أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - مشكلات مفهوم المجتمع المدني















المزيد.....


مشكلات مفهوم المجتمع المدني


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 946 - 2004 / 9 / 4 - 12:18
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


( فصل في كتاب " تطور مفهوم المجتمع المدني و أزمة المجتمع العربي" تأليف غازي الصوراني، صدر عن مركز الغد العربي )
حاولت الفصول السابقة أن تعاين مفهوم المجتمع المدني في تاريخيته، منذ بدء تشكّل الرأسمالية، تلمُّس المعاني التي تضمّنها. لكنها أيضاً تعاين موقعه في الواقع العربي الراهن، محاولة إختبار شرعية استخدامه، بعد أن أصبح من المفاهيم المتداولة بكثرة منذ تسعينيات القرن العشرين، وبدا كأنه الحلّ الفكري لأزمة انهيار الاشتراكية، والصنو للدعوة إلى الديمقراطية.
فهل أن لهذا المفهوم شرعية؟ هل هو أداة منهجية تضيء فهم الواقع الراهن، أم أنه مطلب سياسي، أو إطار أيديولوجي؟ هل ثمة معنى واحد يُعطى له ،أم أنه بات جزءاً من الالتباس الفكري القائم؟
الفصلان السابقان يربطان المفهوم بنشوء المدنية الحديثة، التي تأسست مع الثورة الصناعية وتشكّل نمط الإنتاج الرأسمالي، وسيادة العقلانية والحداثة والمواطنة، وتسرّب الأفكار الديمقراطية وتحوّلها إلى "نظام سياسي"، وكذلك فاعلية الطبقات وتشكّلها في مؤسسات (أي نقابات). وهي تلحظ كيف طرح مفهوم المجتمع المدني كمضاد للمجتمع الديني، عبر السعي لتجاوز القرون الوسطى (المجتمع الإقطاعي). ثم يشير إلى طرحه كقابل للمجتمع السياسي لدى هيغل، وفهم ماركس لتلك الآراء.
لكن هذا الربط بين مفهوم المجتمع المدني والتشكّل الرأسمالي الحديث فرض التساؤل عن شرعية المفهوم في مجتمع لم يحقق "الثورة الصناعية"، وبالتالي لم يزل واقعاً تحت سيطرة بنى تقليدية هو المجتمع العربي، الأمر الذي يؤسس لالتباس عميق في استخدامه. وهذا اللبس يفرض البحث في الأسباب التي فرضت تحوّل مفهوم المجتمع المدني إلى مفهوم " مركزي ".
* * *
يحقّّب النص لنشوء المفهوم في الفكر الحديث، ويوصله إلى ماركس مشيراً إلى المعنى الذي حدّده له، وإذا كان يحدِّد هنا بأن المعنى هو "المجتمع البرجوازي"، فإنّ الأدقّ الإشارة إلى أن ماركس ساوى بين مفهوم المجتمع المدني الهيغلي وبين مفهوم البنية التحتية بالتحديد، حيث أطلق هذا المفهوم البديل، أي مفهوم البنية التحتية، لأن مفهوم المجتمع المدني الهيغلي كان يُقصد به المجتمع الاقتصادي(1) وليس المجتمع البرجوازي على العموم. هذا المفهوم الماركسي بات هو المفهوم المتداول، فقد تلاشى مفهوم المجتمع المدني وغاب عن التداول عقود طويلة، إلى أن أعاد غرامشي استخدامه في "كراسات السجن". يقول ماركس »وأدت بي أبحاثي إلى نتيجة هي أن العلاقات الحقوقية، - ومثلها في ذلك أشكال الدولة – لا يمكن أن تُفهم بذاتها ولا بالتطور العام المزعوم للروح الإنسانية، وإنما تغوص جذورها على العكس من ذلك في شروط الحياة المادية التي كان هيغل، على غرار الفرنسيين والإنكليز في القرن الثامن عشر، يفهم مجملها تحت اسم »المجتمع المدني«، وأنه يجب البحث عن تشريح المجتمع المدني بدوره في الاقتصاد السياسي«(2). لهذا تلاشى مفهوم المجتمع المدني. وكما كان »المجتمع المدني« هو المقابل للمجتمع الديني، وكذلك للمجتمع السياسي، فإن البنية التحتية هي »المقابل« للمجتمع السياسي (الدولة) والديني (الأيديولوجيا)، وهي المحدّد لهما.
