


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3456 - 2011 / 8 / 14 - 15:56
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يُقسم تاريخ الإنسان إلى قسمين منفصلين تماما : تاريخه البيولوجي، وفيه سرد للخطوات التي سارتها الرئيسيات العليا حتى انتهت بالإنسان. وتاريخه الحضاري، وفيه قصة ارتقاءه من قبائل للصيد وجمع الغذاء إلى صانع للحواسيب وصواريخ الفضاء. القسم الأول تطلب نحو 30 مليون عام ليصل إلى أشباه الإنسان، وسبعة ملايين عام لتتطور خلالها أشباه البشر إلى بشر.
القسم الثاني تضمن حكاية الإنسان الحديث، والتي امتدت على مدار نحو 60.000 عام، تمثل قصة حضارته ما يعادل 1 / 1000 من عمره قبل التحضر ، فالبشر قبل نحو عشرين ألف عام مثلا لم يكونوا أكثر من مجموعات هائمة في البراري تبحث عن طعامها، وأكثر ما كانت تتقنه هو تقنيات صنع الأدوات من الحجر، وتعقُّب قطعان الحيوانات لصيدها، إلى جانب تنويعات فنية بدائية تمثلت في رسوم لحيوانات وأشكال أخرى في أعماق الكهوف، تدل على نزعة روحانية طوطمية ، كما تفعل بعض القبائل البدائية الآن في مجاهل الأمازون أو في أعماق الغابات الإستوائية في أفريقيا وجاوة وصحارى أستراليا مع بعض الفروقات البسيطة.
وقد أجبرت قسوة البيئة وشح الموارد الإنسان الأول أن ينوع في مصادر غذاءه، وأن يقتات على ما هو متاح، فبدأ يتغذى على لحوم الحيوانات الصغيرة، ثم الكبيرة، الأمر الذي دعاه إلى تعلم فنون الصيد، ولما كان الإنسان بلا مخالب وبلا قرون وبلا أنياب، وجلده ناعم ورقيق، لا تغطيه فروة أو حراشف، وسرعته بطيئة بالمقارنة مع سرعة المفترسات، وقوته البدنية أقل بكثير منها، فإن هذا كان سببا لجعله يعتمد على سر قوته الذي مكّنه من التعايش مع الوحوش ثم التفوق عليها: إنه ذكاؤه، الذي تطور في تلك المراحل على نحو لافت، وجعله يتميز به عن سائر المخلوقات.
وقد كان تطور ذكاء الإنسان ضرورة اقتضتها متطلبات التكيف مع توالي فصول البرد والحر، ومن أجل تأمين بقاءه في عالم لا يرحم، الأمر الذي دعاه أن يوظفه بدايةً في الصيد، ولكن بما أن الصيد - بالاعتماد على الذكاء - يتطلب التخطيط والتعاون الاجتماعي وتبادل الرأي، فقد صار من المحتم أن تنشأ اللغة، ومن ثم النظام الاجتماعي.
وقبل إثني عشر ألف عام، وبعد أن انتهت عصور الكفاح ضد الجليد والبرد، بدأت هذه المجموعات بالدخول في طور الحضارة، إذْ اهتدت للزراعة وتدجين بعض الجيوانات الأليفة، وصار ممكنا بل ضروريا لهذا الإنسان أن يستقر.
فبعد انقضاء العصر الجليدي الأخير اكتست الأرض بحلة خضراء، وظهر حينها نوع من القمح في منطقة أريحا على ضفاف نهر الأردن، وقد عرف سكان تلك المنطقة كيفية حصاده وطحنة قبل أن يعرفوا سر زراعته. وكان هذا إيذانا بتدشين عصر الثورة الزراعية. وقد وجَد حينها كل من النبات والإنسان ضالته في الآخر، بل أن كل منهما اعتقد أنه خُلق لخدمة الآخر، فصار بمقدور الإنسان أن يحسن من نوعية غذاءه عن طريق الزراعة، وصار بمقدور النباتات أن تتكاثر، وأن تنوع أصنافها وتحسنها، أيضا عن طريق الزراعة.
