أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - ما حقيقة الدولة الإسلامية (المدنية)؟















المزيد.....


ما حقيقة الدولة الإسلامية (المدنية)؟


عبد القادر أنيس

الحوار المتمدن-العدد: 3425 - 2011 / 7 / 13 - 21:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هذه قراءة ثانية في النقطة التاسعة في مقالة المفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي (الإسلام والمواطنة):
http://www.ghannoushi.net/index.php?option=com_content&view=article&id=417:mouatana&catid=25:fikr&Itemid=2
يقول في هذه النقطة: ((تقديرنا أنه كما مثلت العلمانية بكل ألوانها ودرجات علاقتها بالمسيحية -حتى لتبدو أحيانا مسيحية متنكرة، كما أكد ذلك الفيلسوف الألماني كارل شميت- مدخل شعوب الغرب إلى الحداثة وثمارها العلمية والسياسية كالمواطنة والديمقراطية، فإن سبيل المسلمين إلى ذلك هو الإسلام وليس غيره بسبب جمعه في منظومة واحدة متماسكة بين ضمير الإنسان ونظامه الاجتماعي، بين المادي والروحي والدنيوي والأخروي، وبسبب عمق قيمه في الوجدان والثقافة، وهو ما يفسر أن تهميشه من قبل النخب العلمانية التي حكمت المنطقة كان العامل الرئيسي في فشل التجارب التنموية على كل صعيد، علمي تقني أو سياسي أو اقتصادي، ومنها الفشل في حل القضية الفلسطينية، وكيف ترتجى تنمية على أي صعيد مع استبعاد الروح الجامع والوقود المحرك للجماهير؟)).
احتجاج الغنوشي بالفيلسوف الألماني كارل شميت لا يكفي ليكون حجة كافية مقنعة حول كون العلمانية (مسيحية متنكرة). فكثيرون هم الفلاسفة والمفكرون والعلماء والمكتشفون الغربيون الذين أثبتوا العكس تماما. بل بوسعنا أن نشير إلى حقيقة هامة وهي أن نفس هذه المؤسسات المسيحية لم تكن تدخر أي جهد أو وسيلة لقمع رجالها من القساوسة الذين أوصلتهم بحوثهم واكتشافاتهم إلى حقائق تتناقض مع التعاليم الرسمية وتعرضوا للقمع فانكمش البعض حد التنكر لهذه الحقائق والاعتذار عنها (غاليلي) وذهب البعض في الدفاع عنها إلى حد التضحية القصوى (برونو، كوبرنيكوس) وقدموا للإنسانية أفكارا عظيمة وبعضهم دفعوا لقاء صمودهم ثمنا غاليا تكفيرا وسجنا وحرقا. لم تأت العلمانية بسهولة وكتحصيل حاصل للتعاليم المسيحية كما يوهمنا الغنوشي. كانت معارضة المؤسسة الدينية رهيبة. وقد يحاول البعض اليوم التخفيف من سلبيات هذا التاريخ بحجة أن حياة المسيح والإنجيل تخلو من تلك التعاليم الجامعة الشاملة حول إدارة كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس خلافا لما هو الحال في اليهودية والإسلام، ولكن لا يجب أن ننسى أن المسيحية لم تكن فقط تعاليم المسيح، لأنها ضمت إلى عقيدتها طوال القرون، خاصة بعد أن صارت أيديولوجيا حكم، تعاليم وأفكارا وشعائر أغلبها يعود إلى تعاليم العهد القديم اليهودي وبعضها إلى الفلسفة اليونانية وحتى إلى مخلفات وثنية خاصة ما تعلق منها بالمواقف المعرفية والفسلفية والسياسية والمرأة والأسرة... وهي تلك التي نهل منها مؤسس الإسلام ما استطاع.
وعليه فمن الكذب على التاريخ القديم والحديث أن ننسب إلى أنظمة الحكم المختلفة ثيوقراطية كانت أم مدنية بأنها بلغت من الرشاد والنضج ما جعلها تقرر بمحض إرادتها التنازل عن امتيازاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمستضعفين. قصة الحضارة الحديثة والديمقراطية والعلمانية ليست بهذه السذاجة والبساطة بل هي أقرب إلى التوحش منها إلى التأنس.