أعاد غرامشي إنتاج المفهوم وهو يؤسس مفاهيمه حول الهيمنة والسيطرة، حيث عنى له مفهوم المجتمع المدني، »المجتمع في كليته«، أي النقابات والمدارس والكنيسة.. إلخ، وكذلك الحزب السياسي.. إلخ. وهو يسعى لتأكيد استراتيجية جديدة للنشاط السياسي تنطلق من الهيمنة الأيديولوجية على المجتمع عبر مؤسساته، حينما سعى للتمييز بين طبيعة الصراع الطبقي في روسيا التي كانت قد أوصلت البلاشفة إلى السلطة عبر الثورة، وطبيعة الصراع الطبقي في الأمم الرأسمالية، حيث الوضع مختلف (وأكثر تطوراً)، وبالتالي يفرض ليس الثورة، بل الهيمنة على المجتمع لكي يكون ممكناً السيطرة على الحيّز السياسي ( أي الدولة).
لكن هذا المفهوم »مات« مع غرامشي إلى أن بدأت أحداث أوروبا الشرقية (بولندا بالتحديد)، حيث عاد إلى التداول كون المجتمع يخوض صراعه ضد السلطة السياسية (المجتمع السياسي)، الشمولية والاستبدادية في آن، المهيمنة على كل المجتمع، والمعمِّمة لأيديولوجيا واحدة، وملحقة النقابات وهيئات المجتمع بها. منشئة القهر والاغتراب، وبالتالي الرفض، هذا الرفض كان يُصاغ تحت عباءة »المجتمع المدني«، وإذا كانت نقابات العمال هي المحرّك للصراع في بولندا (والمنتصر في النهاية)، فإن المعنى الأبرز توضَّح في تجربة تشيكوسلوفاكيا، حيث أصبح تعبير »المجتمع المدني« مستخدماً كإسم لحركة سياسية أسسها فاكلاف هافل الذي أصبح رئيساً للتشيك. هنا أصبح مفهوم المجتمع المدني يعني التعبير السياسي لكلية المجتمع التي كانت مبتلعة من قبل شمولية السلطة.
إذاً، إذا كان البحث في معنى »المجتمع المدني« هو الهم الذي حكم مفكّري القرن الثامن عشر، ومن ثم هيغل وماركس في النصف الأوّل للقرن التاسع عشر، فقد أدى البحث إلى تلاشيه حينما حدّد ماركس المعنى الذي كان يُقصد به بتعبير جديد هو البنية التحتية. لكن غرامشي أعاد استخدامه منهجياً للتعبير عن التكوين المجتمعي في سياق بلورته تصوراً للتغيير، ما لبث أن اختفى عبر العودة إلى مفاهيم ماركس الأساسية، أي البنية التحتية، والنقابات، والصراع الطبقي. منذ ثمانينيات القرن العشرين طغى الاستخدام الأيديولوجي، حيث أصبح يُقصد به التعبير عن صراع المجتمع ضد الدولة، وارتبط بالسعي لإسقاط النظم الاشتراكية، والانكفاء إلى الرأسمالية.
* * *
في الوطن العربي كانت المقاربة الأولى لمفهوم المجتمع المدني ماركسية، بعد أن اصبح للمفهوم جاذبية على ضوء الهيمنة التي حظي بها في أوروبا. فقد انطلقت هذه المقاربة من العودة إلى غرامشي، هذه العودة التي كانت تمثّل سعياً للتخلّص من الماركسية السوفياتية، والانفتاح على ماركسيات أخرى، لكنها تداخلت مع تناول بحثه في مفهوم »المجتمع المدني«(3).