وإذا كانت الزراعة سببا لاستقرار الإنسان، ومن ثم سببا لتنازع المُلكية ونشوء مناطق النفوذ، فإن تدجين الحيوانات وامتطائها ما هو إلا رمز لسيادة هذا الإنسان على بقية الكائنات، وبسط سيادته على منطقته، ولكن الزراعة واستئناس الحيوانات سيتطلبان بالضرورة ابتكار بعض الأدوات كالمعول والمنجل والسرج، أي بعبارة أخرى، ستقود الثورة الزراعية إلى أولى الخطوات البدائية نحو الثورة الصناعية.
في تلك المراحل البسيطة الأولى من حياة الإنسان، لم يكن يعرف الملكية الفردية بمعناها الحالي، بل كان يسود تلك الحياة نوع من التضامن والمشاعية البدائية، فلم يكن بمقدور الفرد مواجهة قسوة البيئة لوحده، وبسبب ضآلة الإنتاج وبساطته، وعدم وجود أي فائض إنتاجي،لم يكن هناك استغلال لعمل الآخرين وجهدهم، لأن العمل كان كله موجها نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.
وفي هذه المرحلة كان الفكر الإنساني يتسم بنفس البساطة والبدائية اللتين كان يتسم بهما الإنتاج. فكل ظواهر الطبيعة كانت تفسر تفسيرا طوباويا، يتناسب مع العجز عن فهم تلك الظواهر الكونية، وعدم القدرة على كشف قوانينها. وكان يتعذر تحديد الحد الفاصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان. وكان السحر واللجوء للقوى الماورائية والغيبية - التي كان الإنسان يتصور أنه يستطيع عن طريقها التحكم في ما حوله - هو التعبير الواضح عن عجزه عن السيطرة على الطبيعة .
في أعقاب تلك المرحلة نشأ نمط معيشي عُرف بأسلوب الإنتاج الآسيوي، وهو مصطلح ظهر في كتابات "أنغلز" وفي مقدمة "ماركس" في كتابه "رأس المال"، ويقصد به نمط الإنتاج الذي كان شائعاً في الحضارات الإنسانية الأولى التي عرفها الشرق القديم، وأعقب أسلوب المشاعية البدائية الذي عرفته البلدان الآسيوية والمشرقية عامة، دام هذا النمط فترة طويلة، أفضى إلى نشوء نظام الرق، أي أن الانتقال من المشاعية إلى نظام العبوديةلم يحدث دفعة واحدة، بل إن التطور بينهما كان متدرجا وبطيئا.
الانتقال من عصر إلى آخر لا يتم دفعة واحدة، أو على شكل قفزات، لأن العصور تتوالد من بعضها، وحركة التاريخ تسير في اتجاه لولبي صاعد، وكل مرحلة تاريخية تحمل في أحشائها سمات المرحلة القادمة، وحتمية قدومها.
فمثلا، كانت نقطة التحول من المشاعية إلى العبودية، هي تقدم القوى الإنتاجية إلى الحد الذي لا يعود الإنسان ينتج فيه من أجل تلبية حاجاته المباشرة، بل أصبح إنتاجه فائضا عن حاجته الخاصة، وكان هذا الفيض في الإنتاج هو بداية التقسيم الطبقي بين البشر، فلم يعد بعدها التجانس والمساواة في الفقر هما السمة المميزة للمجتمع كما كان سائدا قبلها، فقد نشأ اختلاف وتمايز بين مستويات البشر، وظهر الفرق بين الغني والفقير، والقوي والضعيف. وكان هذا التمييز هو ذاته بداية استغلال الإنسان للإنسان، إذ أن تراكم الثروة – ولو على نطاق ضيق – كان يتيح للغني أن يستغل الفقراء لزيادة ممتلكاته.
