أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - احمد القاضي - تديين كارل ماركس!















المزيد.....



تديين كارل ماركس!


احمد القاضي

الحوار المتمدن-العدد: 3185 - 2010 / 11 / 14 - 20:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


{( إن نقد الدين يدمر أوهام الإنسان لكي يفكر و يفعل و يكيف واقعه بصفته إنسانا تخلص من الأوهام وبلغ سن الرشد )}
كارل ماركس




اين يقف كارل ماركس من الدين؟! لعله يبدو امرآ مثيرآ للاستغراب أن يطرح مثل هذا السؤال عن فليسوف كبير من فلاسفة المادية...والمسوغ لهذا السؤال هو أن بعض الكتابات في هذا الموقع واعني موقع ( الحوار المتمدن ) دأب على ترويج أن ماركس قد رأى في الدين جانبأ إيجابيأ وثوريأ ...ولعل ما شجع على هذا الترويج هو ذلك المقال الذي نشر للدكتور الراحل فؤاد زكريا استاذ الفلسفة بجامعة عين شمس تحت عنوان ( ماركس.. وأفيون الشعوب ) الذي يعد بمثابة عملية جراحية ( تجميلية ) لموقف الماركسية من الدين تراعي ذوق المسلمين ومتطلباتهم من اجل ( تحسين ) وجه الماركسية في عيونهم...وإرضاء شعوب هذا الجزء المتخلف المظلم من العالم الغارقة في الغيبيات الدينية وذلك. على حساب الحقيقة ولو عن طريق تديين كارل ماركس!

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=218431

إبتسار موقف ماركس
العلة التي تكمن في مقال الدكتور فؤاد زكريا هي في أنه يبتسر موقف الماركسية من الدين بتفسير يقفز فوق سياق فحوى الفقرة التي وردت فيها العبارة الشهيرة { الدين أفيون الشعوب } في مطلع مقال كارل ماركس { مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل } ....تقول الفقرة التي اوردها الدكتور زكريا حسب ترجمته: [« إن العذاب الديني تعبير عن العذاب الفعلي، وهو في الوقت ذاته احتجاج على هذا العذاب الفعلي، فالدين هو زفرة المخلوق المضطهد، وهو بمثابة القلب في عالم بلا قلب، والروح في أوضاع خلت من الروح، إنه أفيون الشعب»] انتهى.....يبدأ الدكتور تفسيره بإبداء هذه الملاحظة قائلآ: [( لا حظ أنه استخدم كلمة «الشعب» بصيغة المفرد، لا الجمع كما هو شائع ) ].... وقبل أن نمضي لابد من أن نتوقف لنتأمل ملاحظته او زعمه بأن ماركس إستخدم كلمة ( شعب ) بصيغة المفرد حسبما جاءت في ترجمته....ولعل ما يفهم من هذا أن الدكتور زكريا يريد أن يوحي بأن ماركس يقصد شعبآ محددآ هو شعب بلده....لا يعقل أن يكون ماركس قد قصد أن الدين أفيون لشعب محدد بعينه فحسب، بل قصد كل الشعوب وكل الناس...فكلمة Volks الواردة في النص الأصلي باللغة الألمانية تأتي في النص المترجم الى الأنجليزية People التي تعني حسب قاموس اكسفورد ( الناس ) أي جنس الأنسان عمومآ دون تحديد ويمكن إطلاقها على ( شعب ) او ( قبيلة ) اوحتى على ثلاثة اشخاص او اكثر او مجموعة او كتل من الجماهير فالمعنى واسع لطبيعة اللغة الإنجليزية التي تحمل فيها الكلمة الواحدة غالبآ عدة معاني...وبناء على هذا فإن عبارة ( الدين أفيون الشعوب ) من الممكن أن تصبح ( الدين أفيون الإنسان ) او ( الدين أفيون البشر )....ونخلص من كل هذا الى أن عبارة ( الدين أفيون الشعوب ) هي عبارة صحيحة ولها وقعها وجرسها....وقد إنطلق الدكتور زكريا من هذه الجزئية ليصور ماركس بالصورة التي تناسب عقلية القارئ المسلم وهي أن ماركس لم يكن معاديآ للدين وأن تلك العبارة [ الدين أفيون الشعوب ] انتزعت من سياقها حيث يقول بالحرف الواحد {{ هذه الفقرة هي أطول الفقرات التي تحدث فيها ماركس عن الدين، وهي تكشف بوضوح عن السياق الذي قيلت فيه عبارته المشهورة، فلم يقل ماركس هذه العبارة على سبيل النقد أو التحامل أو التشنيع، بل إنه، بعكس ذلك، قالها في سياق يعد فيه الدين تعويضا للإنسان عما فقده في العالم الفعلي المحيط به، وتخفيفا لما يعانيه من بؤس. إن الدين في هذا النص عزاء لإنسان مطحون، وهو يظل ضروريا مادامت الأوضاع التعسة التي يحياها الإنسان قائمة: إذ أن من القسوة المفرطة أن تحرم المظلوم المضطهد حتى من الأمل في حياة أخرى أفضل من الحياته التعسة، أو أن تسلبه الإيمان الراسخ بأن في الكون نظاما عادلا، وبأن هذه العدالة إذا تمهلت أو تأخرت قليلا، فإنها لا تهمل.}} إنتهى ...وبعد أن يؤكد أن ماركس قد استخدم تلك العبارة في سياق أن الظلم والإضطهاد الذي يعاني منه الانسان {{ يجعل الدين عزاء ضروريا لهم في عالم لا يرحم.