ولأن مفهوم غرامشي – في جانب منه – لا يتطابق مع واقعنا، فقد انتشر المفهوم الذي ساد في العالم انطلاقاً من حالة أوروبا الشرقية (أو من حالة مواجهة الاشتراكية)، خصوصاً أن تشابهاً كبيراً جمع بين واقعنا وواقع أوروبا الشرقية (السلطة الشمولية، والهيمنة، والاستبداد)، حيث أن »قسرية« التطور الرأسمالي وطبيعة الفئات التي قادته (الفئات الوسطى) فرضت »استعارة« شكل السلطة الاشتراكية، المستعار هو ذاته من سلطة القرون الوسطى، التي كانت تقبع في تكوين الفئات الوسطى الريفية عندنا كذلك (السلطة البطركية). لهذا ارتبط المفهوم بالدعوة إلى الديمقراطية، بل أنه تمحور حولها. وبالتالي أصبح المقابل لاستبداد السلطة، ليرتسم الصراع كصراع بين المجتمع السياسي (السلطة) والمجتمع المدني (أي المجتمع).
لكن هذا الفهم كان يؤسس لإشكالية عميقة، لأنه كان يخفي المجتمع، وهو يبرز فئة تعمل باسم المجتمع المدني، من أجل ما هو سياسي (الديمقراطية)، وبالتالي فهو يتجاهل الطبقات والمصالح والصراع الطبقي، والنقابات، (أي المجتمع المدني) وهو يركّز على السياسي، ليختزل الصراع إلى صراع من أجل الديمقراطية، وإعادة »ترتيب« العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهو هنا يقفز عن الطبقي، أي عن كون السلطة هي سلطة طبقة مسيطرة تنهب المجتمع، وهي تسحقه من أجل تكريس النهب، الأمر الذي يجعل الاستبداد هو شكل السلطة المطابقة للنهب، ويقفز ثانياً عن كلية المطالب المجتمعية، المطالب الاقتصادية المعيشية، والمطالب التي تتعلق بالحق في السعي للنشاط من أجل الحصول عليها.. إلخ. بمعنى أن المجتمع المدني، وفق الفهم السائد، يساوي التحوّل الديمقراطي فقط، مع القفز عن كل ما هو مجتمعي. ليعود »البنية الفوقية« للمجتمع المعبّرة عن الميل لتعديل العلاقة بين السلطة والمجتمع. وهي هنا بنية سياسية بغض النظر عن الاسم الذي يشير إلى المجتمعز إنها ليست المجتمع المدني، هي " روح" المجتمع المدني التي تواجه السلطة، و التي يمكن أن يتوفر ظرف ما لكي تنتصر دون المجتمع المدني أو بمساعدة جزئية منه.
ربما كانت شمولية السلطة و استبداديتها لا تسمحان بنشوء ما هو مجتمعي حقيقة. وهذا صحيح إلى الآن، لكن يجب أن يكون واضحاً أن مفهوم المجتمع المدني، يرتبط بفئة تعمل في مجال محدّد هو الديمقراطية، الذي هو عمل في المستوى السياسي. الأمر الذي يقطع مع تصوّر ماركس و غرامشي لمفهوم »المجتمع المدني«، كما يقطع مع التعبير عن كلية المجتمع، رغم أن الديمقراطية حاجة عامة، ولها الأولوية في كل البلدان التي تعاني من سلطات استبدادية شمولية. مما يدفع إلى التساؤل عمّا هو مجتمعي؟ عن وضع الطبقات، ووضع البشر؟ وبالتالي عن الحركة المجتمعية، بما هي حركة طبقات ونقابات وأحزاب وهيئات مدنية، ومنتديات، ومراكز بحث..؟ ومن ثم عن طبيعة السلطة ذاتها، وليس عن شكلها الديمقراطي فقط؟