أما أن يقول بأن ((سبيل المسلمين إلى ذلك هو الإسلام وليس غيره بسبب جمعه في منظومة واحدة متماسكة بين ضمير الإنسان ونظامه الاجتماعي، بين المادي والروحي والدنيوي والأخروي، وبسبب عمق قيمه في الوجدان والثقافة))، ويقصد سبيل المسلمين إلى (الحداثة وثمارها العلمية والسياسية كالمواطنة والديمقراطية)، فهو قول لا يصمد أمام التحليل المنطقي ويقتضي منا وقفة مطولة.
فلو كان في الإسلام ما يمكن أن يقود المسلمين إلى (الحداثة وثمارها العلمية والسياسية كالمواطنة والديمقراطية) لما كنا اليوم في هذه الوضعية الحضارية المتخلفة وهو الذي ظل ومازال يهيمن على العقول والأبدان عندنا. رجال الدين المسلمون ظلوا دائما يستغلون الدين بل ويجدون فيه كل ما يبرر رفضهم لأي جديد بحجة أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولا فرق بين البدعة والإبداع. ومن جهة أخرى فالديمقراطية والمواطنة إبداعات غربية بامتياز لا أثر لهما في موروثنا الديني بل العكس هو الصحيح، مهما احتال الشوراقراطيون. ولهذا كان الإسلاميون سباقين إلى تكفير هذه البدع الكافرة، ومازالوا على عهدهم باقين في كثير من البلاد الإسلامية، خاصة تلك التي مازالت تستمد شرعيتها من الإسلام وشريعته وحتى من نسل نبيه.
وحتى عندما يتنازلون أمام إلحاح المستجدات ويقبلون استخدام لفظة الديمقراطية فإنما يتم ذلك بعد تجريدها من مضمونها العصري الذي أهم ركائزه الوثيقة الارتباط: الحرية والمواطنة والعلمانية بحيث يستحيل وجود ديمقراطية بدون علمانية والعكس صحيح. بما يعني ذلك كله من حق المواطنين في انتخاب ممثليهم للحكم وتشريع القوانين حسب حاجاتهم دون أي اعتبار لدين أو عرق أو جنس أو طائفة أو مذهب، وحدها التجربة والخبرة المتراكمة والعقل هي المبتدأ وهي المنتهى، وحتى مع هذا القبول الاضطراري نراهم يحتفظون بمسمار جحا، كما رأينا في مقال سابق. نقرأ مثلا للقرضاوي كونه أهم مرجعية عند الغنوشي حول تبرير قبوله بالديمقراطية: ((وبذلك ندخل التعاليم الإسلامية ونعدل المنظومة المستوردة إلى أن تصبح إسلامية. إن ما في الديمقراطية من مبادئ أصله عندنا، ولكن الوسائل والأساليب والآليات ليست عندنا، ولا مانع إطلاقا أن نأخذها من عند غيرنا لنحقق بها المبادئ والقيم الأساسية التي جاء بها الإسلام. هناك من يفهم الديمقراطية على أنها حكم الشعب بينما الإسلام حكم الله، أي أن الديمقراطية ضد حكم الله. هذا غير صحيح، فالذين يقولون بالديمقراطية لا يعارضون بالضرورة حكم الله وإنما يعارضون بها حكم الفرد المطلق، أي أن المعادلة هي حكم الشعب ضد حكم الفرد المتسلط وليس حكم الشعب في مواجهة حكم الله. ونحن المسلمون لا نريد أن يحكم الأمة فرد متسلط يفرض عليها إرادته ويقودها رغم أنوفها. ولذلك نطالب بالديمقراطية في مجتمع مسلم بمعنى أن الدستور ينص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الإسلام هو المصدر الأساسي للحكم أو المصدر الوحيد للقوانين. وعلينا ألا نأخذ تجربة الغرب الديمقراطية بعجرها وبجرها وخيرها وشرها وحلوها ومرها كما يقول بعض الناس، بل نأخذها مقيدة بالأصول الإسلامية القطعية. ولذلك ينبغي النص في دستور الدولة الإسلامية على أن الإسلام هو المرجعية العليا وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، بمعنى أن أي قانون أو نظام أو وضع يخالف قطعيات الإسلام فهو باطل ومردود. وهذا في الحقيقة تأكيد لا تأسيس، إذ يكفي أن نقول إن دين الدولة الإسلام والشريعة مصدر القوانين. نود أن نؤكد على ذلك ليطمئن إخواننا الذين يخافون من الديمقراطية، ويظنون أنها إذا قامت ستلغي الإسلام)). انتهى.