ولم يتخذ هذا الاستغلال شكل الرق في جميع الأحوال، إذْ اختبر العالم القديم نظما اقتصادية متقدمة بنيت على أساس سلطة استبدادية مطلقة، تتميز فيها طبقة الحكام والكهنة عن عامة الشعب بميزات هائلة، ولكنها لا تتخذ من عامة الشعب عبيدا بالمعنى الصريح. وفي ظل هذه النظم ازدهرت حضارات هامة وعظيمة، كانت دعامتها الأولى هي الاقتصاد الزراعي المتقدم، كما هي الحال في الحضارة المصرية القديمة.
ومن الجدير بالذكر أن مبدأ الحكم الاستبدادي المطلق كان يطبق على الميدان العقلي والروحي معا، فالعلم كله تحتكره طبقة من الكهنة، هي وحدها التي تتداول أسراره وتتوارثها، وتحرص على كتمانه عن بقية الناس، ولم تعرف سجلات التاريخ لتلك الأنظمة أن العلماء والباحثين المشاهير في تلك الأزمنة قد اهتموا بالقضايا التي تشغل الناس، أو انهم تحدوا النظم الاقتصادية والدينية والاجتماعية السائدة، فطالموا بحثوا في الهندسة وحركة النجوم، ولكنهم أبدا لم يبحثوا في أخلاقيات نظام العبودية، بل أنهم استخدموا علومهم لتطوير الأسلحة وبناء الصروح الضخمة للملوك، ولم يستفد منها عامة الشعب، لذلك لم يكن مستغربا أن تتفشى الخرافات والغيبيبات في أذهان العامة. وعندما أقدم الرعاع على حرق مكتبة الإسكندرية - التي كانت أهم صرح علمي في ذلك الزمان - لم يجدوا من يمنعهم من ذلك .
أما النموذج الصارخ للعبودية بشكلها الجديد، فقد مثله المجتمع اليوناني القديم. فعندما اتسع نطاق الحروب، أصبح الأسرى المهزومين يُجلبون إلى البلاد لكي يُستعان بهم في الأعمال المنـزلية في بداية الأمر، واكتسبوا بالتدريج صفة الرقيق الذي يتحكم سيده، لا في عمله فحسب، بل في شخصه أيضا، وأصبح لهذه الصفة أساس قانوني ينظم العلاقة بين العبد وسيده.
وعلى أية حال فقد شكّلَ نشوء العبودية خطوة مهمة لمصلحة العبيد، اذْ تحوَّلَ العبيد من أسرى يجري قتلهم، إلى طبقة باقية على قيد الحياة، مقابل أن يكونو ملكا للسيد الجديد، هم وما ينتجونه. ولم يكن تحويل الأسرى إلى عبيد مجرد عطف من السيد على حياة هؤلاء الأسرى، بل كان ذلك تعبيرا عن ظاهرة اجتماعية كبيرة الأهمية في عملية الانتاج الاجتماعي. كان الانتاج في مرحلة المشاعية البدائية شحيحا لا يكفي لاعالة الجماعة، ولذلك لم يكن بامكان الجماعة المنتصرة أن تُبقي على حياة من تأسرهم وتطعمهم وتأويهم، فكان قتلهم بمثابة الحل الأسهل.
ولكن تطور انتاج المجتمع في الصيد والزراعة وتدجين الحيوانات والصناعات الحرفية أصبح كافيا لمعيشة الجماعة وحتى لتوفير المزيد من الإنتاج لاعالة أناس لا يمارسون الانتاج كالكهنة مثلا. وهنا ظهرت امكانية الإستفادة من هؤلاء الأسرى عوضا عن قتلهم.
وبسبب نضالات العبيد ومحاولاتهم للحصول على بعض حقوقهم كبشر ظهرت حركات تمرد عديدة، ونشأ صراع طبقي شديد بينهم وبين أسيادهم.