}} يذهب ابعد من ذلك بجعل ماركس متصالحآ مع الدين ليوحي بأنه لم يكن معاديآ له بالجملة وأن معاداته له كانت لظروف وقتية حيث يقول: [[ ولكن موقف ماركس الأساسي يظل، بعد هذا كله، معاديا للدين، على أن هذا العداء بدوره كانت له ظروف ينبغي أن يلم بها القارئ بحيث يضع موقفه من الدين في سياقه الصحيح، ويتوصل إلى الإجابة الصحيحة عن ذلك السؤال الذي أعتقد أنه سؤال حاسم في هذا الموضوع، وأعني به: هل من الممكن أن نعمم رأي ماركس عن الدين، أم أن هذا الرأي ينطبق على الدين في مجتمع معين، وعصر معين؟. ]] انتهى... أي يزعم أن نقد ماركس للدين ينطبق فقط على عصر معين في مجتمع معين إنعكاسآ لهيمنة المؤسسات الدينية الكنسية على المجتمعات الأوربية وممارستها للظلم والإضطهاد والإستغلال ومعاداتها للعلم والتقدم حسب قوله......واكثر من هذا يقول الدكتور زكريا أن ماركس لم يشهد كيف أن الدين اصبح في عصر لاحق قوة تحررية في بلدان العالم الثالث ضد الإستعمار وبعد أن عدد نماذج من الثورات ذات الطابع الديني ينتهي الى القول: {{ ولكن ما يهمنا في الموضوع ليس المقارنة بين هذين الموقفين، بل هو إثبات التعقيد الشديد للصورة، وإيضاح أن مشكلة دور الدين في المجتمع قد اتخذت في عصرنا، وفي مجتمعات العالم الثالث، طابعا لا يمكن أن يكون قد خطر ببال ماركس، ففي عصره، وفي الحضارة التي ينتمي إليها، كانت المسألة بسيطة كل البساطة، واضحة كل الوضوح، إذ أن كل تقدم علمي وفكري في أوروبا الحديثة لم يتحقق إلا بعد صراع عنيف ضد سلطة الكنيسة، أعني ضد المؤسسة الرسمية التي تنصب نفسها حامية للدين. والسؤال الحاسم، الذي تتلاقى عنده كل خيوط هذا المقال، هو: هل كان ماركس سيعالج دور الدين بتلك الطريقة المبسطة، لو كانت قد أتيحت له فرصة معايشة هذا الوضع بالغ التعقيد للدين في مجتمعات العالم الثالث المعاصرة؟. }} إنتهى....لاشك أن الدكتور فؤاد زكريا كان تنويريآ والتزم جادة العقل والعلم حتى رحيله وما يمكن فهمه من مقدمة مقاله أنه اراد وقتها أن يجرد القوى الرجعية والسلفية من اخطر سلاح تحارب به اليسار وهو سلاح الدين وذلك بالزعم بالظرفية التاريخية لموقف ماركس من الدين.....وكلامه هذا قد يصلح لكسب معركة انتخابية ضد تلك القوى ولكنه مضر على الجانب العلمي والتنويري في المحصلة النهائية بالإضافة الى انه تحريف لموقف كارل ماركس من الدين وتصوير له على غير حقيقته ومناقض لما شدد عليه بأن الدين اكبر معوق للتقدم ...فموقف ماركس من الدين ينطلق من رؤية ايدولوجية متكاملة باعتباره جزءآ من عناصر البنية الفوقية وليس للأمر علاقة بأية ظرفية تاريخية.

رأسآ على عقب
ومن جملة ما اشار إليه الدكتور فؤاد زكريا وتبعه آخرون أن ما كتبه ماركس في مطلع مقاله ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) الذي خلص فيه إلى أن الدين أفيون للشعوب يمثل إحدى كتاباته المبكرة في مقتبل شبابه للإيحاء بأنه لا يمثل جوهر موقفه من الدين وهذا امر يجافي الواقع ويقلبه رأسآ على عقب...فماركس لم يبدأ حياته الفكرية مناهضآ للدين ثم تصالح معه في ما بعد كم يراد لنا ان نفهم، بل العكس هو الصحيح حيث بدأ مثاليآ هيجليآ وهو شاب جامعي ثم انتقل الى المادية ومناهضة الدين...والمقال الذي نحن بصدده ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) يشكل حلقة مهمة في تطور الفكر الماركسي..ولنعرف اهميته يجدر بنا ان نقف عند التحولات الفكرية التي طرأت على ماركس في اوائل الاربعينات من القرن التاسع عشر وهو في الثاني والعشرين من عمره بعد أن كان من الشبان الهيجليين وواقعآ تحت التأثير الفكري لمنظر هذه الجماعة برونو باورو... فقد حدثت عدة احداث حولته من مثالية هيجل الى المادية...الحدث الاول: كان صدور كتاب فورباخ.( جوهر المسيحية ) في العام 1840 الذي احدث دويآ هائلآ في الاوساط الثقافية الأوربية وقت صدوره وتأثر به ماركس ايما تأثر واتجه نحو المادية....الحدث الثاني:. هو أن موسيس هيس وكان من رموز الشبان الهيجليين قد عرّفه بالفكر الاشتراكي الفرنسي كما عرّفه بفردريك انجلز الذي اصبح فيما بعد صديق عمره وتؤام فكره....ومن اعراض هذا التحول كان انحياز ماركس الى مادية ابيقراط في اطروحة الدكتوراة التي قدمها في العام ، 1841، ثم صدور مقاله ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) الى جانب مقال آخر بعنوان: ( في المسألة اليهودية )...وقد كتبهما في العام 1844 بعد عام واحد من قدومه الى فرنسا فارآ من المانيا اثر تضييق الخناق عليه وذلك للتعرف عن قرب على الفكر الاشتراكي الفرنسي، حيث اصبح محررآ لــ ( الحولية الالمانية- الفرنسية ) التي نشر فيها المقالين المذكورين اللذين يعدان من اقوى ما كتب في نقد الدين.....ففي مقال ( في المسألة اليهودية ) القائم على نقد افكار برنو باورالمتعلقة بتحرير اليهود في المانيا يوجه ماركس نقدآ كاسحآ لليهودية ويؤطرها كديانة بغيضة حيث يقول {( لن نبحث عن سر اليهودي في ديِنه و إنما عن سر الدين في اليهودي الواقعي. ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ الحاجة العملية، المنفعة الخاصة. ما هي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي؟ المال. )} ويفند ماركس ما يسمى بالتوحيد في الديانة اليهودية بقوله انه ما من توحيد في حقيقة الامر لدى اليهودي، لأن آلهته متعددة بحسب تعدد حاجاته. وانه لا مانع لديه من أن يجعل المرحاض موضعآ للقداسة اذا اقتضت حاجته لذلك.....وفي هذا المقال تتضح القطيعة الفكرية مع برنو باور الذي اهال عليه ماركس التراب مشيعآ اياه بعد عام واحد فقط من هذا المقال بكتابه المشترك مع انجلز والمعنون بـــ (( العائلة المقدسة: نقد النقد المأزوم... ضد برنو باور وشركائه )) ويقول الذين أرّخوا لبرنو باور أنه اصيب باكتئاب شديد بعد النقد المدمر الذي تضمنه ذلك الكتاب حتى انه فكر في الانتحار....اما مقال [( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل)] فيشكل اول إعلان عن القطيعة الفكرية مع مثالية هيجل، ومن الواضح ان ماركس قد كتبه وهو تحت التأثير الفكري لفورباخ الذي كان له ابعد الاثر في تحوله الى المادية...ويبدو هذا التأثير جليآ واضحآ في الفقرات السبع الاولى من المقال المتعلقة بنقد الدين حيث تهمين عليها بالكامل روح كتاب ( جوهر المسيحية ) الذي افاض فيه فورباخ في نقد الدين...وماركس بقوله في اول سطر من المقال {( ان نقد الدين قد اكتمل في المانيا )} يقصد تحديدآ ان لودفيغ فورباخ قد اكمل نقد الدين في المانيا، أي اشبعه نقدآ وتفنيدآ وقد اشار ماركس الى ذلك في كتاب ( العائلة المقدسة )... واشاد بصورة مباشرة بمساهمات فورباخ الفكرية في (( مخطوطات 1844 الاقتصادية والسياسية )) وقال أن الحسد هو الذي جعل المشتغلين في الحقل الفكري يتجاهلون مؤلفاته الاخيرة ولكن كل ذلك لم يمنع ماركس من نقد ما شاب مادية فورباخ من مثالية ويسميها بالمادية التأملية، التي يراها قد إنعكست بالضرورة على نقده للدين... فالظاهرة الدينية عند فورباخ هي نتاج النشاط الذهني التأملي التخيلي عند الانسان باعتباره كائنآ ذا خيال وقدرة على التأمل في الأزل، من هنا فان الله او الكائن الأعلى، في مفهومه، ليس سوى صورة الانسان عن ذاته....وفي ثنايا تلك الفقرات، أي الفقرات السبع الاولى من مقال ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) يرفض ماركس تأمّلية فورباخ واعتباره للدين نتاج نشاط ذهني تأملي...ولعل من المفيد أن نشير هنا الى أن ماركس كان قد نوه صديقه الناشر ارنولد روج في رسالة بعث بها اليه في 20 مارس 1842، يعتذر فيها عن تأخير مقاله في نقد فلسفة الحق عند هيجل، الى انه سيتناول فيه جوهر الدين وسيصطدم في بعض النواحي مع فورباخ ولكن ليس هجومآ على مبادئه، بل على اسلوبه كما قال. . يرى ماركس أن النقد الفورباخي للدين المعروف بالنقد الانثروبولوجي للدين يفتقر إلى البعد الاجتماعي والاقتصادي...فالظاهرة الدينية عند ماركس باعتبارها شكلأ من اشكال الوعي الزائف هي نتاج النشاط العملي، أي النشاط الانتاجي والعلاقات التبادلية مع البشر الآخرين..وبكلمة واحدة، إن الدين منتوج اجتماعي.حيث يقول ما يمكن ترجمته بالتالي:{( إن اساس النقد الداحض للدين يكون على هذا النحو: الانسان هو الذي يصنع الدين وليس الدين هو الذي يصنع الانسان، وبعبارة اخرى الدين هو وعي الذات والشعور بالذات للانسان الذي لم يجد ذاته بعد او فقدها مرة اخرى ولكن الانسان ليس كائنآ مجردآ يقبع في مكان ما خارج العالم. الانسان هو عالم الانسان حيث الدولة والمجتمع...والمجتمع والدولةهما اللذان ينتجان الدين..)} انتهى...في بقية الفقرات لم يذهب ماركس بعيدآ عما سطره فورباخ في كتاب ( جوهر المسيحية ) كيف ان الكائن الأعلى ليس سوى صورة الانسان عن ذاته ..وكيف ان الدين يخلق عالمآ زائفآ للانسان.. ومثلما دعا الاخير إلى مكافحة الدين باعتباره معوقآ للتكامل الانساني وحتى يعود الانسان الى ذاته، دعا ماركس ايضا الى نفس الشئ حيث يقول: (( يقتضي الأمر القضاء على الدين كسعادة وهمية للناس في سبيل سعادتهم الحقيقية )) .....وبعد أن يمضي ماركس في تبيان الزيف والضلال اللذين يقود اليهما الدين مبعدآ الانسان عن واقعه ينتهي بعبارته الشهيرة التي طبقت الآفاق (( الدين أفيون الشعوب )) وهي عبارة تلخص في ثلاث مفردات كل الذي اسهب في شرحه في الفقرات السبع الاولى من مقال نقد فلسفة الحق عند هيجل...يقول الخبير في الدراسات الماركسية البروفسير البريطاني ديفيد ماكيلان في كتابه ( الهيجليون الشبان وكارل ماركس ) إن المقاربة بين الأفيون والدين كان شائعآ بين الكتّاب المعاصرين لماركس...وليس ثمة شك في ما اورده ماكيلان إلا أن ماركس صاغ عبارته صياغة عبقرية جامعة مانعة.