http://www.egyptiantalks.org/invb/index.php?showtopic=3552
وطبعا هذه ليست ديمقراطية في شيء مادام ((أي قانون أو نظام أو وضع يخالف قطعيات الإسلام فهو باطل ومردود)). ففي هذه الحالة لا بد أن تكون كل الأحزاب إسلامية ولا يسمح أن تكون بينها إلا خلافات شكلية ولا مكان في هذه الديمقراطية مثلا لأحزاب علمانية أو من أديان أخرى تعارض تطبيق الشريعة الإسلامية، بل يعتبر وجودها بدعة وتهديدا للإسلام ومن حق الحاكم الإسلامي منعها بناء على توصيات القرضاوي هذه. بالإضافة إلى أن الديمقراطية تشترط مواطنة كاملة تتناقض مع قطعيات الإسلام التي لا ديمقراطية معها مثل حقوق الرجل المسلم التي تسمو على حقوق المرأة في الزواج بأربع وخاصة في الطاعة المطلقة للزوجة بما فيها حتى حرمانها من الخروج من البيت إذا أراد الزوج، فكيف يكون لها مواطنة ورأي سياسي مختلف عن رأي زوجها بوسعها التعبير عنه كأن تكون منتخَبة ومنتخِبة، كما تسمو حقوق المسلم على حقوق غير المسلم (الذمي) بنصوص قطعية، وحقوق الحر تسمو على حقوق العبد بنصوص قطعية، وهي حقوق ظل المسلمون يراعونها طوال القرون لأنها من القطعيات.
قبول الديمقراطية عند القرضاوي لا يعدو أن يكون مجرد خدعة لاستغفال المسلمين السذج، ولهذا يسارع إلى طمأنة أنصاره على ((أن أي قانون أو نظام أو وضع يخالف قطعيات الإسلام فهو باطل ومردود)). فما هي قطعيات الإسلام التي لا يمكن للديمقراطية أن تتجاوزها؟ يكفي أن نعرف أن من هذه القطعيات فريضة الجهاد ومحاربة الكفر ومحاربة حرية الاعتقاد وتحريم أشكال التعبير المختلفة مثل الرسم والنحت والغناء والرقص والعزف والكتابة التي تتعارض مع النصوص القطعية (تكفير نجيب محفوظ نموذجا) واغتيال المفكرين بعد تكفيرهم (فرج فودة، حسين مروة) ومباركة شيوخ الدين لذلك مثل الغزالي والقرضاوي بل عم التكفير والتقتيل ليطالا كل من لم ير رأيهم. بالإضافة طبعا، كما يقول القرضاوي، إلى (تحريم الربا أو الخمر أو الميسر أو الزنا أو إقامة الحدود أو إيجاب الاحتشام على المرأة وتحريم التبرج بل النهي عن بيع الغرر أو صنع التماثيل وما دون ذلك). (عن الإسلام والعلمانية وجها لوجه).
وطبعا ليس إلا الإسلاميون من يحق لهم الإشراف على شرح هذه التعاليم القطعية والحرص الشديد على الالتزام بها وتطبيقها. فكيف لا تكون دولتهم دولة ثيوقراطية مهما زعموا لها من مدنية خادعة؟
نقرأ في موقع القرضاوي أيضا تحت عنوان ((الإسلام والفن: قيود و شروط لابد من مراعاته))
((و لا ننسى أن نضيف إلى هذا الحكم : قيوداً لا بد من مراعاتها في سماع الغناء :
1- نؤكد : ما أشرنا إليه أنه ليس كل غناء مباحاً،‌ فلا بد أن يكون موضوعة متفقاً مع أدب الإسلام و تعاليمه .