ولكي يستطيع الأسياد الإبقاء على إخضاعهم للعبيد واستغلالهم، كان عليهم أن يجدوا الأدوات اللازمة لذلك. فكان نظام الدولة أحد هذه الوسائل وأهمها. فالدولة آنذاك كان هدفها الرئيسي المحافظة على نظام العبودية. وقد أفضت ثورات العبيد في نهاية المطاف إلى نشوء المجتمع الاقطاعي، الذي حول العبيد إلى فلاحين، يعملون في الأرض ويخدمون صاحبها مقابل أكلهم وإيوائهم والسماح لهم بالتكاثر.
وقد مثل هذا التحول من العبودية إلى الاقطاع خطوة أخرى في مسلسل التقدم الإنساني. فمن كون الإنسان عبدا لا فرق بينه وبين الحيوانات، أصبح إنسانا بمعنى ما، له كيانه، رغم أنه بقي مربوطا من الناحية الاقتصادية بالاقطاعي . وعلى أية حال، فإن الإقطاع كان في بعض الأحيان أرحم من العصر الرأسمالي في الفترة الأولى من تاريخه، لأنه كان يمنح الناس قدرا من الأمن والحماية على الأقل.
ولم تكن القوى المنتجة في مرحلة الإقطاع تختلف كثيرا عنها في نظام العبودية. كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغير أساسي، إذ أنه ظل في أساسه زراعيا، فضلا عن أن حجم الإنتاج كان محدودا، وكانت أساليبه لا تختلف كثيرا في بساطتها عن نظيرتها في نظام الرق.
وما ساهم في اتساع نظام الإقطاع وتعاظم نفوذه، تلك الحروب الكثيرة التي كان يخوضها الملوك، إما ضد بعضهم، وإما ضد أعداء من الخارج. فلقد أدت هذه الحروب إلى ازدياد أهمية فئة العسكريين المحترفين، وزيادة عدد أفرادها. ونظرا إلى أن الملوك لم يكن لديهم دائما المال الذي يكفي لمكافأة هؤلاء القادة العسكريين، فصاروا يمنحونهم قطعا من الأراضي جزاء لهم على حسن بلائهم في الحرب، تحولت فيما بعد إلى ملكية دائمة. كما ساهم رجال الدين بدورهم في إكمال صورة العصر الإقطاعي، فنشروا بين عامة الناس قيم الزهد، وصوروا حياة الإنسان على هذه الأرض بأنها مرحلة مؤقتة، لا ينبغي أن يُوْلوها اهتماما كبيرا، وأن عليهم توجيه أنظارهم نحو الحياة الآخرة التي سيجدون فيها تعويضا عن شقائهم في الدنيا. وبعبارة أخرى، فإن رجال الدين كانوا يصورون الاستغلال البشع الذي يمارسه الإقطاعي، على أنه تعبير عن المشيئة الآلهية، التي ينبغي أن يقبلها الإنسان دون أدنى اعتراض.
ومن أبرز سمات المجتمع الاقطاعي نزوعه إلى الثبات ومحاربته للتجديد، ذلك لأن الإقطاع بطبيعته نظام راكد، ومن هنا ستنشأ ظاهرة عبادة الماضي - وهي ظاهرة لا نزال نلمسها في كافة المجتمعات الريفية حتى اليوم - فالمالك الإقطاعي الكبير يدين بثروته ونفوذه – في معظم الأحيان – للوراثة، أي للماضي الذي يرى فيه صورة أمجاده ومصدر قوته.
ومن البديهي أن هذا النمط الاجتماعي السكوني المتحجر، والذي يربط العقول بعجلة الماضي أكثر مما يوجهها نحو المستقبل، سيؤدي إلى شيوع التزمت وضيق الأفق في مجال الفكر. ففي مثل هذا المجتمع لا يوجد أي مجال للشك وطرح الأسئلة، أو للآراء المعارضة، لأن التسامح معها سيؤدي إلى انهيار أسس المجتمع الإقطاعي، ومن هنا كان مبدأ التسامح ذاته من المبادئ التي لا يعترف بها مجتمع كهذا. وينطبق ذلك أيضا على مجال العلم والفكر.