الدين وعي زائف
الدين عند كارل ماركس وفردريك انجلز شكل من اشكال الوعي الزائف...كيف يتشكل هذا الوعي الزائف؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة للفيلسوف الالماني فورباخ الذي استعار منه ماركس مسألة ( اغتراب الانسان عن ذاته ) ثم عالجه بمفهومه المادي الجديد....يقول فورباخ ان فكرة الله هي عملية إسقاطية...فالله من صنع خيال الانسان وانه مرآة ذاته..والانسان في تخيّله لهذا الاله يقوم بتشخيصه او تشيئيه او قل يجعل له كائنية ثم يعمل على اضفاء كل صفات الجلالة والتقديس على هذا الكائن الأعلى المتخيل كالعدل والمحبة والقدرة الكلية والرحمة والغنى وبذا يغترب الانسان عن ذاته، حسب مفهوم فورباخ، لانه ينزع عن نفسه كل هذه الصفات الإيجابية الرائعة التي هو جدير بها ويعطيها لكائن اعلى متخيل اسمه الله...ويستطرد قائلآ انه كلما وهب الانسان الله من صفات العظمة والتبجيل كلما تضآل هو وتقزّم طرديآ...وكلما جعل الله غنيآ كلما اصبح هو فقيرآ.... وسبب آخر لاغتراب الانسان عن ذاته عند فورباخ هو أن الدين، أي دين، ذو طبيعة خصوصية مغلقة.تجعل من العسير حدوث التواصل والتكامل الانساني على المستوى الكوني... ويعدد فورباخ خمسة اسباب تجعل الدين عائقآ امام تحقق التكامل الانساني ومنها أن كل صاحب دين ينظر بإستعلاء على اصحاب الديانات الأخرى ويعتقد انه الوحيد الذي يسير على طريق الحق والصواب ويقول بأن العقيدة عمياء لا تعترف بأية حقيقة خارجها....ينتقد ماركس مفهوم فورباخ عن الاغتراب لأنه جعل الاغتراب نتاج عملية ذهنية تأملية خالصة منتزعآ الانسان من شروط وجوده الاجتماعي ....ويذهب في كتاب ( الايدلوجية الألمانية ) إلى أن الإغتراب يتم في خضم الحياة العملية للانسان في علاقته بالطبيعة والآخرين...وفي منظور ماركس ان اول اغتراب للانسان عن ذاته حدث عند انفصاله عن عالم الحيوان باكتسابه لوعي محدود خلال نشاطه في محيط محدود من اجل أن يوفر لنفسه ما يعينه على العيش.. ولم يكن يختلف كثيرآ حينذاك عن بقية الحيوانات حيث أن وعيه كان محدودآ جدآ...وهالته، وهو الخارج توآ من الغابة بوعيه المحدود الذي اكتسبه خلال نشاطه الانتاجي، قوى الطبيعة الخارقة فشعر بالعجز والضعف والضآلة حيالها فقام بتأليه الطبيعة وعبادتها وتقديسها...فكان ذلك اول شكل من اشكال الوعي الزائف الذي إعترى ذهن الانسان البدائي في نسق معتقدات دينية عبرت عن إغترابه عن ذاته بتوهمه انه شئ مختلف عن هذه الطبيعة الخارقة الهائلة وليس جزء لا يتجزأ منها....وذهب الانثروبلوجي الامريكي الكبير هنري مورقان الذي اشاد ماركس وانجلز باعماله ومنجزاته نفس المذهب حيث اكد أن الانسان البدائي عبد قوى الطبيعة واعتقد أن كل شئ في الطبيعة، من شمس وقمر ونجوم واشجار وانهار وجبال ..الخ، يمتلك روحآ مثل الانسان والحيوان وسمى تلك الديانة البدائية بــ ( الامنيزم )....والمصدر الثاني لاغتراب الانسان عن ذاته، حسب ماركس، هو تقسيم العمل الممل المضني الذي يسجنه في اطار محدود..وقد بدأ تقسيم العمل اول ما بدأ في المجتمع البدائى ويرى ماركس ان اقدم تقسيم كان التقسيم بين العمل الروحي الذي إختص به الكهنة والسحرة وبين العمل اليدوي الذي كان يقوم به بقية افراد القبيلة...ثم انتقل التقسيم الى داخل الاسرة فالقبيلة إلى أن بلغ مستويات دقيقة في العصور الحديثة ..وفي منظور ماركس أن تقسيم العمل ينتهي في المجتمع الشيوعي وأن الانسان فيه يستطيع ان ينتقل من مهنة الى اخرى حسبما يريد.ومتى ما يريد ..اما المصدر الثالث لاغتراب الانسان عن ذاته هو الإستغلال الذي يتعرض له من قبل رب العمل المالك لوسائل الانتاج، بذهاب عائد إنتاجه وعمله وكده اليه..