هذا هو المفهوم الذي راج للمجتمع المدني، والذي يلخّص حركة المجتمع في »بنية فوقية«، متجاهلاً الحركة المجتمعية ذاتها، ومركّزاً على ما هو »سياسي« و»لحظي« فيها، أي الديمقراطية، الأمر الذي يقود حتماً إلى تجاهل دور النقابات العمالية، والاجتماعية، والمهنية، وبالتالي دور الطبقات. ليتلخص النشاط في مجموعة »متطوعين«، لا أتجاهل دورهم، لكنهم يفتقدون الميل للاندماج في الحركة المجتمعية، بما هي حركة طبقات ونقابات وكذلك أحزاب. وبالتالي لا يملكون النية لتأسيس حركة مجتمعية فعلية. وأنا هنا أشير إلى الميل مع ملاحظة صعوبة الوضع الذي تؤسسه النظم الاستبدادية. لكن الميل الكامن يؤسس لمفهوم للمجتمع المدني هو مفهوم »نخبوي« و»سياسي«، وربما كان مثال التجربة التشيكية هو الأبرز هنا كما أشرت منذ البدء؛ حيث أن حركة المجتمع المدني هي سلطة سياسية بديلة، رغم أنها لم تتحوّل إلى حركة مجتمعية، بل ظلت »بنية فوقية« لحركة كامنة ومحتجزة،أدت التحوّلات العالمية وانسحاب الاتحاد السوفياتي من دوره العالمي إلى »نزع الغطاء« عن السلطة، مما أحدث تحوّلاً عميقاً في ميزان القوى لمصلحة »المجتمع المدني« الملخّص في تلك »البنية الفوقية« التي باتت هي السلطة.
وهنا نلمس أن هذا الفهم، المعمم عالمياً، للمجتمع المدني لا يؤسس حركة مجتمعية مستمرة لأنها قائمة على مؤسسات (النقابات والهيئات المجتمعية والأحزاب)، ليصبح حتى النضال من أجل الديمقراطية هامشياً.
* * *
هذا على صعيد الوعي، الذي يحاول أن يتبلور في حركة تحت تسمية »المجتمع المدني«. لكن سيبدو، مع العولمة التي بدأت منذ انهيار المنظومة الاشتراكية، أن هذا التعبير فضفاض إلى مدى هائل، الأمر الذي يفرض التدقيق والملاحظة، وبالتالي التحديد، وربما هذا السبب هو الذي أسس لإشكالية المفهوم، وإلى اللغط الكثير حوله، وحتى إلى الاتهام عبر الربط بينه وبين العولمة الراهنة، كونه أحد مفاهيمها، والمدخل لتأسيس »منظماتها« العالمية(4). وأنا هنا لن أنطلق من موقع التشكيك لأن ذلك يخرج البحث عن أهدافه، ويخمد الحوار. لهذا سوف أوصّف الوضع الذي نشأ مع موجة العولمة الراهنة، من أجل تدقيق المفهوم (أو نفيه) من جهة، وتحديد طبيعة العمل الذي يتأسس تحت عباءته من جهة ثانية، وبالتالي لتحديد المشكلة المطروحة وإشكال التعبير عنها من جهة ثالثة.
حيث بدأت منذ إنطلاق العولمة عملية تنشئة عشرات المنظمات التي تعمل في حقل محدّد، خصوصاً في قطاعات تتداخل والعولمة، تنطلق من حتمية تقليص دور الدولة في المجال الاقتصادي، والتركيز على قضايا »نوعية« مثل المرأة والبيئة وحقوق الإنسان والسكان. إنها »منظمات طوعية«(5) تعمل في حقل معيّن لهدف محدّد، تعتمد على تمويل »خارجي«، وتنشط في مجال التوعية وعقد الندوات فقط، وإن كان بعضها يأتي في سياق الاعتراض على العولمة، أو الإعتراض على بعض منظماتها (مثل منتدى دافوس ومنظمة التجارة العالمية)، كما على نشاطات الثمانية الكبار (G 8)، أو على بعض آثار العولمة. وتنشط »باعتبارها جزءاً من مجتمع مدني عالمي يتشكّل تدريجياً لإعلاء شأن القيم الإنسانيّة والديمقراطية«(6).