وكانت سمات المرحلة الإقطاعية هي بحد ذاتها عوامل انهيارها، وبالتالي الدخول إلى المرحلة الرأسمالية، وقد جرى هذا التحول على نحو أسرع مما جرى في دخول عصر الإقطاع، فقد طرأ على شكل الإنتاج تحول جوهري، بحيث لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، بل حلت محلها الصناعة، أي ظهور فئة الصناع كطبقة منتجة مستقلة، والتي يمكن اعتبار ظهورها مرحلة وسطى بين الاقتصاد الإقطاعي الذي كان زراعيا، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الطبقة لم تكن قد انفصلت تماما عن الواقع الذي تنتج فيه ومن أجله، بل كانت ولا تزال لها صلات قوية بانتاجها وبالأغراض التي تنتج من أجلها.
وإذا كانت التجارة قد عُرفت منذ أبعد العصور، إلا أن دورها في هذا العصر كان متميزا: فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة، لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد المعروف للثروة، هذا النوع الجديد هو رأس المال التجاري الذي أصبحت له أهمية فعّالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج، ولتخزين المنتجات، فضلا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية، وهكذا صارت النقود هي القوة الاقتصادية: وصارت وسيلة لتخزين الثروة، ومقياساً للقيمة.
في هذه المرحلة بدأت المجتمعات وخاصة في أوروبا تتخلص من السيادة المطلقة لنظام الإقطاع، أي مع حلول القرن السادس عشر - عصر النهضة الأوروبية - وقد تم تسديد الضربة القاضية إلى هذا النظام في عهد الثورة الصناعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وفي عهد الثورة الفرنسية على المستوى السياسي.
وقد كان للبروتستانتية تأثيرا مباشرا في ظهور الرأسمالية: ذلك لأن الروح البروتستانتية قد أزالت العوائق التقليدية التي كانت تقف حائلا في وجه الرغبة في التملك، ولم تكتف بتأكيد أن دافع الربح مشروع، بل لقد نظرت إلى السعي إلى الربح على أنه أمر تتجه إليه الإرادة الإلهية مباشرة.
أصبح التغيير هو شعار العصر الرأسمالي في مراحله الأولى. وصار الإنسان في ذلك العصر يعتقد جازما بأن قدرته على التغيير تسري على كل شيء، وبأنه لا توجد عوائق تمنعه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعليته فيها، واستطلاع آفاق العالم الطبيعي بكل تفاصيله، وتمثل ذلك في حركة الكشوف الجغرافية التي تضاعفت بسببها أبعاد العالم المعروف للإنسان، وكشفت فيها قارات جديدة مليئة بالثروات وإمكانات الاستغلال.
بدأت الرأسمالية في عهدها الأول، تشق طريقها بفضل روح المغامرة والكشف عن المجهول، وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أما عندما اكتملت خصائص الرأسمالية فقد انعدمت روح المغامرة، وأصبح رأس المال "جبانا"، وتحولت المنافسة التي كانت من أبرز سماتها في البداية إلى احتكار يعمل على تخفيف حدة التنافس وتنظيمه لصالح أصحاب الأعمال وضد مصالح المستهلكين. وبدلا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، فإنها أخذت تخلق لديه عادات زائفة، لا هدف لها سوى فتح أبواب جديدة للربح، ولكن على حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع. أي باختصار صارت رأسمالية متوحشة.
وهكذا أنجبت الرأسمالية مذاهبها الأخلاقية الخاصة، مثل المنفعة والبرجماتية. وهذين المذهبين كانا تعبيرا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن نوع من الأخلاق يقوم بحساب كل فعل تبعا لمقدار المنفعة المترتبة عليه، ولمدى نجاحه العملي، بغض النظر عن أية قيمة كامنة في هذا الفعل. ومن هنا كانت هذه الاتجاهات في الأخلاق تعبيرا صادقا عن أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفا. وكانت "المكيافيلية" هي التعبير الصحيح عن أخلاق العصر الرأسمالي "المتوحش"، وعن القيم العقلية السائدة فيه.