فبعد ان كان الصراع في المجتمع البدائي كما يقول ماركس على هذا النحو:ــــ الانسان ضد الطبيعة اصبح في المجتمع الطبقي الانسان ضد الانسان....والعامل بالمفهوم الماركسي لا يغترب فقط عن نتاج عمله، بل ويغترب عن مجمل نشاطه الانتاجي وعن قوة عمله التي لم تغدو ملكآ له ..ويفتح هذا الاغتراب الباب لتسلل الوعي الزائف الى الذهن كأن يتصور الانسان أن النظام الطبقي المحكم الذي لا قبل له به هو جزء من النظام الكوني السرمدي الذي خططه الله ولذا لا مفر من الخضوع اليه حيث لا سبيل الى مقاومته والقضاء عليه...ولعل من الأهمية بمكان أن نعي أن الطبقات المهيمنة لم تصنع الدين كما ينوه ماركس وانجلز فالدين صنعه الانسان منذ فجر التاريخ ولكنها تستخدمه كسلاح لإدامة هيمنتها مستفيدة من طبيعته الأفيونية بتبشيره بالسعادة الآخروية، والدين كوعي زائف يمكن ان ينتقل من مرحلة طبقية الى اخرى...... وفي منظور ماركس وانجلز أن الوعي الزائف يتسلل إلى الذهن بطريقة عفوية إنعكاسآ من الشروط الاجتماعية والاقتصادية القائمة ويمتزج بالوعي الحقيقي حتى يخال للواحد انه جزء منه...يلاحظ انجلز في كتابه ( لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الالمانية الكلاسيكية ) أن الديانة الكاثوليكية التي تخلقت في رحم النظام الطبقي الاقطاعي وتحولت إلى دولة بذاتها جاءت نظمها وتصوراتها منسجمة ومتطابقة مع طبيعة النظام الاقطاعي، فالتراتيبية الكنسية هي على نفس نسق ونمط التراتيبة الطبقية الاقطاعية...وبدوره يلاحظ المفكر الماركسي البريطاني الراحل مايوريس كورنفورث، الذي كان بمثابة المنظر للحزب الشيوعي البريطاني، أن تصور الكنيسة الكاثوليكية للنظام الكوني في القرون الوسطى كان إنعكاسآ للنظام الطبقي الاقطاعي السائد حيث تخضع بالضرورة الطبقات الدنيا للطبقات العليا وعلى نفس النسق الارض خاضعة للسماء...وهكذا، فإن الدين، حسب ماركس، شكل من اشكال الوعي الزائف يوجد حيث يوجد الانسان المغترب عن ذاته إذ أنه على حد قوله (( الوسيلة الخيالية التي يحقق بها كينونته الانسا نية التي لا وجود لها في عالم الواقع )).الذي يعيش فيه مغتربآ...وهو ايضآ، حسب تعبيره، الوسيلة التي يصنع بها لنفسه عالمآ سعيدآ وهميآ مزخرفآ بزهور صناعية من نسج خياله....أي أنه في خلاصة الخلاصة الأفيون الذي يحجب وعيه عن واقع تعاسته وبؤسه...وانطلاقآ من هذه الخلاصة فإن الكفاح ضد الدين عند ماركس هو (( كفاح بصورة غير مباشرة ضد ذلك العالم الذي يشكل الدين عبيره الروحي )) ...أي عالم الاستغلال والاستعباد والاغتراب......من هنا كانت دعوة ماركس الى أن يكون (( نقد الدين في مقدمة كل نقد )) لان نقد (( الدين يدمر أوهام الإنسان لكي يفكر ويفعل ويكيف واقعه بصفته إنسانا تخلص من الأوهام وبلغ سن الرشد ))، وذلك كما فعل فورباخ الذي بدأ بنقد الدين ( في مقدمة كل نقد ) ....و بعد هذا الإنجاز الفورباخي المتمثل في نقد السماء على اكمل وجه وتبديده اوهام ما وراء الحقيقة، يحدد ماركس المهمة التاريخية التالية في المانيا، وهي الإنتقال من نقد السماء الى نقد الارض، أي نقد الحقوق والسياسة في المانيا من اجل ( إقامة العالم على حقيقته ).....ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن ماركس رغم الأهمية القصوى التي اولاها لمسألة نقد الدين وضرورة القضاء عليه الا انه وانجلز رفضا اطروحات الفليسوف الالماني دوهرنغ والمفكر الاشتراكي الفرنسي بلانكي اللذين دعيا إلى إستئصال الدين قسرآ من المجتمع وكان ماركس يرى أن الدين سيتلاشى بالضرورة مع قيام المجتمع الشيوعي وانتهاء إغتراب الانسان عن ذاته.

إحتجاج على المعاناة الحقيقية!