فلا يجوز التغني بقول أبي نواس :
دع عنك لومي، فإن اللوم إغراء و داوني بالتي كانت هي الداء !

ولا بقول شوقي :‌
رمضان ولي هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق

و أخطرها منها : قول إيليا أبي ماضي في قصيدته « الطلاسم » :
جئت لا أعلم من أين، و لكنى أتيت !
و لقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت !
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟ لست أدري !
لأنها تشكيك في أصول الإيمان : المبدأ،‌ والمعاد، ‌والنبوة...

و مثل ذلك الأغنية التي تقول : « الدنيا سيجارة و كاس » . فكل هذه مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجساً من عمل الشيطان، ويلعن شارب « الكأس » و عاصرها و بائعها وحاملها و كل من أعان فيها بعمل. والتدخين أيضاً آفة ليس وراءها إلا ضرر الجسم و النفس و المال)) . انتهى
http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=3826&version=1&template_id=74&parent_id=1
وأنا بهذه المناسبة أتذكر أن قصيدة الطلاسم لإيليا أبي ماضي ذات التساؤلات الوجودية كانت تدرس لتلاميذ السنة النهائية للتعليم الثانوي في الجزائر طوال السبعينات من القرن الماضي، ورغم أن التحليل المرفق بها كان ينبه التلاميذ إلى أن المسلم لا يحتاج إلى طرح هذه التساؤلات، لأنه يعرف من أين أتى (منها خلقناكم) وإلى أين يذهب (وإليها نعيدكم ثم نبعثكم)، إلا أن القصيدة تم حذفها من المنهاج بعد استشراء آفة الأصولية في المجتمع والدولة خلال الثمانينات.
وعليه فمن لا يعرف معنى الفاشية، فهذه هي !
لهذا ففي الدولة (المدنية) الثيوقراطية التي يسعى الإسلاميون لإقامتها في بلداننا لا مجال لكثير من العلوم التي تتعارض مع النصوص القطعية، مثل العلوم التي تبحث في أصل الحياة والإنسان على الأرض (الداروينية)، لأن الإسلام حسم في ذلك ("خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها"، آدم وخلق حواء من ضلعه الأيسر الأعوج). بل ليس من حقنا أن نطالب بمساواة المرأة بالرجل لأنها ناقصة عقل ودين بصحيح الكتاب والسنة ومن شكك أو رفض فهو يرفض معلوما من الدين بالضرورة ويعتبر كافرا، ومن عارض نظرية الخلق وأيد نظرية النشوء والارتقاء كافر، ويمكن أن نسترسل في هذه الأمثلة طويلا، لهذا لا يجب أن ننخدع بما يقوله القرضاوي: ((هذا الإسلام يرحب بكل ما كسبته البشرية، ووصلت إليه من خلال صراعها مع الطغاة والمستبدين، من صيغ وصور تطبيقية، تضمن حقوق الشعوب في مواجهة الحكام، وحرية الضعفاء أمام الأقوياء، من دساتير تفصل بين السلطات، وتحدد العلاقات، وبرلمانات منتخبة وقضاء مستقل..)) لأنه يتراجع عن كل هذا بجرة قلم وهو يكتب بعده مباشرة ((.. إلى غير ذلك، مما يتفق مع روح الإسلام ومقاصده الكلية..)).
ويقول في موضع آخر ((أحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة وهذه لا مجال للاجتهاد فيها لا يدخلها التطور ولا التغير ولا التجديد التي هي تمثل الثوابت)).
http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=3764&version=1&template_id=105&parent_id=16
أما أن يقول الغنوشي: ((وهو ما يفسر أن تهميشه (يقصد الإسلام) من قبل النخب العلمانية التي حكمت المنطقة كان العامل الرئيسي في فشل التجارب التنموية على كل صعيد، علمي تقني أو سياسي أو اقتصادي، ومنها الفشل في حل القضية الفلسطينية، وكيف تُرْتَجَى تنمية على أي صعيد مع استبعاد الروح الجامع والوقود المحرك للجماهير؟)).