في الماضي، عندما كانت حاجات الجماعة هي التي تتحكم في النشاط الاقتصادي، كانت هناك حدود طبيعية لا يمكن أن يتعداها هذا النشاط. أما عندما أصبحت الغاية هي أن تزدهر الأعمال، لا أن تلبّي حاجات الجماعة، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الحدود موجودة، ويستحيل أن يصل صاحب العمل الرأسمالي إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى، فنشاط صاحب العمل يتطلع دوما نحو غاية لا نهائية.
الاغتراب - وهو من أبرز سمات الرأسمالية - هو فقدان العنصر الإنساني في المعاملات الرأسمالية، أي اقتلاع الإنسان من جذوره في المجتمع الذي لا تحكمه غاية سوى تحصيل المزيد من الربح. وهذا الاغتراب الناجم عن المنافسة الحامية، التي تسود الاقتصاد الرأسمالي، يباعد ما بين البشر، وينشر بينهم العداوة والبغضاء، وتجرد الروح الإنسانية تماما من معاملاتهم لبعضهم البعض.
وحتى لو أراد الرأسمالي أن يكون إنسانيا في معاملاته، فإنه لا يملك ذلك، لان قوانين المنافسة هي التي تملي عليه طريقة معاملته للعمال، وهي التي تحدد طبيعة علاقاته مع غيره من الرأسماليين الذين ينافسونه في ميدان إنتاجه الخاص. فهو ليس حرا في معاملاته، بل إن هناك ما يشبه القدر الذي لا يرحم، والضرورة المحتومة، التي تتحكم في تصرفاته. ذلك لأن رأس المال، يختنق إذا لم يتوسع، والتوسع يقتضي عمل حساب قوانين المنافسة.
وأيضا فإن المستهلك بدوره سيغدو مغتربا عن نفسه في المجتمع الرأسمالي. ذلك لأن هذا النظام لا يعمل على إشباع حاجاته الحقيقية، وإنما يخلق حاجات زائفة، نتيجتها الوحيدة أنها ستحقق مزيدا من الأرباح للرأسماليين، وهنا سيعمل الإعلان على إقناع الناس بأمور تافهة تتحول لديهم بالتدرج إلى ضرورات، وفي النتيجة ستسود عقلية الاستهلاك لأجل الاستهلاك، فعندئذ يكون المستهلك بدوره قد اغترب عن ذاته، لأنه لم يعد يعرف ما هو في حاجة إليه من أجل استكمال إنسانيته، ولأن المطالب العرضية الزائفة أصبحت لها الغلبة على مطالبه الجوهرية.
وطالما تغنّى النظام الرأسمالي بالحرية، ولكن سرعان ما تكشّف وجه هذه الحرية الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع. عبودية ناجمة عن استغلال الطبقات لبعضها، وعن صراع الفرد مع المجتمع، عبودية اقتضتها ظروف الفقر والبطالة والعجز لدى الفئات المسحوقة والمهمشة، وظروف وقوانين العمل التي أعدت خصيصا لصالح المنتجين.
وكل ما تدعيه الرأسمالية من حريات هو في حقيقته مقيد، فحرية الصحافة الرأسمالية في جوهرها مقيدة، بسبب اعتمادها على الإعلان الذي تتحكم فيه المؤسسات الرأسمالية الكبرى، ما يجعلها ألعوبة في يدها. وهذا ينطبق بشكل ما على النقابات والاتحادات والمنظمات المحلية، التي تحكمها صراعات مراكز القوى وتوازناتها وعلاقاتها مع مراكز صنع القرار وأصحاب النفوذ. وينطبق أيضا على حرية تكوين الأحزاب، لذلك فإن الأحزاب في الدول الرأسمالية أشبه ما تكون بلعبة مسلية بين الحكومة والمعارضة، تتغير فيها الوجوه، دون أن يطرأ على السياسة ذاتها أي تغيير حقيقي.