إذا كان ما اوردناه هو خلاصة رأي ماركس في الدين باعتباره وعيآ زائفآ ينتج إنعكاسآ لواقع موضوعي يؤدي بدوره الى اغتراب الإنسان عن ذاته، فهل فيه متسع كي يقال انه،أي ماركس، يرى أن للدين دورآ مزدوجآ إيجابيآ ثوريآ تارة وسلبيآ تارة اخرى؟!... وكيف يمكن أن نفهم تلك العبارة التي وردت في مطلع مقال ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) والتي يتحجج بها الذين يريدون تديين كارل ماركس وهي :{( ان المعاناة الدينية هي تعبير عن المعاناة الحقيقية [ واحتجاج ] على تلك المعاناة الحقيقية في نفس الوقت )} ...وهذه عبارة ملتبسة تمامآ ..كيف يمكن أن يؤدي الدين الى [ الإحتجاج ] ووظيفته التاريخية منذ نشأته هي التدجين والتبرير والتضليل...يقول البروفسير البريطاني الخبير في الدراسات الماركسية ديفيد ماكيلان في كتابه ( الماركسية والدين ) في سياق تعليقه على تلك العبارة ( But, if so, then it was an extremely backhanded compliment) ما يمكن ترجمته هلى هذا النحو [( ولكن، إذا كان الأمر كذلك فهو الى حد بعيد مدح اريد به الذم )]..ويمضي ماكيلان قائلآ:[( إن الدين قد يمثل بصورة صحيحة ضعف الطموح الإنساني في ظروف معاكسة.ولكن كل فحوى مقاطع المقال هو ان الدين ميتافيزيقيآ وسوسيولوجيآ يضلل الانسان ولذا فان إختفاءه شرط ضروري للتحسين الجذري للظروف الاجتماعية )] انتهى....حقآ أن تلك العبارة تتناقض كليآ مع السياق العام للفقرات السبع الاولى من مقال ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) إلا إذا كان المراد بالإحتجاج الهروب من المعاناة الحقيقية الى عالم الوهم والخيال.......وبناء على جملة هذه الحقائق ليس هناك ما يدعم الزعم القائل بان ماركس رأى ان للدين جانبآ إيجابيآ وثوريآ ...ولا ما يدل على ان ما كتبه في نقد الدين في مقاله عن فلسفة الحق عند هيجل كان مجرد نزوة شباب!......وعند هذه النقطة يتعين ان نتساءل عن مدى صحة ما اورده الدكتور فؤاد زكريا في مقاله المذكور آنفآ ( ماركس.. وافيون الشعوب ) عن الدور الايجابي المزعوم للدين في حياة شعوب العالم الثالث حيث يقول: [{ على أن هناك تجربة أخرى لم يكن من الممكن أن يعرفها ماركس، لأنها تنتمي إلى تراث حضاري لم يعرفه معرفة كافية، فضلا على أن معالمها لم تتحدد إلا في عصر لاحق لذلك الذي عاش فيه ماركس، تلك هي تجربة الدين كقوة تحررية، يستمد المجتمع منها طاقة روحية تعينه على التصدي لطغيان الاستعمار الأجنبي، وهذه التجربة لم تظهر ملامحها إلا في بلاد العالم الثالث، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإن كان تأثيرها لم يتضح بجلاء إلا في القرن العشرين. ولقد تنبه الغرب ذاته إلى الدور الذي قام به الدين في بلاد العالم الثالث، من أجل حشد الطاقات الروحية لأبنائه في مواجهة القوة المادية التي واجههم بها الاستعمار الغربي، وظهر الدين في ثوب جديد، ودور جديد في كثير من الحركات التحررية في أميركا اللاتينية، وانشق كثير من رجال الدين عن الكنيسة التقليدية وانضموا إلى صفوف الثوار دون أن يتخلوا عن وظيفتهم الأصلية كرجال دين ( وهذا أهم ما في الأمر )، كما كان لبعض الرهبان البوذيين دور ملحوظ في مساندة الثورة التحررية في فيتنام ومكافحة طغيان العصابة الحاكمة العميلة قبل الوصول إلى النصر النهائي }] انتهى...ثم يعدد ما اسماه بـدور الدين في حركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في شمال افريقيا وما اسماه بثورة عمر مكرم وعرابي في مصرضد الغزاة الاجانب ليخلص الى القول بصيغة سؤال انه لو عاش ماركس في عصرنا الراهن لما عالج الدين بتلك الطريقة المبسطة ولنظر الى الدين برؤية مختلفة او كما قال....إن ما اورده الدكتور فؤاد زكريا من امثلة لا ينهض البتة دليلآ على عدم صحة الاطروحات الماركسية عن الدور التغيبي والتضليلي للدين...والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من اجل ماذا هب الفلاح المصري المسكين واصطف خلف الشيخ الازهري عمر مكرم ؟ أمن اجل تحرير ذاته من نير الاقطاعيين المماليك االذين كانوا يحكمون بالوكالة عن سادتهم الاستعماريين الاتراك ام من اجل الدفاع عن حكم الغزاة الأقدمين المسلمين الاتراك ووكلائهم المماليك بأسم "الجهاد" ضد " الكفار"؟..يبدو أن الاجابة واضحة...فقد كان الشيخ عمر مكرم موظفآ لدى المماليك واستخدم الأفيون الديني لشحذ همة الفلاح المصري لانقاذ دولتهم، ولولا الشفرة الدينية " الجهاد " و"الكفار" لما اصطف خلفه الفلاحون المصريون ...واخيرآ خرج الفرنسيون وبقي الاقطاعيون المماليك وعاد الفلاحون الى نيرهم وهم مؤمنون بأن ما هم فيه هو قسمة الله وقدره الا يقول القرآن وفضلنا بعضكم على بعض في الرزق ...