المسألة هنا ليست في التمويل فقط، بل في عنصرين مهمين آخرين، الأول: أن نشاط هذه المنظمات يقوم على هدف واحد (هدف نوعي) بمعزل عن مجمل الأهداف العامة (وأحياناً بالضد منها). وربما كان التخصّص مهماً، لكن فقط حينما يرتبط بمجمل النشاط، لأن عزل هدف (مثل قضايا المرأة)، وتجاهل مجمل الأهداف الأخرى، سوف يفتح الأفق لإخضاعه لسياسات أخرى مناقضة لمجمل الأهداف (مثل السعي الإمبريالي للسيطرة). رغم أن البحث الذي يمكن أن يقدّم حول كل قضية منها سوف يساعد على فهمها من قبل الذين يفكرون بمجمل قضايا المجتمع.
الثاني: أن نشاطها لا يهدف الارتباط بحركة مجتمعية، ولا يطرح على نفسه سوى إثارة المشكلات والبحث فيها، والمطالبة بإيجاد حلول لها،فهذه المنظمات تعمل في إطار مجموعات بحثية منعزلة، بنشاط مموّل، مع شيء من النشاط الاعتراضي، دون أن نقلّل من دور أيٍّ منها، أو نوصمها بصفات ربما لا تكون دقيقة. ولا شك في أن كل مجهود بحثي أو اعتراضي يكشف أيٍّ من المشكلات الواقعية مفيد، وكذلك ضروري، لكن المسألة هنا تتعلق في طبيعة العمل ذاته، وجدواه في سياق البحث في نشاط الحركة المجتمعية. وهنا سيكون دور هذه »المنظمات التطوعية« هو كشف المشكلات (كل على حدة) والاعتراض عليها، وربما التوعية فيها (مثل قضايا المرأة وحقوق الإنسان خصوصاً) فقط. وهي تعمل في إطار إصلاحي كذلك (أو بالتالي). إنها هنا لا تشكّل حركة اجتماعية، وليس همّها كسب قطاع اجتماعي، بل تعتبر أن التوضيح والضغط هما النشاط الذي يطوّر المجتمع عبر التحسين الجزئي المضطرد.
هل هي »المجتمع المدني«؟ بكل تأكيد لا، ولن تكون، ولهذا درجت تسميتها بـ»المنظمات غير الحكومية«، وبعضها يقوم بتقديم خدمات، وربما يقوم التفكير على إحلالها محل منظمات المجتمع الحقيقية (أي النقابات و الاتحادات)، من أجل طمس الصراع الواقعي (الصراع الاجتماعي الذي يعبّر عن ذاته في النقابات و الاتحادات والأحزاب)، من خلال تعميم هيئات خدمية، ومؤسسات اعتراضية. لكن تبقى ذات هدف جزئي، ودور محدود.
* * *
لكن هل من حاجة للمفهوم، أي لمفهوم المجتمع المدني؟
في العقود السابقة كانت المفاهيم السائدة هي مفاهيم الطبقات والصراع الطبقي، النقابات و الاتحادات، والأحزاب، والمجتمع. فما الذي استدعى مفهوم المجتمع المدني؟ يمكن رصد حالتين قادتا إلى ذلك، الأولى: تتعلّق في الطبيعة التي اتخذتها الدولة / السلطة في النظم الاشتراكية، ودول حركات التحرّر القومي، حيث »ابتلعت« المجتمع، عبر الهيمنة (الأيديولوجية) والسيطرة (المؤسسية) عليه، الأمر الذي »أنهى« حركيته، وجعله ملحقاً (تابعاً) بالدولة / السلطة. لقد أصبحت الدولة / السلطة هي »مركز« المجتمع، فانتهت فاعليته. هذا الوضع، الذي أسس الاغتراب والرفض والميل للانشقاق، أسس الميل لدى المجتمع لأن »يوجد« ذاته. الأمر الذي دفع إلى »استدعاء« مفهوم المجتمع المدني، الذي تشكّل هنا في مقابل المجتمع السياسي، أي الدولة / السلطة. وأصبح شعار الفئات المعارضة للاشتراكية، ثم الفئات المعارضة في النظم الاستبدادية. بمعنى أنه أصبح »المطابق السياسي« لكلية المجتمع حسب اعتقاد متبنيه، فلم يجر الالتفات إلى »المجتمع المدني« ذاته، أي إلى النقابات و الاتحادات والهيئات المجتمعية والأحزاب. إذاً يبدو أن المفهوم قد استخدم في حالة خاصة، لهذا أشرت إلى أنه استخدام أيديولوجي، وهو هنا لا يفيد كمدخل منهجي، ولن يضيء الحركة المجتمعية بما يسهم في تفعيلها، لأنه يعمم ما يحتاج إلى تحديد، أي التكوين المجتمعي ومشكلات الطبقات وفاعليتها.