ومن أسوا ما أنتجه النظام الرأسمالي "الجريمة" التي باتت سمة ملازمة لمعظم البلدان الصناعية، حيث تزداد فيها معدلات الجريمة ارتفاعا عاما بعد عام. ولا يمكن بالطبع أن يزعم أحد أن ظاهرة الإجرام وليدة النظام الرأسمالي، إذ أن الظاهرة ذاتها قديمة قِدم المجتمع الإنساني. ولكن الكثيرين يؤمنون بأن الاتساع الهائل في نطاق الجريمة قد تولد عن المجتمع الرأسمالي عندما بلغ أقصى درجات نموه، ويدللون على ذلك بأن أكثر الدول الرأسمالية تقدما، وهي الولايات المتحدة، هي التي تنتشر فيها الجريمة بأعلى النسب، وبأشد أنواع التنظيم والتدبير اتقانا.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحضارة الرأسمالية قد أحرزت انتصارات ومكاسب لم تتوصل إليها أية حضارة سابقة: فقد عرفت كيف تسيطر على العالم المادي كما وكيفا، وتسخر الطبيعة لخدمة الإنسان، ووفرت للناس سلعا وخدمات على نطاق لم يُعرف له من قبل نظير، وكافحت الأمراض والكوارث الطبيعية بكفاءة نادرة، وأبدعت عددا هائلا من روائع الفن والأدب، وتمكنت من إحراز تقدم هائل في الميدان العلمي. ولكن، على الرغم من هذا النجاح، فقد كانت هناك نقطة ضعف كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالحرب. فلا يكفي أن يقال أن النظام عاجز عن منع الحرب، وأن الحرب مرض يصيب جسم الرأسمالية بسبب انتقال العدوى إليه من مصدر خارجي، بل إن الحرب تنتمي إلى صميم بنائها وتركيبها الباطن.
وقد مثلت الحرب العالمية الثانية أسوأ نموذج لصراع الرأسماليات فيما بينها، إذ قتل في هذه الحرب المجنونة 50 مليون إنسان أغلبهم من المدنيين الأبرياء، وكان الموت الذي أمطر من السماء حينها محملا على قذائف متفجرة بلغت قوتها التدميرية 2 ميغا طن.
في الماضي عندما كان البشر يعيشون في مجموعات صغيرة، وكانت أسلحتهم بدائية، لم يكن المحارب حتى في ذروة غضبه قادر على قتل أكثر من عدد بسيط من اعداءه، أما اليوم فبفضل التقدم التكنولوجي الذي أحرزته الرأسمالية صارت الحرب الواحدة توقع أعدادا هائلة من القتلى. فإذا كانت قنبلة هيروشيما تعادل 13 ألف طن ت.ن.ت، فإن القنبلة النووية الحالية قدرتها تعادل 15 مليون طن ت.ن.ت، وإذا ما نشبت حرب نووية عالمية فإنها قادرة على قتل 100 مليار إنسان، أي 15 ضعف عدد سكان الأرض.
وهكذا، وبعد أن عانت البشرية كثيرا من مثالب الرأسمالية وأزماتها، اجترحت الاشتراكية كنظام بديل، ليس بوصفها منقذة للبشرية وحسب، بل وأيضا باعتبارها المرحلة الحتمية اللاحقة للرأسمالية، وقد حاولت النظم الاشتراكية بناء نموذجها الهادف إلى نقل المجتمع الإنساني إلى مرحلة جديدة يتخلص فيها من نقائص المرحلة الرأسمالية، وكانت نقطة البدء في التفكير الاشتراكي هي محاولة استرداد القيم الإنسانية التي أهدرها النظام الرأسمالي. ولكن بؤس التطبيق في معاقل الأنظمة الاشتراكية، والأخطاء القاتلة التي ارتكبها زعمائها أدى إلى فشل التجربة وموتها - على الأقل إلى حين - وفي أعقاب ذلك دشنت البشرية عصرا جديدا، إن كان بحد ذاته امتدادا للرأسمالية، إلا أنه يختلف عنها في بعض جوانبه، إنه عصر العولمة.