فهل هي حقآ ثورة دينية تحررية؟ وهل تستحق مثل هذه التسمية؟!......وفي ما يتعلق بانضمام الرهبان المسيحيين في امريكا اللآتينية والرهبان البوذيين في شرق آسيا الى ثورات اندلعت هناك فان هذا يطرح سؤالآ عما اذا كانت تعاليم تلك الاديان هي التي تغيرت ام تغير الرهبان؟...هل تغيرت التعاليم البوذية والمسيحية الداعية للانسان الى عدم مقاومة العنف بالعنف والخضوع الى من يستغله ويسخّره وان يمشي ميلين لمن يجبره على ان يمشي ميلآ واحدآ؟.. وان يدير خده الأيمن لمن يصفعه على خده الأيسر؟ بالطبع كلا.... لكن الشروط المادية الموضوعية التي اشعلت تلك الثورات هي التي دفعت اولئك الرهبان إلى أن يتخلوا عن تعاليم انبيائهم ويلتحقوا بها....لقد تغير الرهبان ولم تتغير تعاليم الأديان....يقول المفكر الماركسي الايطالي انطونيو قرامشي، الملقب في الأوساط اليسارية الغربية ب { منظر البنية الفوقية } لتمحور كتاباته ودراساته في معالجة قضايا الدين والثقافة، ان الاستعماريين البريطانيين عندما احتلوا بلدانآ افريقية مثل كينيا ويوغندا وجنوب افريقيا اخذوا معهم الانجيل...والذي حدث، على حد قوله، هو أن الافارقة الذين دخلوا المسيحية وتواءموا مع تعاليمها الداعية للانسان الي عدم مقاومة العنف بالعنف والرضوخ لمن يريد تسخيره اصبحوا عونآ في تمكين الاستعماريين من الهيمنة على بلدانهم، بينما قام افارقة آخرون بتحوير المسيحية لتوائم معتقدات محلية من اجل إستنهاض اهلهم لمقاومة الاحتلال...وفي كتابه ( حرب الفلاحين في المانيا )،وهي الثورة الفلاحية التي اندلعت في العام 1524 بقيادة المصلح الديني وعالم اللاهوت توماس منذر الذي كان رفيقآ لمارتن لوثر كنغ في حركته الاصلاحية البروتستانتية ثم اختلفا وافترقا، يرى فردريك انجلز أن تلك الثورة ثورة ضد الاقطاع.. ورغم طابعها الديني الروحي الا أن اسباب تفجرها كانت اجتماعية اقتصادية بحتة... ويرسم صورة ثورية عقلانية لتوماس منذر...وليس في هذا الكتاب ما يؤيد زعم الزاعمين بان انجلز رأى دورآ ايجابيآ ثوريآ للدين في هذه الثورة ...فعلى العكس دحض فيه انجلز دينيتها التي لم تكن سوى غلاف لحقيقتها المادية...ولعلنا نجد فيه اولى بذور المادية التاريخية..يقول في الفصل الثاني من كتابه المذكور [( إن المبادئ السياسية لمنذر كانت تتبع مبادئه الثورية الدينية بصورة لصيقة وتكاد مفاهيمه الدينية تتجاوز مفاهيم عصره كما أن مبادئه السياسية كانت تذهب بعيدآ نحو تغليب الشروط الاجتماعية والسياسية وتكاد الفلسفة الدينية لمنذر أن تصل إلى حد الإلحاد بينما كان برنامجه السياسي يصل إلى حد الشيوعية )] انتهى.".ترجمة الكاتب"...ويقول في مكان آخر من نفس الكتاب ان منذر دعا الى إقامة مملكة السماء والقضاء الفوري على المؤسسات الدينية الكنسية لاعادة المسيحية كما كانت في اول ظهورها، ولكن مفهوم منذر لمملكة السماء- والكلام ما يزال لانجلز- يتمثل في إقامة مجتمع بلا طبقات ولا ملكية خاصة وبلا دولة تكون مستقلة عن اعضاء المجتمع وغريبة عنهم...ويضيف انجلز أن توماس منذر كان لديه خطاب مزدوج...خطاب للذين يؤمنون بالنبوة الدينية وخطاب آخر لمجلسه السري الذي كان اعضاؤه يعرفون اهدافه الحقيقية والنهائية....ويمضي قائلآ ان التعاليم الفلسفية الدينية لتوماس منذر لم تهاجم اسس الكاثوليكية فحسب، بل ووجهت هجومها لعموم المسيحية...ويضيف ايضآ أن منذر تحت عباءة المسيحية نفسها تحدث في مواعظه عن وحدة الوجود او شئ من هذا القبيل وهي اشبه بالتأمل التجريدي الحديث وقد وصل به الامر في بعض الاحيان الى حد الالحاد.وقد انكر أن يكون الانجيل وحيآ لا يأتيه الباطل من امامه ولا من خلفه وقال ان الوحي الحقيقي الحي هو العقل الذي هو الوحي الموجود دائمآ بين الناس....ومن جانبه ثمن كارل ماركس عاليآ دور توماس منذر، ففي رسالة بعث بها الى صديقه انجلز في مانشستر بتاريخ الخامس من مارس 1856 يقول فيها [( إن توماس منذر كان نافذ البصيرة حين قال: انا افهم كي اؤمن بينما قال مارتن لوثر كنج: انا اؤمن كي افهم )] ويشير في نفس الرسالة الى أن صحيفة ( بريشسي زايتنغ ) قد اجابت بان لوثر قد ندم في سنواته الاخيرة على موقفه البائس..وفي مقاله ( مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل ) يقول ماركس [( إن حرب الفلاحين وهي الحقيقة الاكثر جذرية في تاريخ المانيا وصلت الى تلك النهاية المحزنة بسبب اللاهوت )].....ولعل في كل هذا ما يدحض الزعم بان ماركس وانجلز وجدا أن للدين دورآ ايجابيآ وثوريآ في ثورة الفلاحين في المانيا.