فمن هي النخب العلمانية التي حكمت بلداننا وهمشت الإسلام؟ أهي الأنظمة القومية الاستبدادية (الاشتراكية) أم هي الأنظمة الملكية الإسلامية القروسطية؟ هذه الأنظمة كلها لم تهمش الإسلام، صحيح أنها همشت الإسلاميين في صورة الإخوان المسلمين في بعض البلدان في إطار الصراع السياسي العنيف الذي طال شره الجميع يساريين وإسلاميين وأحرارا، لكن الإسلام لم يهمش إطلاقا وعقد رجال الدين (المعتدلون) تحالفا دائما مع السلطات القائمة، ولولا ذلك لما خرّجت مدارسنا هذه الصحوة الإسلامية المشؤومة. وبما أن الإسلاميين مثل الغنوشي والقرضاوي وغيرهم يعتبرون أنفسهم الممثلين الحقيقيين للإسلام إلى حد التماهي معه فقد خُيِّلَ لهم أن تهميشهم هو تهميش للإسلام.
ولهذا فمن التجني على الحقيقة والواقع والتاريخ قوله: ((وكيف ترتجى تنمية على أي صعيد مع استبعاد الروح الجامع والوقود المحرك للجماهير؟)). فلا الدين كان (الروح الجامع والوقود المحرك للجماهير) وهو إن لم يكن عامل ركود يكون عامل فرقة وتناحر مرير. ولم يحدث في أية دولة عربية مثلا أن حرم النظام الحاكم الشعب من التدين وحارب مثلا بناء المساجد ومنع تدريس الدين في المساجد الحكومية؟ في جزائر بومدين مثلا بُني منذ الاستقلال إلى اليوم حوالي 15000 مسجد منذ الاستقلال، وكان عددها سنة 1962 بضعة عشرات فقط، وعشرات المعاهد الإسلامية العليا وثلاث جامعات إسلامية. فكيف يقول الغنوشي هذا الكلام؟ قد يصح جزء منه عن تونس، بلده، لأن بورقيبة كان غير متدين وكثيرا ما كان يسخر من رجال الدين التقليديين المعارضين لحرية المرأة وتحديد النسل كما قمع الإخوان المسلمين، ولكنه لم يمنع التدين ولا مؤسساته من العمل.
ولو أن ما يقوله الغنوشي صحيحا لأمكننا أن نلاحظ فرقا كبيرا في الأداء السياسي والاقتصادي والتنموي في البلدان التي لم تعرف هذه العلمانية المزعومة ولم تهمش الإسلام مثل السعودية ثم في البلدان التي تحولت إلى الإسلام مع سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم مثل السودان. وحتى حل القضية الفلسطينية لا علاقة له بتهميش الإسلام (من قبل النخب العلمانية) كما يزعم الغنوشي. وأنا أرى أن العكس هو الصحيح. فلو أن العلمانية سادت حقا في بلداننا لتوصلنا إلى حل سلمي للقضية الفلسطينية. هيمنة الإسلام السياسي على مؤسساتنا التعليمية والدينية وعلى الشارع وعلى العامة ساهم في عرقلة أي حل لأنه ظل يحقن الأجيال بعداء بدائي لليهود وتصويرهم بالصورة التي كانوا عليها عندما بطش بهم نبيهم وطرد البقية خارج جزيرة العرب التي (لا يجتمع فيها دينان) وتُعلِّق عليهم كل خيبات العرب وانحطاطهم وظلت هذه الأيديولوجيا الإسلامية تدفع الجماهير إلى معارضة متواصلة للوجود الإسرائيلي كان آخرها إفشال المبادرة التي قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات. وكان الفلسطينيون يفوتون الفرصة تلو الفرصة، مما كان يمكن أن يوفر لهم دولة حرة تحفظ كرامتهم التي أهدرها العرب قبل اليهود. لكن مقصود الغنوشي شيء آخر: إنه شعارهم الجهادي (وأعدوا لهم) الذي نراه في ألوية الإخوان المسلمين وهو لواء لن ينكس حتى يؤسلم العالم بأسره أو يقضي على الشعوب المسلمة إذا لم تسارع لتحييده وإلزامه بقوانين علمانية تضمن حرية المعتقد وتحرم كل نزعاته العدوانية.