الحالة الثانية: الميل الذي ارتبط بتعميم الليبرالية الجديدة في سياق فرض العولمة، التي كانت تقتضي تقليص دور الدولة في التكوين المجتمعي، أي في الاقتصاد والخدمات، والتبشير بتشكيل »مجتمع عالمي«، تبدأ بمركزية الشركات الاحتكارية متعدية القومية، وتمتد لسلطة سياسية مقرّرة، لكنها تستند إلى شبكة متنوعة من »المنظمات غير الحكومية«. لكن ولكي تكون الصورة أوضح في هذا المجال، لا بدّ من الإشارة إلى أن الميل العولمي والتأكيد على فكرة »العالم الواحد« دفع جهات متنوعة في المراكز الرأسمالية إلى السعي لتشكيل منظمات تعمل في قطاعات معينة في الأطراف، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، والمرأة، والبيئة، والتنمية، والسكان. هذا الوضع »استجلب« كذلك مفهوم المجتمع المدني كبديل لتعبير »المنظمات غير الحكومية«، وكما أشرنا فإن هذه المنظمات لا تعمل على الارتباط بالحركة المجتمعية (أي بالطبقات)، وبالتالي يصبح مفهوم المجتمع المدني مفهوماً »نخبوياً«.
هذان الاستخدامان شوّشا المفهوم أكثر مما أضاءاه. فهل نستطيع تحديد المفهوم؟ وهل من فائدة منهجية في تجاوز مفاهيم الطبقات وصراع الطبقات، النقابات و الاتحادات، والأحزاب، لمصلحة مفهوم »المجتمع المدني«؟
يعرّف الأستاذ عبد الغفار شكر المجتمع المدني »بأنه مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة عن الدولة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، أي بين مؤسسات القرابة (الأسرة والقبيلة والعشيرة) ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختيار في عضويتها، هذه التنظيمات التطوعية تنشأ لتحقيق مصالح أعضائها كالجمعيات الأهلية والحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية، كما تنشأ لتقديم مساعدات أو خدمات اجتماعية للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة«، ويحدّد هدفها بتنظيم، »وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم، ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من إفقارهم، وما يقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي، وجذبهم إلى ساحة الفعل التاريخي، والمساهمة الفعالة في تحقيق التحولات الكبرى حتى لا تترك حكراً على النخب الحاكمة«(7).
في الشق الأوّل يشير الأستاذ عبد الغفار شكر إلى التشكيلات الاجتماعية التي ينشؤها المواطنون، وفي الشق الثاني يشير إلى فاعليتهم الاجتماعية من أجل الدفاع عن ذاتهم والسعي لتحقيق »التحولات الكبرى«. إذاً، فإن الأستاذ شكر يشير إلى التكوين المجتمعي الواقعي، وإلى حركيته، وهو هنا يتجاوز »السياسي« بالمعنى المعطى لمفهوم المجتمع المدني والمشار إليه سابقاً، وكذلك يتجاوز المفهوم »النخبوي«، رغم أنه يضمِّن تعبيراتهما في »المجتمع المدني«، الذي هو كل أشكال التعبير عن الواقع الاجتماعي، مثل النقابات المهنية والعمالية، والحركات الاجتماعية والجمعيات التعاونية والزراعية والحرفية والاستهلاكية والإسكانية والأهلية. نوادي هيئات التدريس بالجامعات، والنوادي الرياضية والاجتماعية ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الأعمال، المنظمات غير الحكومية المسجلة كشركات مدنية مثل مراكز حقوق الإنسان، والمرأة والبيئة.. إلخ، الصحافة المستقلة وأجهزة الإعلام غير الحكومية، مراكز الأبحاث والدراسات والجمعيات الثقافية(8).