مناهضة الدين بلا هوادة
بالرغم من أن ماركس قد اتجه لدراسة الاقتصاد والتعرف على واقع العمال عن كثب وانهمك في كتابة سفره الاشهر ( رأس المال ) بعد رحيله واقامته في لندن، إلا ان ذلك العبء الجسيم لم يمنعه من متابعة النشاطات والكتابات المناهضة للدين بشغف وهمة....ففي الثامن والعشرين من يونيو 1855 نشرت له صحيفة ( نيو اودر زايتنغ ) مقالة مطولة يمكن أن نسميها بــ ( التقرير الصحفي ) بعنوان (( مظاهرة الحركة المناهضة للكنيسة في الهايدبارك )) وهو بمثابة تغطية شاملة لوقائع المظاهرة الكبرى التي انتظمت في حديقة الهايدبارك بوسط لندن في الخامس والعشرين من الشهر المذكور ضد ( مشروع قانون البيرة ) و ( مشروع قانون التجارة يوم الاحد ) اللذين يراد تمريرهما في مجلسي العموم واللوردات بـتآمر- على حد تعبير ماركس- بين الكنيسة والاوليجارشية الانجليزية، " أي القلة الثرية المتنفذة"، وذلك بعد أن باع البايروستيون ( حركة دينية انشقت عن البروتستانتية في القرن السادس عشر ) تأييدهم للرأسماليين...ويقول ماركس أن هذين المشروعين يخدمان اصحاب الفنادق الكبيرة وكبار الرأسماليين لانهما يمنعان صغار التجار من المتاجرة يوم الاحد وكما تحدد للملاهي والمطاعم ومحلات بيع المشروبات الروحية ساعات محددة لفتح ابوابها: من الساعة السادسة مساء وحتى الساعة العاشرة مساء...بالاضافة الى ان المشروعين موجهان ضد العمال –والكلام ما يزال لماركس- الذين يقبضون اجورهم في وقت متأخر من يوم السبت ويجدون المتاجر مغلقة يوم الاحد بينما لن تتأثر بتلك القوانين النوادي الارستقراطية والوسائل التي يرفه مجتمع النبلاء بها نفسه يوم الاحد....وينوه ماركس الى ان المشروعين اللذين يستهدفان الطبقات الدنيا يصدران تحت طائلة العقوبات الدينية مما يجعل الرأسماليين مرتاحي الضمير...استطاع كارل ماركس بشكل متقن ان يصور مشهد المظاهرة تصويرآ دقيقآ ...وكيف أن ما يربو على الخمسين الفآ تجمعوا في الهايدبارك ليتضخم العدد بعد ذلك رويدآ رويدآ ويصل الى ما يزيد عن المائتي الف...ويشير الى انها اضخم تجمع في لندن منذ وفاة الملك جورج الرابع..ويقول ( لقد بدأت الثورة الانجليزية بالامس من الهايدبارك )...ولم يفت عليه ان يروي للقارئ صيحات السخرية والتهكم من الدين التي كان يطلقها بعض المشاركين في التظاهرة كتلك المرأة التي اخرجت كتاب ادعية ذا غلاف ارثوذكسي وصاحت في الناس قائلة ( اطعموا حصينكم هذا الكتاب )......وفي رسالة بعث بها الى ابن خاله انتونيو فيليبس بتاريخ 18 مارس 1866 وقعها باسم مستعار ( Bloch ) من مدينة مارقيت الريفية الانجليزية يتهكم فيها من الاوليجارشية البريطانية بانهم لا يقيمون وزنآ لمعاناة البشر ويتعاطفون بعمق مع الابقار والثيران بينما يضخون النقود من امراضها على حساب البشر ... ينعطف ماركس عن السرد ليقول ساخرآ (( وبالمناسبة الشرق يبعث لنا دائمآ باشياء لطيفة: الدين وقواعد السلوك والطاعون بانواعه المختلفة )).... وفي سياق متابعته للنشاطات والكتابات المناهضة للدين يقول في رسالة بعث بها الى انجلز في مانشستر بتاريخ 16 يونيو 1864 [( لقد قام المستشرق الهولندي البروفسير دوزي من مدينة ليدن بنشر كتاب يبرهن فيه أن ابراهيم واسحق ويعقوب من بائعي الأوهام وان الإسرائيليين كانوا وثنيين حيث أن سبط شمعون ( تم نفيهم تحت حكم شاول ) رحلوا الى مكة ومعهم تابوت العهد وهناك بنوا معبدآ وثنيآ وعبدوا الاوثان، وكان ذلك بعد الخلاص من الاسر البابلي.وأن عزرا هو من اخترع اسطورة الخلق والتاريخ حتى يوشع، وبالاضافة الى ذلك هو من كتب الشريعة والعقيدة لإحداث الاصلاح والتوحيد )].....وينهي ماركس رسالته بقوله: (( وقد كتبوا اليّ من هولندا بأن هذا الكتاب قد احدث ضجة واسعة وسط علماء الدين هناك وخاصة لان دوزي اكثر علماء الدين الهولنديين علمآ بالاضافة الى انه بروفسير في جامعة ليدين،.وفي جميع الاحوال فان الحركات المناهضة للدين خارج المانيا تمضي على قدم وساق " رينان وكولينصو ودوزي وآخرون ")) انتهى ..{ ترجمة الكاتب }
لم يترك كارل ماركس متردمآ للدين دون نقده ودحضه، فالدين في اعتباره اكبر معوق لتقدم المجتمعات الانسانية.. فكيف يستقيم بعد كل هذا تديينه والزعم بانه يرى فيه جانبآ ثوريآ وايجابيآ.



#احمد_القاضي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توطين الماركسية بالخرافات الاسلامية !
- زوبعة دكتور حجي....يا قلبي لا تحزن !
- الآية التي سطا عليها محمد !
- متنكر في ثياب التنويريين....او اركلجة الخرافة
- المثقف المكي الذي هزم محمد
- محمد يحرق النخيل وعلي يجز الرؤوس !!
- ابن تيمية ام الضحوك القتّال !
- اولوية نقد الدين
- بائع الافيون الفلسطيني
- هل تراجع د. طه حسين عن اطروحاته في كتاب ( في الشعر الجاهلي ) ...
- ادونيس...اودكتور جيكل ومستر هايد !
- الشعر الجاهلي ام القرآن الجاهلي
- اول صوت في صندوق عمر البشير الانتخابي
- الكوميديا الالهية علي الطريقة المحمدية
- البيدوفيل واعتساف عائشة
- نبي يضاجع في الخلاء !
- سويسرا افضل حالآ دون مآذن
- لا شئ تم في الخفاء ايها الحالم بعرش اليونسكو
- عودة الي الدكتور القمني
- الدكتور القمني.....ليته سكت!


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - احمد القاضي - تديين كارل ماركس!