وإذا كانت البشرية وخلال مراحل تطورها عبر كل العصور والحقب المتلاحقة قد عاشت كل هذا الشقاء والدمار، واختبرت الحروب والكوارث بكل ويلاتها ومآسيها، وعرفت كل أشكال القهر والظلم، وبعد هذه الرحلة الطويلة، ما زال الإنسان معذبا وبائسا وحائرا ...
فهل حقا دخلت البشرية طور الحضارة ؟؟
سؤال قد تجيب عنه الأجيال القادمة ...

المصادر:
جاكوب برونوفسكي، التطور الحضاري للإنسان، الهيئة العامة المصرية للكتاب، ترجمة د. أحمد مستجير، ط1، 1987. القاهرة، ص 34.
إسحق عظيموف، قصة نشوء الإنسان، ص 87. ويشير الكاتب أن النسبة هي 1:600.
فراس السواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق. ص 140 – 142.
د. فؤاد زكريا، آفاق فلسفية، الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية، مكتبة مصر - دار مصر للطباعة، الباب الأول ص 9 - 71، نسخ الكتروني: وجدي حمدي مايو 2005، ص 2.
http://www.marxists.org/arabic/marxism/philosophy/stages.htm
كارل ساجان، الكون، إصدار دار المعارف، الكويت، 1992، ص 268 - 269.
حسقيل قوجمان، الصراع الطبقي، الحوار المتمدن - العدد: 2563 - 2009 / 2 / 20، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=163407



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظهور الإنسان
- ما لم يقُلْه دارون
- انفجار الحياة
- أينشتاين على الخط - النظرية النسبية في فهم نظام الكون
- كيف نفهم نظام الكون ؟
- ديمقراطيات استبدادية
- لماذا لا ينتحر الرؤساء العرب ؟!
- دبي .. صورة قريبة لمستقبل بعيد
- المغرب .. البوليساريو .. وأزمات أخرى لم تحل
- السودان الجنوبي مؤامرة خارجية أم استحقاق داخلي
- السياسة الروسية في الشرق الأوسط
- الثورات العربية بين الإرادة الشعبية ونظرية الفوضى الخلاقة
- عصر الثورات العربية الأسباب والتداعيات
- الولاء والبراء والتتريس - في الفكر التكفيري
- التكفير وحرية التفكير
- المنهج التكفيري عند الإسلاميين
- منهج التكفير في العقل الإسلاموي
- في اليمن هل ستغير ساحة التغيير شيئا ؟
- محاولة في فهم الاسلام السياسي - الجزء 3
- محاولة في فهم الاسلام السياسي - الجزء 2


المزيد.....




- مادة غذائية -لذيذة- يمكن أن تساعد على درء خطر الموت المبكر
- شركة EHang تطلق مبيعات التاكسي الطائر (فيديو)
- تقارير: الأميرة كيت تظهر للعلن -سعيدة وبصحة جيدة-
- عالم روسي: الحضارة البشرية على وشك الاختفاء
- محلل يوضح أسباب فشل استخبارات الجيش الأوكراني في العمليات ال ...
- البروفيسور جدانوف يكشف اللعبة السرية الأميركية في الشرق الأو ...
- ملاذ آمن  لقادة حماس
- محور موسكو- طهران- بكين يصبح واقعيًا في البحر
- تونس تغلق معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا لأسباب أمنية
- ?? مباشر: تحذير أممي من وضع غذائي -كارثي- لنصف سكان غزة ومن ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد الغني سلامه - هل دخلت البشرية طور الحضارة ؟!