»المجتمع المدني« إذاً هو الطبقات والفئات الاجتماعية المتشكّلة في هيئات، المتوسطة بين الفرد والدولة، والتعريف هنا تحديد مفهومي يشير إلى مستوى في الواقع، وبالتالي لا يختزل »المجتمع المدني« إلى »منظمات غير حكومية«، أو إلى تشكيل سياسي محدّد. لهذا فإن مواجهة الدولة / السلطة الشمولية تفرض تفعيل هيئات المجتمع المدني، تفعيل النقابات والأحزاب، وتفعيل الحركة الاجتماعية، الأمر الذي يفرض تحديد مشكلات الطبقات وبالتالي مطالبها، وليس اختزال الواقع إلى مطلب الديمقراطية، رغم أهمية هذا المطلب وضرورته، لكنه لن يكون ممكناً إلا بتفعيل الحركة المجتمعية انطلاقاً من أهدافها المحدّدة، وبالترابط معها، لأن شمولية السلطة تفرض شمولية »الهدف«، وبالتالي اختزاله الواقع في مسألة واحدة هي »الاستبداد / الديمقراطية«. لتكون مواجهة الاستبداد / الشمولية هي »المجتمع المدني« وليس الحركة من أجل الديمقراطية مثلاً، التي يمكن أن تتمحور حول هدف الديمقراطية.
الهدف الذي يبدو أنه مركزي يتمثل في استعادة النشاط الشعبي، ودور الطبقات عبر المؤسسات »المدنية« المتمثلة في النقابات والأحزاب والهيئات.. إلخ. التي كانت قد أصبحت ملحقة بالسلطة وخاضعة لهيمنتها. هذا النشاط الذي يجب أن يتخذ أشكالاً متعددة، ثقافية واقتصادية / مطلبية، ونقابية وأيضاً حزبية / سياسية. و يتخذ أشكالاً »جزئية« محدّدة، و»عامة«، فئوية وطبقية وسياسية شاملة.
هنا نحن إزاء تفعيل الحركة المجتمعية، حركة الطبقات والفئات الاجتماعية، حركة النقابات والاتحادات المهنية، وأيضاً الأحزاب.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول الموضوعات من أجل نقاش هادئ لمنهجية و لرؤية - مناقشة لموض ...
- هل الرأسمالية باتت - إنسانية-؟ مناقشات حول العراق
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة- 3 - الحركة الشيوعية و مشكل ...
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة 2 -3 المقاومة العراقية و ضر ...
- (من أجل المقاومة العراقية الشاملة(1-3 - وضع أميركا في العراق
- الخطاب -الديمقراطي- الأمريكي في -الشرق الأوسط الكبير-
- -g8-ال
- مقدمات الشمولية
- - وعد بوش- و السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الصهيوني
- عفوية الجماهير و دور الحركة السياسية في الوطن العربي
- دراسة الآليات التي تسمح بتحقيق المقاومة والمواجهة
- آفاق الصراع و دور الماركسية بعد حرب الخليج
- التبشير بالخصخصة
- الطبقة العاملة واليسار في عصر العولمة
- اليسار السوري في واقعه الراهن
- مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية
- المفكر والباحث الفلسطيني سلامة كيلة :المجتمعات المعاصرة تميل ...
- حول مشكلات السلطة والديمقراطية في الأمم التابعة ملاحظات في ص ...
- الاشتراكية أو البربرية
- العراق حدود-الوجود- الأمريكي والاستراتيجية البديلة -1


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - مشكلات مفهوم المجتمع المدني