يختم الغنوشي هذه النقطة بما يؤيد زعمي الآنف الذكر حول نواياهم غير السلمية. يقول: ((وإن إنجازات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان في تعديل موازين القوة على يد حملة مشاعل الإسلام وحلفائهم، بعد أن استسلمت معظم قوى العلمنة، يحمل دلالة على ما يتوفر عليه الإسلام من طاقات تنموية لو أمكن توظيفها لا في الإرهاب والتدمير وإنما في البناء والتعمير. وتمثل المبادرات الذكية الفدائية لنشطاء السلام كما تجلت في سفن الحرية نموذجا لما يمكن أن يحرّكه الإسلام من طاقات وفعاليات في مستوى الجهاد المدني وليس فحسب في ساحات الجهاد القتالي.)). انتهى.
فأي مقاومة هذه التي يعتبرها إنجازات إسلامية في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانسان، غير الإرهاب الذي أضر بالشعوب المسلمة أكثر مما أضر بأعدائها؟ هل تفجير الساحات والأسواق والمرافق العمومية من الإنجازات؟ وهل القيام بالاغتيالات الغادرة للمعارضين إنجازات؟ قد تكون، لكنها بالتأكيد ليس إنجازات إنسانية وطنية بناءة، بل هي إنجازات إسلاموية مدمرة. أما الإنجازات الواجب القيام بها، وهي تقع على عاتق النخب العلمانية الديمقراطية الإنسانية فهي تلك التي تدعو الناس إلى التوجه نحو الميادين الحقيقية للصراع والتنافس الإنساني في العمل والإبداع والتعليم والتنظيم والبناء والتتلمذ المتواضع على الأمم التي شقت طريقها في هذا المضمار وحققت الإنجازات الحقيقية: سلام، ديمقراطية، تعايش سلمي، رفاهية، إبداع، اكتشافات، ابتكارات، عمران، أمن صحي ودوائي واقتصادي ومائي وغذائي وكل خطوة نحو الابتعاد أكثر فأكثر عن التوحش البشري الذي تعرف الأيديولوجيات العنصرية والدينية والقومية كيف تخرجه عفاريته من القمقم.
يتبع



#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل العلمانية مسيحية متنكرة؟
- هل في الإسلام مواطنة: قراءة في فكر راشد الغنوشي 5
- هل في الإسلام مواطنة؟ قراءة في فكر راشد الغنوشي
- راشد الغنوشي هل في الإسلام مواطنة؟ 3
- راشد الغنوشي: هل في الإسلام مواطنة 2
- قراءة في فكر راشد الغنوشي: هل في الإسلام مواطنة
- العلمانية مفهوم للترك أم للتبني؟ 2
- العلمانية: مفهوم للترك أم للتبني؟
- انتفاضة الشباب في الجزائر من وجهة نظر لبرالية ويساري
- قراءة (2) في مقال ((الماركسية والتنوير المزيف)) لوليد مهدي
- قراءة في مقال ((الماركسية ُ والتنويرُ المزيفُ)) لوليد مهدي
- قراءة في مقال -الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل- ...
- قراءة في مانيفستو المسلم المعاصر لجمال البنا (تابع)
- قراءة في -مانيفستو المسلم المعاصر- لجمال البنا.
- هل تصح المقارنة بين الشريعة الإسلامية وتجارب البشر؟
- هل طبقت الشريعة الإسلامية في حياة المسلمين ماضيا وحاضرا؟
- حول صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان
- حوار الطرشان بين الفيلسوف ورجل الدين
- تطبيق الشريعة يعني مزيدا من الاستبداد والتخلف؟
- مفاضلة بين أخلاق العلمانية وأخلاق الإسلام


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - ما حقيقة الدولة الإسلامية (المدنية)؟